الأحد، 11 يونيو 2017

الجزء الثاني // التجنيس الأدبي والسردية // بقلم الدكتور : المصطفى بلعوام // المغرب

الجزء الثاني
٢.٢ - التجنيس الأدبي والسردية
من منطق العبث، كل ما ينهض عليه الكلام سرد، مادام وجود هذا الأخير من وجود الذات التي لا توجد وتحقق وجودها إلا بالكلام وفِي الكلام. فأنا بمجرد ما أتكلم ، أحكي ، تقول جوليا كريستيفا. لكن هل السرد له وجود في ذاته بعيد عن وجوده لغير ذاته ؟ إنه نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورتها اللغوية، يقول عز الدين إسماعيل . فكرة جد بسيطة كبساطة وجود الذات التي لا توجد إلا بترجمة الحادثة باللغة أو بطرق تعبيرية اخرى. حتى الخطاب العلمي في ألاعيب لغته الفجة سرد، يشير غريماس. كل شيء سرد بما فيه ما نكتبه نحن حول ما يقال حول السرد. هذا هو الاتجاه الانجلو-سكسوني الذي يعتبر السرد خاصية عامة وليست حالة خاصة لنوع تعبيري محدد ، عكس الاتجاه الفرنسي على الأقل في بداياته الذي حصره في التعبير الأدبي. لكن هل فعل السرد هو السرد ذاته في حصيلته أي بما نسميه السردية؟ السرد سرديات والسرديات تعيد ربط الأحداث وتعطي معنى إلى الأشخاص لما يحدث لهم في الزمن، يقول ب.ريكور. وبناء عليه، ليس هناك سرد واحد في ماهيته وطبيعة سرديته كما ليس هناك وحدة عضوية بين موضوع السرد وما ننتجه من معرفة وإن ادعينا كشف بنيته. هل البنية السردية التى نمذج جيرار جنيت عناصرها نظريا من رواية " في البحث عن الزمن المفقود" أو تزفان تودوروف من " الارتباطات الخطيرة " هي استخلاص منها ولها، لا غير، أم أنها بنية متعالية بمعنى أن لها وجودا مستقلا ولا مناص من وجودها في كل رواية ، وبالتالي في كل ما هو يحسب على السرد الموسوم بالإبداعي؟ هنا إشكال علاقة التنظير بالأدبي وأدبية أدبه معه. التنظير يتحول الى معيار تستقي منه كل كتابة إبداعية شرعية وجودها الأدبي . وبشكل ضمني يصبح النص الادبي نصا سرديا يختزل ما فيه إلى لعبة شطرنجية تحصره بموقعة الحاكي أو
الراوي مسبقا من خلال ما يطلق عليه بالرؤية السردية : الجهة الخلفية ، الخارجية، المصاحبة. ولا أدل على ذلك من كثرة تشابه الروايات العربية الحديثة في استنساخها للشطرنجية السردية. نصرح كما يفعل جيرار جنيت بأن " السردية لا تمثل قصة بل تحكيها، بمعنى تدل عليها عن طريق اللغة.. فلا مكان للمحاكاة في السردية ".
ولكننا في نفس الوقت نخضعها لنمطية الحاكي أو الراوي كضرورة من ضرورات السرد مع غض النظر عن علاقته بالجنس الأدبي الذي يستدعيه في اشتغاله به وعليه. نمطية تقسم معرفة الراوي أو الحاكي إلى أربعة وجوه : مطلقة / محايدة / متعددة / أحادية. وهي في ملخصها تدور حول معرفة الحاكي بالشخصيات : - الذي يعلم كل شيء/أو الذي لا يعلم إلا ما تعلمه الشخصيات/ أو الذي يعلم أقل مما تعلمه الشخصيات. نتناول الراوي أو الحاكي في علاقته مع ما يعرفه أو لا يعرفه كنموذج لما نتصوره حول ما بإمكان الذات أن تعرفه أو لا تعرفه مع ضرورة إقصاء المعرفة المطلقة للراوي ليبدو الأمر مقبولا " وواقعيا" كما يذهب إليه الانجلو- سكسيون. وهو ما بدأ أصلا مع ميخائيل باختين في بوليفونيته التي ترى أن كلام الشخصية يجب أن يكون مطابقا لمستواها الثقافي والاجتماعي. لا ننظر إلى السرد في ما يخلقه ولكن نقارن تخييليه بواقعية حقيقة واقعه، ولكأن المحاكاة ومرجعية الواقع لازمتان خفيتان منهما ننطلق وإن سعينا إلى تفادي صورهما بمحاولة مقاربة " النص السردي ولا شيء غير النص السردي ". والمسألة جد بسيطة تعود إلى كون أن لا وجود لمقاربة أو لمفهوم "حيادي ". فكل مفهوم ينتج على أرضية معرفية معينة. الواقعية الماركسية في أيديلوجيتها كانت ظلا خفيا في دراسة ميخائيل باختين ، ومفهوم السرد ذاته أو السردية يمكن دراسة الأرضية السياسية التى أنتجته في حقله الابيستمولوجي . 
السردية تكتب كما يقال على شكل قصة ورواية أو نوع أدبي أخر شريطة أن تحتوي على قصة ما. كل الأنواع الأدبية التي "تدل" عليها يوحدها إذن حكي قصة. لكن ما هي طبيعة لغتها ؟ من حيث هي سردية لقصة، لغتها هي "لغة الحكي" التي لا دور لها غير إيصال المعلومة من خلال ما تقوم بها الأشخاص من أفعال تحملها ملفوظاتها اللغوية . وما هي أيضا طبيعة القصة فيهم؟ وأين يكمن الفرق بينهم ؟ هنا، تطرح مسألة التجنيس الأدبي ووفروقاته النوعية التي تنزلق بالضرورة في التاريخ ، أي تتغير وفق خصوصية كل مرحلة تاريخية. أنواع ادبية تنسحب ويسحب بريقها لأخرى تأخذ مكانها على الواجهة. كيف يتمظهر ذلك في الساحة الأدبية العربية من خلال جنس القصة في السردية؟ وما هي إشكالاتها العامّة؟
٣.٢ - القصة في السردية وعلاقاتها بجنس القصة الأدبي.
يقول الأستاذ محسن الطوخي في إحدى تعاليقه حول القصة القصيرة : " القصة القصيرة كنص أدبي هي عمل في اللغة . وهي كأحد فروع الفن عمل جمالي موضوعه الإنسان " ، بمعنى تجربة إنسانية في حدود إطار معمارية فن القصة من "أركان وخصائص معلومة ". ويضيف على أن إضافة اللفظ "جدا" عليها ليس مبررا لنسبة ما يكتب من خواطر وتهويمات إلى القصة القصيرة.
بينما يؤكد أحمد جاسم الحسين : " وفيما يخص القصة القصيرة جدا، فإننا نؤكد من جديد إنها قصة أولا، وقصيرة ثانية." وفِي إطار عام تقول سعاد مسكين :"القصة القصيرة جدا نوع سردي يندرج ضمن جنس كلي عام هو القصة "؛ كما يقول يوسف حطيني : "إن القصة القصيرة جدا نوع أدبي مستقل، له أركانه تميزه من الأنواع التي تنضوي تحث جنس النثر الحكائي كالقصة القصيرة والرواية وغيرها ". أما القصة -الومضة فلها تعريف مجمع عليه إذ تعتبر قصة تتكون من عنوان وجملمتين وبينهما فاصلة منقوطة.
نكتفي بهذه التعريفات التي نعتقد بإنها تلخص جوهر معضلة القصة في السردية وعلاقاتها بها. ويمكن أن نستشف منها الطروحات التالية :
*القصة القصيرة عمل في اللغة داخل معمارية فنية محكومة بأركان وخصائص تخدم " قصتها" المرتبطة " بالتجربة الإنسانية ".
*القصة القصيرة جدا " قصة "، ثارة من نوع سردي ينتمي إلى جنس القصة، وثارة أخرى من
نوع أدبي تنضوي تحث جنس النثر الحكائي.
*القصة -الومضة هي قصة في ومضة.
إن السؤال الإشكالي الذي يقلق هذه الطروحات عن قرب أو بعد هو : هل القصة في القصة هي التي تحدد " هويتها " الأدبية بغض النظر عن حجم مساحتها ونوعيتها؟ وماذا نعني بالقصة فيها؟ 
القصة بجميع أنواعها تعتبر جنسا أدبيا تعتمد على قصة une histoire، تشكل في النهاية أسها حيث منها وبها تستقي كيونتها إلى درجة أن الفارق بينهما على الأقل في أدناه النظري يصبح تحصيل حاصل. ويستفحل الأمر عندما نترجم histoire إلى حكاية والقصة إلى سرد الذي يعني في نفس الوقت قصة récit ويغيب مفهوم القصة ذاته في حلقة مفرغة بدون معنى.
في محاولته لتحديد هوية القصة القصيرة جدا السردية يكتب يوسف حطيني وحسب السرديون كما يقول : " أقصر قصة يجب أن تتألف من واقعتين [..] لننشيء أصغر حكاية ممكنة". وبناء عليه، " فالقصة القصيرة جدا يمكن أن تحتمل واقعتين أو ثلاتة أو أربعة.. أو عشرا، مع ضرورة الإكتفاء بوحدة نصية واحدة Lexia ، قد تطول قليلا، ولكنها تكون أصغر مساحة حكائية". هنا القصة ليست هي الحكاية من حيث الدلالة التي تكتسي ترادفهما معا، هما فضاءان في علاقة احتواء : أصغر حكاية في أقصر قصة وأقصر قصة لأصغر حكاية ممكنة. وهكذا تكسب القصة التي تتكون على الأقل من واقعتين شرعية قصة قصيرة جدا بواسطة قياس أرسطي في البرهنة المنطقية : - كل قصة تتكون من واقعتين على الأقل. - القصة القصيرة جدا تتكون من واقعتين على الاقل. - القصة القصيرة جدا قصة. إنها برهنة منطقيه تستند على إنزلاقة دلالية تقوضها في العمق لفظة " قصة " التي يشترط وجودها بوجود حكاية. فإذا سلمنا بأن القصة تتكون على الأقل من واقعتين ، فهذا يعني من حبث الشرط المنطقي أن الحكاية تتكون من واقعتين ،وبالتالي تعني الحكاية القصة والقصة القصة القصيرة جدا والقصة القصيرة جدا الومضة. ماذا يقول السرديون؟ 
أولا : يختلفون فيما بينهم حول تثبيت ما يمكن أن يكون أصغر حكاية ( histoire ) وفِي نفس الوقت أقصر قصة ( récit ).
ثانيا : مرتكزهم الأول هو القصة وليس الحكاية على اعتبار أن الأولى تأمين " تعبيري " للثانية التي لها معاني متعددة حسب سياقاتها المنتجة لها. 
ثالتا : الواقعتان اللتان يتحدثون عنهما يخصان "القصة " récit من حيث هي وحدة عضوية لها والتي لا تكون في ذاتها نوعا أدبيا يستقي منها شرعيته، لأن أصلهما هو من اصل "القصة" في وجودها إذا اتفقنا مع فرضيتهم التي لا يتفقون فيما بينهم على صحتها.
نلاحظ إذن أن ربط " القصة " récit بالحكاية وتحديد وحدتهما الصغرى في " واقعتين " معبر عنهما "بتعبير سردي" هو من قبيل التحليل فقط وليس التجنيس؛ والبحث فيها عما يشكل أدناها le récit minimal هو استجابة لقواعد بنيوية لسنية لا يهمها طبيعة الجنس الذي تشتغل عليه بقدر ما يهوسها الجري وراء طوباوية اكتشاف قوانين عامة وجوهرية متخلصة من اللغة ذاتها ومن اختراق التاريخ لها. فتحليل "أدنى القصة " في الأسطورة عند ليفي ستروس يختلف على ما هو عليه عند جون ميشال آدم العالم اللسني في تحليله للخرافيات ( les fables ) وللحكايات ( les contes ). 
لنفرض أن أدنى " قصة " récit لا يمكن لها إلا أن تتكون من واقعتين ، فما علاقتها " بالحكاية " histoire ؟ وما معنى تشديد يوسف حطيني على أن أقصر قصة، من وجهة نظر السرد، يجب ألا تتخلى عن حكايتها. وبعبارة أدق، هل بإمكان القصة التخلي عن حكايتها؟ وما علاقة كل هاته الإنزياحات النظرية بالقصة القصيرة وأحجامها؟
يقول أ.الطنطاوي في حوار له : " ماذا يمكن أن تقدمه (حكاية) بضع أسطر في القصة القصيرة جداً، وما الغاية من هذا الاختصار الذي سيكون مخلا." مما يعني أن ( حكاية ) في بضعة أسطر لَيْسَت شرطا من شروط القصة القصيرة جدا ولا " غايتها " وإن احتوت عليها، عكس ما هي عليه في القصة القصيرة كما يؤكد أ. الطنطاوي. لنا هنا رأيان مختلفان غير أننا لا يمكن فهم سوء-فهم اختلافهما إلا بالتوقف على أس المصطلحين اللذين يعتمدان عليهما في تكوين وجهة نظرهما: القصة والحكاية. يستعملان مفهوم " الحكاية " وكأنه بداهة أو مقولة قبلية موجودة في ذاتها من ذاتها. الأول يجعل من الحكاية، متبعا كما يقول السرديين، لازمة من لوازم القصة القصيرة جدا، والثاني يرى بأنها ثانوية فيها بما أن تقزيمها في بضعة أسطر مخل بها. لكن عن أي مفهوم أو على الأقل اصطلاح للحكاية يتعلق الأمر؟ عود على بدء .. نترجم histoire بالحكاية و récit بالقصة وبين الحكاية والقصة تتوه خيوط معنى القصة في جنس القصة الأدبي ونخضع لانزلاقة دلالية تتحول فيها دلالة المصطلح الأصلية إلى دلالة مغايرة في الترجمة ومغيرة لأصل مفهوميته.
كما رأينا مع ت. تودوروف، مصطلح histoire هو تجريد لا يحيل على مادة محددة تحدده. فما يحدده هو ما يعطيه " للمشاهدة " إذا استعملنا تعبير ر. بارث. وما يعطيه للمشاهدة هو ما حدث الذي لا يشكل في ذاته حكاية أو قصّة. لذا فهذه الأخيرة لا توجد "في ذاتها" حسب ت.تودوررف،
لأن ما حدث هُو حادث منفتح على حدوث اللغة التي تحمله في سرديتها. ولئن عدنا إلى بعض السرديين ، فإننا نجدهم يفصلون ما بين القصة أو الحكاية histoire و السردية récit من كون أن الأولى هي عبارة عن أحداث وواقعات محكية والثانية تتكون من ملفوظات حكائية ، بمعنى أن الأحداث والواقعات يمكن ترجمة ملفوظاتها في بضعة أسطر أو عدة صفحات (ج. جنيت). وهي لاتعني diégésis التي غالبا ما نجعلها مرادفة لها في المتن الأدبي... ذلك الخلق التخييلي الذي تنهض عليه بدون أن نستطيع تحديد معالمه فيها ومنها. وسبب التشويش في تناول جنس القصة يعود إلى هذه الترجمة الشقية لمصطلحي récit بالقصة و histoire بالحكاية حيث تفضي إلى نوع من البلية المفاهيمية والمزايدات الفكرية التي لا دعامة لها في منهجية إنتاجها. فنجعل القصة récit هي القصة ذاتها لا فرق بينها وبين جنس القصة الأدبي في حين أنها خاصية فيه تخضع لشروطاته، فليس كل récit يمثل قصة أدبية لكن كل قصة أدبية هي سردية حسبما تستلزمه هي من شروطات. ونجعل من ترجمة histoire إلى حكاية هي القصة ذاتها مع أن لها عدة دلالات غير مرتبطة بها في مجال القصة الأدبية. فليس بها ومنها وفي ذاتها يتحدد النوع الأدبي الذي يشتغل عليها وبها، لأنها تعبر مجازا كل طرائق التعبير. ماذا تفعل الفلسفة مثلا؟ إنها " تَخلق المفاهيم ، يقول جيل دولوز ، وبخلقها ذاك تَخلق قصة لها." 
لا يكفي القول إذن بأن القصة القصيرة جدا هي قصة أولا وقصيرة ثانيا (أحمد جاسم الحسين )، ولا على أنها نوع يندرج ضمن القصة من حيث هي جنس كلي عام (سعاد مسكين) لنعتقد بأننا 
تخلصنا من لفظة "جدا" وجنس القصة القصيرة ذاتها، بل على العكس من ذَلِك، إنه يدخلنا في حلقة مفرغة من كل معنى لمعنى "قصة، من قبل أن تتحول إلى قصة قصيرة ، قصة قصيرة جداً أو قصة ومضة. ولعل هذا ما جعل ا. الطنطاوي يقول بأن اعتقاد الجميع بكون " كلمة (جداً) هي مجرد اختزال وتصغير وتلخيص للنمط أو الشكل السابق ( القصة القصيرة ) هي إهانة للقصة القصيرة جدا ". وما جعل م. الطوخي يشدد هو الآخر على أن " إضافة لفظة "جداً " ليس مبررا لنسبة ما يكتب من تهويمات وخواطر إلى القصة القصيرة ". لماذا تحمل القصة القصيرة تسمية قصيرة ؟ وما علاقة الثلاتي قصيرة /جدا/ ومضة بالقصة كنوع أدبي يراد له أن يراود قصة/حكاية histoire بالمعنى الذي نعطيه إياها حتى تكون قابلة لشرعنة ولو نظريا لما نبتغي منها ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق