الأربعاء، 16 مايو 2018

اسمعي يافاطمة // بقلم القاص : فؤاد حسن محمد // سوريا

اسمعي يا فاطمة
هذه البلاد التي منحتني طفولة سعيدة ،تملك عليّ حواسي ، تجرّني إلى الجنون ، فأنا افتقد سوريا ،هل أنت مصغية يا فاطمة ؟لا أسيا ولا إفريقيا ولا أوربا ولا أمريكا أجمل من وطني ،تكفيني سوريا ، في هذا البلد الأقدم بين البلدان ، أطفالنا يشترون الكتب الصفراء ، وإذ لدينا ماض ٍحقيقي ، فنحن نحبه ، حتى لو كان أكثر هولاً من أي شيئ أخر عرفه العالم ، فإننا نحاول أن لا نغزوا المستقبل ،ولا نكتشف دواء لمرض ، ولا نبتكر نظرية في الفيزياء ، ولا نخترع آلة ، نحن نحب الماضي يا فاطمة ،حتى أننا نادرأ ما ننظر إلى الأمام ، لقد فكرت دوماً أن الزمن مطبوع بذات الماضي الذي أتنفسه .
حتى الآن تخلصت يا فاطمة من فكرة واحدة ، فكرة كبيرة كوحش تضم في بطنها ملايين الشرور ، الماضي قذر بما يكفي وحين يكون زائفاً فهو سمّ خالص ،هذه الخواطر تغيظني ، فأنا أقضي أياماً، وليالي ، وأنا أطوف في مدارات ، ينبغي أن أكون حراً ، أن أتخلص من كتب ألف ليلة وليلة ، وابن تيمية ، وفتاوى الشيوخ ، وشعراء الجاهلية ، فهناك في الماضي كل شئ محمّل بالجريمة .
فاطمة ،يرددون أن سوريا أجمل الأوطان ، وكأنه يوجد وطن ردئ ، وفي لحظة المشاركة بالنصر لا أحد يشارك ، الجميع ينتظر النصر من الغريب ،أفتحي التلفزيون يا فاطمة ...لا..لا ...لا ..أشهد ...كلمات فائحة ببول الجمال ، تعلم الرغبة في أن تكون حماراً...كلباً ..صرصاراً ..أي شئ لا يفصلك عن الحيوان ، إذا كان هناك فاصل ! فهي قد سبقتنا في قبولها الموت وتقطيعها وتعليبها .، إذ تلتقي رقابها بحد السكين دون احتجاج .
أحب وجهك يا فاطمة ، عيناك صافيتان كقطرة ماء ، أما العيون التي لا تحب سوريا ، فهي عيون كلاب جمعت من هنا وهناك ، لا تأبهي يا فاطمة أنا لا أهين أحداً فأنا أعشق سوريا ، وليست غلطتي أنني اكره الكلاب أذا كانت تؤذيني.
فاطمة أنت طفلة لا تعرفين الكره ، لأنك بريئة ،تتطلعين إلى المستقبل ، غسلت يديك باعتناء من الماضي ، علميني كيف يكون الحب على عفويته ،ففي داخلي كراهية ليس لها موضوع ، انني بحاجة إلى الكراهية يا فاطمة .كي استطيع أن أحب بلدي حباً حقيقياً !!!!!!
لقد فقدنا عقلنا يا فاطمة والجنون يعم الأرض والسماء ، ست سنوات ماتت ، ونحن مازلنا على قيد الحياة ، وبينهما زوجة جارنا تئن فرحا وكأنها تلد ، وصوت صراخها يعصف بقوة ،يملأ النوافذ ،أطللت برأسي من فراغ النافذة .قلت :
-الريح تعصف بقوة وأنا لا أجد شئ يتحرك ؟؟؟
شوارع جبلة مظلمة كأنها تموت بشرف ،في حي الدريبة وقف رجل ملتحي أمام نفسه في المرآة بعد إن انتحر في مزبلة التوحش ، وابتسم يرضى الرحمن على خلقته، هو غريزة فقدت مشروعية وجودها ، جيفة عفنة لا أكثر.
إيقاع الأصوات يتماه بلا جدوى مع هدير طائرات "سو" الروسية ،والسماء تبرق وترعد ولم تهطل الأمطار ، غضب اله السماء ،لقد تجاوز السوري حدود الله. فأرسل صاعقة تتلوى كالأفعى ،تلتهمنا الواحد تلوى الآخر .
كان وجهها متورما من كثرة البكاء ،نظرت إلى الطبيبة التي أجرت لها عملية الولادة نظرة إنسان على حافة الانهيار :
- بأي وجه سأنظر إلى عيون وليدي وأبوه ميت ؟؟ لقد ولد في نفس اليوم ....ثم أجهشت في البكاء.
قالت الطبيبة :
- الطفل بصحة جيدة
قالت الأم :
- لقد ....
ودت لو قالت لها أن أبوه كان موفور الصحة أيضا ،لكن الطبيبة غادرتها لتأكل الخبز المحمص مع الشاي .
كانت ستائر الغرفة قد سحبت تاركة فيض من النور يضفي على الأشياء مسحة من الحقيقة إن كل شئ سيتابع دون توقف ،بينما كانت الأم تحدق بعينين مرهقتين بوجه الممرضة الواقفة الآن أمام كيس المصل بسكون غير اعتيادي ،ودت لو قالت لها :
-اعتذر منك لأني سببت لك هذا العناء
مزق هذا الصمت فرقعة قوية أحدثها الطفل في فوطته ،شعور بالنعيم سرى في جسده الغض،ثم أغمض عينيه ونام.
تحركت عضلات وجه الممرضة وابتسمت ،لا ..نحن نحلم ونخطط ونتمنى لكن هناك شئ اكثر انحطاطا يسبب لنا الابتسام ،وبعد ان عايرت المصل ، اتكأت على مسند السرير راضية ، وهي تنقل نظرها بين الام وطفلها ، وند عن فمها تلك العبارة الرنانة :
- معافاة ...ان شاء الله .
شعرت الأم ان العالم يتهاوى ويبتعد عنها ، ثقب اسود يتبخر فيه كل شئ ،كانت شرايين رقبتها تبدو أغلظ ،وهي تنظر الى وجه الممرضة الخالي من اي شئ ،وسرعان مانخرطت في بكاء مر ،غير عابئة بمن حولها ،ان الناس توقف قلبهم عن الخفق منذ نبحت الكلاب على دمشق ، الرب وحده يعلم من اين جاءت تلك المرأة .
رفعت اصبعها نحو كائن في السماء ، وقالت :
-اين انت ؟؟؟؟
كان هناك احساس بالعجز بينما هي راقدة على الفراش .
لاشئ هنا لا انسان ولا حيوان ،نبتة شوكية زرعت في روحها ،تخدشها كلما حاولت تذكر زوجها ،قساة رموها في هيكل غرفة ،لقد تخلوا عن ألمها المزدوج ،الم الروح وألم الجسد .
يتجاوز الوقت منتصف الظهيرة بقليل ،المرأة وحيدة وما من أحد بجانبها ،سواء اكان لذلك معنى ، ام لم يكن ،لكن المؤكد ان الألفة والاعتياد يميتان الاحساس بالام الاخرين ،ولابد ان اعترف وانا اتلصص من النافذة ،التي تطل على المشفى ،كنت اواصل تحديقي الممل ،وفي رأسي تنعق افكار زائفة عن الانسانية ،تفصلني بجدارة عن قناعتي انني خمول وان البقاء في البيت ،هو المكان الوحيد المريح ،لا يخرجني منه شئ الا لجلب احتياجاتي من الدكان او الموت .
لم يكن لدي احتمال كيف ستنتهي هذه القصة ،ينقصني شئ ما ضروري ،ربما كان هذا منبع لأفكار سخيفة ترتعش في خيالي ، فكيف تلد المرأة دون أن يتواجد أحد أقربائها بجانبها ،فراغ بين التفاصيل يقطع تسلسل مايحدث ...احسست بتوتر ، لم أعرف لماذا يعاملونها هكذا بجفاء ،جرفني الفضول ،خيال اثر خيال ،لم يكن امامي شئ اعرفه ، لا أرضا ولا سماء ،القصة تقاس بعدد المشاهد ،ومشهد واحد يأخذك في رحلة طويلة بين كر وفر ،عدد لامنتناهي من النسخ كل واحد يختار النسخة التي تجسد حقيقته .
تراودني فكرة ، برقت في خاطري ،احاول فيها سبر أغوار اسباب تلك المرأة ،المكان والزمان ليسا مهمين ماداما تحت سيطرتي ،ما أشبه ذلك بالحلم .
المكان الذي دخلته يتماوج على شفرات كلمات السر ،ستوقف نفسكم فيه ، وبدات اكتب :
من اراد أن يقرأ هذه القصة فليغمض عينيه ،تم فليطأطأ رأسه ويقرأ "يانارا كوني بردا وسلاما على ابراهيم " ،وليتفل في عبه ،كانت عتمة وظلمة وبرد،وهي وحيدة ،ولأنها كانت متعبة والهدوء يخيم على ارجاء الغرفة ،تشظى كل معلم في اقطارها على مشارف الوحشة ، لا صوت ولا لون الا السواد ،شيئا من الرهبة يكتم على النفس الشحيح الذي تسحبه ،أين غاب القمر !!!لماذا اخنفى رويدا رويدا غير عابئ بما في الغرف الموصودة ،ظلال منفوشة تذهب بالعقل الى تخاريف شائهة مبهمة .
الباب انفتح تم أغلق ،الذي اغلق الباب هو من فتحه ثانية ،ارهفت سمعها باتجاه الجهة التي انطلق منها الصرير،حملقت بالظل المرسوم على الجدار،والذي بدوره كان يرهف رافعا ذقنه كمن يلاحق ازيز بعوضة ،انقبض صدرها ،سمعت أصوتا لاتصدر عن السنة بشرية ،زعيق يطلب اخر نقطة دم ،يتلوها صوت قهقهات ممزوج بنشيج دم وثرثرة اهات تموت قبل ان تفتقد حرارتها ،لزوجة المشهد تزداد اتساعا ،
حاجات خارج الزمن تزحف على الجدار ،الامر كان يرهبها وهي ترى الظل ينفصل عن الجدار اتيا اليها ،يترنح باسطا يديه هكذا الى الامام مقوسا أصابعه ،يكاد يخترق لحم رقبتها ،ويعتصرها ،وصوت غراب يملأ الغرفة نعيقا :
-انظري الى الجدار شعرت برعب عارم عقد لسانها ،وانتصب شعر رأسها ،وجف حلقها حتى ان شفتاها ابيضتا من كثرة العطش،صوت غريب ومخيف اشبه بالهمس ،لكن الحقيقة غير ذلك ،هذيان وهلوسة مرضية سقط فى هوتها ،اشباح مخيفة تتراقص أمام عينيه ،ترى جماجم مجوفة تحاول ان تتشبث في رقبتها،وتخنقها ،تحث بعضها على البحث عن شيئ ما في ملابسها الداخلية ،نظرت الى الكتب الصفراء المرتبة بقداسة على الرفوف ،ارادت ان تمد يدها وتفتح كتابا ،سمعت خربشة،شعرت أن الأظلة تتحول الى فئران تخرج من تجاويف جمجمتها وتريد أن تأكلها، اظلة قادمة من السراب،احدهم التهم رفيقه ،لاقانون يحكمهم ،عيونهم بشعة ،ومخالبهم المعقوفة حادة ،هذه الظلال هي قلوب سفلة ماتت بأزمنة مختلفة ،ولكل روح قصة في عشق الإله ،راحت تدور حولها وتصيح بصوت مقزز :
-تعالي شاركينا اللعب ؟؟
لم تشاركهم اللعب ،بل راح تطاردهم بعصاها حين تجدهم اقتربوا منه أكثر ،قفزوا في جميع الاتجاهات ،لقد كانوا سعداء بهذه اللعبة ،هي تهش عليهم بعصاها وهم يهربون ، واذا أصابت أحدهم يتكالبوا عليه بالعض،قلبهم في أكل اللحم قلب رجل واحد .
-اواه..كم هو مقزز
لكن لماذا هو مقرف ،هذه الأشباح تدير لها مؤخراتها وتهز ذيولها ثم تطلق عليها ريحا كريهة، وتتالى هذه الحركات كشعيرة لاتستطيع تعويذة "من شر النفاثات في العقد " النجاة منها .
تأكد لها اليوم أن الدفاع عن النفس ليس مزحة ،وأنه ماكان عليها أن تستهين بوصية زوجها التي القاها في قلبها الهش ،دون أن يخفف عنها هستريا سحر شعار " الموت بكرامة " ،
سمع الجيران صراخ وصياح شديدين ،انه القصاص، الان بدأت رحلة الجنون الى الجنة
فؤاد حسن محمد- سوريا- جبلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق