الأحد، 11 يونيو 2017

الجزء الأول / سياقات القصة بين القصيرة والقصيرة جدا // بقلم الدكتور المصطفى بلعوام // المغرب

الجزء الاول
٢- سياقات القصة بين القصيرة والقصيرة جدا.
إن أول إشكال يعترض بقدر ما تعرضه سياقات القصة يتعلق بمعنى مفهوم القصة ذاتها : هل تتوفر على تحديد مفهومي مستقل عن سياقاتها؟ وهل القصة في القصة القصيرة هي النوع ذاته في القصة القصيرة جدا وما شابهها؟ وهل من الممكن تلمس بعض معالمها في واقع عربي أدبي مأزوم يجري وراء كل شكل تعبيري جديد وغريب عنه ويبحث في نفس الوقت عن هويته وهوية قلق مصطلحاته النقدية ؟ 
مفهوم القصة هو قصة مفهوم ذي زئبقية سيمية جعلته يتوسط غالبية الأشكال التعبيرية الأدبية التي توحي بالاعتماد عليه وبتسييجه وفق معايير مقتضياتها من دون أن تحدد مكوناته ، كما لو كان مفهوما تعفيه بداهته من التعريف بكينونته : القصة الومضة، القصة القصيرة جدا، القصة القصيرة.. على أية مادة ترتكز عليها هذه الأنواع التعبيرية وتمتح منها معاييرها في تحديد هويتها الأدبية ؟ في قراءة أولى لمجموع التعريفات التي تصاحب هذه الأنواع التعبيرية ، يشكل مفهوم السرد فيها حجر الزاوية على مستوى المصطلح النقدي الذي يعتبرها "سردا أولا وحكائيا ثانيا". هي سرد لحكائية تسمى أيضا قصة على اعتبار أن لا وجود لحكائية أو قصة بدون سرد و سارد يحولها من أحداث بالقوة إلى أحداث بالفعل في اللغة وبلغة تنسج "وجودها". لكن هل السرد فيها له خاصية يتميز بها كي يميزها عن باقي أنماط السرد؟ وهل الحكائية قاسم مشترك لهذه الأنواع الأدبية كوحدة بنيوية لا تتغير فيها إلا من حيث طريقة توظيفها ؟ وما علاقته بأدبيتها ؟ أي أين يجد السرد معدل أدبيته ؟ 
هناك معطى عام للمصطلح النقدي المستثمر في لغة النقد العربية الحداثوية أو ما بعد الحداثوية: كل تعريفات مفهوم " السرد" تستقي تحديداتها على الأقل من ثلاتة مرجعيات تأسيسية، مرجعية رولان بارث ، مرجعية تزيفان تودوروف ، ومرجعية جيرار جنيت . إنها مرجعيات لها طبعا منطلقاتها الفرضية لتحصين"علمية" المفاهيم منهجيا وخلق آلية نظرية متكاملة وصورية " للسرد " ؛ وتناول المفهوم فيها بدون مفهومية النظرية التي يتأسس عليها لا قيمة له في الأصل بما أنه ليس بترجمة أو بإحالة على " فكرة " بل امتصاص من حيث هو مفهوم بالمعنى الذي تعطيه إياه ج. كريستيفا لمعرفة نظرية متواشجة مع باقي المفاهيم المكونة للحمتها. من أي معطى تنطلق هذه المرجعيات ؟ من لفظة لها تاريخ في تعدد الدلالة والإصطلاح في حقلها السوسيو-ثقافي الأصلي ؛ إنها لفظة " le récit " . ولها بالمقابل لَبْس في لغة النقد العربية التي تترجمها تارة بالحكي والسرد وتارة بالقصة والحكاية. وإن كان مشكل ترجمة المفهوم مسألة ذي أهمية نظرية تطرح إشكالية مفهوميته التي يحملها وتقتضي بالتالي تحيين عناصرها داخل جهازها المعرفي ، فإننا لن نتناوله هنا إلا بقدر ما تستدعيه إشكالية " القصة في القصة القصيرة " ومدى أبعاده " الأدبية " فيها. وعليه، سنستعمل مؤقتا لفظة " السرد " كمقابل للفظة " le récit ".
١.٢- مفهوم "السرد" وأشكلة " القصة ".
السرد من حيث هو نشاط إنساني سابق على تكوينه كمفهوم تجريدي ينتج معرفة بمكوناته. إنه معطى وجودي قبل أن يكون موضوع مفهوم ذي مفهومية مرتبطة بمفاهيم أخرى تحث إطار جهاز معرفي ما. ويمكننا أن نقول بتعبير مغاير لما قاله
رولان بارث بأن وجوده هو من وجود الإنسان في وجوده ، إذ لاوجود له بدون سرد لوجوده يبدع به طرق التعبير عن وجوده. بتمظهر في الأسطورة ، في مشهدية إشهارية ، في النكثة ، في محادثة حول أشياء الحياة... لا مادة للسرد غير الإنسان في وجوده أو كما تقول جوليا كريستيفا :"الحياة هي ذاتها سرد - أوقفوا السرد وتهددون الحياة نفسها". للسرد خاصية وجودية بوجود الإنسان ، لا يعرف تخصيصا أو حتى تجنيسا لمادة سرده في وجود أشكاله اللامتناهية، "ولا يبالي إن كان الأدب جيدا أو رديئا"(رولان بارث ). لكن إلى أي حد يمكن الحديث عنه بصيغة المفرد الجامع لكل أشكاله؟ هل تموضعه في الأسطورة وبالأسطورة هو الشيء ذاته في القصة القصيرة مثلا ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل هناك فرق بينهما في اختلاف تسميتهما؟ وإذا كان أيضا وجود السرد من وجود الإنسان ، فعلى ماذا نبحث عنه في شتى تمظهرات وجوده ؟ 
جواب واحد ووحيد : نمذجة بنيته الحكائية التي بواسطتها نقرأ كل أشكال تمظهراته واعتبارها "بنية رحيمية structure matricielle " لكل أنواع السرد . وذلك إنطلاقا من فرضية مفادها 
" ألا أحد يستطيع مشج ( إنتاج ) سرد بدون أن يرجع إلى نظام ضمني من الوحدات والقواعد"، وأن ظاهر السرد هو نتاج بنية يمكن استنباطها من " وحدتيه اللسنية والحكائية " اللتان تشكلان سطح المقاربة له. فيصبح مجال الحكي موضوع مقاربة كل أنواع السرد مع انزلاقات دلالية ناتجة عن ضبابية المفاهيم في الحقل الذي تشتغل فيه، وذلك بدءا من تسمية تزفان تودوروف له ب " la narratologie " التي ستفرض نفسها كحقل معرفي جديد للمتن الأدبي على حساب الاقتراح البارثي "science du récit ". الحكائية تحل محل السرد ذاته : narration --récit ولو أن اللفظتين يعنيان في أصل دلالتهما نفس الشيء. 
مالسرد le récit؟ وما علاقته بالأدب وتجنيساته الفرعية ؟ وهل يساعد في تحديد" هويتها" وهوية ما يميز موضوع شغلنا القصة القصيرة بباقي مشتقاتها في التسمية على أساس ما تيلور من من مفهوميات أنتجت حوله ؟ أي، ما علاقة السرد بمادته ؟ وهل مادته تشكل خاصية وجوده أم أن وجوده غير خاضع في تمظهرات وجوده لطبيعة مادته ؟
وعلى اختلاف المقاربات وإنتاجها لمفاهيم تخدم مصلحتها المعرفية داخل هذا " العلم الجديد " / la narratologie ، فمن السهل ملاحظة أنها
تنطلق كلها من ترسيمة أولية ثلاتية الأطراف :
١- السرد : le récit 
٣- القصة/الحكاية : l'histoire 
٣- الحكي / القص : la narration
يشكل هذا الثلاتي معادلة ذات مخارج متعددة تخضع للطرف والمعنى الذي نعطيه إياه، لأنهم لا يحملون معنى قارا يخول بضبطه الاعتماد عليهم "كمتغيرات مستقلة " . ما معنى "القصة " هنا / histoire؟ وهل لها ضوابط في ذاتها تعفينا من البحث عن معناها؟ في كلاسيكيات علم الحكي la narratologie الفرنسي بالأخص، كل سرد إلا وله بالضرورة حاكي narrateur وكل حاكي يحمل معه أو تحمله قصة histoire ، مما يفيد بأن السرد لا وجود له بدون قصة وحكي لها من طرف حاكي . لكن ما هي القصة ؟ هي الحدث أو مجموع الأحداث قبل أن تتحول إلى " مادة محكية chose racontée" كما يقول جيرار جنيت . إنها أحداث بالقوة من حيث هي قصة لكنها عندما تتحول بالفعل بفعل الحكي تصبح récit. وهو نفس منحى تزفان تودوروف الذي يعتبر بأن القصة لا وجود لها " في ذاتها "، هي وجود مجرد في افتراضية وجودها مع أن لاوجود للسرد récit بدون وجودها حسبه وجيرار جنيت. وهنا نلاحظ تقسيما اصطناعيا بينهما لأغراض نظرية يفرضها منهج اللسانيات الذي لا يقارب الشيء إلا بعد تحويله إلى مادة لسنية من حيث الملفوظ اللغوي. دلاليا، القصة histoire والسرد le récit وكذا الحكي narration يعنون نفس الشيء. اصطلاحيا، يتم التمييز بينهم من خلال علاقات الواحدة بالأخرى : لابد للقصة من حكي بما أنها قصة، غير أنها لما تحكى تصبح ملفوظا متلفظا، أي سردية حسب تعبير الأستاذ سليمان جمعة : كل سردية récit هي نتاج عمل الحكي narration في القصة وبالقصة histoire. ولا يمكن مقاربة الأخيرين إلا من خلال السردية كما يقول ج. جنيت، لأن غاية علم الحكي/ السرد في نهاية التحليل ليس هو القصة بما أن وجودها من وجود سردية تبلور وجودها تبعا لموقعتها للحاكي فيها وتقنياته الحكائية التي عبرها يخرجها حيّز الوجود اللغوي، ولكن غايتها المسكونة بهوس " العلمية " في مجال لا علمية فيه غير المنهجية هو نمذجة" القوانين التي تحكم العالم المحكي/ كلود بريمان" . 
وبناء عليه، فلا غرابة إن بنى هذه "العلم " طريقة تناوله للمادة الحكائية على تقسيم لسني محض يقتضي التمييز بين الملفوظ "énoncé" والتلفظ 
‏"énonciation"حيث يأتي إلى القصة كملفوظ قابل لتحليل لسني في علاقته مع التلفظ، ويحول محتواها إلى أفعال لوحدة بنيوية مكونة من فعل وفاعل كما حال " الجملة " في التحليل اللسني. معنى القصة يصبح مرادفا للملفوظ حيث تتغيب فيه تماما وتتحول إلى مقولات تخضع من بين ما تخضع له لمنطق الأفعال "(تودوروف). قد تختلف الكلمات/المفاهيم من محلل إلى آخر، لكنها ترتكز كلها على فرضية مفاد فكرتها بأن " دلالة الفعل" 
(ب. ريكور) هي كل ما يخدم مشروعها الرامي إلى نمذجة قوانين كونية مستقلة وقابلة الاستثمار في كل عالم المحكي. الشخصية في القصة مثلا لا قيمة لها إلا بما "تفعله" أو بالأفعال التي تقوم بها. نسميها " وظيفة " بدء من فلاديمير بروب أو نحشرها في شبكة من " الفواعل " مع غريماس ونفرغها من كل كينونة في وجودها التي لا تشي بها بالضرورة وفقط ما تقوم به من فعل أو أفعال.
وإذا كان صحيحا بأن المعنى في جملة هو أكبر مما تحتوي عليه من كلمات في اللسانيات، فإن الشخصية في القصة أكبر من أفعالها التي لا 
تختزل وجودها وإن كانت " من ورق" (ر. بارث). وصحيح أن عدة اقتراحات ستظهر في كثير من التحاليل للخروج من مأزقية هذه العلاقة الشكلية القائمة بين الأفعال وتهتم أكثر بطبيعة علاقاتها وماهيتها (ت. تودوروف)، بيد أنها لن تخرج عن منهجها التوصيفي إذ تختزلها إلى ثلات علاقات داخل ما أسماه تزفان تودوروف على سبيل المثل بالنعوت القاعدية les prédicats de base وهي : الرغبة والتواصل والمشاركة. هذه النعوت القاعدية لا تعبر إلا عن صبغة حالة موجودة في كل ملفوظ لغوي، وتوهم بالتحليل مع أنها لا تقوم إلا بالتوصيف. ولهذا السبب نجد أنه بالرغم من اختلاف المقاربات باختلاف مفاهيمها، فإنها لا تستطيع إلا ممارسة الموازنة في منهجيتها بين قطبي المستوى الوصفي والمستوي التأويلي، بين البنية السطحية والبنية العميقة... تسعى جاهدة أن تقلص من مسافة العلاقة بينهما لتبرهن على نجاعة نهجها. وعلى هذا النحو يأخذ علم الحكي نهجه حيث يموقع دراسته الوصفية للنص بالنظر إلى مكونات الحكي فيه وعلاقة الحاكي بالقصة وشخوصها. النص سردية والسردية ملفوظ لغوي والملفوظ اللغوي عالم أفعال لفواعل مجردة داخل ما يمكن تسميته "لعبة شطرنجية الحكي ". مما يسمح لنا بتسجيل النقط التالية :
أولا : إن علم الحكي لا يهتم بنوعية السردية من حيث التجنيس بل بأنماط وأدوات حكي القصة فيها سواء أكانت رواية أو قصة قصيرة ..
ثانيا : علم الحكي ليس تعويضا نظريا للأدب ولا علما يحل محله لدراسة الشأن الأدبي فشأنه هو الشأن الحكائي إذا جاز التعبير ..
ثالتا : إن مشروع نمذجة قوانين الحكي الكونية يحمل في ذاته فشله بسبب فصله للملفوظ عن سياقه السوسيو-لسني واعتباره لمفهوم السببية فيها مقولة مجردة من كل مرجعية ثقافية ، توجد في ذاتها ولا تتأثر بسابق ولاحق الأحداث التي تربط بينها في فهمهما : " إن منطق الملفوظ لا يمكن أن يعتبر كليا بمثابة منطق كوني لكونه يبقى هو أيضا خاضعا للثقافة ويوظف من أجل محتوى ثيميائي يحمل السببية. إنه منطق ثقافي وليس بكوني يحكم كل تراتبية الافعال. فتراتبية الأفعال وكذا العقدة في القصة لا يعنيان إلا لمن يمتلك الثقافة الضرورية لفهم وحدتهما الكلية ". مما يعني أن السببية ذاتها نسبية تخضع لمنطق الثقافي في ملفوظاته وأننا لا يمكننا الحديث عن قوانين كونية . لأن هذه الأخيرة لها مستويين من التنظيم كما يقول كلود بريمان نفسه : "أولا، إنها تعكس قيودا منطقية تتجلى في أية عينة أحداث منظمة بصيغة سردية تحترمها كي تكون مفهومة ثانيا ، إنها تضيف على هذه القوانين الممكنة في كل سردية مواثيق عالمها الخاص التي تميز كل ثقافة، وكل حقبة، وكل نوع أدبي (..) أو، إلى حد ما، تميز السردية وحدها في ذاتها".
منطق الحدث/ الأحداث هنا متذيل بحالة سياقية هي بالضرورة ثقافية ( أي أن كل ثقافة متفردة في خصوصيتها) أو نوعية ( أي أن كل سردية لها خصوصيتها في أحاديتها ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق