الثلاثاء، 19 سبتمبر 2017

رؤية / الريادة السومرية للحداثة / بقلم الاستاذ حسين الساعدي // العراق

رؤيــة
الريادة السومرية للحداثة
بقلم/ حسين الساعدي
تعد الحداثة من المفاهيم الغامضة في بنية الفكر الغربي الذي أنجبها . فلايمكن حصرها بحقبة زمنية معينة وإطار جعرافي محدد ، بل هي مرتبطة بتاريخ الإنسانية بشكل عام ، تمتد الى مرحلة موغلة بالقدم في تاريخ الحضارة . 
والحداثة كمفهوم شاع في الأوساط الأكاديمية والأدبية وأُستخدم على نطاق واسع في الدراسات العلمية والأدبية والنقدية ، من قبل العديد من الأساتذة الأكاديميين والأدباء ، التي أتسمت دراساتهم بتعدد المفهوم ودلالته . هذا التعدد أقتضى وجود حقبة زمنية قد سبقته وهي ما قبل الحداثة. وقد أُختلفت هذه الأوساط في تحديد المرحلة التاريخية التي بدأت فيها الحداثة ، وهذا الأختلاف فتح الباب على مصرعيه أمام التحليلات والتخمينات في تتبع المرحلة التاريخية في ظهور الحداثة كمنهح ونمط فكري يضم المزيج من الأفكار والأنماط الثقافية والفكرية ، والسعي من خلالها الى تغيير حياة الأفراد والمجتمعات ، في شتى مجالات الحياة ، السياسية ، والأدبية ، والأقتصادية ، والأجتماعية ، والهندسية ، والفلسفية ، والمعمارية ، والعلمية .
هذه الأطر والأنماط رسمت صورة للحداثة في ظل عوامل وإتجاهات إنسانية ، وعقلانية ، وعلمانية ، وديمقراطية ، ورأسمالية . وفي ظل هذا التباين في الرؤى ، تظهر الأشكالية الجدلية في إعطاء تعريف مناسب لـلحداثة من قبل المختصين ، وتعود هذا الأشكالية الى أن المفهوم خاضع لرؤى إيديولوجية وفكرية مختلفة ، لذا نرى صعوبة في إيجاد وتحديد مفهوم شامل للحداثة .
مصطلح الحداثة حمل الكثير من المرادفات للفظ الحداثة : مثل عصر الكومبيتر ، ثورة الألكترونيات ، أنفجار المعلومات ، ثورة المعلومات ، ثورة العلم والتكنولوجية ، ثورة الأتصالات ، عصر أقتصاد المعرفة ، وغيرها الكثير من المسميات . حتى إن مصطلحات (التجديد) و (التحديث) و (المعاصر) و (العصرنة) كثيراً ما تترجم إلى الحداثة على الرغم من أختلافها شكلاً ومضموناً . إذاً هناك أشكالية جدلية في تحديد مفهوم الحداثة .
أما الأشكالية الأخرى هي بداية ظهور الحداثة . وقد أختلف كثير من الذين أرخوا للحداثة حول بداياتها الأولى ، وكيفية ظهورها ونشأتها . وذهبوا الى مراحل تاريخية شتى مرتبطة بأحداث . التساؤل الذي يطرح ، هل مفهوم الحداثة معاصر أم تاريخي ؟ والتساؤل الأخر ، هل إن الحداثة وليدة إطار جغرافي محدد وزماني معين ؟ وهل الحداثة واحدة مرت على مدى تاريخ الإنسانية أم سبقتها حداثيات أخرى موزعة على أكثر من رقعة جغرافية وفي مراحل تاريخية معينة نشأت خارج إطار المركزية الأوربية ؟ 
لو أُريد وضع أجابة واضحة لهذه التساؤلات ، هو الرجوع الى ملامح وخصائص ومنطلقات الحداثة .
أن الاوربيين استحوذوا على لفظ (الحداثة) كأكتشاف لغوي فجيروا كل أنجازات البشرية وعلى مر تاريخها الطويل لصالحهم الحضاري . إن الحداثة لم تنشأ من فراغ إنساني ، بل هي أمتداد لتراكمات معرفية وإتجاهات فكرية وإيديولوجية وأنجازات مادية . وبالرغم من عدم وجود إجماع بين النقاد على تعريف واضح لمفهوم الحداثة. أردنا الأستعانة بتعريف "رولان بارت" للحداثة كتعريف يمكن أن نعول عليه حين يقول:(في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة ، وكثافة مدهشة أفكاراً جديدة ، وأشكالاً غير مألوفة) 
إذاً الحداثة لم تنشأ من فراغ ، بل أمتداد لتراكمات معرفية وإتجاهات فكرية وإيديولوجية سادت أوروبا في القرون الماضية . يؤرخ لها من الناحية التأريخية وفي أطارها الأوربي ، منذ نهايات القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر ، تمتد حتى منتصف قرن العشرين تقريباً . وهذا التأريخ يؤرخ له من قبل المفكرين الغربيين ، نتيجة أحداث حصلت في أوقات مختلفة . وفي نفس الوقت يذهب بنا هذا التعريف الى التراكمات المعرفية التي شهدتها الحضارات الإنسانية السابقة لحضارة أوربا الى ثورات حداثوية ظهرت فيها خلال مراحلها التاريخية المتعاقبة . في أوربا يؤرخون الى الحداثة من خلال الاحداث الأتية:
* أختراع غوتنبرغ للطابعة المتحركة عام 1436. 
* أكتشاف غاليلو مركزية الشمس . 
* أكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولمبس عام 1492. 
* ثورة الأصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر ضد سلطة الكنيسة البابوية 1520 . 
* نهاية حرب الثلاثين عاماً ، وسلسلة الصراعات الدامية التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و 1648 م .
* وهناك من يربط بين الحداثة والثورة الفرنسية عام 1789 أو الثورة الأمريكية عام 1776 .
* نظريات فرويد في التحليل النفسي . وغيرها من الأحداث والمحطات المهمة التي رافقت ظهور الحداثة وأعتبرت نقطة أنطلاق لها .
الحداثة (أكبر من أن تكون ظاهرة فقط، فهي انقلاب حضاري إجتاح الفكر البشري بكل نسيجه المعرفي والأدائي المعبر عنها) "قراءات وأفكار في الفنون التشكيلية" تأليف د. زهير صاحب و د. نجم حيدر ود.حميد نفل ، فهي - الحداثة - كرؤية وكفكرة كائنة في كل عصر وأي جغرافية ولا تنفرد بها مجتمعات دون أخرى ، فهي (متغير فكري في بنية الوعي) . ولو أردنا أن نستطلع الأنجازات الحضارية في بنية حضارة وادي الرافدين لظهرت لنا الملامح الأولى لأول ظواهر حداثوية مبكرة في تاريخ الإنسانية ، وهذا يأتي من خلال الربط الذي أوجده علماء الأركيولوجيا (علم الآثار Archaeology) من الغربيين بين الحضارة السومرية ، وبين التطور الحاصل في الحضارات الأخرى . أعتبروا الحضارة السومرية أقدم حضارة متمدنة على وجه الأرض ، رسمت للتاريخ خطاً مضيئاً نحو منافذ المعرفة والتقدم والرقي . وأنجازاتها تعد من أروع وأثرى الأنجازات الحضارية التي تحمل قدراً هائلاً من "الحداثة" . 
التأريخ يدون معطيات الحضارة من خلال ما تعطي من نتاج فكري وعلمي وعمراني وأبداعي ، هذه المعطيات تصلح أن تكون لسان حال ما كان موجود من حضارة . والسومريون يتمتعون بمكانة متميزة في التاريخ الحضاري للشرق القديم . فهم نواة ظهور التمدن ، والحياة الحضرية ، والنظام ، والدولة المدنية ، وتشكيل النظام السياسي والإداري ، والتشريعي والقانوني ، والتطور العمراني . ألا تمثل الحضارة السومرية رؤية جديدة للعالم قائمة على منهجية عقلية في التوصل إلى معرفة ملموسة . خاصة وان الحداثة تعتمد (على ركيزتين أساسيتين هما العقلانية والانفجار المعرفي) .
فالحداثة الغربية توصف بثلاث خصائص وهي (البنية الكلية والسياق الشامل والوعي النوعي) . 
وفق هذه التوصيفات والقراءات ألا يعتبر السومريون رواداً للحداثة الأولى وقد سبقوا الحداثة الغربية بأنجازاتهم الحداثوية قبل ستة الأف سنة .
* الحدث الأعظم هو ظهور الكتابة في سومر سنة 3300 ق.م تقريبًا، التي صارت مفتاحًا لنقل العلوم والمعارف والآداب والثقافة .
* أستخدامهم القلم المثلث الذي أعطى خطوط الكتابة رؤوساً تشبه المسامير، ولهذا سميّت كتابتهم بالمسمارية
* أختراع الأختام الأسطوانية لتنظيم المعاملات ، وأنتشار أستخدامها مع أزدياد النشاط التجاري، وكانت وسيلة للتوثيق وتحديد الملكية وبمنزلة الهوية الشخصية. 
* الزراعة من أكثر مظاهر الحضارة السومرية، وما ميزها عن غيرها من الحضارات القديمة.
* أوجدوا صيغة مبتكرة من علم المثلثات أكثر تطوراً وتفوقاً حتى من الصيغة الحديثة المعروفة في زمننا .
* أول حضارة تنشا فيها حكومات ديمقراطية مجلسها مكون من الشباب والشيوخ بالانتخاب مع وجود نساء في مجالس الحكم .
* أقاموا أول برلمان في العالم عام 3000 ق.م. كان البرلمان مؤلفاً من مجلسين، مجلس الشيوخ ، ومجلس العموم المؤلف من المواطنين الذكور القادرين على حمل السلاح ، أما مجلس الأعيان كان مؤلفاً من الشيوخ المحافظين . 
* من إصلاحات "أوروكاجينا" أنتقال السومريين من "إقتصاد المعبد" إلى مجتمع علماني أكثر حداثة مبني على أساس السلطة الحاكمة، حيث كانت المعابد سابقاً هي المراكز الإدارية للحكومة وهذه أشارة الى الدولة المدنية . 
* نصوص الأدب السومري أقدم الآداب البشرية المعروفة، وتعكس خيالاً واسعاً وتصورات فكرية عميقة الدلالات. 
* أستخدم نظام الأرقام الستيني في الرياضيات على أساس العدد 60 .
* تقسيم الدائرة الى 360 درجة وهو أنجاز علمي عظيم في تلك الفترة أبهر علماء الفلك اليوم ، وقاموا بتقسيم الزمن الى الساعات والدقائق والثواني في طريقة التقسيم الستيني للأوقات.
* في الزراعة والري، كانوا من أوائل الشعوب الذين عرفوا كيفية التخطيط والسيطرة على الفيضانات وأنشاء السدود وحفر القنوات والجداول .
* أكتشفوا المحراث والعربة بأربعة عجلات بالإضافة الى صنع المراكب والسفن الشراعية .
* أبدعوا في صهر المعادن وتحويل الذهب والفضة إلى أشكال في غاية الجمال ، ومزج القصدير مع النحاس للحصول على البرونز . 
* أظهرت التنقيبات الآثارية فن العمارة السومرية ومخططاتها الهندسية وخاماتها . وآثار المباني الضخمة والقصور الجميلة المزينة والمطرزة ، وأغراضها الإدارية والاقتصادية، وأبرزها المكتشفة في كيش وإريدو وماري.
* المعابد الدينية المبنية من الآجر الطيني، وفق تصاميم معمارية وأساليب تقنية متنوعة ، وكانت تضم ساحات وقاعات للشعائر الدينية والعبادة . وبنوا القبة والصروح الفخمة كالزقورات .
* عملوا على تزويد المدن بالشوارع والمجاري لتصريف المياه .
* صناعة الأواني الفخارية، الملونة والمزينة برسوم تمثل مشاهد أحتفالية وولائم مقدسة وصراع الأبطال مع الحيوانات الكاسرة .
* تماثيل مجسمة مشكلة من الحجر أو المعدن، يظهر فيها التطور من الأسلوب الهندسي إلى النزعة الواقعية الطبيعية والملامح الحيوية.
* أعمال فن النحت النافر، كاللوحات النذرية المربعة التي صورت عليها مشاهد دينية وحربية، وكانت تثقب وتعلق على الجدران . 
* القوانين العراقية القديمة تعد من أهم إنجازات الحضارة العراقية في العصور القديمة. فهي أقدم القوانين المكتشفة في العالم. أظهرت درجة كبيرة من النضج والتنظيم .
* تطور علم الفلك ، فقد كانوا على علم بحجم وعدد الكواكب في مجموعة الشمسية. التي تتألف من تسعة كواكب إضافة الى الشمس والقمر . وعرفوا طبيعة وشكل الأرض الدائري والبعد الذي يفصل الأرض عن القمر بدقة عجيبة .
ألا تدل هذه الأنجازات على ريادة السومريين للحداثة وسادتها ؟ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق