السبت، 1 يوليو 2017

الحية حية / ق . قصيرة / بقلم الاستاذ صالح هشام : المغرب

الحية حية /قصة قصيرة ٠
بقلم الاستاذ /صالح هشا م ٠
يجن الليل ، يتسع بؤبؤ عين القمر ،تتكسر أليافه الزجاجية ، فوق حاوية للقمامة قابعة هناك ، في رأس زقاق ضيق تشتم منه رائحة الرطوبة ،تلامس الشظايا الضوئية عيون القطط و الكلاب ، فتبرق بريق البرق ، تحت مصباح مشنوق في أعلى عمود النور كإجاصة ! 
تعزف الصراصير الساهرة معزوفة غربة الليل : إيقاع فوضوي غير مرتب ، تزيد من نشازه ،حرب القواطع والأنياب ،يختلط الهرير بالمواء ، والأنين بالهسيس المكتوم ! 
فجأة تسكن الحركة ، يتحرك السكون !
هناك قرب الحاوية :خخ ٠٠فف٠٠شش ٠٠خخ٠٠فف ٠٠شش !
أصوات غريبة ،عجيبة، مريبة ، يعقبها صراخ مخنوق ربما لكلب أو هر أو لقارض من القوارض الكبيرة .
خأخأة ٠٠٠ فأفأة ٠٠ شأشأة ٠٠ !
تشي بابتلاع شيء ، شيئا آخر ، صوت أشبه بشخير ميت يموت ،أو زفير محموم ، لا أحد يدرك حقيقته ! 
ربما لا شخير ، لا زفير٠٠ ولا أي شيء ،فقط تخيلات ضحلة ،من مخيلات فقيرة أتعبتها فوبيا الأصوات ،و لم تعد تميز ماهيتها ولمن تكون ! 
تعم الفوضى قمم الأشجار: هرج ومرج وصراع حول المبيت، قلق كبير يستنفر الأحياء في أحياء المدينة ! 
تخلو [تفلت ] من المارةتماما ، تتحول مدينة أشباح ٠٠ مدينة أرواح قادمة من زمن حلم شعبي ، لا يخضع لقوانين العلم: ، أفكار غيبية تخنق فيهم شرنقة تفكيك شفرات هذه الأصوت الليلية العجيبة، تنحبس أنفاس الناس ! 
يسد الليل عينا ،يفتح أخرى ، يفك عقال كائناته ،تهيم الهوام ،ترقص رقصة الانعتاق من ضوء النهار!
تصيخ حيطان [تفلت] السمع ، تكاد عشرات العيون تلفظها الشقوق :مرعوبة تقتفي أثر هذه [الخأخأة والفأفأة والشأشأة ]التي تحملها النسيمات الباردة ،فتتسلل عبر ثقوب البيوت الإسمنتية ! 
تتحول حاوية قمامتهم : سرا من الأسرار ،عالما مبهما غامضا ٠
لا أحد يجرؤ على كشف خفيه : سر محفوظ ،ربما تحرسه قوى عوالم سفلية خارجة عن قدرة الإدراك ، يتهيأ لهم أن من يتحدى الغيب و يركب عناده : دمه يباح ، تهدره الأشباح دون شك ، بين تلك الأرواح الهائمة ، : 
مفقود ٠٠مفقود٠٠ إلى أهله لن يعود !
هذه مغامرة تكسر الأضلاع ، تمزق الأوصال ،غير محسوبة العواقب : فهي انتهاك لحرمة معازل أهل المكان الخفية ! 
تلتصق أجساد هم بأجساد بعضهم حد الحلول ، ترقص كالأفاعي ، تتآزر لامتصاص برودة الخوف من غرابة أصوات خارقة ،تحل محل النباح والهرير !
ينبلج الفجر ، تعلن العتمة الرحيل : تسيل من الأبواب الأعناق بحذر شديد ، يقصد ون الحاوية ،يتفحصون المكان ، مسرح جريمة غامضة ، لا قاتل ، لا مقتول ٠٠ لاشيء ..لاشيء !
سائل لزج يميل إلى الصفرة ، أو بلون مشيمة أومخاط مسلول ،ينتشر هنا٠٠ هناك !
ثمة آثار مرسومة على التراب، أشكال هندسية ،شبيهة بحراشف السمك ٠٠ريش طيورمنتوف نتفا ، عظيمات صغيرة مدقوقة حد السحق ، أشياء أخرى لا تخلو من غرابة لم يميزوا نوعها وشكلها ، لكن الجريمة حاصلة لا محالة ،لكن من هو القاتل ؟ و أين هو القتيل ؟
شغلهم الشاغل :هذا الزفير و الشخيركل ليلة ،أحاديث ساخنة، تجد مرتعها في تجمعات النساء وحتى الرجال أمام الأبواب ، وتتحول جدالا عدوانيا في مقاهي المدينة ،فتفتح الشهية لأسطرة هذا الحدث المبهم !
أسئلة عريضة ، تقتل فيهم الرغبة في الكشف عن الأسباب والمسببات:
لماذا تنفق القطط و الكلاب ؟
لماذا تكاد تنقرض القوارض ؟ 
لماذا الشخير والزفير كل ليلة ؟ 
لماذا حراشف السمك بعيدا عن البحر والنهر ؟ 
يضع النادل براد شاي منعنع أمام رواد المقهى ، و يفسر هذا اللغز ببلادته المعهودة : 
- إنها عروس البحر ،تأكل قططكم وكلابكم يا جماعة ! 
يفرغ أحدهم كوب الشاي في معدته دفعة واحدة ويرد عليه بسخرية ، تنتزع ضحكات من الجماعة :
- ههه ! وهل ترضى عروس البحر بأكل لحم القطط والكلاب؟
-لكنكم تقولون : هناك آثارحراشف ٠
-ومن أين ستأتي عروس البحر يا عريض القفا ؟ هههه ٠٠هههه٠٠ ههههه !
يمسح آخر جغرافية وجه النادل المحمرحرجا وخجلا بنظرة استهزاء وشماتة :
-هه يا جماعة،المسكين يدمن على قراءة غرائب ((أليس في بلاد العجائب ).
يغوصون في نوبة ضحك ساخر ، تحدث الكراسي تحت مؤخراتهم ، طقطقة 
و صريرا مزعجا :
ينسحب النادل مهزوما متأففا، تمطره سخريتهم ؟ 
تعم فوضى الحديث فضاء المقهى :
-يا جماعة ،عدونا خفي ،هذا وقت جد لا هزل ، هذه حراشف حية ضخمة ، لاحراشف عروس بحر ، ولا عروس نهر ولا عروس بر،ذكية و أذكى منكم لا تترك أثرا لضحاياها !
يضعون كؤوسهم فوق المائدة، وينصتون باهتمام :
-هي قوة خفية يهابها الإنسان ،منذ عهد الكنعانيين!
يعلق آخر واثقا من صحة معرفتة :
-ولكنها تزين هامة الآلهة ورؤوس الملوك ، ترمز للقوة والذكاء منذ عهد الفراعنة ٠ ما كنا لنموت لولاها ، أ لم تسرق خلود آدم في الجنة ؟ ألم تسرق عشبة خلود جلجامش سليل الوركاء ؟ أليست شيطان خطيئة الشجرة المحرمة؟ إنها عدوة الإنسان أبد الدهر يا ناس !
-يا جماعة ! السم قتله و اجب و لو كان على قبر النبي! اقتلوا الحية،رأس الحية، إنها قاتل صامت لا يحدث غبار! 
هذه الليلة نتربص بها ،ونتغذى بها قبل أن تتعشى بأطفالنا عندما تأتي على آخر كلب أو قط أو فأر ؟ 
يسود صمت ثقيل ، يتأرجح بين الرفض والقبول !
يتبرأ أحدهم من هذا الرأي ويعتبره انتحارا : 
-رأي غير محسوب العواقب ،يا جماعة ،عظامي رخوة ،لا تحتمل العصر ، وهي لا تقتل ضحاياها إلا عصرا حتى الاختناق، والمغامرة دفع النفس إلى التهلكة ! 
بعد تردد كبير يقول كبيرهم :
-ولا أنا يا سادة ، لي صغار أعولهم ، لست [سميح الشجاع ] دعوني أروي لكم حكايته من البداية إلى النهاية !
يحتد صرير الكراسي الملتصقة بالمؤخرات : 
-يا هذا ! والله لقد شوقتنا ،من هو (سميح الشجاع ) هذا ؟ 
-إذن هاتوني راداراتكم اللعينة : 
في غابر الزمن ، في مكان ما من أرض الشام ، بين سوريا و العراق ،كانت حية عظيمة ،ذات رؤوس سبعة كل رأس أشبه برأس التنين أو رأس العنقاء ،تنفخ نارا فتحرق نعم الناس و أنعامهم، تسكن مغارة سحرية كبيرة، كثيرة المتاهات ، متعددة المداخل والمخارج ، تبتلع كل من يقترب منها في مضغة واحدة ، من حجيج وعابري سبيل يطلبون هذه المغارة هروبا من حر الشمس ، وقر البرد ٠
سمع سميح بأمر هذه الحية ،وكان شابا ،جميلا ، خلوقا ، شجاعا ، يهابه ملوك الجن الأخضر، ويحترمه قومه ،يقرر ببسالة : أن يستأصل شرها و يحد من سطوتها بحد سيفه !
تفتح الدهشة الأفواه ، تجحظ العيون ، تكاد تنط من المحاجر:
- وماذا بعد يا رجل ؟ تهمنا النهاية لا البداية فالأمور، دوما بالنهايات لا بالبدايات و بالعواقب تذكر،و بالخواتم تعتبر!
-لا تتعجلوا أموركم يا سادة ،فمن تعجلها مات : 
لم يكن يحتاج إلى[ سانشا ] ، أو [عمر العيار ] أو [شيبوب]حمل[ سميح الشجاع] رمحا قديما ، وسيفا ، وامتطى صهوة حصان أعجف، نحيف ، وقصد بلاد الشام ، لمقارعة الحية ذات الرؤوس السبعة ،بعد مسيرة العام ،وصل سميح ، وخاض المعركة : مستمدا قوته من عزمه وعزيمته ،يقطع رأسا ، فتنبت مكانها رأس أخرى ، أكثر قوة ومكرا وضراوة !
ظل يقطع الرؤوس والرؤوس تنبت قيل :سبعة أيام ، سبعة شهور، سبعة أعوام، سبعة قرون ، الزمن كله ٠
لا أدري يا سادة ! ربما مازال [سميح الشجاع ] يجز الرؤوس وأخرى تنبت وتنمو كخلايا السرطان أبد الدهر !
-هذه أحاديث كتب صفراء قديمة :حيتنا برأس واحدة ، ما أكثركم رعونة و جبنا يا جماعة !
[دون /سرفنتيس ] حارب الرمال ، حارب طواحين الهواء ، برمح صدئ ، و مطية جوعى ، يريد تغيير صورة العالم ، وأنتم عاجزون عن محاربة حنش صغير ،يبتلع قططكم وكلابكم كل يوم ،و هو في طريقه لعصر صغاركم حتى الموت ٠ ولم لا ؟ فالدورعليكم آت أنتم أيضا ،يا كبارنا !
يقول آخر،يغوص في أريكة جلدية حتى الكتفين :
-ومن قال لك بأنها برأس واحدة ؟ فقد تكون بسبعة رؤوس ،فهل نجح [سميح الشجاع]هذا في دحر شر هذه الحية ؟ وهل نجح دون كيشوت في تغيير صورة العالم ؟ لا هذا ، ولا ذاك نجح، إنها مجرد أحلام ومحاولات ! 
بصوت جهوري، قوي ،يشي بشجاعة صاحبه : 
-هؤلاء ،حاولوا ،سواء نجحوا أو فشلوا ، فهم ناجحون ! 
حيتكم مجرد حنش ،لا يرقى إلى مراتب الحيات الكبيرة ،ربما تسلل في شحنة أخشاب ، قادمة من جبال [ أزرو ] إلى فرن حومتنا ،ربما لم ينتبه له سائق الشاحنة و لا مساعده ! فماذا قررتم يا جماعة ؟
أنقتلها أم نتركها حرة ،تعيث فسادا في البلاد و العباد و تفتك بالخف والظلف 
و تدمر السلالة ؟
نظرات حائرة متوجسة ،لا تعرف ماذا تقدم و ما ذا تؤخر٠ لتوه بدأ النادل يلملم الكراسي والموائد ، ويستعد للإغلاق ٠
وهم يهمون بإخلاء المقهى : 
-سنحارب هذه الحية الملعونة ، لكن ، بعد معرفة عدد رؤوسها ، وطبيعة كل رأس ، ربما تكون عصابة من رؤوس تنانين ، تنفث نارا فتحرقنا جميعا ، بعدما نتأكد من صلابة سيوفنا و قوة رماحنا ، ونعد لها العدة حتى لا نخسر المعركة !
ويستمر الشخير والزفير يحبسان الأنفاس !
وتستمرمحنة الكلاب والقطط والقوارض! 
ويستمر الخوف والرعب يعم كل الدروب ! 
وتظل الحية حية تحيى بينهم ، تعصر وتخنق وتقتل و تدمر و المعصور أطفال صغارقريبا،قريبا جدا ،و سيأتي الدور على الكبارلا محالة ،لا أحد يفلت من بين فكيها و جبروت عضلاتها !
وتستمر بينهم الحية حية ! ويراوح الخوف مكانه في النفوس ٠ 
____للتوضيح ____
[تفلت ]: مدينة صغيرة في شرق الرباط٠
[ أزرو] : من أجمل مدن الاطلس قرب افران ٠ 
بقلم الاستاذ صالح هشام! 
الاحد 29 يناير 2017!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق