الاثنين، 21 مايو 2018

دمية اليتيمة ثمن // ق ، ق // بقلم الاستاذة : ابتهال الخياط // العراق

دمية اليتيمة ثمن.
منتصف النهار من يوم صيفي حار ، تجلس عند حافة منعطف يؤدي إلى سوق القرية ، إنها "ثمن" امرأة تٙمزَّق وجهها كما ثيابها من هول الفقر ،فيبدو فمها وكأنه مطبق منذ سنين .
يتساءل من ينظر إليها " كيف يمكن أن تأكل دون أن تتمزق شفتاها ؟!"
كلّ يوم عند الغروب تلملم جلستها وتقبض بقوة على ماحصدت من تسّولها الصامت فتتحرك نحو المخبز لتأخذ أرغفة يزيد عليها صاحبه باثنين ،ثم تشتري بالمتبقي ما يمكن من طعام آخر.
تلك الصغيرة "ثمن" المدللة عند أبيها الذي غادر يوما بلا عودة ، في حرب من تلك الحروب الكثيرة التي رحل معها الكثير من الرجال دون عودة، نسته الأيام والناس .. وترك زوجته وأبنته نهباً للجوع والعوز.. كان عمرها حين رحيله عشر سنوات فقط ، جميلة نظيفة تجلس خلف أمها في ذات المكان حيث تمد يدها قائلة" أغيثوا ابنتي إنها جائعة". والآن ماعادت للأم قوة فالتزمت دارها وأخذت "ثمن" المكان .
اليوم مزدحم بالمارة ،كانت "ثمن " متعبة وترتجف من الحمّى ، تحاول أن تشير للناس بأن يسعفوها ، لكن لافائدة ،فعليها أن تترك صمتها وتصرخ طالبة العون ،لكنه صمتٌ صاحٙبها منذ سنين طويلة في ذلك اليوم المشؤوم الذي دعاها الرجل القاطن في أعلى التلة ،ذاك اللئيم الذي مازال ينظر إليها بعين الثعلب وهو يرمي بقطعة نقود صغيرة وغمزة من طرف عينه .. فيزيد صمتها ظلمة و وجهها كهولة رغم أنها في العشرين من عمرها..فتعض على شفتيها ألما وحزناً.تقاتل القهر والهوان فهناك في الدار أمها القابعة دون حراك تنتظر وجبة طعام نهاية اليوم.
دخلت "ثمن" دارها الذي نقشت عليه الأيام بأظافرها لتتكلم الشقوق والرطوبة عن رغبة حجارته بان تتهاوى مغادرة اصطفافها .
ثمن: هيا أمي قومي لتأكلي بعض الطعام .
الأم تزحف نحوها: أجل يا ابنتي أكاد أموت من حرقة معدتي.
كانت الأم تأكل بنهم وهي تنظر إلى ابنتها قائلة:
و أنتِ حبيبتي متى تشاركيني؟
ثمن: لا أريد ياأمي.
الأم: لأجلي عزيزتي إني لا أقوى على الجوع مثلكِ.
ثمن: ربما لاحقا.
الأم: ماهناك ، أعلم أنكِ دائما حزينة صامتة ، لكن اليوم أجدك في حال آخر .
كانت "ثمن" تغوص في أفكار سوداء أشد من سواد حياتها فكان الغضب والغصة والدموع تنهال على وجنتيها ، تركت أمها الطعام لتغرق في نحيب مؤلم،مدت "ثمن" يديها تحتضن أمها ليكون بكاؤهما سمفونية حزن قلدت سقف الدار بنجوم لاتشبه أي نجوم ،فلبيوت الفقراء واليتامى سماوات مختلفة نجومها تشع دون الحاجة إلى شموس أو أقمار لتنيرها ، أنها نجوم الأحلام الساكنة في قبور لايزورها أحد.
انتهى الليل لتكون إحداهما سندًا لنوم الأخرى .
حلّ الصباح ، لتتنفس "ثمن" ولتطبع قبلة على رأس أمها قائلة:
لنأكل ياأمي ،قررت أن أتكلم ومن الآن
سنكون بخير ، فأغفري لي ماحصل.
قامت المرأتان ليكون طعامهما زادا ليومهما الطويل الجديد .
خرجت "ثمن".. لكن لم تتوجه إلى ذلك المنعطف حيث كل يوم بل توجهت نحو تلك التلة المطلة بلؤم صاحب ذاك الدار الرابض عليها ، لتعيد ذكرى اليوم قبل عشر سنوات والذي لبّت فيه دعوته في لهفتها للحلوى كما وعدها ،كانت تحمل دميتها ، تتسابق ظفائرها مع ساقيها إليه ، ومدت يدها لتطرق بابه فيفتحها ليجد أمامه تلك الطفلة الجميلة ،مازال كلامه يدق في رأسها كجرس المدرسة التي تركتها مع فقدانها والدها:
" اهلا "ثمن" يالكِ من جميلة ،تعالي تذوقي الحلوى إنها لكِ فقط."
آه ه ه ه ه "أيها الحقير ماذا فعلت بي ".
كانت تصرخ فتتمزق شفتاها ويسيل الدم ، تمسحه مع دموع ساخنة ورجفة بأناملها النحيفة .
وصلت ..وقفت أمام الباب لبرهة ،مازال الوقت مبكرا إنّه وقت مناسب لما تريد فعله .
تمالكت نفسها وحشدت قوتها الغائرة في بركان غضبها حزنا على أوجاع تلك الطفلة المقتولة في داخلها لتنهال طرقا على الباب.
فُتحت الباب ،هاهو وقد أكلت السنوات العشر منه الكثير..توقف مذهولا أمامها ،
قال: أها يا ثمن يبدو أنك قد فهمتِ نظراتي اليكِ وتلك الغمزة حين فعلتها قديما كنتِ صغيرة جدا ،لكنك الآن امرأة ،لن أعطيك الحلوى بل أكثر ..تعالي ادخلي.
دخلت ثمن تتلفت من حولها تارة وتنظر إليه تارة أخرى..سرق شيء بصرها نحو الجدار ..كانت هناك دميتها ! دميتها التي اشتراها لها والدها فحرمها منها هذا الحقير وجعلها ملتصقة بصمت عند جداره كما جعلها هي تعيش في صمت الوجع الذي رافقها منذ فعل فعلته ممزقا طفولتها بأبشع صورة ،كيف كانت تتلوى تحت جسده فلم تهمه صرخاتها بل كان يخمدها بصفعة .
أمسكت رأسها وصارت ترتجف.
قال: مابكِ.. جائعة؟ عندي طعام ،لكن أولا دعيني أتلمس جسدك .
كانت تتلفت بخوف فترتجف ،وقعت عينها على سكين قرب صحن ، ابتسمت له وتنهدت، ظهرت علامات الفرح على وجهه، ماكانت إلا لحظة حتى أمسكت بها وجعلتها في عينه وفمه ونحره..طعنات عدة .
غريب كان صامتاً .. مذهولا ..مترنحا .
ذبحته..فسقط ميتا..طعنة أخيرة في عينه واستقرت السكين..فسكنت ثمن .
استدارت بهدوء .. ذهبت إلى دميتها فحملتها بحب وحنين.. وتركت المكان ، كانت تركض بفرح والنسمات الصباحية تضرب وجهها بقوة ،دخلت دارها وجعلت دميتها حيث حضن أمها .
عادت تسير نحو منعطف السوق حيث المارة وانتظار بضعة نقود ثمنا للطعام.

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق