الجمعة، 7 يوليو 2017

المرموز بين الرغبة والرغبة الأخرى / دراسة نقدية للدكتور المصطفى بلعوام : في قصة ( شجرة اللعنة ) للاستاذ صالح هشام / المغرب

__المرموز بين الرغبة والرغبة الأخرى__
دراسة نقدية :للدكتور مصطفى بلعوام 
في قصة [ شجرة اللعنة ] صالح هشام 
هذه الدراسة النقدية :----------------------------------------
شجرة اللعنة !لا أدري هل هي شجرة نقمة أم شجرة نعمة ؟
فهي إن كانت على مستوى الاحداث والرموز الأسطورية التي متح منها القاص ، شجرة نقمة ،فهي شجرة نعمة على مستوى النقد، لأنها تمكنت من مراودة قلم من أروع الأقلام النقدية على نفسه ، و جرته للإبحار في بحرها الغرائبي بمركبه القوي ذوقا وذائقة ، و ليمارس في متاهاتها الاختراق والعبور ، بذلك الحس النقدي الرائع الذي ألفناه في دراساته النقدية المبنية على أسس علمية دقيقة في التحليل وكشف المستور واستجلاء مواطن الغموض في النصوص، ليخلق في نفس القاريء لذة الانتشاء بلغة اللغة قبل لغة النص ، إنه الدكتور مصطفى بلعوام ، الذي يخضع النص للتشريح ،بدقته وسعة فكره المعهودة ٠ فهي شجرة نعمة لأنها استفزت ذائقة وذوق هذا الناقد الكبير ، ليخلد قيمة مضافة للدراسات النقدية للنصوص السردية بعيدا عن تلك الانطباعات الشخصية التي لا تفيد النص في شيء ، وتظل تحوم حول النص فيراوح مكانه ، دون التمكن من إفادة الكاتب في معرفة خبايا وأسرار ما كتب وهو يجهلها ، هذه القراءة النقدية التي ركز فيها الدكتور على اختراق تلك المغارات السحرية النفسية للشخوص ، وتفكيك الشفرات على المستوى الرمزي والنفسي والأسطوري ،هذه القراءة قيمة مضافة رائعة لمجال النقد الأدبي ! [ شجرة اللعنة ]، شجرة محظوظة ، لأني كنت نقحتها وأعدت نشرها من جديد ، لأنها تعود إلى بداية كتاباتي في مجال السرد ، وأنا أنشرها على صفحات المنتديات الأدبية أفاجأ بهذه الدراسة النقدية القيمة التي أبحرت في سطورها ، التي حولتني بصراحة من كاتب إلى قاريء غريب كل الغربة عن مكتوبه ،فأعيد طرح السؤال تلو السؤال ، هل هذا فعلا مكتوبي ؟ قراءة تعيد الي الثقة في النفس ! لأني اشعر أني كتبت شيئا ذا قيمة تذكر ، وأني على الطريق الصحيح ، شكري الجزيل وانحنائي تقديرا واحتراما لهذا القلم الفد الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نوفيه ما يستحقه من تقدير ، كيف لا وهو الذي ، أخرج هذه القصة من متاهات الظلمة إلى النور ، ولا يسعني إلا أن أردد ما قاله جان بول سارتر حتى يلتوي لساني [ النقد يوقظ النصوص من سباتها ] ! وحتى لا أطيل على القاريء الكريم أتركه ينتشي بجمال هذه القراءة قبل النص موضوع النقد !
القراة النقدية -------------------------------------------------
١- من رمز إلى رمز تبدأ القصة٠
غالبا عندما تمتح القصة مادتها من مرجعية أسطورية تنفتح آفاق الكتابة فيها على وهمية العلاقة بالزمن كأفق اعتباطي يبعثر منطق الحكي فيها. قصة القاص صلاح هشام المعنونة " شجرة اللعنة" لا زمن لها غير زمن حكي يجعل من الأسطورة ورشة لاستنطاق الحدث ومن الحدث مطية لاستلهام حيثيات الأسطورة . وعليه، تفرض علينا قراءتها من حيث الكيفية التي تدبر بها الشأن الرمزي وتؤسطره حسبما يخدم الحدث ؛ رمز يحيل الى رمز آخر ، يقفز من مرجعية إلى أخرى ليجعل المرموز له كمينا غير قابل للبحث فيه عن معنى واحد أو حتى شرح أولي لما يريد أن يعنيه . لأن مايعنيه هو ما لا يريد أن يقوله في المرموز له بل فيما يربط الرمز بالرمز. ولكأن الأستاذ صالح ينقر في قصته على الرمز ليستفزه وليستحضر مرجعيته عن بعد حتى يكون مثل الشجرة ذاتها التي تبنين النص في حضورها الغائب والمشحون ببلاغة المفارقات أو على الأقل الثنائيات : البطل الجميل/ اينكدو، عالم الأطفال / عالم الكبار، عالم البراءة/ عالم الخطيئة ، عالم الخوف/ عالم الشجاعة، عالم التخييلي/ عالم الواقعي . فكيف يتمكن القاص من القبض على ما قد يبدو غريبا عن النص من خلال رموز لها مرجعيتها الخاصة؟
سوْال يحيلنا على علاقة الشخوص ببعضها، على ما تحكمه العلاقة بينهم من خلال الشجرة . والنص ينسجها بدءا في زمنين : 
الزمن الأول : زمن طفلان بطلان يخرجان من أسطورة " جلجامش" في واقع رمزي وتخييلي له شفراته القرائية الخاصة به. وهو زمن يتوج بحدث فاجعي تنتهي معه الأسطورة لتبدأ شخوص الزمن الثاني.
الزمن الثاني : زمن الكبار الذين يعالجون الحدث الفاجعي حسب نظام مرجعية الرمزي في ذاكرتهم الجمعية.
وبين الزمنين لا توجد علاقة مباشرة سوى الشجرة اللعينة. ذلك أن الزمن الثاني يأتي كردة فعل للزمن الأول إن لم نقل كأرضية أولية يخلقه ليعود اليه كي يتخلص منه فيحكم على نفسه بالضياع وكأن حاله يقول إن بموت الرمز يأتي وجه آخر من أوجه الموت.
٢- الحكي بين المحادثة الجوانية والمحادثة البرانية٠
تبدأ القصة مع طفل موزع في حكيه على أسلوبين خاضعين لتقلبات وتطورات الحدث: أسلوب المحادثة الجوانية وأسلوب المحادثة البرانية. انطلاقا من إحالات رمزية، يحكي الطفل عن مغامرته التراجيدية مع صديقه في محاولاتهما لاقتحام لغز الشجرة وطلاسمها التى تبعث في آن واحد على الرهبة والرغبة. فلكل رمز حدث ولكل حدث قصة. غير أن لعالم زمن الحكي الأول الذي يجمع البطل الجميل بصديقه ايكيدو، إحالات رمزية تتوزع بين المقوسة منها و غير المقوسة :
- الإحالات المقوسة : (أنا سليل الوركاء !!) / (خمبابا )/ ( يا ايكيدو) / (ليليث) / (البطل الجميل ) / ( خمبابا).
- الإحالات غير المقوسة: مروض الخوارق/ قاهر الإنس والجان/ الحصان المجنح/ العفريتة / المارد/ الوحش...
الإحالات المقوسة تترجم الإحالات غير المقوسة في لغة جلجامش وتبنين الحكي في تبايناته بين رمزيات أسطورة واضحة المرجعية ورمزيات كائنات غرائبية يتداخل فيها الديني بالخرافي في الذاكرة الجمعية. وبقدر ما يقابل القاص بينهما تارة في تحميل الرمز الأسطوري من دال إلى دال وتارة في تكثيفه منتقلا من شفرة إلى أخرى ، بقدر ما تتضح لنا تقنيته التي يستعملها في الاشتغال على الرمز. الإحالات المقوسة ( البطل الجميل..) لها وظيفة خدمة اُسلوب المحادثة الجوانية لاستكناه " أنا" الطفل التي ما تنفك عن محادثة نفسها والبحت لها عن قرين جواني- double- قادر على تحقيق ما لا تستطيعه في عالمه الواقعي ومواجهة لغز الشجرة : " حدقت في المرآة - يقول البطل الجميل- وأمعنت في التحديق حتى كدت أخترق نفسي بنفسي(...) وصحت صيحة أفزعت أمي : أنا (سليل الوركاء!!! )أنا الثور النطاح!! أنا !!! أنا...وأطلقت ساقي للريح، أطير في الهواء ، وفي قرارة نفسي أني أمتطي الحصان المجنح ".
جلماجش تأتي كخطاب داخلي يخول للطفل معانقة هذا البطل الجميل الثاوي في قرارة النفس والتي كادت أن تخترق نفسها بنفسها. ويستعملها القاص كتقنية بلاغية لترشم خطاب " أنا" الطفل وتعطيها مفاتيح الدخول إلى عالمها التخييلي بموازات مع أسلوب المحادثة البرانية (" أنا البطل الجميل ، أنا سليل الوركاء " / "كانت الشجرة مأوى للعشاق من أبناء القرية وحتى من الكائنات الحية "). وهكذا تطل " آلانا" على جوانيتها لمعانقة رغبات النفس في محادثة صامتة ( وفي قرارة نفسي أنني أمتطي الحصان المجنح ) وعلى برانيتها للملمة تناقضات تصورات محيطها و الإجابة عن أسئلتها وهواجسها المقلقة. 
لماذا لجأ القاص إلى رمزيات أسطورة جلماجش مع العلم أن مسرح أحداث القصة له رمزياته ومرجعياته الأسطورية ؟ 
هنا تكمن خاصية قصة " شجرة اللعنة" وقدرة القاص على جعلها مرتعا لأسئلة تحرق عالم طفل يبحث عن الحقيقة، حقيقة الأشياء والرموز ، حقيقة العين المجردة من الحسي والألغاز المستعصية على إدراكه..فالطفل مهووس بتملك الحقيقة من خلال المعرفة، إلا أن المعرفة التي كونتها القرية( الذاكرة الجمعية) حول الشجرة تبدو ناقصة لإشباع رغبته المعرفية. فلابد من معرفة أخرى ولا بد من التنصل من الذاكرة الجمعية لسبر لغز الشجرة وتطويع أسئلة قادرة على إنتاج أجوبة أو شبه أجوبة في عالم تخييلي. يخلع الطفل انتسابه الى ذاكرة القرية الجمعية ويفبرك له إنتسابا وانتماء آخر، " أنا سليل الوركاء.. أنا البطل الجميل"، فيجد نفسَه أمام نفسه بدون حصانة رمزية إجتماعية، يخلق مرجعية خاصة به لا أساس لها غير الرغبة في تقويض الأسئلة التي تكبر حجم قدراته الإدراكية . وخلق الشيء من العدم يعود إلى العدم في التخيلية أو إلى محنة قاسية الثمن للأنا : " أعود كالذئب المسعور ويموت ( سليل الوركاء) في أعماقي ". وبموت سليل الوركاء الرمزي وموت صديقه التراجيدي تقتلع الشجرة بجذورها فتحل اللعنة على أهل القرية وتهجّرهم من منازلهم.. 
٣- بلاغة المفارقات في دلالة الشجرة اللعينة ٠
لماذا للشجرة وجهان : وجه للمتعة/الحياة، ووجه للضياع/ الموت ؟لماذا للخوف منها وجهان : وجه للرغبة ووجه للرهبة ؟
مدخل الإجابة عن هذه الأسئلة تأتي على فم أحد رجال القرية الذي يؤكد أن "هذه الشجرة هي سبب فتنة الكبار ومصدر قلق ورعب الصغار"، تفتن بقدر ما تخلق الفتنة، ترعب حيث تُغري وتغري في ما ترعب ، تحتضن مغامرات أبناء القرية الغرامية فيما هي تأوي الكائنات الحية الأخرى...الشجرة تحيل إلى هذا وذاك، خزان ذاكرة جمعية ومسرح أعراضها بكل تناقضاتها و مفارقاتها. إنها حياة المتعة للكبار وهم " يعزفون أنشودة الحب الخالد" وموت الحياة للصغار إذا اقتربوا منها. فمنها وبها يتحول غرام الكبار إلى أرض قابلة لحرث الرغبة خارج المحرم ويتحول اقتراب الصغار بالمحرم رغبة تقتل المعرفة. وبين معرفة الرغبة والرغبة في المعرفة تأخد الحقيقة مسارات الرمز، رمز الشجرة التي تعني الشيء ذاته ونقيضه، تعني كل شيء ولا شيء . 
اقتراب البطل الجميل من الشجرة كان ورطة "الرغبة في المعرفة"، على إثرها ذهبت المعرفة المبتغاة وبقيت الرغبة حبيسة ذاتها، لا تملك من متنفس لها غير أعراض الرهبة في الجسد: "كنّا نحس بها / أفقد السمع نسبيا/ قلبي يركل في كل أنحاء صدري/شعرنا أن مئات الأعين تخترق أجسادنا الصغيرة كالسهام /أصوات أشباح تصم أذني .." رؤية العين غير كافية للإجابة على صوت الرغبة التي لا صورة لها ولا موقع يمكن من خلاله ضبطها إذا ما جنت في رغبتها لدى بطل جميل يختلق أسطورة على مقاس " أناه" المتعطشة لمعرفة الرغبة . فالشجرة من حيث وجودها ليست في النهاية إلا " شجرة فرعاء، رعناء، شعتاء كعش اللقلاق..تستحوذ على الكثير من الأمتار المربع من الأراضي الجموع .." لكن لماذا تخترق رمزيتها ثنائية الرغبة /الرهبة ؟ هناك فرضية توحي بها القصة كإجابة مبطنة لدلالاتها في الذاكرة الجمعية وهي كونها " كائنا مفهوميا" ( جيل دولوز ) يساعد شخوص القصة على خلق إنتاج تصورات مفهومية للشيء من حيت هو . فأهميتها لا تكمن في دلالتها ولكن في الممكن التي تتيحه من مقولات مفهومية قابلة لإعادة إنتاجها حول الشيء من حيت هو. لأن الشيء ذاته يستحيل مقاربته من حيت هو بل يفرض الإلتجاء إلى كائنات مفهومية لمقاربته ، كيفما كانت مصدرها سواء فلسفية، فنية أو أساطير العالم الآخر، كما هو شأن علاقة البطل الجميل بالرغبة. الشجرة إذن تحضن مجمع الكائنات المفهومية القادرة على إنتاج معرفة حول الوجه الآخر للرغبة، تلك المضروبة بصك المحرم : الجنس غير المقنن، الجنس مع كائنات الليل... عالمان يكونان شرطا من شروط إنتاج معرفة الوجه الأخر للرغبة : المرئي واللامرئي في علاقة تواشجية، لأن اللامرئي حسب تصورات رجال القرية له القدرة على التمظهر في المرئي، وارتياده كلغة قابلة للاستنطاق : اللئيمة ( العفريتة) هي التي قتلت صديق البطل الجميل بعد أن فسخت نفسها في شكل أفعى - ومنذ بدأت هذه الثعابين تخرج من جذع الشجرة ما رأينا فوقها طيرا يطير ولا شيء. لم تكن الشجرة تشكل هاجسا للجماعة وإن كانت مأوى للمحرم والكائنات الليلية بل قد نستنبط أنها كانت تحقق وظيفة اجتماعية في حصر الوجه الآخر للرغبة المضادة لما تقتنه الجماعة من سلوكات مثالية. غير أن حدثا تراجيديا ( موت صديق البطل) كان كافيا لأن يضع رجال القرية أمام قلقهم اتجاه هذا الوجه الآخر للرغبة الذي ولد الشعور بالذنب، وبالتالي الانتقام. انتقام من أنفسهم وضياعهم في إتلافهم لرأس الخيط كما تقول قصة الشجرة اللعينة.
٣- مفتاح الإحالات المقوسة٠
الطفل "بطل جميل" ينصب نفسه مروض الخوارق وقاهر الإنس والجان، طفل استثنائي في مخيلته
وعادي جدا في إحساسه وحياته. واستثنائيته في مخيلته لا تعني بتاتا مغالطة لواقعه ولواقع الأشياء . إنها مخيلة لها واقعيتها فيما ينسجه البطل الجميل حول نفسه. لأن ما ينسجه هو ما يعيشه وما يعيشه أكثر واقعية من رمزيات الأسطورة التي يخلق منها عالمه التخييلي، تماما كالطفل الذي نسمي ما يقوم به من فبركة أشياء وحكايات "باللعب". فكلمة اللعب تسمية لا توجد في قاموسه، على الأقل في إحدى محطات تكوينه البيو-نفسية. لأنه ببساطة لا يلعب بمفهوم الكبار، فما يفعله أكثر جدية وحقيقة مما يسمى باللعب. وهذا ما اسثتمره القاص الأستاذ صالح هشام بتقنية أدبية عالية، بطل القصة طفل يعيش تحث وطأة فكر سحري pensée magique من كونه خاصية من خاصيات الفكر الطفولي، لا قانون له سوى القوة المطلقة على كل شيء حيث سببيات الأشياء تنمحي أمامها ، لكنها تتلاشى بسرعة إذا ما اكتوت بما لا يستطيع الوعي وعيه، ألا وهو الموت. ولكأن انكيدو ليس إلا الوجه الآخر للبطل الجميل : كانت بطولتي مزيفة/ وكنت أكثر جبنا منه. وليس أنجع طريقة لترصد علاقة "أنا" الطفل السحرية الباحثة عن عالم وجودها في عالم الكبار من أسطورة لها نفس المكونات. 
للمغامرة حدود كما للمخيلة حدود، لكنها عندما تترك لنفسها في عالم طفل تجره الرغبة في المعرفة إلى اكتشاف اللغز، عندما تدخل إلى اللغز، يموت كل شيء، لأن قيمة اللغز توجد في فاعليته الرمزية والنفسية وليس في ما قد نكتشف فيه من دلالات متعددة المشارب..
----------------------------------------------------------------
شجرة اللعنة / قصة قصيرة
بقلم الاستاذ / صالح هشام 
أجمع قبضتي الصغيرتين،أعتصر في راحتي فراغ الفراغ ، أحدق في المرآة ،أمعن التحديق أ كاد أخترق نفسي بنفسي ،أضرب على صدري بقوة ،كغوريلا هائجة و أصيح صيحة تحول قلب أمي يمين أضلاعها :
- أنا" سليل الوركاء" ،أنا الثور النطاح ، أنا، أنا··!
وتتبخر أناي في وابل من سباب و شتائم أمي المذعورة · 
أمتطي صهوة أول عصا طويلة أصادفها في طريقي ، وأطلق ساقي للريح ، أطير في الهواء، أنتشي بركوبي حصانا مجنحا، أحسبه البجاسوس وإن لم أقل سلفا بيتا من الشعر:
-اليوم سأخترق غابات الأرز البعيدة، سأعبرها بنجاح ،سأنازل حارسها الوحش الكبير،سأحارب المارد (خمبابا) : 
- ستآزر ضعفي يا (أنكيدو) أعرف أنك لا تعصى لي أمرا..فأنت لا تقل أهمية عن "سانشا "أو" عمر العيار" أو" شيبوب" ! 
لم يكن" أنكيدو" إلا مستكرشا بدينا ،بليدا، يدعو مظهره للسخرية ، كان وحيد جيراننا ، لم يكن بمقدوره كسر بيضة حمامة ، ومخه أقل بكثير من بيضة دجاجة ..دوما يطاوعني في شغبي ، أجره في مغامراتي فينجر دون تردد ، أملي عليه أوامري، فينفدها آليا .لم يكن ليمانع أبدا! 
تلك شجرة ضخمة ، تمتد عروقها في أعماق أرض قريتنا ، فروعها منتشرة في فوضى الفضاء كعش الغراب ، تستحوذ على أمتار مربعة كثيرة من أراضي الجموع ،(الأراضي السلالية) و تتسبب في نزاعات ، وصراعات دامية بين جيراننا من حين لآخر .
نحن الصغاريحظر علينا الاقتراب منها ، بحكم قانون الكبار : تتسلل إليها العفريتة بنت الريح( ليليث ) عندماتغرب الشمس ، ويجن الليل ، يعتقدونها ، تسكن مرجة زرقاء متفرعة عن مصب النهر الهادر ، معزلهامخفي في سويقات سمار كثيف يحفها من كل جانب ، كان هذا اعتقاد الكبار وما كنا لنرفض ما يعتقدون : فأينما توجد أشجار الدفلى والسمار تختبيء هذه الملعونة ، فيسهل عليها تصيد ضحاياها من مغامري الليل . 
الشجرة الشعثاء ، الفرعاء ، الضخمة ،مأوى وملتقى العشاق والأحبة من أبناء القرية الذين اشتموا روائح الإبط ، وتقصدها أيضا كائنات حية أخرى ، ومن شقوق جذعها الضخم يرفرف عشق ملوك العشق والهيام حيث تبدأ مغامراتهم الغرامية يتمسحون بأشعة وجه القمر، يعزفون أنشودة الحب الخالد ، ونحن بكل وقاحة أنا و"أنكيدو" نتجسس عليهم ، ونكاد نلبسهم دون أن يشعروا فنتفنس أنفاسهم !
أعرج على "أنكيدو" أناديه ، يخرج إلي ، يفرك عينيه ، يراوده النوم قبل أن تلوذ فراخ الدجاج بخمها ،دون أن أكلمه أدفعه أمامي فيتدافع ويسألني بغباء :
-إلى أين يا ثور .؟ يا نطاح؟ تشعرني كلماته أني ذو شأن عظيم ، فأنفش ريشي كالديك الرومي : 
- إلى غابات الأرز البعيدة ،نبغي استئصال شر الوحش "خمبابا" يا صديقي ! 
-ومالنا نحن وهذه الغابات المخيفة ،البعيدة ؟!
-أنا" البطل الجميل" سأصارع الوحش "خمبابا" سأصفي حسابي معه ، سأخلص بني البشر من شره ، واعتداءته المتكررة !
أكلمه متظاهرا بالجدية ، فأشعر بالمسكين كادت فعلته تستقر في قاع مداسه ،والرعد يزمجر في دواخل أمعائه ربما سيكون خيره عميما ·فأهدئ من روعه :
- غابات الأرز ليست غير تلك الشجرة التي تقبع هناك : فرعاء، رعناء ،شعثاء منفوشة الأغصان !
يجب أن نعرف سرها، أن نكشف سترها ومستورها ،و لماذا يحرمها علينا الكبار دون البالغين من أبناء القرية ،أليس كذلك يا هذا ؟ 
يقاوم "أنكيدو "شرنقة الخوف تعبث بدماغه :
-نعم أيها" البطل الجميل " تذكر أنهم وجدوا في يوم من الأيام معزة سوداء متخشبة كالمومياء ، ولم يعرف سبب موتها إلى يومنا هذا ! إننا أصغر من هذه المغامرة يا صديقي ، يا بطل ، ياجميل!
أمسحه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه بنظرات عتاب حادة :
- أنت تخذلني يا "أنكيدو " وما فعلها "سانشا " يوما .وما تخلى شيبوب عن عنترة في محنه، فمالك أنت أجبن من الجبن ؟ 
- أنا معك يا بطل، ننجو معا أو نغرق معا فسفينتنا واحدة ، ولا فرق بين الراكب والربان!
"أنكيدو" ما تخلى عن البطل الجميل يوما في حروبه مع قوى الشر والظلام · 
ينتابنا شعور غريب و خيالات الأشياء تسيل على وجه الأرض ،معلنة رحيل ضوء النهار وحلول ليل غريب الأسرار.
نمتطي صهوة المغامرة ، بقلوب منتفخة لكن بعزيمة وإرادة تغذيها الرغبة في كشف المستور! نتسلل كاللصوص، نلتحف عباءة الليل ، وبصوت خافت يشوبه خوف وحذر شديد :
-إلى الأمام ، إلى تلك الشجرة، اليوم سنكشف اللعبة ، ونتحدى الكبار !
نعرف أنها مهجورة تماما ، لا تزورها كائنات النهارتجنبا لشرور عوالمها الخفية ،أما الكائنات الليلية : لا أعرف شيئا !كل ما أعرفه : 
أننا نقترب منها بخطى ثقيلة جدا وكأننا نسير في الوحل ٠٠ أ أشعر بقلبي يركل كالجنين في مختلف أنحاء صدري ، رأسي ينفش ريشه ، أفقد سمعي نسبيا،فيغمرني بلل بارد ،"أنكيدو" يتمسكك بي ، يشدني إلى الأرض ، يعوق حركتي ، أضرب يده الممسكة بي بقبضتي : -أتركني يا بليد ، لا تنس أنك في حماية "البطل الجميل " قاهر رجل الطوفان، ومروض خوارق الزمان ،أ أذكرك بمن أنا كلما خطونا خطوة؟ 
على رؤوس الأصابع الواهنة، نقترب من هذه الكتلة من الأسرار ،نتلمس جذعها نحسها تحضننا بقوة بين أغصانها وهي تكاد تلامس الأرض : كل ورقة من فروعها كائن حي متحرك ، يكاد يفصح عن أسراره ،نشعر بعشرات العيون جاحظة تمتص نور القمر الخافت، تخترق جسدينا الصغيرين كالسهام، ترقبنا، فنحس بها تجردنا من جلدنا عن عظمه ، ربما لم نعد نميز طبائع الأشياء لخوف و فرق كبير تملك منا الحس والحواس !
يعاتبني "أنكيدو "وأسنانه تصطك وتلتصق على بعضها : 
-ما كنت أقدم على مغامرة غير محسوبة العواقب ، لو لم تدفعني إلى اقتحامها دفعا يا "سليل الوركاء" !
أشعر "بالبطل الجميل" في نفسي، يرميني إلى ركوب الأخطار ،أما" أنكيدو" فلم يكن إلا تابعا من أتباعي أنا : قاهر الإنس والجان!
أشعر بماء بدلاء يسكب باردا على جسدي النحيف ، يسخن مخي ، يغلي يكاد ينفجر · "أنكيدو" أشعر به حملا ثقيلا علي: يشدني شدا و يمسح خوفه بثيابي ، وأنا أصلا عاجز عن حمل نفسي بنفسي! 
تهوي علي صفعة قوية من الخلف على قفاي وركلة على مؤخرتي ، تفقدني اتزاني و توازني وأكاد أسقط ، أعوي كذئب مسعور، يندحر "سليل الوركاء" في أعماق نفسي . أطلق ساقي للريح لا ألوي على شيء، أسابق الفراغ ، وفي حلكة الظلام اتمسك بالفراغ ٠٠ لم يعد يهمني أمر صديقي" أنكيدو " دون خجل من نفسي أتنكر له ، أتركه يواجه مصيره لوحده ، تلاحقني إستغاثاته ، يطلب مني النجدة وما أنا إلا نذل جبان ،يأتيني صوت المسكين ممزوجا بأصوات الأشباح تصم أذني فأمعن في العدو ثقيلا،أعدو ..أعدو لكن كنت تحت رحمة جاثوم يجثم على صدري ، أتركه لوحده يستغيث، يصرخ مرعوبا،تضيع صرخاته في خواء الهواء ،لم أعرف ما أصابه، تخفت صرخاته وتخبو وأنا ابتعد عن تلك الشجرة الملعونة،ثم تختفي تماما، كانت دقات قلبي تشل مني السمع بأكمله ،أصل إلى بيتنا وانا ألهث، أرتمي في حضن أمي ، تلقتط مني كلمات قليلة ، تركبها في سياق حسب فهمها و بسرعة البرق يبيض الرجل في قريتنا ،ينتشر الخبر كالحبر المسكوب على البردى :
الجارة الأولى، الثانية ، الثالثة ، ثم أم المسكين" أنكيدو"! تصم ولولتها الرادارات المفتوحة عن الآخر، تدب حركة دبيب زيت في خرقة بيضاء، تفتح الأفواه ، تلتصق باللاقطات الهوائية ،و تنطلق أول ردة فعل من بيت المسكين ، الذي ما كان علي أن أخذله ، بطولتي مزيفة ،أشعر أني أكثر جبنا منه، ف"سليل الوركاء" فقط خرافة !
بسرعة فائقة يعلم رجال القرية بأمر "أنكيدو" يختلط عويل النساء بنباح الكلاب بخشخشة الأعشاب اليابسة تحت نعال قادمة في أتجاه الشجرة ،تقاوم أنوار قناديلهم الزيتية الخافتة كثافة حلكة الليل !
يا للهول! "أنكيدو" مسجى، ممدد. بكل جسده الغض ،تحت جذع تلك الشجرة الملعونة ، يمتص نورالقناديل من حوله العتمة فأتبينه بوضوح : 
عيناه شاخصتان إلى سماء تلمع نجومها، لكن تحجبها الأغصان الكثيفة ، ثمة نذف ثلجية ناصعة البياض ،تغطي وجهه من الجهة اليسرى ٠
تقدم منه شيخ القرية ، وهو كبير رجالنا، وصاحب الحل والعقد في قريتنا، أقعى كالكلب قرب رأسه ، تترنح عكازته في كل الاتجاهات، كان يشعر بقلق قاتل،يتحسس منه مواطن نبضه ، سحنته صفراء حد الاخضرار ! تشرئب الأعناق ،تفغر الأفواه ، الكل ينتظر نتائج جس نبض المسكين ،يطرق كبير القوم رأسه ، يمعن في الإطراق ، تلتهمه عيون، تأكلها حرقة السؤال والتساؤل، بنبرة تخنقها الدموع :
-ماتزال خشبته ساخنة ،للتو أسلم روحه لخالقه ، عزاؤنا واحد يا جماعة !
يلصق الجميع رؤوسهم بصدورهم ، ويروحون في نوبة نحيب مكتوم ،تتمايل الرؤوس ، وتضرب الأكف بعضها بعضا ،و تلطم الوجوه حسرة واسى على فقيدي " أنكيدو "·
-وا مصيبتاه! مناقير كل الطيرو جوارح الأرض تنقر على رأسي نقرا ثقيلا ، يغلي صدري كالمرجل ، ألوم نفسي :
- أنا اغتصبت صباه ، ما سمعت بأبطال جبناء يخذلون في وقت الشدة ، لولا هذه الأحلام الصبيانية ،وهذا الرقص على السراب والتمسك بالضباب ، لكان المسكين الآن بين أهله وذويه وفي حضن والديه · 
ينبرى أحد المتطفلين، ويسأل الشيخ وينتشله من إطراقه وصمته :
- وماهوسبب هذه الوفاة الغامضة ياسيدنا؟! 
يداعب الكبير شعيرات لحيته البيضاء : - إنها قبلة يا قوم ، نعم إنها قبلة !
في اندهاش واستغراب يتساءلون : 
- قبلة ؟! قبلة ؟! القبلة تقتل؟! ما سمعنا بهذا!
-إني أرى على الجهة اليسرى من عنقه قرب منحره ، كدمات زرقاء داكنة ،وآثار أنياب،غيرطبيعية ! ومن سيكون غيرها يا قوم ؟!هذه القبلة/ عضة أفعى ، إنها اللئيمة، الشيطانة "بيذخ " بنت إبليس تمسخ أفعى ،لتهاجم ضحاياها، سترنا وستركم الله يا سادة !
- يا سيدنا إنها تسكن المرجة الزرقاء وتعيش بين أشجارالدفلى فماذا تفعل هنا؟
-عندما يجن الليل وتهيم هوامه ، تزور (ليليت) هذه العفريتة، اؤلئك الملوك الذين يعيشون في العالم السفلي تحت جذع الشجرة ، ربما في عنقها بيعة لهم ، فهم أيضا مثل البشر لهم الولاء لبعضهم ، ألا ترون أنهم يمسخون أفاعي وثعابين ،تملأ كل المكان نهارا ، تستمد طاقتها من نور الشمس .
-أي؟! أي؟!صح يا سيدنا : منذ بدأت هذه الثعابين تخرج من جذع هذه الشجرة ما رأينا فوقها طيرا يطير ٠٠ ولا حشرة تئز ٠٠ ولا أي شئ ، حتى أصبحت أغصانها منفوشة ،موحشة و مهجورة تماما !
-اسمعوا يا جماعة ، قبل أن يوارى جثمان هذا الطفل تحت الثرى ، ويجف ماء تربته، يجب أن تزول هذه الشجرة الملعونة ، إنها سبب فتنتنا نحن الكبار ، ومصدر قلق ورعب للصغار !
صاح آخر بغيض وحنق واضح :
- يجب أن تحرق هذه الملعونة واقفة بمن فيها ، لا تأخذكم بها شفقة ولا رحمة! نيرون أحرق روماوبشعبها وما التفت وما اهتم !
يبصق رجل عجوز يميناو شمالا ويتمتم بكلمات مكتومة متقطعة يبتلع حروفها :
-ألاترون أن مساكنهم تحت جذع هذه الشجرة وأخاف أن تجلبوا لنا كارثة عظمى، تحرق الضرع قبل الزرع ،الصغير قبل الكبير ،أخاف أن تحل بكم اللعنة!
يمسح كبير القرية وجه الفقيد بقطعة قماش أبيض و يصيح فيهم :
-يا قوم ،ربما هداكم الله إلى حل أمثل! فالكل يجمع على اجثثات هذه الشجرة الملعونة من قريتنا!
يصيح والد "أنكيدو " بنبرة حانقة غاضبة:
- الدم بالدم ، والدم لا يغسله إلا الدم ، السن بالسن ، والجروح قصاص ، لا أريد أن يضيع دم ولدي بين خلافاتكم ،لن يكون ولدي قشة تحت حوافر حمر حانقة ،فاليوم ولدي وغذا أولادكم. هي الأيام دول ،يا قوم !
يعم هرج ومرج، وتسود فوضى الصراخ : 
- المعاول ، الفؤوس ، المداري ، وكل ما تقدرون على حمله ، فلنقتلعها من جذورها قبل أول خيط من خيوط الفجر ،فمكانها فارغ خير لنا من وجودها المشؤوم !
تنتشرالأضواء الخافتة في شعاب القرية،جيش عرمرم من السواعد القوية ، تمتشق المعاول والفؤوس تقودها الرغبة في الانتقام إلى نهاية تلك الشجرة ، لم يشفع لها كونها كانت شاهدة على ميلاد قريتنا ! 
تحتضر تلك الشجرة تحت رحمة المعاول و والفؤوس،والفجر على وشك الانبلاج :
تستأصل من جذورها تتهاوى بعد شموخ وتاريخ طويل ،
تتلقفها الأرض ، يلفظ مكان الجرح منها سيلا من الثعابين والأ فاعي بمختلف أنواعها وألوانها وأحجامها ،تجتاح كل ركن من أركان قريتنا. وتمتصها شقوق البيوت أمام حيرة 
أهال فقدوا البوصلة، وأتلفوا رأس الخيط !
-بنبرة توبيخ وعتاب يصيح ذلك الشيخ الطاعن في السن :
- قلت لكم ستطاردكم لعنة هذه الشجرة البئيسة ستهجركم من منازلكم فاستعدوا للأسوء، على قمم جبالكم سينعق بوم خرابكم !
بقلم الأستاذ صالح هشام 
الرباط 25/ ماي / 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق