الدور الحضاري للهجرات الإسلاميَّة في إفريقيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق - 27-5-2018
الإسلام في كل مكان وصلَ إليه قصة؛ تحكى جهود الأجداد في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وبين كل البشر، ليعم الخير، وينتشر العدل، وتشرق الأرض بنور ربها. ومن بين البقاع التي نعمت بنور الإسلام في وقت مبكر، تلك الأرض الممتدة على الساحل الشرقي للقارة الإفريقية والأراضي القريبة منها كذلك، والتي تضم اليوم مجموعة من الدول هي إريتريا وإثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وأوغندا وجيبوتي وموزمبيق ومدغشقر وملاوي وزامبيا وزيمبابوي وبوروندي ورواندا وجزر القمر وموريشيوس وسيشيل وقد كان يطلق على الأراضي الساحلية منها أرض الزنج . قبل أن نخوض في العلاقات الوثيقة بين الإسلام وشرق القارة السمراء، نغوص معًا في أعماق التاريخ لنبدأ القصة من أولها، ولنكشف الستار عن الأحداث التي مهدت لهذه العلاقات الوطيدة التي جاء الإسلام ليثَبِتها ويوطدها، لا ليبتدئها أو ينشئها.
كان الحضارم - عرب جنوب شبه الجزيرة العربية - أول الشعوب العربية التي أتت إلى الساحل الشرقي لإفريقيا بغرض التجارة لا الغزو، وعلى الرغم من أنهم وفدوا في أعداد قليلة إلا أنهم داوموا في تجارتهم، واختلطوا بأهل الساحل، وتزوجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية، وفي منتصف الألف سنة التي سبقت ميلاد المسيح بدأ الطابع العربي يظهر على طول الساحل، ولم يفقد هذا الساحل شخصيته المميزة، إذ كان يدعم بشكل دائم بالوافدين من جزيرة العرب والخليج العربي.
ويذكر مؤرخو الإغريق القدماء عن "الزنج" الذين كانوا يعيشون في سواحل شرق إفريقيا، أنهم شيدوا مدنًا ساحلية كانت على علاقات جارية راسخة مع شبه الجزيرة العربية والهند. ومن المرجح أن يكون عرب جزيرة العرب - خاصة عرب الجنوب - هم أقدم الشعوب العربية اتصالًا بالسواحل الشرقية الإفريقية، بحكم الجوار الجغرافي، وساعدهم على قيام هذه الصلات نظام الرياح الموسمية، والتي كانت تمكن السفن الشراعية الصغيرة من القيام برحلتين على الأقل في العام؛ ففي الخريف تدفعها الرياح الموسمية الجنوبية الغربية من خليج عمان وسواحل الجزيرة العربية نحو الساحل الإفريقي، وفي فصل الربيع تدفعها في اتجاه الشمال الشرقي، حيث تمكنها من العودة إلى قواعدها، وفي خلال دورة الرياح يتم التعامل التجاري. كانت تلك إذن هي بدء العَلاقات بين سكان شبه الجزيرة العربية وبين شرق القارة الإفريقية، وقد مهَّدَ هذا الأمر لوصول الإسلام ثُمَّ نَشْرِهِ بعد ذلك في تلك الأماكن.
هجرة المسلمين للحبشة
هجرة المسلمين للحبشة وقد كانت التجارة بين عرب شبه الجزيرة العربية وشعوب شرق إفريقيا ما زالت مستمرَّة حين جاء الإسلام، فلمَّا اشتدَّ أذى مشركي مكة للمسلمين أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد بها النجاشي، ولقد وصفه الرسول بأنه لا يُظلم عنده أحد، ومن ثَمَّ كان اختيار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين ابتداءً، وكان الاستقبال الحافل والحفاوة البالغة التي تمَّ بها استقبال المسلمين كَفِيلَة باستمرارهم، وتَكَرَّرت هجرتهم مرَّة أخرى بِفَوْج أكبر من الفوج الأول، فبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلًا وتسعَ عشرةَ امرأة، وقد حاولت قريش الإيقاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبين النجاشي ومَن معه من النصارى، ولكن قوَّة الحُجَّة عند المسلمين وحُسْن تصرفهم حالَ دون هذه الوقيعة، وازداد تمسُّك النجاشي بهم وحمايته لهم.
وقد كان للعَلاقات الودِّيَّة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنجاشي، والمعاملة الطيبة التي لقيَها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العَلاقات بين نصارى الحبشة وبين الإسلام، إلاَّ أن هذه الهجرات الإسلامية الأولية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تترك أثرًا في حياة البلاد، وإن كانت قد تركت أثرًا في نفوس الأحباش، وأطلعتهم على الينبوع الرُّوحي الجديد المتفجِّر بالقوَّة والحياة، ووطَّدت الصلات بين الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأحباش، وحين بلغ الرسولَ وفاةُ النجاشي صلَّى عليه هو وأصحابه؛ فعن أبي هريرة قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة اليومَ الذي مات فيه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ النَّبِيَّ صَفَّ بهم بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يُتَحَدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.
وفي السنة التاسعة من الهجرة، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل علقمة بن مُجَزِّز رضي الله عنه على سريَّة في اتجاه الحبشة؛ لأن بعض مراكبهم كانت تقترب من مكة بحرًا، ولكنه لم يَلْقَ كيدًا كما تَذْكُر الرواية. ومن هنا كانت منطقة شرق إفريقيا أسبق بقعة في العالم القديم في استقبال الدعوة الإسلامية الخالدة
لقد ارتبط اسم إفريقيا منذ فجر الإسلام بالهجرة؛ إذ هي أرض الهجرة الأولى، ومقصد المهاجرين الأوَّلين، ومأوى الطَّائفة المؤمنة المضطهَدة بمكَّة، ومنذئذٍ لم تفتأ إفريقيا تحتضن المهاجرين بأصنافهم المختلفة، وتستقطب بذلك الخبرات والحضارات المتعدِّدة، ولا شـكَّ أن الهجرات الإسلاميَّة كانت أهمَّ الرَّوافد التي أمدَّت إفريقيا بالمفعول الحضاري، وألهمت الأفارقة الوسائل والخبرات المتجدِّدة ليتبوَّؤوا مقعدهم ومكانتهم الحضارية في محفل الحضارة الإنسانيَّة.
كانت فاتحة تلك الهجرات المباركة إلى أرض إفريقيا بالحبشة هجرة ابنة صاحب النُّبوة - صلى الله عليه وسلم - رقيَّة - رضي الله عنها - وصـهره ذي النُّـورين الخليفـة عثمـان - رضي الله عنه - ودامت أربعة أشهرٍ (من رجب إلى شوال في السَّنة الخامسة من البعثة النَّبويَّة)، وبمعيَّتهما ثلاثــة عشر مــن المســـلمين ؛ منهــم: عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، ومن النِّساء: سهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية زوجة أبي سفيان، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، رضوان الله عليهم .
يقول محمد بـن إسحـاق: (لمـا رأى رسـول الـله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب من قِبَل كفار قريش قال لهم: «لـو خرجـتم إلى أرض الحـبشة؛ فـإن فيـها مـلكاً لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج من المسلمين في مكة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، كان منهم عثمان بن عفان وامرأته رقيَّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك لخمس سنين من البعثة) .
ويظهر جلياً أن هذا التَّوجُّه نحو إفريقيا لم يكن توجُّهاً جزافاً، أو خبط عشواء يبتعد به المهاجرون عن منطقة الشَّر والاضطهاد إلى المجهول، وإنما كان توجُّهاً واعياً، واختياراً مناسباً من لدن صاحب الرِّسالة الذي وجَّه المهاجرين الأُوَل إلى تلك الأراضي، ففي شهادات هؤلاء المهاجرين تصديقٌ تاريخيٌّ لحصافة الاختيار النَّبوي لأرض الحبشة. تقول أم سلمة - رضي الله عنها -: «فجاورنا بها خير جار، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله - تعالى - لا نُؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه» ، فالنَّبــي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأمين على الوحي الإلهيِّ لم يكن ليتصرَّف عن الهوى، ويُبعد أصحابه عن قريبٍ مالكٍ لأمرهم؛ ليُلقي بهم إلى بعيدٍ يتجهَّمهم دون أن يتثبَّت من الحالة الدَّاخليَّة للحبشة وخبرها ملكاً وشعباً.
كذلك؛ فإنَّ الابتعاد عن منطقة الشَّر والفتنة له غاية محدَّدة وهو أن يجعل الله للمهاجرين فرجاً ممَّا هم فيه، يعودون بعده لمتابعة المسيرة الدَّعويَّة؛ لذلك عاد المهاجرون فوراً لمجرَّد نماء شائعة إليهم بأنَّ الإسلام قد ظهر أمره بمكَّة ، فعادوا على الرغم من حسن الوفادة وكرم الضِّيافة اللذين حظوا بهما في كنف ملك الحبشة؛ حرصاً منهم على الرِّسالة التي خرجوا في سبيل حمايتها، وامتثالاً بوصيَّة صاحب الرِّسالة لهم، فلم تغرّهم حياة الدَّعة والفرص الجديدة في أرض الحبشة عمَّا خرجوا من أجله.
وتبعت تلك الهجرة هجرةٌ أخرى تضاعف عدد المهاجرين فيها إلى ثلاثة وثمانين رجلاً، وإحدى عشرة امرأة، وكان لها بُعدها السياسي المتميِّز في التَّعريف برسالة الإسلام، وسماحته، وكسب المزيد من المساندة الخارجيَّة كما هو معلوم في السِّيرة؛ إذ حاولت قريش إخماد تلك الهجرة، وإيغار قلب النجاشي على الإسلام والمهاجرين، فلم يفلحوا ، بل كانوا كما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ *** طُوِيَـتْ أتاحَ لها لسـانَ حسُـودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرتْ *** ما كانَ يُـعرَف طيبُ عَرْف العودِ
وبعد تلكما الهجرتَين الخالدتَين تتابعت هجرات المسلمين من جزيرة العرب ومهد الإسلام إلى أرض إفريقيا، وكانت لتلك الهجرات أثرها في الحفاظ على الأرواح المسلمة، وفي إشعاع الأراضي الإفريقيَّة بنور الإسلام وحضارته على أيدي المهاجرين، ومن تلك الهجرات:
* في الشَّرق الإفريقي:
كان الشَّـرق الإفريقـي - بحكـم قربه من الجزيرة العربيَّة - أوَّل الأراضي الإفريقيَّة في احتضان الهجرات الإسلاميَّة الأولى، وفي تتابُع العلاقات الاجتماعيَّة بين العرب وبين شعوب شرق إفريقيا، ومن تلك الهجرات:
- هجرة بني مخزوم القرشيِّين إلى الحبشة:
كانت تلك الهجرة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلى رأسها ود بن هشام المخزومي، وقيل: إنهم كوَّنوا فيما بعد مملكة إسلاميَّة بأرض الحبشة سنة 283هـ .
- هاجر كذلك جماعة من المسلمين إلى الساحل الشرقي من إفريقيا؛ فراراً من بطش الحجاج بن يوسف الثقفي، سنة 65 هـ، وكان لها دورها في إنشاء المراكز التِّجاريَّة على الساحل الإفريقيِّ .
وعلى كل حال؛ فإن المقام يضيق بسرد تلك الهجرات الكثيرة إلى مناطق شرق إفريقيا؛ سواء الهجرات الجماعية؛ مثل: هجـرات الـهنـود المسلمـين والـهجرات الشيـرازيَّـة، أو الهجرات الفرديَّة، مما كان له الأثر الفعَّال في تشكيل حضارة مناطق شرق إفريقيا ونسيجها الاجتماعي والدِّيني، حتى أصبح من المستحيل فصل تلك المعالم الحضاريَّة لشعوب شرق إفريقيا عن الإسلام .
ومن أهم الممالك الإسلاميَّة التي قامت في شرق إفريقيا بفعل الهجرات: سلطنة «مقديشو» وأسَّسها المهاجرون الزَّيديون، وسلطنة «كلوة» وأسسها علي بن الحسن بن علي بن صاحب شيراز، ومملكة «شوة الإسلاميَّة»، وأسسهــا المهاجــرون المخــزوميُّـون، وممـلكة «أرابينـي»، و «بالي» و «دارة»، و «داوارو»، و «زنجبار»، و «سفالة»، و «ممبسة»، وجميعها ممالك إسلاميَّة معروفة تناوبت حمل لواء الدَّعوة، والجهاد في إفريقيا، وصولاً إلى العصر الحديث، وقيام ممالك جديدة إسلاميَّة، وحركاتٍ دعويَّة نشطة مستلهمة لرؤى تلك الحركات القديمة ، وقد أحبطت تلك الحركات الكثير من الخطط الاستعماريَّة الخبيثة في محاولتها القضاء على الإسلام ورموزه.
في الغرب الإفريقي:
إذا كان معظم الهجرات الإسلاميَّة في شرق إفريقيا هجراتٍ إليها، فإنَّ معظم الهجرات في الغرب الإفريقيِّ كانت هجرات منها نحو مهد الإسلام، أو استلهاماً لمبدأ الهجرة في الإسلام لدى أصحاب الحركات التَّجديديَّة والحضاريَّة في إفريقيا، فقلَّ من زعماء الحركات الجهاديَّة في إفريقيا مَن لم يهاجر بجماعته إلى منطقة معيَّنة في المرحلة التَّعبويَّة لحركته.
- هجرة الشَّيخ عثمان دان فوديو: كانت أهمُّ الهجرات الإسلاميَّة التي أسفرت عن تأسيس دولة إسلاميَّة في غرب إفريقيا، هجرة الشَّيخ عثمان دان فوديو (ت 1817م) الذي ندب تلامذته وأتباعه إلى الهجرة، ودعا إلى البيعة والجهاد حين وصلت استفزازات الملك الوثني قمَّتها بمهاجمة تلامذة الشَّيخ والإغارة عليهم في مدينة دِيغِيل شماليَّ نيجيريا، فحرَّر الشَّيخ وثيقة عاجلة بعنوان «وثيقة أهل السُّودان»، دعا فيها الأتباع إلى هجرة عاجلة واللِّحاق به في غُودو عام 1802م، وهكذا جرت الأمور، وأعجلت تلك الهجرة بسقوط الملوك الوثنيِّين تباعاً، وقيام دولة إسلاميَّة كان لها دورها المميَّز في حضارة إفريقيا .
- هجرة السُّلطان الطَّاهرو: وظهرت أهميَّة الهجرة ودورها السِّياسي إبّان استيلاء القوى الاستعمارية على الأراضي الإسلاميَّة في إفريقيا، واقتسامها فيما بينها، وقد أدركت القوات الاستعماريَّة خطورة هذا الموقف؛ فكانت تحول دون الهجرات الجماعيَّة للحاق بالمشايخ، وتقطع على المهاجرين الطُّرق.
ومن أهمِّ الوقائع في ذلك أنَّ السلطان الطاهرُو أحمدو، آخر سلاطين (مملكة صكوتو) الإسلاميَّة المشار إليها، ندب إلى الهجرة نحو الشَّرق وأرض الحرمين، ونفَّذها عام (1320هـ / 1903م) حين استولت القوات البريطانيَّة على الأراضي الإسلاميَّة في غرب إفريقيا، فكانت الأعداد تتزايد كلما انطلق نحو المشرق، وقد أزعج ذلك المستعمر البريطاني، وأدرك مغبَّة هذا الخروج العارم، والاتِّجاه نحو المشرق، وبلاد السُّودان الشَّرقي التي كانت الحركة المهديَّة ظاهرة فيها؛ إذ لو قدِّر أن تلتقي تلك الجماعات بالمهدي، وتعطيه البيعة، لكان في ذلك الخطر المحقَّق بالكيان الاستعماريِّ البريطاني.. وهكذا تعقَّبت الجيوش البريطانية السلطان وقتلته، وشتَّتت جماعته بعد ستِّ هزائم متوالية ألحقها جماعة السُّلطان بالجيش البريطاني في بُورْمي بالقرب من غُومْبي .
- هجرة المجاهد الحاج عمر تال الفوتي: من الهجرات التي كان لها أثرٌ ظاهر في مسيرة الحضارة الإسلاميَّة في إفريقيا هجرة الشيخ المجاهد الحاج عمر بن سعيد تال (ت 1864م)، فحين عاد الشَّيخ من حجَّته المشهورة وزيارته للشَّام والقدس الشَّريف، وقام بحركته الدَّعويَّة في منطقة فوتا (غينيا والسنغال حاليّاً)، ولقي إعراضاً من لدن الحكام، هاجر بجماعته وطلبته عام 1851م، وأسَّس بلدة جديدة سمَّاها دِنْغرايْ في منطقة خارج سلطة المامي.
ويظهر جليّاً استلهام نموذج الهجرة النَّبويَّة لدى تلك الجماعة في إطلاقها اسم «المهاجرين» على الذين انطلقوا مع الشَّيخ، ولقب «الأنصار» على الذي لحقوا به أخيراً ، وإطلاق اسم «طيبة» فيما بعد على حاضرة الدَّولة الإسلاميَّة التي تأسَّست على إثر تلك الهجرة.
وقد أعجلت تلك الهجرة بتوسيع نطاق دعوة الشَّيخ عمر، وخلوِّ الجوّ له لإعداد جماعته روحيّاً وعسكريّاً، وانفتاحه المباشر على القبائل الوثنيَّة في المنطقة، واستحواذه على الثَّروات الطَّبيعة اللاَّزمة لقيام حركته؛ فما لبث أن أسَّس مملكة إسلاميَّة قويَّة على غرار (مملكة صكوتو)، قامت بدور حضاريٍّ في الدَّعوة وإحداث تطوُّر ملاحظ، إلى أن سقطت على يد المستعمر الفرنسي.
-هجرات تلامذة الحاج سالم صواري: حدث في غرب إفريقيا توظيفٌ ذكيُّ لمبدأ الهجرة لدى الحاج سالم صواري (ت 1525م) وتلامذته في حركته الدَّعويَّة، قلَّما ظهر مثله في البقاع الأخرى من العالم الإسلاميِّ.
ويتلخَّص هذا في المفهوم الخاص الذي بلْوَره الشَّيخ عن مبدأ الهجرة فيما يأتي:
تقوم حركة الحاج سالم على الدَّعوة السِّلميَّة بالنُّفوذ في أعماق القبائل الوثنيَّة؛ والسُّكنى معها، ودعوتها بالقول والقدوة الحسنة، حسب برنامج مطوَّل من الألفة والتَّودُّد إليهم، وعليه اتَّبع الشَّيخ ثلاث استراتيجيَّات، هي:
– القراءة والتعلّم: وهي إعداد الطلبة إعداداً علميّاً وروحيّاً قويّاً على الكتاب والسُّنّة (الصحيحان والموطأ خاصَّة).
- الفلاحة: وهي العمل في زراعة الأرض؛ وقد لجؤوا إلى ذلك لأن طبيعة سكّناهم بين المدعوِّين كانت تستلزم مزاولة عمل يتكسَّبون به، ولم يكن بوسعهم مزاولة التِّجارة التي عُرِف بها الدُّعاة المسلمون في إفريقيا؛ لأنَّ فيها ما فيها من التَّنقُّل وعدم الاستقرار.
- الهجرة: وهي هجرة طوعيَّة، كان يقوم بها الدُّعاة الصُّواريُّون لتجديد عقيدتهم؛ كلَّما شعروا أنَّ بقاءهم بين أظهُر الوثنيِّين قد طال، وأنَّ بعض ممارسات أولئك تكاد تتلبَّس بالتَّعاليم الإسلاميَّة السَّمحة، فكانوا يتركون بعض الدعاة لمتابعة الدَّعوة، ويسافرون بعد ذلك إلى أهداف دعويَّة أخرى، وهنا خصوصاً المفهوم الخاص لمبدأ الهجرة الذي نحسب أنَّ تلك الجماعة قد اختَّصت به عمَّا سواها .
- هجرات المسلمين الأفارقة إلى أمريكا: كشفت الأبحاث التَّاريخيَّة أنَّ المسلمين هاجروا إلى أمريكا، خصوصاً إلى جزئها الجنوبي، قبل اكتشاف الأوروبيِّين لهذا العالَم، وكان من آثار تلك الهجرات الحضاريَّة في الأراضي الأمريكيَّة بزوغ الإسلام فيها، وتقويته بعد حادثة تجارة الرَّقيق الأفارقة المأساويَّة إلى أمريكا.
ففي البرازيل قامت دولة إسلاميَّة في (باهيا) على أيدي أولئك المهاجرين والرَّقيق المسلمين، حاربت العبوديَّة، ووقفت في وجه التحدّي الصليبي الذي كان يتعقَّب المسلمين، ويقيم لهم محاكم تفتيش على غرار ما في الأندلس، فنظَّموا الكثير من حركات الثورة ضد البرتغاليِّين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان أعنف تلك الثورات عام 1807م – 1835م، على يد قبائل الهوسا والمادينغ، وتسمّى تلك الثورة «ثورة مـالي Male» نسبة إلى (مملكة مـالي) الإسلاميَّة القديمة، ولا تزال بصمات تلك الحركة منطبعةً على ثقافات شعوب البرازيل والجزر الكاريبيَّة، هذا إذا آثرنا الاختصار ولم نتعرَّض للدَّور العربيِّ الجليِّ في تلك المنطقة .
وتعود المياه إلى مجاريها؛ بعودة مجموعة من المسلمين المحرِّرين من البرازيل إلى إفريقيا الغربيَّة واستيطانهم منطقة داهومي (دولة بِنين Benin الحاليَّة)، وعلى أيدي هؤلاء تأسَّس كيانٌ إسلاميٌّ في تلك المنطقة، حيث بنوا المساجد والمدارس الإسلاميَّة، وإلى تلك المجموعة يرجع دخول الإسلام وانتشاره في تلك المناطق في غرب إفريقيا.
بالجملة؛ فإنَّ الهجرات الإسلاميَّة قد شملت جميع مناطق إفريقيا، وكانت ذات أثرٍ ملاحظ في تألُّق الحضارة الإنسانيَّة والإسلاميَّة في مختلف ربوع إفريقيا، وظهرت حركات دعويَّة وإصلاحيَّة كثيرة، استلهمت دروس الهجرة النَّبويَّة الخالدة في مشروعها الدَّعويّ الإصلاحيّ؛ فكان ذلك من أسباب نجاحها وسرعة تحقيقها لأهدافها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق - 27-5-2018
الإسلام في كل مكان وصلَ إليه قصة؛ تحكى جهود الأجداد في نشر الإسلام في ربوع الأرض، وبين كل البشر، ليعم الخير، وينتشر العدل، وتشرق الأرض بنور ربها. ومن بين البقاع التي نعمت بنور الإسلام في وقت مبكر، تلك الأرض الممتدة على الساحل الشرقي للقارة الإفريقية والأراضي القريبة منها كذلك، والتي تضم اليوم مجموعة من الدول هي إريتريا وإثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وأوغندا وجيبوتي وموزمبيق ومدغشقر وملاوي وزامبيا وزيمبابوي وبوروندي ورواندا وجزر القمر وموريشيوس وسيشيل وقد كان يطلق على الأراضي الساحلية منها أرض الزنج . قبل أن نخوض في العلاقات الوثيقة بين الإسلام وشرق القارة السمراء، نغوص معًا في أعماق التاريخ لنبدأ القصة من أولها، ولنكشف الستار عن الأحداث التي مهدت لهذه العلاقات الوطيدة التي جاء الإسلام ليثَبِتها ويوطدها، لا ليبتدئها أو ينشئها.
كان الحضارم - عرب جنوب شبه الجزيرة العربية - أول الشعوب العربية التي أتت إلى الساحل الشرقي لإفريقيا بغرض التجارة لا الغزو، وعلى الرغم من أنهم وفدوا في أعداد قليلة إلا أنهم داوموا في تجارتهم، واختلطوا بأهل الساحل، وتزوجوا منهم، وأقاموا محطات تجارية، وفي منتصف الألف سنة التي سبقت ميلاد المسيح بدأ الطابع العربي يظهر على طول الساحل، ولم يفقد هذا الساحل شخصيته المميزة، إذ كان يدعم بشكل دائم بالوافدين من جزيرة العرب والخليج العربي.
ويذكر مؤرخو الإغريق القدماء عن "الزنج" الذين كانوا يعيشون في سواحل شرق إفريقيا، أنهم شيدوا مدنًا ساحلية كانت على علاقات جارية راسخة مع شبه الجزيرة العربية والهند. ومن المرجح أن يكون عرب جزيرة العرب - خاصة عرب الجنوب - هم أقدم الشعوب العربية اتصالًا بالسواحل الشرقية الإفريقية، بحكم الجوار الجغرافي، وساعدهم على قيام هذه الصلات نظام الرياح الموسمية، والتي كانت تمكن السفن الشراعية الصغيرة من القيام برحلتين على الأقل في العام؛ ففي الخريف تدفعها الرياح الموسمية الجنوبية الغربية من خليج عمان وسواحل الجزيرة العربية نحو الساحل الإفريقي، وفي فصل الربيع تدفعها في اتجاه الشمال الشرقي، حيث تمكنها من العودة إلى قواعدها، وفي خلال دورة الرياح يتم التعامل التجاري. كانت تلك إذن هي بدء العَلاقات بين سكان شبه الجزيرة العربية وبين شرق القارة الإفريقية، وقد مهَّدَ هذا الأمر لوصول الإسلام ثُمَّ نَشْرِهِ بعد ذلك في تلك الأماكن.
هجرة المسلمين للحبشة
هجرة المسلمين للحبشة وقد كانت التجارة بين عرب شبه الجزيرة العربية وشعوب شرق إفريقيا ما زالت مستمرَّة حين جاء الإسلام، فلمَّا اشتدَّ أذى مشركي مكة للمسلمين أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث يوجد بها النجاشي، ولقد وصفه الرسول بأنه لا يُظلم عنده أحد، ومن ثَمَّ كان اختيار الحبشة كمكان لهجرة المسلمين ابتداءً، وكان الاستقبال الحافل والحفاوة البالغة التي تمَّ بها استقبال المسلمين كَفِيلَة باستمرارهم، وتَكَرَّرت هجرتهم مرَّة أخرى بِفَوْج أكبر من الفوج الأول، فبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلًا وتسعَ عشرةَ امرأة، وقد حاولت قريش الإيقاع بين المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبين النجاشي ومَن معه من النصارى، ولكن قوَّة الحُجَّة عند المسلمين وحُسْن تصرفهم حالَ دون هذه الوقيعة، وازداد تمسُّك النجاشي بهم وحمايته لهم.
وقد كان للعَلاقات الودِّيَّة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنجاشي، والمعاملة الطيبة التي لقيَها المسلمون المهاجرون إلى الحبشة أكبر الأثر في توثيق العَلاقات بين نصارى الحبشة وبين الإسلام، إلاَّ أن هذه الهجرات الإسلامية الأولية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تترك أثرًا في حياة البلاد، وإن كانت قد تركت أثرًا في نفوس الأحباش، وأطلعتهم على الينبوع الرُّوحي الجديد المتفجِّر بالقوَّة والحياة، ووطَّدت الصلات بين الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأحباش، وحين بلغ الرسولَ وفاةُ النجاشي صلَّى عليه هو وأصحابه؛ فعن أبي هريرة قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة اليومَ الذي مات فيه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ". وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ النَّبِيَّ صَفَّ بهم بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يُتَحَدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.
وفي السنة التاسعة من الهجرة، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل علقمة بن مُجَزِّز رضي الله عنه على سريَّة في اتجاه الحبشة؛ لأن بعض مراكبهم كانت تقترب من مكة بحرًا، ولكنه لم يَلْقَ كيدًا كما تَذْكُر الرواية. ومن هنا كانت منطقة شرق إفريقيا أسبق بقعة في العالم القديم في استقبال الدعوة الإسلامية الخالدة
لقد ارتبط اسم إفريقيا منذ فجر الإسلام بالهجرة؛ إذ هي أرض الهجرة الأولى، ومقصد المهاجرين الأوَّلين، ومأوى الطَّائفة المؤمنة المضطهَدة بمكَّة، ومنذئذٍ لم تفتأ إفريقيا تحتضن المهاجرين بأصنافهم المختلفة، وتستقطب بذلك الخبرات والحضارات المتعدِّدة، ولا شـكَّ أن الهجرات الإسلاميَّة كانت أهمَّ الرَّوافد التي أمدَّت إفريقيا بالمفعول الحضاري، وألهمت الأفارقة الوسائل والخبرات المتجدِّدة ليتبوَّؤوا مقعدهم ومكانتهم الحضارية في محفل الحضارة الإنسانيَّة.
كانت فاتحة تلك الهجرات المباركة إلى أرض إفريقيا بالحبشة هجرة ابنة صاحب النُّبوة - صلى الله عليه وسلم - رقيَّة - رضي الله عنها - وصـهره ذي النُّـورين الخليفـة عثمـان - رضي الله عنه - ودامت أربعة أشهرٍ (من رجب إلى شوال في السَّنة الخامسة من البعثة النَّبويَّة)، وبمعيَّتهما ثلاثــة عشر مــن المســـلمين ؛ منهــم: عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، ومن النِّساء: سهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية زوجة أبي سفيان، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، رضوان الله عليهم .
يقول محمد بـن إسحـاق: (لمـا رأى رسـول الـله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب من قِبَل كفار قريش قال لهم: «لـو خرجـتم إلى أرض الحـبشة؛ فـإن فيـها مـلكاً لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج من المسلمين في مكة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، كان منهم عثمان بن عفان وامرأته رقيَّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك لخمس سنين من البعثة) .
ويظهر جلياً أن هذا التَّوجُّه نحو إفريقيا لم يكن توجُّهاً جزافاً، أو خبط عشواء يبتعد به المهاجرون عن منطقة الشَّر والاضطهاد إلى المجهول، وإنما كان توجُّهاً واعياً، واختياراً مناسباً من لدن صاحب الرِّسالة الذي وجَّه المهاجرين الأُوَل إلى تلك الأراضي، ففي شهادات هؤلاء المهاجرين تصديقٌ تاريخيٌّ لحصافة الاختيار النَّبوي لأرض الحبشة. تقول أم سلمة - رضي الله عنها -: «فجاورنا بها خير جار، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله - تعالى - لا نُؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه» ، فالنَّبــي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأمين على الوحي الإلهيِّ لم يكن ليتصرَّف عن الهوى، ويُبعد أصحابه عن قريبٍ مالكٍ لأمرهم؛ ليُلقي بهم إلى بعيدٍ يتجهَّمهم دون أن يتثبَّت من الحالة الدَّاخليَّة للحبشة وخبرها ملكاً وشعباً.
كذلك؛ فإنَّ الابتعاد عن منطقة الشَّر والفتنة له غاية محدَّدة وهو أن يجعل الله للمهاجرين فرجاً ممَّا هم فيه، يعودون بعده لمتابعة المسيرة الدَّعويَّة؛ لذلك عاد المهاجرون فوراً لمجرَّد نماء شائعة إليهم بأنَّ الإسلام قد ظهر أمره بمكَّة ، فعادوا على الرغم من حسن الوفادة وكرم الضِّيافة اللذين حظوا بهما في كنف ملك الحبشة؛ حرصاً منهم على الرِّسالة التي خرجوا في سبيل حمايتها، وامتثالاً بوصيَّة صاحب الرِّسالة لهم، فلم تغرّهم حياة الدَّعة والفرص الجديدة في أرض الحبشة عمَّا خرجوا من أجله.
وتبعت تلك الهجرة هجرةٌ أخرى تضاعف عدد المهاجرين فيها إلى ثلاثة وثمانين رجلاً، وإحدى عشرة امرأة، وكان لها بُعدها السياسي المتميِّز في التَّعريف برسالة الإسلام، وسماحته، وكسب المزيد من المساندة الخارجيَّة كما هو معلوم في السِّيرة؛ إذ حاولت قريش إخماد تلك الهجرة، وإيغار قلب النجاشي على الإسلام والمهاجرين، فلم يفلحوا ، بل كانوا كما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ *** طُوِيَـتْ أتاحَ لها لسـانَ حسُـودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرتْ *** ما كانَ يُـعرَف طيبُ عَرْف العودِ
وبعد تلكما الهجرتَين الخالدتَين تتابعت هجرات المسلمين من جزيرة العرب ومهد الإسلام إلى أرض إفريقيا، وكانت لتلك الهجرات أثرها في الحفاظ على الأرواح المسلمة، وفي إشعاع الأراضي الإفريقيَّة بنور الإسلام وحضارته على أيدي المهاجرين، ومن تلك الهجرات:
* في الشَّرق الإفريقي:
كان الشَّـرق الإفريقـي - بحكـم قربه من الجزيرة العربيَّة - أوَّل الأراضي الإفريقيَّة في احتضان الهجرات الإسلاميَّة الأولى، وفي تتابُع العلاقات الاجتماعيَّة بين العرب وبين شعوب شرق إفريقيا، ومن تلك الهجرات:
- هجرة بني مخزوم القرشيِّين إلى الحبشة:
كانت تلك الهجرة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلى رأسها ود بن هشام المخزومي، وقيل: إنهم كوَّنوا فيما بعد مملكة إسلاميَّة بأرض الحبشة سنة 283هـ .
- هاجر كذلك جماعة من المسلمين إلى الساحل الشرقي من إفريقيا؛ فراراً من بطش الحجاج بن يوسف الثقفي، سنة 65 هـ، وكان لها دورها في إنشاء المراكز التِّجاريَّة على الساحل الإفريقيِّ .
وعلى كل حال؛ فإن المقام يضيق بسرد تلك الهجرات الكثيرة إلى مناطق شرق إفريقيا؛ سواء الهجرات الجماعية؛ مثل: هجـرات الـهنـود المسلمـين والـهجرات الشيـرازيَّـة، أو الهجرات الفرديَّة، مما كان له الأثر الفعَّال في تشكيل حضارة مناطق شرق إفريقيا ونسيجها الاجتماعي والدِّيني، حتى أصبح من المستحيل فصل تلك المعالم الحضاريَّة لشعوب شرق إفريقيا عن الإسلام .
ومن أهم الممالك الإسلاميَّة التي قامت في شرق إفريقيا بفعل الهجرات: سلطنة «مقديشو» وأسَّسها المهاجرون الزَّيديون، وسلطنة «كلوة» وأسسها علي بن الحسن بن علي بن صاحب شيراز، ومملكة «شوة الإسلاميَّة»، وأسسهــا المهاجــرون المخــزوميُّـون، وممـلكة «أرابينـي»، و «بالي» و «دارة»، و «داوارو»، و «زنجبار»، و «سفالة»، و «ممبسة»، وجميعها ممالك إسلاميَّة معروفة تناوبت حمل لواء الدَّعوة، والجهاد في إفريقيا، وصولاً إلى العصر الحديث، وقيام ممالك جديدة إسلاميَّة، وحركاتٍ دعويَّة نشطة مستلهمة لرؤى تلك الحركات القديمة ، وقد أحبطت تلك الحركات الكثير من الخطط الاستعماريَّة الخبيثة في محاولتها القضاء على الإسلام ورموزه.
في الغرب الإفريقي:
إذا كان معظم الهجرات الإسلاميَّة في شرق إفريقيا هجراتٍ إليها، فإنَّ معظم الهجرات في الغرب الإفريقيِّ كانت هجرات منها نحو مهد الإسلام، أو استلهاماً لمبدأ الهجرة في الإسلام لدى أصحاب الحركات التَّجديديَّة والحضاريَّة في إفريقيا، فقلَّ من زعماء الحركات الجهاديَّة في إفريقيا مَن لم يهاجر بجماعته إلى منطقة معيَّنة في المرحلة التَّعبويَّة لحركته.
- هجرة الشَّيخ عثمان دان فوديو: كانت أهمُّ الهجرات الإسلاميَّة التي أسفرت عن تأسيس دولة إسلاميَّة في غرب إفريقيا، هجرة الشَّيخ عثمان دان فوديو (ت 1817م) الذي ندب تلامذته وأتباعه إلى الهجرة، ودعا إلى البيعة والجهاد حين وصلت استفزازات الملك الوثني قمَّتها بمهاجمة تلامذة الشَّيخ والإغارة عليهم في مدينة دِيغِيل شماليَّ نيجيريا، فحرَّر الشَّيخ وثيقة عاجلة بعنوان «وثيقة أهل السُّودان»، دعا فيها الأتباع إلى هجرة عاجلة واللِّحاق به في غُودو عام 1802م، وهكذا جرت الأمور، وأعجلت تلك الهجرة بسقوط الملوك الوثنيِّين تباعاً، وقيام دولة إسلاميَّة كان لها دورها المميَّز في حضارة إفريقيا .
- هجرة السُّلطان الطَّاهرو: وظهرت أهميَّة الهجرة ودورها السِّياسي إبّان استيلاء القوى الاستعمارية على الأراضي الإسلاميَّة في إفريقيا، واقتسامها فيما بينها، وقد أدركت القوات الاستعماريَّة خطورة هذا الموقف؛ فكانت تحول دون الهجرات الجماعيَّة للحاق بالمشايخ، وتقطع على المهاجرين الطُّرق.
ومن أهمِّ الوقائع في ذلك أنَّ السلطان الطاهرُو أحمدو، آخر سلاطين (مملكة صكوتو) الإسلاميَّة المشار إليها، ندب إلى الهجرة نحو الشَّرق وأرض الحرمين، ونفَّذها عام (1320هـ / 1903م) حين استولت القوات البريطانيَّة على الأراضي الإسلاميَّة في غرب إفريقيا، فكانت الأعداد تتزايد كلما انطلق نحو المشرق، وقد أزعج ذلك المستعمر البريطاني، وأدرك مغبَّة هذا الخروج العارم، والاتِّجاه نحو المشرق، وبلاد السُّودان الشَّرقي التي كانت الحركة المهديَّة ظاهرة فيها؛ إذ لو قدِّر أن تلتقي تلك الجماعات بالمهدي، وتعطيه البيعة، لكان في ذلك الخطر المحقَّق بالكيان الاستعماريِّ البريطاني.. وهكذا تعقَّبت الجيوش البريطانية السلطان وقتلته، وشتَّتت جماعته بعد ستِّ هزائم متوالية ألحقها جماعة السُّلطان بالجيش البريطاني في بُورْمي بالقرب من غُومْبي .
- هجرة المجاهد الحاج عمر تال الفوتي: من الهجرات التي كان لها أثرٌ ظاهر في مسيرة الحضارة الإسلاميَّة في إفريقيا هجرة الشيخ المجاهد الحاج عمر بن سعيد تال (ت 1864م)، فحين عاد الشَّيخ من حجَّته المشهورة وزيارته للشَّام والقدس الشَّريف، وقام بحركته الدَّعويَّة في منطقة فوتا (غينيا والسنغال حاليّاً)، ولقي إعراضاً من لدن الحكام، هاجر بجماعته وطلبته عام 1851م، وأسَّس بلدة جديدة سمَّاها دِنْغرايْ في منطقة خارج سلطة المامي.
ويظهر جليّاً استلهام نموذج الهجرة النَّبويَّة لدى تلك الجماعة في إطلاقها اسم «المهاجرين» على الذين انطلقوا مع الشَّيخ، ولقب «الأنصار» على الذي لحقوا به أخيراً ، وإطلاق اسم «طيبة» فيما بعد على حاضرة الدَّولة الإسلاميَّة التي تأسَّست على إثر تلك الهجرة.
وقد أعجلت تلك الهجرة بتوسيع نطاق دعوة الشَّيخ عمر، وخلوِّ الجوّ له لإعداد جماعته روحيّاً وعسكريّاً، وانفتاحه المباشر على القبائل الوثنيَّة في المنطقة، واستحواذه على الثَّروات الطَّبيعة اللاَّزمة لقيام حركته؛ فما لبث أن أسَّس مملكة إسلاميَّة قويَّة على غرار (مملكة صكوتو)، قامت بدور حضاريٍّ في الدَّعوة وإحداث تطوُّر ملاحظ، إلى أن سقطت على يد المستعمر الفرنسي.
-هجرات تلامذة الحاج سالم صواري: حدث في غرب إفريقيا توظيفٌ ذكيُّ لمبدأ الهجرة لدى الحاج سالم صواري (ت 1525م) وتلامذته في حركته الدَّعويَّة، قلَّما ظهر مثله في البقاع الأخرى من العالم الإسلاميِّ.
ويتلخَّص هذا في المفهوم الخاص الذي بلْوَره الشَّيخ عن مبدأ الهجرة فيما يأتي:
تقوم حركة الحاج سالم على الدَّعوة السِّلميَّة بالنُّفوذ في أعماق القبائل الوثنيَّة؛ والسُّكنى معها، ودعوتها بالقول والقدوة الحسنة، حسب برنامج مطوَّل من الألفة والتَّودُّد إليهم، وعليه اتَّبع الشَّيخ ثلاث استراتيجيَّات، هي:
– القراءة والتعلّم: وهي إعداد الطلبة إعداداً علميّاً وروحيّاً قويّاً على الكتاب والسُّنّة (الصحيحان والموطأ خاصَّة).
- الفلاحة: وهي العمل في زراعة الأرض؛ وقد لجؤوا إلى ذلك لأن طبيعة سكّناهم بين المدعوِّين كانت تستلزم مزاولة عمل يتكسَّبون به، ولم يكن بوسعهم مزاولة التِّجارة التي عُرِف بها الدُّعاة المسلمون في إفريقيا؛ لأنَّ فيها ما فيها من التَّنقُّل وعدم الاستقرار.
- الهجرة: وهي هجرة طوعيَّة، كان يقوم بها الدُّعاة الصُّواريُّون لتجديد عقيدتهم؛ كلَّما شعروا أنَّ بقاءهم بين أظهُر الوثنيِّين قد طال، وأنَّ بعض ممارسات أولئك تكاد تتلبَّس بالتَّعاليم الإسلاميَّة السَّمحة، فكانوا يتركون بعض الدعاة لمتابعة الدَّعوة، ويسافرون بعد ذلك إلى أهداف دعويَّة أخرى، وهنا خصوصاً المفهوم الخاص لمبدأ الهجرة الذي نحسب أنَّ تلك الجماعة قد اختَّصت به عمَّا سواها .
- هجرات المسلمين الأفارقة إلى أمريكا: كشفت الأبحاث التَّاريخيَّة أنَّ المسلمين هاجروا إلى أمريكا، خصوصاً إلى جزئها الجنوبي، قبل اكتشاف الأوروبيِّين لهذا العالَم، وكان من آثار تلك الهجرات الحضاريَّة في الأراضي الأمريكيَّة بزوغ الإسلام فيها، وتقويته بعد حادثة تجارة الرَّقيق الأفارقة المأساويَّة إلى أمريكا.
ففي البرازيل قامت دولة إسلاميَّة في (باهيا) على أيدي أولئك المهاجرين والرَّقيق المسلمين، حاربت العبوديَّة، ووقفت في وجه التحدّي الصليبي الذي كان يتعقَّب المسلمين، ويقيم لهم محاكم تفتيش على غرار ما في الأندلس، فنظَّموا الكثير من حركات الثورة ضد البرتغاليِّين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان أعنف تلك الثورات عام 1807م – 1835م، على يد قبائل الهوسا والمادينغ، وتسمّى تلك الثورة «ثورة مـالي Male» نسبة إلى (مملكة مـالي) الإسلاميَّة القديمة، ولا تزال بصمات تلك الحركة منطبعةً على ثقافات شعوب البرازيل والجزر الكاريبيَّة، هذا إذا آثرنا الاختصار ولم نتعرَّض للدَّور العربيِّ الجليِّ في تلك المنطقة .
وتعود المياه إلى مجاريها؛ بعودة مجموعة من المسلمين المحرِّرين من البرازيل إلى إفريقيا الغربيَّة واستيطانهم منطقة داهومي (دولة بِنين Benin الحاليَّة)، وعلى أيدي هؤلاء تأسَّس كيانٌ إسلاميٌّ في تلك المنطقة، حيث بنوا المساجد والمدارس الإسلاميَّة، وإلى تلك المجموعة يرجع دخول الإسلام وانتشاره في تلك المناطق في غرب إفريقيا.
بالجملة؛ فإنَّ الهجرات الإسلاميَّة قد شملت جميع مناطق إفريقيا، وكانت ذات أثرٍ ملاحظ في تألُّق الحضارة الإنسانيَّة والإسلاميَّة في مختلف ربوع إفريقيا، وظهرت حركات دعويَّة وإصلاحيَّة كثيرة، استلهمت دروس الهجرة النَّبويَّة الخالدة في مشروعها الدَّعويّ الإصلاحيّ؛ فكان ذلك من أسباب نجاحها وسرعة تحقيقها لأهدافها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق