٠٠ [الأنثروبولوجيا الاجتماعية ]٠٠
قراءة نقدية للناقد سيد عفيفي !
في قصة (امتحان الدم) لصالح هشام
هذه القراءة ------------------------------------------------
أروع ميزة في القراءة النقدية ، تلك التي تجعلك كمبدع للنص المقروء غريبا عنه ،إذ تحولك إلى قارئ ينتشي بلذة قراءة نصه ، من خلال الوقوف على تفكيك تلك الشفرات والرموز والإحالات والإشارات التي ربما يكون الكاتب وظفها دون قصد منه أو وظفها على سبيل التناص أو توارد الأفكار أو التداعي ، اعتبارا لأن المخزون المعرفي الجيد هو الذي يتحكم في نوعية الإبداع : ضحالة أوفقرا أو تميزا ورقيا ، فالناقد الحقيقي هو الذي يجعل المبدع يستغرب مما كتبه كغيره من القراء ، فيعيد له الثقة في النفس ، وبالتالي يعرف أنه يسير في الطريق الصحيح ، صدقني اخي القاريء الكريم أني عندما قرأت هذه القراءة النقدية المتميزة للناقد القدير سي عفيفي ، شعرت أني أكتب شيئا يستحق القراءة ، وذلك لأن سي عفيفي عرفني بدلالات ومدلولات ما كتبت ، أنا الذي لم أقصدها أبدا ، وربما كنت أكتب دون أن استحضر من سيقرأ النص ، وأني كنت اكتب بعفوية وتلقائية ، وهذا يجعلني أقول لأي كاتب عندما تكتب نصا وينقد من طرف ناقد خصوصا إذا متمكنا فلا تجادله في قراءاته وتقف موقف المدافع عن نصك ، لأن ما يراه الناقد لا يراه الكاتب أبدا وأعطي مثالا ربما يقرب الصورة ( الجمل لا يرى سنامه ويرى سنام أخيه ) ولي عظيم الشرف أن يحظى هذا النص/ القصة الذي استلهمت أحداثه من واقع ربما كنت أحد أبطاله في زمن ومكان ما ، وأشكر الناقد المتميز سي سيد عففي على جري الى استغوار متاهات هذا النص الذي كتبته بكل عفوية ....بوركت استاذي الكريم !٠٠٠٠٠٠٠صالح هشام
القراءة النقدية ----------------------------------------------
أولا؛ التجنيس ٠
يتصدر النص عنوان تميز بسعة الأفق ولا يدرك ذلك الانزياح المعنوي إلا من قرأ النص بكل دقة، فعند أول قراءة للعنوان بمعزل عن النص يتخيل القارئ أنه سوف يقرأ قصة بوليسية تنطوي على جرائم تراق فيها الدماء، فيفاجأ مع نهايات النص أنه توقعاته قد خابت، ويجد نوعا مختلفا من الامتحانات، امتحان مجتمعي ما زالت أياديه تمتد خلسة في القرن الواحد والعشرين وهو اثبات هوية الفتاة المتزوجة حديثا في مجتمع الشرف الذي قد سقطت عنه عباءة الشرف والنزاهة، وتعريف العنوان بالإضافة جعله هو والنكرة قريبين جدا، فهو مجرد امتحان مخصص للدم، لكن الدم في عصرنا قد بات له امتحانات ومحن كُثر.
ومع تفكيك النص إلى فقرات paragraphs سوف نجد نصا شموليا أجاد فيه الكاتب حياكة أكثر من جنس قصير لينتج لنا هذه القصة القصيرة، ويدل على ذلك الالتفات مابين الحوار الذاتي للأنا (مونولوج) في صدارة النص، يتخذه الكاتب نواة لينسج حولها المتن، فامتدت من (الأنا) خيوط متشعبة متفرقة مختلفة الألوان، وانتقل بضمير القص إلى (نحن) و(هم ، هو، هي)وبإعادة تفكيك الفقرات إلى شذرات fragments سوف نرى أن النص مكون في غالبه من عشرات القصص القصيرة جدا، بما تحمله كل شذرة من تكثيف وسرعة في السرد وترصيف الأفعال بشكل متتابع ومباشر مستغنيا عن الروابط اللغوية ليصب الفكر ويرسم الصور ويشرك القارئ في استنتاج نوعية الروابط الوجدانية لا اللفظية بين الفقرات.
كذلك نجد الكاتب يدمج الحوار الدرامي أحيانا ليكمل عملية الربط بين القارئ والنص، ويخرج من مكنون الضمير الجمعي وضمير الفرد وكأنه يتخاطر بنفسه تارة ويكمل تخاطر فئته العمرية (الطفولة) تارة أخرى.
السيميولوجيsemiology ٠
النص به زحام وزخم شديدان من حيث الإشارات والرموز المباشرة وغير المباشرة بما يجعل القارئ منتبها تمام الانتباه حال القراءة، ولعل علامات الترقيم التي يعج بها النص – التي تصدرتها علامة التعجب(!)- قد نفخت في النص روحا من الحراك والتفاعل الوجداني والتصويري، وكأن كل ما جاء بالنص يستوجب التعجب، بداية من تهميش أصحاب الرمز(نصف روح) وهم الأطفال، حتى وإن كان التهميش اضطراريا بسبب الفقر والجهل العام فهذا عذر أقبح من ذنب، وزاد الترميز بمصطلح (نص روح) من الارتباط بمكونات المجتمع آنذاك، من خلال النظرة الدونية للطفولة، فهي في كل شئ تستحق نصف نظرة، نصف اهتمام، نصف رعاية، نصف عطاء...الخ، وهناك من الرموز ذات الدلالة على البيئة المحلية الكثير، فقد دمج الكاتب بعض المفردات من الدارجة المغربية ومن ذلك إسقاط همزة الوصل من (ال) التعريف في (لمخننة، لعروسة) وقد أكسب ذلك النص المزيد من الواقعية، بالإضافة إلى تنوع الأساليب في النص والاكثار من الجملة الظرفية التي رسمت كل تفاصيل المكان والبيئة ووضعت الحدث بين قوسين زمانيين بداية من انطلاق الخبر وحتى انبلاج الصبح.
الانثروبولوجيا الاجتماعية..socio-anthropology
نرى في النص تشريحا جزئيا للمجتمع من خلال التفصيل الدقيق للفئة الرئيسية والتى تمثل السواد الأعظم للمجتمع الغربي في الفترة الزمنية التي تناولها النص وهي على الأرجح في العقد السادس من القرنالعشرين، مجتمع ذو شكل هرمي قاعدته العريضة من الفقراء والمهمشين (الحرافيش كما يطلق عليهم الكاتب)، أولئك الذين يعيشون معيشة الكفاف أو اللاكفاف، استعرض الكاتب بدايةً نواة مصغرة تتمثل في الأسرة التي لا تتسوق الا مرة واحدة أسبوعيا، وذلك لضيق ذات اليد ولأن العادة قد جرت على انعقاد السوق ليوم واحد كل أسبوع، حتى تلك الأسرة تنطوى على الشكل الهرمي؛ الأب في القمة، والأم (مع الابن الأكبرغالبا) هما ضلعي المثلث ثم القاعدة يمثلها عدد من الأبناء في مرحلة الطفولة، ثم يتطرق الكاتب إلى شكل هرمي آخر هو أهل الحي أو القرية (البيدر) كقاعدة لشكل هرمي آخر هو المدينة وهكذا...
أجاد الكاتب في توصيف الشكل المجتمعي من خلال الحدث الاهم في النص وهو العرس المقام في قاعدة الهرم الاجتماعي، وأهتم كثيرا بتفنيد رؤيته من زاوية الطفولة أولا( نص روح) التي ربط الكاتب بينها وبين (الكلاب) في مراحل النص، ثم من بعض الطبقات ومنها الطبقة الأقل أهمية وهن النساء ربات البيوت تحت ضغط الخدمة المنزلية ورعاية المواليد(تغصن حتى الأذنين في بول وبراز الرضع)، والبنات اللاتي غلبهن المجتمع على أمرهن، ثم يصعد بتوصيفه تدريجيا إلى طبقة الرجال (الأزواج والآباء) ثم طبقة أسعد حالا –فرقة الشيخات – اللاتي صعدن درجة بالكسب غير المشروع بإحياء الأفراح والليالي كنموذج للفساد الأصغر رمزاً لفساد أكبر، وحتى تلك الطبقة قليلة العدد صورها لنا المبدع صالح هشام في شكل هرمي تقف في قمته الشيخة (القرعة) لأنها تجيد الرقص الاستطراف وكونها أكثر بنات الليل مهارة في ذلك العمل ثم تتكون القاعدة من باقي بنات فرقتها الأقل حنكة أو الأقل دهاء وجمالا,,,
في هذا العرض الشيق للأنثروبولوجيا الاجتماعية نجد الكاتب يقدم نموذجا شبه متكرر لفئة المجتمع المهمش في معظم البلدان والدول العربية التى تشترك في وحدة واحدة من الدين واللغة والأعراف السائدة، مجتمع معدم لكنه مترابط، فقير لكنه يرضى، يعج بالجهل وظلمات المعيشة نعم لكنه ينتظر بزوغ الفجر الجديد، فيه الصالحون ومنهم دون ذلك، أشار الكاتب إشارات لطيفة إلى الآفات الاجتماعية المنتشرة في كل الأوساط من فساد في السلوكيات( بنات الليل، خمر الروج بولبادير، تدخين الحشيش) ، وقد أقام النص على قضية شديدة الأهمية وتعتبر لب الموضوع وهي (امتحان الدم)؛ عادة تشير إلى رمزيا إلى نزف المجتمع ككل ، وقد برع الكاتب في جمع خيوط النص هاهنا (ننسحب نحن - نص روح - من العرس ،جائعين ، مقهورين ،مذلولين ، نغالب النعاس ،وأهازيج التغني بشرف العروسين ، تدغدغ مسامعنا ،فنحسها بعيدة ٠٠٠بعيدة ٠٠بعيدة ٠٠٠لكنها تثير في نفوسنا التقزز و الشعور بالدونية ، نبتعد عن المكان ،نعرج على بيدرنا ، نرتمي فوق أكوام السنابل ، نروح في سابع موتة ، وجاثوم الجوع يجثم على صدورنا يكاد يخنقنا !)
أولا باستخدام لفظ (ننسحب) بما يرمز إليه من سلبية قد ينتهجها السواد الأعظم من المجتمع، ينسحبون من مواجهة الفقر والجهل والفساد، وتكرار الصفات (جائعين..فاعلين، مقهورين...مفعولين، مذلولين...مفعولين) تؤخذ منه الدلالة الواضحة على سبب ذلك الانسحاب، فهم مفعول بهم أكثر من كونهم الفاعل، وتلك النقاط بين لفظة(بعيدة..بعيدة...بعيدة) أعطى سببا للإنهزامية، فتلك الأهازيج والأغاني السعيدة يحول بيننا وبينها أزمان ومسافات، وتلك شكوى حارقة يرصدها القلم (٠٠٠لكنها تثير في نفوسنا التقزز و الشعور بالدونية) مشيرا إلى بشاعة تلك الأعراف التي لا يتقبلها عقل فهذا ليس امتحان للدم بل امتهان للشرف
ثم يتابع تلخيصه للمتن (نرتمي..نروح في سابع موتة، جاثوم الجوع يجثم على صدورنا، يكاد يخنقنا)
أخيرا؛ النص به تفاصيل كثيرة جدا تحتاج إلى توسيع عدسة النقد والتفنيد كالمشهدية والتصوير والانتقال الفكري والوجداني بين مراحل النص، وكذلك عنصر الصوت المتداخل والصخب الذي يدور فيه الحدث، ومنه أيضا التحليل النفسي للشخوص، وللكاتب، وإنسان هذه الحقبة بشكل عام، لكن كل هذه التفاصيل أظنها شديدة الوضوح وحتى لا تطول القراءة..
كل الامتنان للكاتب المبدع إذ شاركنا هذا النص الرائع
سيد عفيفي ٠
----------------------------------------------------------------
قصة قصيرة // امتحان الدم
بقلم الاستاذ // صالح هشام
يعود والدي و والدتي من السوق الأسبوعي ، تحمل أمي قفة مملوءة بالموز والتفاح البلدي ،تفاح تتملكني رائحته ! أضع التفاحة في تجويف القلب وأغلق عليها ، وأخوض حربا ضروسا ضد معدتي الأمارة بالسوء !
التفاح والبنان ذهب أو ماس ، عملة نادرة ، يحظى بهما فقط من ابتسم له الحظ ومرض ، أودخل في غيبوبة الاحتضار ، حتى على فراش الموت فالميت محظوظ ، سيأكل دون غيره التفاح والبنان !
كم كنت أعشق المرض ! المرض مطيتي لحبة موز أو برتقالة أو تفاحة بلدية ، أو شيء من عطف أمي ،دون مرض فأنت لا تساوي حبة بصل ، لا أحد يهتم بك !
نتحلق حول الوالدة ، وقد تخلصت من ثقل القفة ، نوجه لاقطاتنا الهوائية بدقة، نبتغي اقتناص بعض الأخبار القادمة من السوق كالعادة ، يعجبنا اهتمام أمي بتفاصيل أي خبر، فهي لا تخفي حتى الجزء الممل منه :
-حميدة سيحتفل بعرس ابنه هذا الأسبوع !
يدوس أبي على عقب السيجارة بفردة حذائه الثقيل :
-ومن هي عاثرة الحظ هذه ؟
-إنها عويشة ( لمخننة ) المعفونة ، المعتوهة !
يقهقه عاليا، يكاد يستلقي على قفاه ، يشفع ذلك بسعال حاد وبصاق بلون المشيمة :
- ه ه ه ههه ! وافق شن طبقة ، هبيل تزوج هبيلة ، وتهنات المدينة !
تجتر والدتي ما قالته وتعيده مرات كثيرة ، حديثها غير مركز:
ينعتها أبي- ساخرا -بالأسطوانة الصدئة المعطلة !
تحرضنا على انتزاع مكاننا في هذا العرس عنوة وبالقوة !
نحن أيضا سنحظى بحفنة حبيبات من كسكس ، تسبح وسط بركة من مرق لذيذ ، معطر بروائح التوابل !
اللحم عزيز جدا حد الانعدام ، لا يرضى ببيوت الحرافيش٠٠٠ على مضض
يعتبرونه يسبب انتشار القمل بين المستضعفين ٠ يعز حتى في المناسبات ، فهو نادر ، وباهض الثمن ،يحظى به الكبار فقط ، أما [نص روح ] فهم أشبه بآكلي الجيفة ، لهم من الفريسة سوى عظيمات قليلة في صحن يعود فارغا تماما من معركة أمعاء وقواطع الكبار!
ننشر الخبر ، فينتشر نارا في كومة قش يابس !
نعقد اجتماعا طارئا، يتزعمه زعيم الجراد ، تحت ضوء القمر في بستان الصبار :
نقرر اقتحام منزل العرس، بالقوة٠
[نص روح] عنصرخلل غير مرغوب فيه ،جراد مدمر،يأتي على الأخضر واليابس!
- ثلاث عيطات شعبية ،تعشش في أدمغتنا وتتملك منا المخاخ ، لكنها تستحق منا المغامرة والمجازفة:
( -خربوشة -حاجتي في قريني - العلوة ) :
عيطات رائعة ، تنتشلنا من البؤس والسذاجة والرتابة ،تتقنها الشيخة[ا لقرعة] أداء ورقصا على القعدة : تتلاعب بردفيها المكتنزين ، وتدك الأرض دكا ، تحت خشخشة حلي وجواهر وأساور ذهبية ، اكتسبتها من الليالي الملاح ، مال الحرام ، تتباهى بها مستفزة ضعف وحرمان بنات الدوار!
هن مسكينات ، ساذجات , جميلات ، لايملكن من هذا إلا تنهيدة و زفرة عميقة ، حظهن عاثر ، لكن لهن شئ من عفة نفس و كرامة و شرف !
حظ أمهاتهن ليس أحسن حالا منهن :
تغصن حتى الأذنين في روائح بول وبراز الرضع ، روائحهن تبعث على الغثيان ، تنفر أزواجهن في المضاجع !
العرس يوم السبت : نجتمع في بستان الصبار ، على أهبة الاستعداد ، ننتظر إشارة بطرف أصبع زعيم الجراد ،لاكتساح منزل العريس كالسيل الهادر، ندبر خطة خطيرة ، تتلف صاحب العرس ، فيعجز عن رد هجومنا الكاسح !
يتحلق أعضاء [فرقة الشيخات ] حول أيقونة الرباعة : [باجلول ] الطعارجي ، المستكرش رحمه الله ، يضع كرشه المكورة كحبة البطيخ أمامه ، ويبالغ في طلب الطعام ، طلباته لا تنقطع ، إطعام فيل من هذا الحجم من بداية الحفل يقلق راحة مسؤولة القدور ،شاع أن المسكين قتلته كثرة الضحك والأكل ، اختل توازن أمعائه فودع الدنيا إلى الأبد !
يسود صمت الصمت ،تخرج كلاب الحراسة عن طوعه ، تقتفي أثرنا ، نتسلل كاللصوص من بستان الصبار ، نتربص ببيت العريس بحذر شديد ، تفضحنا خشخشة الأعشاب اليابسة المتهشمة تحت النعال والأ قدام الحافية٠ تمعن الكلاب في نباح لا ينقطع ، نراوغها، نرشيها ، نجود عليها بشيء ما ، فنكسب ودها : رشوة بسيطة تؤمن لنا الطريق ، نقتحم فتحات الأبواب و النوافد الشبه مغلقة ، يضيع صاحب العرس في متاهات أجساد فاتنة تعانق الفراغ وتلتصق بين السماء والأرض ، وهي تؤدي ميزانا شعبيا رائعا ،يترك المسكين الجمل بما حمل، ينتشي بحموضة كبته ، ويتلمظ ملوحة رغبة دفينة لا تقاوم ٠
نندس بين أجساد الحضور، نسد فراغاتها ، ننتشر في جميع أنحاء صالة الحفل ، فوجودنا في مكان واحد يثير انتباه هذا المخبول [صاحب العرس ] و يحرضه علينا من يطمعون في وده ويتملقونه هذه الليلة !
نتسترخلف الجلابيب و المعاطف الكبيرة ٠ نستمتع نحن أيضا كباقي البشر بمستملحات [باجلول] بوكرش الوقحة ، وهو يناظر الشيخة [القرعة] التي تحسن الغمز واللمز،فهي حفاظة طرائف وغرائب أعراس، ومغامرات ليلية ، فهي من أكثر بنات الليل حنكة وتجربة !
تخيم غيوم كثيفة من الدخان ، يتصاعد إلى السقف ويتسرب عبر الشقوق ، وفتحات الأبواب والنوافد ، تسود نوبات سعال حاد من حين لآ خر ، يتحول المكان إلى سوق شواء وساحة هرج ومرج !
نحن - نص روح - نتلذذ بهذا الدخان ، ونتظاهر بجنون (التبويقة ) نقمع شياطين شغبنا ، لا نرغب في لفت انتباه صاحب العرس ، نحن عناصر خلل ،يمكن التخلص منا في أية لحظة !
ينام الليل ، تهدأ أصوات الصراصير ،يخلد الكلاب إلى الراحة ٠ يأخذ التعب من أفراد الفرقة مأخذه، تناولوا كميات ضخمة من الخمر المغربي المعروف ب ( الروج / بولبادر ) ممزوجا بلفائف الحشيش ،تدخن الشيخات سجائر أنيقة شقراء ، أمريكية الصنع أملا في التميزعن هؤلاء (البوكر/ الخروطو / الحرافيش ) !
تقتل الفرقة بعض الوقت ، تسود الدردشة بين النساء ، يفقدن التحكم في حبالهن الصوتية جراء السكر و تدخين التبغ الأصفر والتعب ،و الجوع :
يرتخي الوتران الصوتيان ، تبح الحناجر ، فيشد الإيقاع الموسيقي عن العادة ، ويختل الأداء ، يصبح فوضى مرتبة حد الملل !
المقدم رجل حاد الطبع ،من علية القوم ، مسؤول عن نظام الحفل ، بصوته الجهوري يطلب من الحاضرين الصلاة على الرسول :
-صلوا على النبي يا سادة ، ما هذا الفتور ، يا با جلول ، هاتينا ما عندك !
نتحول -معشر نص روح - من عفاريت سيدنا سليمان إلى مؤمنين صغار ، نبالغ في الصلاة ،نكتم تلك القهقهات التي تكاد تنط من حناجرنا ،نتفنن في فن النفاق رغم طراوة عودنا : نطمع في درة عطف من المقدم ، علنا نحظى بنصيبنا من طعام العرس كباقي القوم !
يعلن المقدم ، بداية [ا لرواح ] من أجمل طقوس العرس ، يحضرون مولاي السلطان : هذا البليد ، الأرعن ، نحق معرفته ، يسمى (بعيزة ) ونلقبه الديك الرومي :لأن مخاطه كان يتدلى من أنفه مسافة مهوى القرط منه ، يمسحه بكم قميصه المتسخ ويحك قفاه العريضة : علامة خبل و هبل وبلادة ٠
ها هو يأتي وفي حاشيته وزيره (الرويبعة/ عدو الدجاج ،شفار البيض ) سبحان الله !هو أقرب الأصدقاء إليه حتى في البلادة ، كنا نحتقرهما معا ، كنا نسخر منهما ونقول :
-بعيزة والرويبعة :بعرتان تبحثان عن بعضهما في عرض النهر، تلتقيان، فتطلبان المنحدر نحو المجهول !
تتقدم مولاي السلطان فتاتان جميلتان : ترمزان لاستمراية السلالة ، تنثران أمامه ووزيره مسحوق الورد ، وأشياء أخرى النساء أدرى بها و تخص عالمهن المتخن بالشعوذة و أفكار إبليس ، من سحر وجن ، و عين الحسود فيها عود ، يمشي ولا يعود !
الفضيحة هم ثقيل ، يقتل النخوة في النفس ، وقد تمس العروسين معا :
عائلة العريس تخاف على ابنها من العنة المبكرة ، فيصبح أضحوكة أقرانه ، وعائلة العروس تخاف غدر ابنتها في لحظة ضعف بشري خلسة ، في مكان ما
و في زمان ما !
تبدأ الطقوس بضرب البنادير والدفوف وقرع الطبول، تحت ضوء القمر الباهت ،تصدح حناجر الرجال بأهازيج شعبية ، ترددها النساء من وراء الستائر ،وتتخللها زعرودة أخت العريس المبحوحة :
- سير أخويا ٠٠٠سير ٠٠٠سير ٠٠ حوا٠٠لحمير٠٠٠ سير أخويا !
أهازيج تعلن قطيعة حاضر العريس عن ماضيه ، انتقال من العزوبة ، ودخول عالم الرجال !
تستمر عملية الرواح ( الاحتفاء ) في الهواء الطلق لمدة تقصر أو تطول حسب فعالية رفقة العريس ، والقدرة على حفظ مستلزمات [الرواح] من أغان وأهازيج ٠
تحين لحظة الحسم : تقديم العشاء للضيوف ، نبدأ رحلة مكوكية بين الموائد بحثا عن مكان شاغر للعشاء . لا أحد يحب -نص روح - لا أحد يرتاح لهذا الجراد القادم بدون دعوة !
يمسح المقدم المكان بعينيه الجاحظتين ، ويغرز أصابعه في أعيننا التي تكاد تنط منها المسكنة، ويصرخ فينا :
- نص روح ٠٠نص روح ٠٠برا٠٠اخرجوا٠٠اخرجوا٠٠اخرجوا !
يقذف بنا خارج الصالة دون رحمة ،نمارس لعبة الكلاب إلى جانب الكلاب : انتظار الذي يأتي أولا يأتي ، تحلق أنوفنا الصغيرة في الفراغ ، تقتفي أثر روائح الكسكس االشهية التي يعبق بها هذا الخواء !
تأتي أطباق مملوءة تباعا، فتعانق موائد الكبار الشرهين، نتلمظ ، نستلذذ اللاشيء ، نمضغ الروائح ، نلوك الفراغ نعيش حلم اليقظة ، أمعاؤنا توجعنا !
دقائق معدودات ، تأتي الأكف العريضة المتسخة على الأخضر واليابس ، يأتينا ما تبقى من لقيمات كسكس تعوم في مرق بارد ، لكنه لذيذ ،نحن الأطفال لسنا روحا كاملة ، نحن نصف روح !
تقذف الكلاب ببعض العظيمات ، تشتد المناوشات وتجرد القواطع من أغمادها ويحتد الهرير والهسيس والنباح : معارك دموية قاتلة من أجل لاشيء !
نحن أيضا نخوض هذا النوع من المعارك على فتات عاثت فيه الأيادي القذرة والمتسخة فسادا !
تتخم البطون ، تنتهي طواحين الهواء من الدوران ، تنقى الأسنان بأعواد الثقاب ، و تبدأ ثرثرة الشيخات من جديد ، وهن يتهيأن لرقصة الوداع الأخيرة ، تلوح خيوط الفجر ، تطرد جيوش العتمة ، و تداعب نسيمات باردة الوجوه المتعبة ٠
يوشك العرس على النهاية : تنفد السجائر والخمر ، يبدأ رحيل الضيوف ، يختلى مولاي السلطان بلالة لعروسة ، لحظات و تتلقف عائلة العروس سروال ابنتها الملطخ بالدم ، في لهفة وشوق ،بهذا السروال يفندون مزاعم أعداء ، يصطادون في الماء العكر ، تنجح مولاتي في امتحان الدم٠٠الدم ولا شيء غير الدم ، هو شرف العائلة !
يوشح مولاي السلطان هامة أقاربه بوسام الفحولة ، يحمل قربان الشرف في صينية نحاسية ، فوق رأس أخت العروس ، ويبدأ الطواف على منازل الدوار ،لتأكيد نجاح المصونة لالة لعروسة في امتحان الدم !
ننسحب نحن - نص روح - من العرس ،جائعين ، مقهورين ،مذلولين ، نغالب النعاس ،وأهازيج التغني بشرف العروسين ، تدغدغ مسامعنا ،فنحسها بعيدة ٠٠٠بعيدة ٠٠بعيدة ٠٠٠لكنها تثير في نفوسنا التقزز و الشعور بالدونية ، نبتعد عن المكان ،نعرج على بيدرنا ، نرتمي فوق أكوام السنابل ، نروح في سابع موتة ، وجاثوم الجوع يجثم على صدورنا يكاد يخنقنا !
بقلم الاستاذ : صالح هشام
الاربعاء ١٣ ابريل ٢٠١٦
توضيحات :________________________________
_نص روح : نصف روح لقب يطلق على الاطفال في البوادي ايام زمان.
_التبويقة : هذيان المخذر ات .
-خربوشة ، حاجتي في قريني ، العلوة ، من الاغاني الشعبية في المغرب
_البنان : الموز
-البوكر / الخوروطو / البيبل هايشر : من شتائم المأزومين
-الروج بولبادر : نوع من المشروبات الروحية .
قراءة نقدية للناقد سيد عفيفي !
في قصة (امتحان الدم) لصالح هشام
هذه القراءة ------------------------------------------------
أروع ميزة في القراءة النقدية ، تلك التي تجعلك كمبدع للنص المقروء غريبا عنه ،إذ تحولك إلى قارئ ينتشي بلذة قراءة نصه ، من خلال الوقوف على تفكيك تلك الشفرات والرموز والإحالات والإشارات التي ربما يكون الكاتب وظفها دون قصد منه أو وظفها على سبيل التناص أو توارد الأفكار أو التداعي ، اعتبارا لأن المخزون المعرفي الجيد هو الذي يتحكم في نوعية الإبداع : ضحالة أوفقرا أو تميزا ورقيا ، فالناقد الحقيقي هو الذي يجعل المبدع يستغرب مما كتبه كغيره من القراء ، فيعيد له الثقة في النفس ، وبالتالي يعرف أنه يسير في الطريق الصحيح ، صدقني اخي القاريء الكريم أني عندما قرأت هذه القراءة النقدية المتميزة للناقد القدير سي عفيفي ، شعرت أني أكتب شيئا يستحق القراءة ، وذلك لأن سي عفيفي عرفني بدلالات ومدلولات ما كتبت ، أنا الذي لم أقصدها أبدا ، وربما كنت أكتب دون أن استحضر من سيقرأ النص ، وأني كنت اكتب بعفوية وتلقائية ، وهذا يجعلني أقول لأي كاتب عندما تكتب نصا وينقد من طرف ناقد خصوصا إذا متمكنا فلا تجادله في قراءاته وتقف موقف المدافع عن نصك ، لأن ما يراه الناقد لا يراه الكاتب أبدا وأعطي مثالا ربما يقرب الصورة ( الجمل لا يرى سنامه ويرى سنام أخيه ) ولي عظيم الشرف أن يحظى هذا النص/ القصة الذي استلهمت أحداثه من واقع ربما كنت أحد أبطاله في زمن ومكان ما ، وأشكر الناقد المتميز سي سيد عففي على جري الى استغوار متاهات هذا النص الذي كتبته بكل عفوية ....بوركت استاذي الكريم !٠٠٠٠٠٠٠صالح هشام
القراءة النقدية ----------------------------------------------
أولا؛ التجنيس ٠
يتصدر النص عنوان تميز بسعة الأفق ولا يدرك ذلك الانزياح المعنوي إلا من قرأ النص بكل دقة، فعند أول قراءة للعنوان بمعزل عن النص يتخيل القارئ أنه سوف يقرأ قصة بوليسية تنطوي على جرائم تراق فيها الدماء، فيفاجأ مع نهايات النص أنه توقعاته قد خابت، ويجد نوعا مختلفا من الامتحانات، امتحان مجتمعي ما زالت أياديه تمتد خلسة في القرن الواحد والعشرين وهو اثبات هوية الفتاة المتزوجة حديثا في مجتمع الشرف الذي قد سقطت عنه عباءة الشرف والنزاهة، وتعريف العنوان بالإضافة جعله هو والنكرة قريبين جدا، فهو مجرد امتحان مخصص للدم، لكن الدم في عصرنا قد بات له امتحانات ومحن كُثر.
ومع تفكيك النص إلى فقرات paragraphs سوف نجد نصا شموليا أجاد فيه الكاتب حياكة أكثر من جنس قصير لينتج لنا هذه القصة القصيرة، ويدل على ذلك الالتفات مابين الحوار الذاتي للأنا (مونولوج) في صدارة النص، يتخذه الكاتب نواة لينسج حولها المتن، فامتدت من (الأنا) خيوط متشعبة متفرقة مختلفة الألوان، وانتقل بضمير القص إلى (نحن) و(هم ، هو، هي)وبإعادة تفكيك الفقرات إلى شذرات fragments سوف نرى أن النص مكون في غالبه من عشرات القصص القصيرة جدا، بما تحمله كل شذرة من تكثيف وسرعة في السرد وترصيف الأفعال بشكل متتابع ومباشر مستغنيا عن الروابط اللغوية ليصب الفكر ويرسم الصور ويشرك القارئ في استنتاج نوعية الروابط الوجدانية لا اللفظية بين الفقرات.
كذلك نجد الكاتب يدمج الحوار الدرامي أحيانا ليكمل عملية الربط بين القارئ والنص، ويخرج من مكنون الضمير الجمعي وضمير الفرد وكأنه يتخاطر بنفسه تارة ويكمل تخاطر فئته العمرية (الطفولة) تارة أخرى.
السيميولوجيsemiology ٠
النص به زحام وزخم شديدان من حيث الإشارات والرموز المباشرة وغير المباشرة بما يجعل القارئ منتبها تمام الانتباه حال القراءة، ولعل علامات الترقيم التي يعج بها النص – التي تصدرتها علامة التعجب(!)- قد نفخت في النص روحا من الحراك والتفاعل الوجداني والتصويري، وكأن كل ما جاء بالنص يستوجب التعجب، بداية من تهميش أصحاب الرمز(نصف روح) وهم الأطفال، حتى وإن كان التهميش اضطراريا بسبب الفقر والجهل العام فهذا عذر أقبح من ذنب، وزاد الترميز بمصطلح (نص روح) من الارتباط بمكونات المجتمع آنذاك، من خلال النظرة الدونية للطفولة، فهي في كل شئ تستحق نصف نظرة، نصف اهتمام، نصف رعاية، نصف عطاء...الخ، وهناك من الرموز ذات الدلالة على البيئة المحلية الكثير، فقد دمج الكاتب بعض المفردات من الدارجة المغربية ومن ذلك إسقاط همزة الوصل من (ال) التعريف في (لمخننة، لعروسة) وقد أكسب ذلك النص المزيد من الواقعية، بالإضافة إلى تنوع الأساليب في النص والاكثار من الجملة الظرفية التي رسمت كل تفاصيل المكان والبيئة ووضعت الحدث بين قوسين زمانيين بداية من انطلاق الخبر وحتى انبلاج الصبح.
الانثروبولوجيا الاجتماعية..socio-anthropology
نرى في النص تشريحا جزئيا للمجتمع من خلال التفصيل الدقيق للفئة الرئيسية والتى تمثل السواد الأعظم للمجتمع الغربي في الفترة الزمنية التي تناولها النص وهي على الأرجح في العقد السادس من القرنالعشرين، مجتمع ذو شكل هرمي قاعدته العريضة من الفقراء والمهمشين (الحرافيش كما يطلق عليهم الكاتب)، أولئك الذين يعيشون معيشة الكفاف أو اللاكفاف، استعرض الكاتب بدايةً نواة مصغرة تتمثل في الأسرة التي لا تتسوق الا مرة واحدة أسبوعيا، وذلك لضيق ذات اليد ولأن العادة قد جرت على انعقاد السوق ليوم واحد كل أسبوع، حتى تلك الأسرة تنطوى على الشكل الهرمي؛ الأب في القمة، والأم (مع الابن الأكبرغالبا) هما ضلعي المثلث ثم القاعدة يمثلها عدد من الأبناء في مرحلة الطفولة، ثم يتطرق الكاتب إلى شكل هرمي آخر هو أهل الحي أو القرية (البيدر) كقاعدة لشكل هرمي آخر هو المدينة وهكذا...
أجاد الكاتب في توصيف الشكل المجتمعي من خلال الحدث الاهم في النص وهو العرس المقام في قاعدة الهرم الاجتماعي، وأهتم كثيرا بتفنيد رؤيته من زاوية الطفولة أولا( نص روح) التي ربط الكاتب بينها وبين (الكلاب) في مراحل النص، ثم من بعض الطبقات ومنها الطبقة الأقل أهمية وهن النساء ربات البيوت تحت ضغط الخدمة المنزلية ورعاية المواليد(تغصن حتى الأذنين في بول وبراز الرضع)، والبنات اللاتي غلبهن المجتمع على أمرهن، ثم يصعد بتوصيفه تدريجيا إلى طبقة الرجال (الأزواج والآباء) ثم طبقة أسعد حالا –فرقة الشيخات – اللاتي صعدن درجة بالكسب غير المشروع بإحياء الأفراح والليالي كنموذج للفساد الأصغر رمزاً لفساد أكبر، وحتى تلك الطبقة قليلة العدد صورها لنا المبدع صالح هشام في شكل هرمي تقف في قمته الشيخة (القرعة) لأنها تجيد الرقص الاستطراف وكونها أكثر بنات الليل مهارة في ذلك العمل ثم تتكون القاعدة من باقي بنات فرقتها الأقل حنكة أو الأقل دهاء وجمالا,,,
في هذا العرض الشيق للأنثروبولوجيا الاجتماعية نجد الكاتب يقدم نموذجا شبه متكرر لفئة المجتمع المهمش في معظم البلدان والدول العربية التى تشترك في وحدة واحدة من الدين واللغة والأعراف السائدة، مجتمع معدم لكنه مترابط، فقير لكنه يرضى، يعج بالجهل وظلمات المعيشة نعم لكنه ينتظر بزوغ الفجر الجديد، فيه الصالحون ومنهم دون ذلك، أشار الكاتب إشارات لطيفة إلى الآفات الاجتماعية المنتشرة في كل الأوساط من فساد في السلوكيات( بنات الليل، خمر الروج بولبادير، تدخين الحشيش) ، وقد أقام النص على قضية شديدة الأهمية وتعتبر لب الموضوع وهي (امتحان الدم)؛ عادة تشير إلى رمزيا إلى نزف المجتمع ككل ، وقد برع الكاتب في جمع خيوط النص هاهنا (ننسحب نحن - نص روح - من العرس ،جائعين ، مقهورين ،مذلولين ، نغالب النعاس ،وأهازيج التغني بشرف العروسين ، تدغدغ مسامعنا ،فنحسها بعيدة ٠٠٠بعيدة ٠٠بعيدة ٠٠٠لكنها تثير في نفوسنا التقزز و الشعور بالدونية ، نبتعد عن المكان ،نعرج على بيدرنا ، نرتمي فوق أكوام السنابل ، نروح في سابع موتة ، وجاثوم الجوع يجثم على صدورنا يكاد يخنقنا !)
أولا باستخدام لفظ (ننسحب) بما يرمز إليه من سلبية قد ينتهجها السواد الأعظم من المجتمع، ينسحبون من مواجهة الفقر والجهل والفساد، وتكرار الصفات (جائعين..فاعلين، مقهورين...مفعولين، مذلولين...مفعولين) تؤخذ منه الدلالة الواضحة على سبب ذلك الانسحاب، فهم مفعول بهم أكثر من كونهم الفاعل، وتلك النقاط بين لفظة(بعيدة..بعيدة...بعيدة) أعطى سببا للإنهزامية، فتلك الأهازيج والأغاني السعيدة يحول بيننا وبينها أزمان ومسافات، وتلك شكوى حارقة يرصدها القلم (٠٠٠لكنها تثير في نفوسنا التقزز و الشعور بالدونية) مشيرا إلى بشاعة تلك الأعراف التي لا يتقبلها عقل فهذا ليس امتحان للدم بل امتهان للشرف
ثم يتابع تلخيصه للمتن (نرتمي..نروح في سابع موتة، جاثوم الجوع يجثم على صدورنا، يكاد يخنقنا)
أخيرا؛ النص به تفاصيل كثيرة جدا تحتاج إلى توسيع عدسة النقد والتفنيد كالمشهدية والتصوير والانتقال الفكري والوجداني بين مراحل النص، وكذلك عنصر الصوت المتداخل والصخب الذي يدور فيه الحدث، ومنه أيضا التحليل النفسي للشخوص، وللكاتب، وإنسان هذه الحقبة بشكل عام، لكن كل هذه التفاصيل أظنها شديدة الوضوح وحتى لا تطول القراءة..
كل الامتنان للكاتب المبدع إذ شاركنا هذا النص الرائع
سيد عفيفي ٠
----------------------------------------------------------------
قصة قصيرة // امتحان الدم
بقلم الاستاذ // صالح هشام
يعود والدي و والدتي من السوق الأسبوعي ، تحمل أمي قفة مملوءة بالموز والتفاح البلدي ،تفاح تتملكني رائحته ! أضع التفاحة في تجويف القلب وأغلق عليها ، وأخوض حربا ضروسا ضد معدتي الأمارة بالسوء !
التفاح والبنان ذهب أو ماس ، عملة نادرة ، يحظى بهما فقط من ابتسم له الحظ ومرض ، أودخل في غيبوبة الاحتضار ، حتى على فراش الموت فالميت محظوظ ، سيأكل دون غيره التفاح والبنان !
كم كنت أعشق المرض ! المرض مطيتي لحبة موز أو برتقالة أو تفاحة بلدية ، أو شيء من عطف أمي ،دون مرض فأنت لا تساوي حبة بصل ، لا أحد يهتم بك !
نتحلق حول الوالدة ، وقد تخلصت من ثقل القفة ، نوجه لاقطاتنا الهوائية بدقة، نبتغي اقتناص بعض الأخبار القادمة من السوق كالعادة ، يعجبنا اهتمام أمي بتفاصيل أي خبر، فهي لا تخفي حتى الجزء الممل منه :
-حميدة سيحتفل بعرس ابنه هذا الأسبوع !
يدوس أبي على عقب السيجارة بفردة حذائه الثقيل :
-ومن هي عاثرة الحظ هذه ؟
-إنها عويشة ( لمخننة ) المعفونة ، المعتوهة !
يقهقه عاليا، يكاد يستلقي على قفاه ، يشفع ذلك بسعال حاد وبصاق بلون المشيمة :
- ه ه ه ههه ! وافق شن طبقة ، هبيل تزوج هبيلة ، وتهنات المدينة !
تجتر والدتي ما قالته وتعيده مرات كثيرة ، حديثها غير مركز:
ينعتها أبي- ساخرا -بالأسطوانة الصدئة المعطلة !
تحرضنا على انتزاع مكاننا في هذا العرس عنوة وبالقوة !
نحن أيضا سنحظى بحفنة حبيبات من كسكس ، تسبح وسط بركة من مرق لذيذ ، معطر بروائح التوابل !
اللحم عزيز جدا حد الانعدام ، لا يرضى ببيوت الحرافيش٠٠٠ على مضض
يعتبرونه يسبب انتشار القمل بين المستضعفين ٠ يعز حتى في المناسبات ، فهو نادر ، وباهض الثمن ،يحظى به الكبار فقط ، أما [نص روح ] فهم أشبه بآكلي الجيفة ، لهم من الفريسة سوى عظيمات قليلة في صحن يعود فارغا تماما من معركة أمعاء وقواطع الكبار!
ننشر الخبر ، فينتشر نارا في كومة قش يابس !
نعقد اجتماعا طارئا، يتزعمه زعيم الجراد ، تحت ضوء القمر في بستان الصبار :
نقرر اقتحام منزل العرس، بالقوة٠
[نص روح] عنصرخلل غير مرغوب فيه ،جراد مدمر،يأتي على الأخضر واليابس!
- ثلاث عيطات شعبية ،تعشش في أدمغتنا وتتملك منا المخاخ ، لكنها تستحق منا المغامرة والمجازفة:
( -خربوشة -حاجتي في قريني - العلوة ) :
عيطات رائعة ، تنتشلنا من البؤس والسذاجة والرتابة ،تتقنها الشيخة[ا لقرعة] أداء ورقصا على القعدة : تتلاعب بردفيها المكتنزين ، وتدك الأرض دكا ، تحت خشخشة حلي وجواهر وأساور ذهبية ، اكتسبتها من الليالي الملاح ، مال الحرام ، تتباهى بها مستفزة ضعف وحرمان بنات الدوار!
هن مسكينات ، ساذجات , جميلات ، لايملكن من هذا إلا تنهيدة و زفرة عميقة ، حظهن عاثر ، لكن لهن شئ من عفة نفس و كرامة و شرف !
حظ أمهاتهن ليس أحسن حالا منهن :
تغصن حتى الأذنين في روائح بول وبراز الرضع ، روائحهن تبعث على الغثيان ، تنفر أزواجهن في المضاجع !
العرس يوم السبت : نجتمع في بستان الصبار ، على أهبة الاستعداد ، ننتظر إشارة بطرف أصبع زعيم الجراد ،لاكتساح منزل العريس كالسيل الهادر، ندبر خطة خطيرة ، تتلف صاحب العرس ، فيعجز عن رد هجومنا الكاسح !
يتحلق أعضاء [فرقة الشيخات ] حول أيقونة الرباعة : [باجلول ] الطعارجي ، المستكرش رحمه الله ، يضع كرشه المكورة كحبة البطيخ أمامه ، ويبالغ في طلب الطعام ، طلباته لا تنقطع ، إطعام فيل من هذا الحجم من بداية الحفل يقلق راحة مسؤولة القدور ،شاع أن المسكين قتلته كثرة الضحك والأكل ، اختل توازن أمعائه فودع الدنيا إلى الأبد !
يسود صمت الصمت ،تخرج كلاب الحراسة عن طوعه ، تقتفي أثرنا ، نتسلل كاللصوص من بستان الصبار ، نتربص ببيت العريس بحذر شديد ، تفضحنا خشخشة الأعشاب اليابسة المتهشمة تحت النعال والأ قدام الحافية٠ تمعن الكلاب في نباح لا ينقطع ، نراوغها، نرشيها ، نجود عليها بشيء ما ، فنكسب ودها : رشوة بسيطة تؤمن لنا الطريق ، نقتحم فتحات الأبواب و النوافد الشبه مغلقة ، يضيع صاحب العرس في متاهات أجساد فاتنة تعانق الفراغ وتلتصق بين السماء والأرض ، وهي تؤدي ميزانا شعبيا رائعا ،يترك المسكين الجمل بما حمل، ينتشي بحموضة كبته ، ويتلمظ ملوحة رغبة دفينة لا تقاوم ٠
نندس بين أجساد الحضور، نسد فراغاتها ، ننتشر في جميع أنحاء صالة الحفل ، فوجودنا في مكان واحد يثير انتباه هذا المخبول [صاحب العرس ] و يحرضه علينا من يطمعون في وده ويتملقونه هذه الليلة !
نتسترخلف الجلابيب و المعاطف الكبيرة ٠ نستمتع نحن أيضا كباقي البشر بمستملحات [باجلول] بوكرش الوقحة ، وهو يناظر الشيخة [القرعة] التي تحسن الغمز واللمز،فهي حفاظة طرائف وغرائب أعراس، ومغامرات ليلية ، فهي من أكثر بنات الليل حنكة وتجربة !
تخيم غيوم كثيفة من الدخان ، يتصاعد إلى السقف ويتسرب عبر الشقوق ، وفتحات الأبواب والنوافد ، تسود نوبات سعال حاد من حين لآ خر ، يتحول المكان إلى سوق شواء وساحة هرج ومرج !
نحن - نص روح - نتلذذ بهذا الدخان ، ونتظاهر بجنون (التبويقة ) نقمع شياطين شغبنا ، لا نرغب في لفت انتباه صاحب العرس ، نحن عناصر خلل ،يمكن التخلص منا في أية لحظة !
ينام الليل ، تهدأ أصوات الصراصير ،يخلد الكلاب إلى الراحة ٠ يأخذ التعب من أفراد الفرقة مأخذه، تناولوا كميات ضخمة من الخمر المغربي المعروف ب ( الروج / بولبادر ) ممزوجا بلفائف الحشيش ،تدخن الشيخات سجائر أنيقة شقراء ، أمريكية الصنع أملا في التميزعن هؤلاء (البوكر/ الخروطو / الحرافيش ) !
تقتل الفرقة بعض الوقت ، تسود الدردشة بين النساء ، يفقدن التحكم في حبالهن الصوتية جراء السكر و تدخين التبغ الأصفر والتعب ،و الجوع :
يرتخي الوتران الصوتيان ، تبح الحناجر ، فيشد الإيقاع الموسيقي عن العادة ، ويختل الأداء ، يصبح فوضى مرتبة حد الملل !
المقدم رجل حاد الطبع ،من علية القوم ، مسؤول عن نظام الحفل ، بصوته الجهوري يطلب من الحاضرين الصلاة على الرسول :
-صلوا على النبي يا سادة ، ما هذا الفتور ، يا با جلول ، هاتينا ما عندك !
نتحول -معشر نص روح - من عفاريت سيدنا سليمان إلى مؤمنين صغار ، نبالغ في الصلاة ،نكتم تلك القهقهات التي تكاد تنط من حناجرنا ،نتفنن في فن النفاق رغم طراوة عودنا : نطمع في درة عطف من المقدم ، علنا نحظى بنصيبنا من طعام العرس كباقي القوم !
يعلن المقدم ، بداية [ا لرواح ] من أجمل طقوس العرس ، يحضرون مولاي السلطان : هذا البليد ، الأرعن ، نحق معرفته ، يسمى (بعيزة ) ونلقبه الديك الرومي :لأن مخاطه كان يتدلى من أنفه مسافة مهوى القرط منه ، يمسحه بكم قميصه المتسخ ويحك قفاه العريضة : علامة خبل و هبل وبلادة ٠
ها هو يأتي وفي حاشيته وزيره (الرويبعة/ عدو الدجاج ،شفار البيض ) سبحان الله !هو أقرب الأصدقاء إليه حتى في البلادة ، كنا نحتقرهما معا ، كنا نسخر منهما ونقول :
-بعيزة والرويبعة :بعرتان تبحثان عن بعضهما في عرض النهر، تلتقيان، فتطلبان المنحدر نحو المجهول !
تتقدم مولاي السلطان فتاتان جميلتان : ترمزان لاستمراية السلالة ، تنثران أمامه ووزيره مسحوق الورد ، وأشياء أخرى النساء أدرى بها و تخص عالمهن المتخن بالشعوذة و أفكار إبليس ، من سحر وجن ، و عين الحسود فيها عود ، يمشي ولا يعود !
الفضيحة هم ثقيل ، يقتل النخوة في النفس ، وقد تمس العروسين معا :
عائلة العريس تخاف على ابنها من العنة المبكرة ، فيصبح أضحوكة أقرانه ، وعائلة العروس تخاف غدر ابنتها في لحظة ضعف بشري خلسة ، في مكان ما
و في زمان ما !
تبدأ الطقوس بضرب البنادير والدفوف وقرع الطبول، تحت ضوء القمر الباهت ،تصدح حناجر الرجال بأهازيج شعبية ، ترددها النساء من وراء الستائر ،وتتخللها زعرودة أخت العريس المبحوحة :
- سير أخويا ٠٠٠سير ٠٠٠سير ٠٠ حوا٠٠لحمير٠٠٠ سير أخويا !
أهازيج تعلن قطيعة حاضر العريس عن ماضيه ، انتقال من العزوبة ، ودخول عالم الرجال !
تستمر عملية الرواح ( الاحتفاء ) في الهواء الطلق لمدة تقصر أو تطول حسب فعالية رفقة العريس ، والقدرة على حفظ مستلزمات [الرواح] من أغان وأهازيج ٠
تحين لحظة الحسم : تقديم العشاء للضيوف ، نبدأ رحلة مكوكية بين الموائد بحثا عن مكان شاغر للعشاء . لا أحد يحب -نص روح - لا أحد يرتاح لهذا الجراد القادم بدون دعوة !
يمسح المقدم المكان بعينيه الجاحظتين ، ويغرز أصابعه في أعيننا التي تكاد تنط منها المسكنة، ويصرخ فينا :
- نص روح ٠٠نص روح ٠٠برا٠٠اخرجوا٠٠اخرجوا٠٠اخرجوا !
يقذف بنا خارج الصالة دون رحمة ،نمارس لعبة الكلاب إلى جانب الكلاب : انتظار الذي يأتي أولا يأتي ، تحلق أنوفنا الصغيرة في الفراغ ، تقتفي أثر روائح الكسكس االشهية التي يعبق بها هذا الخواء !
تأتي أطباق مملوءة تباعا، فتعانق موائد الكبار الشرهين، نتلمظ ، نستلذذ اللاشيء ، نمضغ الروائح ، نلوك الفراغ نعيش حلم اليقظة ، أمعاؤنا توجعنا !
دقائق معدودات ، تأتي الأكف العريضة المتسخة على الأخضر واليابس ، يأتينا ما تبقى من لقيمات كسكس تعوم في مرق بارد ، لكنه لذيذ ،نحن الأطفال لسنا روحا كاملة ، نحن نصف روح !
تقذف الكلاب ببعض العظيمات ، تشتد المناوشات وتجرد القواطع من أغمادها ويحتد الهرير والهسيس والنباح : معارك دموية قاتلة من أجل لاشيء !
نحن أيضا نخوض هذا النوع من المعارك على فتات عاثت فيه الأيادي القذرة والمتسخة فسادا !
تتخم البطون ، تنتهي طواحين الهواء من الدوران ، تنقى الأسنان بأعواد الثقاب ، و تبدأ ثرثرة الشيخات من جديد ، وهن يتهيأن لرقصة الوداع الأخيرة ، تلوح خيوط الفجر ، تطرد جيوش العتمة ، و تداعب نسيمات باردة الوجوه المتعبة ٠
يوشك العرس على النهاية : تنفد السجائر والخمر ، يبدأ رحيل الضيوف ، يختلى مولاي السلطان بلالة لعروسة ، لحظات و تتلقف عائلة العروس سروال ابنتها الملطخ بالدم ، في لهفة وشوق ،بهذا السروال يفندون مزاعم أعداء ، يصطادون في الماء العكر ، تنجح مولاتي في امتحان الدم٠٠الدم ولا شيء غير الدم ، هو شرف العائلة !
يوشح مولاي السلطان هامة أقاربه بوسام الفحولة ، يحمل قربان الشرف في صينية نحاسية ، فوق رأس أخت العروس ، ويبدأ الطواف على منازل الدوار ،لتأكيد نجاح المصونة لالة لعروسة في امتحان الدم !
ننسحب نحن - نص روح - من العرس ،جائعين ، مقهورين ،مذلولين ، نغالب النعاس ،وأهازيج التغني بشرف العروسين ، تدغدغ مسامعنا ،فنحسها بعيدة ٠٠٠بعيدة ٠٠بعيدة ٠٠٠لكنها تثير في نفوسنا التقزز و الشعور بالدونية ، نبتعد عن المكان ،نعرج على بيدرنا ، نرتمي فوق أكوام السنابل ، نروح في سابع موتة ، وجاثوم الجوع يجثم على صدورنا يكاد يخنقنا !
بقلم الاستاذ : صالح هشام
الاربعاء ١٣ ابريل ٢٠١٦
توضيحات :________________________________
_نص روح : نصف روح لقب يطلق على الاطفال في البوادي ايام زمان.
_التبويقة : هذيان المخذر ات .
-خربوشة ، حاجتي في قريني ، العلوة ، من الاغاني الشعبية في المغرب
_البنان : الموز
-البوكر / الخوروطو / البيبل هايشر : من شتائم المأزومين
-الروج بولبادر : نوع من المشروبات الروحية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق