الأحد، 11 يونيو 2017

الجزء الثالث // حدبود الاستدلال ومحدداته في الانواع الأدبية للقصة // بقلم الدكتور : المصطفى بلعوام // المغر

الجزء الثالت
___________
٣.٣ - حدود الاستدلال ومحدداته في الأنواع الأدبية للقصة.
يتعلق الأمر هنا بالبحث في منطق المفاهيم التي من خلالها يسعى كل نوع أدبي أن يوطد معالم هويته ويعطيها شرعية معرفية من حيث التنظير. همنا مفهومي بالدرجة الأولي : تقصي إنتاجية ملفوظات المفهوم المعرفية في النوع الأدبي الذي يستدعيه للاشتغال عليه ومساءلة نجاعة إجرائيته المفهومية، ننظر إليه في ذاته من حيث هو تجريد نظري ذو بنية معرفية تمنحه نوعا من الاستقلالية في مثالية ما يتوجب أن يكون عليه النوع الأدبي وليس في علاقته بما هو كائن من كتابة إبداعية. لن نبحث عنه إذن فيما يكتب ولا باللجوء إلى متن أدبي يشهد عليه كما يستشهد به بل سنبحث فيه هُو لاستجلاء ما يكون بنيته المعرفية، على اعتبار أن وجود المفهوم من وجود بنية مثالية فيه ووجود المتن الأدبي من وجود مثالية تشكل أفقا لوجوده. 
وعليه، فكل نوع أدبي له مفاهيم خاصة به تشكل له مثالية في وجوده وأفقا لكل متن أدبي يناشده في أن يكون وجوده فيه من وجوده، بمعنى يحققه ويتحقق داخل فضاءه. 
توضيح نظري لابد منه لاجتناب على الأقل ثلاتة مغالطات في المنهجية:
أولا، مغالطة الموازنة بين أنواع أدبية متباينة وغير
متجانسة من حيث معماريتها وخلفياتها النظرية، إذ تأخذ عامل المفاضلة قاعدة لها في موازنة من هو أكثر قيمة، فتتحول، بالتالي، القيمة إلى حكم قيمة لا قيمة له. هل القصة القصيرة أقل أو أكثر قيمة من القصة القصيرة جدا؟ سؤال بدون قيمة في غياب القيمة المطلقة لأي نوع أدبي. ولئن كنا نرى استقبالا على نوع أدبي معين، فهذا لا يدل على أن له قيمة في ذاته غير متوفرة في الأنواع الأدبية الأخرى، فقط يعبر عن قيمة ظرفية برانية عن قيمته الذاتية. والدليل أن كل ظرفية تاريخية لها حاجاتها في أساليب التعبير التي تتغير وفق تطورها. ماكان له قيمة ظرفية يترك مكانه لنوع آخر يستجيب في قيمته لظرفية آخرى ليس إلا.
ثانيا، مغالطة الاستدلال في المقارنة بين مثالية نوع أدبي ومتن أدبي لنوع أدبي آخر، بين مثالية القصة القصيرة جدا ونصوص للقصة القصيرة وكأنها تمثل مثاليتها، مع العلم أن لكل نوع أدبي مثاليته التي لا تتحقق على الإطلاق في أي متن ينضوي تحثه.
ثالتا، مغالطة جعل مقدرة الكاتب الإبداعية عاملا قيميا نعود إليه حين نعتبر متنه "غثا" داخل نوع 
أدبي ونقصيه إذا كانت نفس الحالة تخص نوعا أدبيا آخر. وهكذا، متن "غث" لقصة قصيرة جدا نحيل سببه على قصور مقدرة الكاتب الإبداعية، ولقصة قصيرة نستدل به من أجل تقويض نجاعة القصة القصيرة في مشروعية فنيتها الأدبية.
ماهي المفاهيم التي تختزل البنية المثالية لكل من القصة القصيرة جدا، والقصة الومضة، والقصة القصيرة؟ وعلى أي أساس معرفي تستند؟ لكن ماذا نعني قبل كل شيء بالمفهوم؟
المفهوم إجابة واستجابة معرفية لمواضيع مشكلة داخل منظومة نظرية يستمد منها ويمدها جدليا بالمعرفة التي تحتاجها، لا وجود له في غيابها ولا معالم تحدده إلا بما يقتضيه وجودها بما أنه في العمق يتوخى خلق إجابات محتملة لها. ونقصد بالمفهوم هنا، ليست دلالته اللفظية، وإنما عالمه المعرفي الافتراضي الذي يشي بِه بقدر ماينتجه في علاقته بمفاهيم أخرى داخل منظومة نظرية، له زخم حياة يخترق بفضلها حقول علوم متباينة الموضوع، والمنهجية، والابستمولرجية. ولذا، فكما أن للغة ذاكرة ثقافية ( ر. بارث )، فللمفهوم أيضا ذاكرة معرفية وتاريخ : نظامه من منظومة معرفية ( نظرية ) يستمد منها ويمدها بمعرفة في علاقته بالمفاهيم الأخرى التي تكونها.
١.٣.٣- ملفوظات مفاهيم القصة القصيرة جدا
ما هي ملفوظات مفاهيم القصة القصيرة جدا ؟ وعن أي مشكلات تروم الإجابة عنها في تحديد نوعها الأدبي؟
تعتبر القصة القصيرة جدا حديثة العهد إلى حد ما، وكما شأن كل حديث، فإن مشكلتها تمحورت في البدء حول شرعيتها الفنية من حيث هي نوع أدبي مستقل في هويته، مما ترتب عنه غزارة في التقعيد المفاهيمي، لدرجة أن كل كاتب له معاييره ومفاهيم خاصة به لتحديد"حقيقة " هوية القصة القصيرة جدا. نوع أدبي جد قصير في مساحته بيد أنه خلاق لمفاهيم تقصي بعضها البعض في بحثها عن هوية مفاهيمية قارة له. من أين نبدأ ؟
وهل هناك تماسك نظري في ظل مفاهيم متنازعة فيما بينها حول من تكون الأقرب على حمل صفة المفهومية لهوية القصة القصيرة جدا؟ حتما، لن نأتي على جميع ما قيل حولها بما أن غايتنا هي البحث في احتمالية المفاهيم التي تحمل بنيتها المثالية. ولن يكون خيارنا إلا نهجا انتقائيا يستند على منطق البدء بالبسيط في اتجاه المعقد بغية محصلة نظرية عامة. 
يحصر كلا من ج. الحسين وي. حطيني القصة القصيرة جدا في عدد قليل من المقومات، أربع مقومات بالنسبة للأول : 
- القصصية، الجرأة ، الوحدة ، التكثيف.
وخمس مقومات بالنسبة للثاني: 
- الحكائية، الوحدة، التكثيف، المفارقة، فعلية الجملة.
ثلاتة ملفوظات مشتركة بينهما: التكثيف/الوحدة/ القصصية ( الحكائية ). وتلاثة متغيرات، واحدة بالنسبة للأول ( الجرأة )، وهي من ملفوظها تعبر عن"حالة سلوكية"أكثر منها لازمة نصية؛ واثنتان بالنسبة للثاني حيث الأولى تحتوي على حمولة معرفية في ذاتها تتقاطعها حقول معرفية متعددة (المفارقة)، والثانية شرطية لغوية للجملة فيها ذات بنية تتكون من مسند ( فعل ) ومسند إليه (فاعل)
يمثلان الحد الأدنى لها، فعل يكتفي بفاعله مع صلاحية الإسناد في الدلالة على الحدث والزمن وفاعل لا يتعداه فعله ( سيبويه). ما طبيعة علاقة التكثيف بالمفارقة ؟ وهل المفارقة تمثل فقط وجها أسلوبيا في القصة القصيرة جدا أم عمودا فقريا لبنيتها؟ ولماذا التقعيد للجملة الفعلية وما علاقتها بالتكثيف؟ 
عماد المفارقة حالة صراع لفكر يزواج بين فكرتين صائبتي المحمول من حيث المنطق لكن علاقتهما تناقضية من حيث المظهر. إنها في ذات الوقت وجه وأكثر من وجه أسلوبي في القصة القصيرة. تستدعي الفكر وتؤزم منطقه الاعتيادي للحقيقة: "الحقيقة توجد في المفارقة، والأدب هو بجوهر الحقيقة ، مادام مفارقاتيا بالتعريف ولا مرجعية له غير ذاته (...) وحتى عمليات الحكي، فإنها لا تحيل على أدوات سردية متعددة الاستعمالات، ولكن إلى فلسفة"، يقول ميشال كروزي. مفهوم المفارقة ذو بنية معرفية تقتضي مبدئيا اسكتناه طبيعة مواضيعها وكيفية تشكلها كأحد المقومات المهمة للقصة القصيرة جدا. هل يطالها التكثيف؟ 
قد نفترض بأننا أمام تكثيف قصصية مفارقة أو قصصية مفارقة مكثفة بلازمة جملة فعلية تقصي التركيب بالربط (السبيبة، التعليلية) وتنهض على التركيب بالارتباط ( إدراكها بتصور ذهني)، بنية الجملة فيها مركبة من فعل يكتفي بفاعله وبدون جمل وصفية وإسمية. لكن أين يكمن التكثيف؟ وما هو الحدث في الجملة وعلاقته بالحدث في القصة؟ 
أسئلة تثيرها المقومات القليلة المقترحة من لدن ج. الحسين و ي. الحطيني. وتفرض علينا من حيث المنهجية تعميق الإشكالية التي تطرحها القصة القصيرة جدا حول فرضية تعالق التكثيف فيها بوجوب مساحتها النصية ( قصيرة جدا). لنحاول ، ولو نسبيا، تقصي مجموع المواصفات التي غالبا ما تتكرر عند الحديث عن خصائص القصة القصيرة جداً، وذلك بتقسيمها وإدراجها في فصول توحد على الأقل فضاء دلالاتها:
فصل ١: التكثيف، الترميز، الإيحاء، الإيماءة . الاقتصاد، التدقيق، التركيز، الاختزال، شعرية اللغة، اللغة التيليغرافية، بلاغة الانزياح، التلميح، الرمزية المباشرة وغير المباشرة، سمات الحذف والاضمار، التصوير البلاغي..
فصل٢: الإدهاش، الإشراق، الإشعاع، الومضة، الشحنة، اللحظة الحرجة، الإثارة، النهاية المباغتة ذات الوقع الجمالي، التوثر المضطرب...
فصل ٣: القصصية المختزلة، الوحدة، المقصدية، الحجم القصير جدا..
فصل ٤: المفارقة ، الثنائية الضدية، التناص، الأسطورة ..
نلاحظ أن كل فصل هو ذاته إشكالية تتجاوز هم القصة القصيرة جداً في بحثها عن هويتها. في الفصل ١ تطرح إشكالية اللغة في الإبداع ومدى قابليتها للتخصيص بالشكل الذي تتتفرد بكينونة تعبيرية استثنائية لنوع أدبي لا غير. إشكالية لغة في لغة الإبداع وطبيعة صياغاتها اللغوية. وهي نفسها التي تنعكس على إشكالية الفصل ٢ من حيث مفعولاتها (إدهاش، إشراق..)، أي إشكالية فاعلية اللغة ومفعولها. أما الفصل ٣ فهو يطرح إشكالية المساحة النصية وعلاقتها بالقصصية المختزلة من حيث أنهما جوهر القصة القصيرة جدا، قصصية مختزلة في مساحة ضيقة لاسبيل لها في ذلك إلا بمقومات الفصل١. وفيما يخص الفصل٤ فهو يحمل نفس الإشكالية التي أشرنا لها سابقا. 
يمكننا محورة هذه الفصول في أربعة إشكاليات معرفية متشابكة : 
١- مشكلة اللغة ولغة اللغة في الإيداع 
٢- مشكلة الفكر بين اللغة والحقيقة في المفارقة 
٣- مشكلة القصصية في القصة كنوع أدبي
٤- مشكلة المساحة النصية
١- اللغة ولغة اللغة في الإبداع
تكاد تكون القصة القصيرة جدا قضية لغة ، بها تنحت هيكل مساحتها ومنها تستقي استدلالاتها وفيها تبحث عن هويتها، وذلك باللجوء إلى جدول عملية الطرح من الجمع لكل ما يقاسمها الإبداع باللغة وفِي اللغة ( القصة القصيرة، الرواية...)، لتتوصل إلى أضيق مساحة لقصة قصيرة جدا. عمق ما تصبو إليه هو خلق علاقات متوثرة في بحثها عن كثافة "تجويعية" بين المساحة واللغة داخل فضاء زئبقي يشترط وجوده بوجودهما ولا يكتسي منهما بشكل مفارقاتي هوية وجوده إلا بهما؛ فضاء افتراضي للغة تحيا من التجويع فيه ولمساحة تقول بكلماتها أكثر ما تعطيه من دلالة أولية في ترابط بعضها البعض. 
كيف يتم ذلك ؟ وما الذي يسمح بأن تتحول اللغة إلى أداة وغاية لغاية هي عاجزة أن تعطيها صك
الدليل والاستدلال ؟ 
بدءا،حجم ما نريده من المساحة هو أولا وقبل كل شيء عملية مرتبطة أساسا بفعل التضييق على اللغة تحث عدة مسميات تكون الخاصية اللغوية لجوهر لغة القصة القصيرة جداً. إن التكثيف هو حصيلة جمل مركزة، وطابع موحي واختصار في أسلوب السرد وقدرة على الإيحاء وإشعاع بأكثر من دلالة (ص. سليم ). يتعالق بالقصة القصيرة جداً "فكرا واقتصادا ولغة وتقنيات وخصائص ". (أ. جاسم)؛ ويتوسل في ذلك : الإيجاز، الكناية، 
الاستعارة، الإنزياح، الاختزال، التناص، الرمز..
التكثيف هنا في خدمة مساحة تشترط من بين ما تشترطه تقشف لغة تقول معان كثيرة في كلام قليل. وهو ليس بتقشف من شح في اللغة، ولكن من فائض فيها يخل بإشعاع " المعنى ومعنى المعنى" بسبب مجانية زوائده وترهلاته اللغوية. مما يدل على أننا أمام اقتصادية لغوية تمتح تكثيفها أساسا من البلاغة، وبعبارة أدق من لغة بلاغة. ونعني بها ميتا-بلاغة مرتبطة بعدم قدرة الصيغ البلاغية ذاتها على التوحد بكل المعاني وعلى مطابقتها لكل ما يريد الفكر الإفصاح عنه، عكس البلاغة في اللغة كطرائق ووساطة لغوية . 
ما نسميه تكثيف إذن إن هو لغة بلاغة لا حد لها لما نحدده من تجنيس أدبي، فهي تتجاوز حدود النثر والشعر كما قال الجرجاني، وعليه، تتجاوز القصة القصيرة جدا والشعر ذاته مادامت غير متعلقة بلغة الشعر بل بشعرية اللغة وتمظهراتها في لغة بلاغة هي ذاتها مشغلة لغة الشعر ولغة القصة القصيرة : " إن القصة القصيرة، يقول م. الطوخي، هي عمل على اللغة". اللغة ثم اللغة ولا شيء غير اللغة في الكتابة الإبداعية التي لا يحددها التكثيف كما لا تأخذ قيمتها الأدبية من مساحة محددة لها مسبقا. إبداعية اللغة خاصية كل كتابة كيفما كانت نوعيتها الأدبية. ورغم كل ذلك، فإن القصة القصيرة جدا تعتبر هذا الطرح مجحفا في حقها بحيث تعطي للغتها مقصدية لغوية خاصة بها تميزها عن باقي الكتابات: قول ما قل ودل، لا إطناب، ولا استطراد، ولا ترهل، ولا صنعة، ولا زوائد، ولا كثرة روابط ، ولا زخرفة، ولا إسهابات لغوية... 
وهنا المفارقة والمغالطة : مفارقة قول ما يدل بلغة مكثفة، ومغالطة جعل مما يبحث عنه في الكلام بدون لَبس وغموض محور عمل لغة في إبداعيتها تفتح الدلالات على مصراعيها بدون دال ( مادل) يقبض عليها ( بما قل ). وكأنها مسألة اقتصادية للغة بلاغة وبلاغة لغة قادرة على تحقيق وضوح معناها بما قل في مبناها دون مواربة لغوية. وهذا ما يشكل تناقضا جينيا في تحديد مقومات القصة القصيرة جدا:
تتبث لنفسها مشروعية القبض مباشرة على ما يدل فيما قل وتفرض " قارئا خاصا" غير عادي في نفس الوقت للبحث فيها عما يدل.
تنهض على قولة "خير الكلام ما قل ودل"، لتجد نفسها تقوض ما يشكل هويتها داخل ما نسميه ب "مأزقية ميتافيزيقا الدلالة". من جهة، تخط لها ركيزة الكلام الدال على معناه، ومن جهة أخرى، تتشبت بركيزة تأدية معانٍ كثيرة وشاسعة بألفاظ قليلة. أي أنها تجد نفسها شقية تناقض ركيزتين، ركيزة دال صريح على معناه بدون لَبْس ولا حتى غموض بمعنى فقهاء اللغة، وركيزة لغة بلاغة لا دال فيها صريح المعنى بل " كلمات تكشف عن البقية -الخليل ابن أحمد" والبقية تأويلات تجري وراء الدلالة.
وعِوَض أن تكون لها ترسانة معيارية خاصة بها، تشرط شرعية وجودها وتستقيها من خلال علاقة سالبة مع القصة القصيرة وبالأخص في حقل اللغة. هي ترى أن لغة القصة القصيرة مترهلة وفيها حشو وإطناب ووصف ومقدمات وطول لا طائل منهم فتحذفهم كي تركز على ما قل ودل في لغة مكثفة وكأن اللغة المكثفة ضرورة حتمية في لغة الابداع. عبث منطق لمنطق العبث:
إنه منطق يحتمل عبث نعث القصة القصيرة جدا لأي نوع أدبي بالترهّل والحشو اللغوي (الرواية)،
وبمنطقها هذا تنسف نفسها بنفسها بالمقارنة مع القصة الومضة التي تأخذ منطقها لتثبت شرعية وجودها على حسابها باستدلال استرجاعي. 
من أين جاء مفهوم التكثيف وتم الاستحواذ عليه جاعلين منه حجر زاوية القصة القصيرة جدا؟
نكتفي غالبا بالإشارة على أنه مفهوم منقول من ميدان التحليل النفسي ونمر مر الكرام على من اختلقه ووظفه في تحاليله النظرية: فرويد.لا نعثر على أية محاولة بحث يحدد نقط تقاطعه بالتحليل النفسي والقصة القصيرة جدا.لنقل إن ثمة حلقة مفقودة تفقدنا فهم طبيعة علاقتهما. هل هو نفس المفهوم؟ وهل هي علاقة بنيوية أم علاقة اقتداء؟
إن وظيفة التكثيف هي :" إذابة مختلف العناصر والمكونات المتناقضة والمتباينة والمتشابهة وجعلها في كل واحد أو بؤرة واحدة"(نعيم السلفي). لذا "فهو يحدد بنية القصة القصيرة جدا ومتانتها لا بمعنى الاقتصاد اللغوي فحسب" يقول ج. خلف 
إلياس، " وإنما في فاعليته المؤثرة في اختزال الموضوع وطريقة تناوله، وإيجاز الحدث والقبض على وحدته، إذ يرفض الشرح والسببية". 
إنه التعريف ذاته وبحرفيته في التحليل النفسي: إذابة المتعدد في الواحد الذي يجهل منطق العقل العقلاني في ظاهره. المتعدد قوام خلفية الواحد، والواحد لغة عرضية لمتعدد في حالة انضغاط en compression ، تخفي من على سطحها عالم دلالات شاسعة وكبيرة. هذا ما يقوله فرويد. كيف تتم العملية ؟ باللغة ولاشيء غير اللغة : التلميح، الإيجاز بالحذف، الإيجاز بالقصر، اللفظة ذات المعنى المزدوج، الجملة العكسية، الباروديا، الكناية، الاستعارة، التضمير، التقابل، التطابق.. لاشيء قار على سطح ما تعطيه "اللغة المكثفة " للمعاينة : الحدث فيها ليس هو ما تعنيه كما أن الشخصية التي تظهرها على الواجهة ما هي إلا مواربة لإخفاء شخصيات أخرى، والكلمات ذاتها لا دلالة لها في ذاتها..
هكذا ينهج فرويد في قراءته لظواهر لغوية تظهر فاقدة المعنى ظاهريا نتيجة عمليات سيكولوجية معقدة. ويأخذ الحلم مثالا ينتج به أدواته المعرفية لتأسيس نظرية متفردة تتقصى المعنى من الذي 
يبدو بلامعنى، والباطن من الظاهر، والمعقول من اللامعقول، معتبرا أن " المثال هو الشيء ذاته".
الحلم لغة مقتضبة جدا لسلسلة أحداث مفتقدة في معطاها لروابط تستقي بها معناها بسبب ما يسميه فرويد"عمل الصوغ "المفروض على الحلم من فعل آليات الرقابة والحصر والذي يتم عبره صوغ " محتوى خفي" إلى" محتوى ظاهري" بشكل توافقي. المحتوى الظاهري إذن حصيلة لعملية صياغية تعبيء "منطقا" خاصا باللاوعي.
وهو منطق يعتمد على : 
- التصويرية : وضع الصور في مشهدية لا 
تعرف السببية والروابط المنطقية إذ تقدمهما عن طريق تتابعهما وتماسهما فيها.
- التكثيف: تضمين عناصر متعددة من 
المحتوى الخفي في عنصر واحد من المحتوى الظاهري.
- التحويل : إحالة عنصر مهم في المحتوى 
الخفي على عنصر يبدو بلا قيمة في المحتوى الظاهري. 
- الرمزنة : توظيف الرمز داخل عملية تتكسر 
فيها علاقة المرموز والمرموز له.
ماذا نلاحظ إذن إذا ما وضعنا واجهة تقابلية بين " البناء الحلمي" في عملياته والقصة القصيرة جدا؟ نلاحظ أن الحلم قصة قصيرة جدا، وأن القصة القصيرة جدا تنبني كانبناء الحلم، لهما بنية واحدة ولغة واحدة : التصويرية، التكثيف، التحويل، الرمزنة. وأنه من النادر أن يكون الحلم كما نضيف عليه القصة القصيرة جدا " تمثيلا، يقول فرويد، لفكرة واحدة، بل قل إخراج مشهدي لجملة، لسلسلة من الأفكار". لكن كيف نفهم هذا التعالق ؟ ماذا يعني " التكثيف والتحويل" في اللغة ذاتها؟ 
يقول ج.لاكان إن التكثيف لغة، يعادل المجاز كما يعادل التحويل الكناية في اللسانيات. وهما معا ينتميان إلى صيرورة تكوين اللغة التي نسميها بالاستعارة البلاغية. ويقول ت.تودروف في مقالته " بلاغة فرويد": ثمة تكثيف كلما قادنا دال واحد 
إلى أكثر من دلالة (..) ويمكن اعتباره مصطلحا واحدا لكل من الاستعارة البلاغية والتلميح." لهذا فمفهوم التكثيف الذي استخرجه فرويد ما هو إلا تحصيل حاصل للأشكال البلاغية المتمردة على معيارية اللغة؛ أشكال بلاغية تخدم وتستخدم في كل الأنواع الأدبية :"إن المجاز، يقول جاكبسون،
هو شكل البلاغة المفضل للشعر". لكننا إذا عدنا إلى مجال النقد الأدبي، فإن التكثيف يأخذ بعدا أخر ويستعمل مرادفا له densité يخرجه من مرجعياته البلاغية. " التكثيف ( densité) : لا يمكننا أن نمس نقطة من نسيج النص دون أن نغير توازن وقيمة المجموع له. فهو ليس مركزا مفهوميا ( مجموع وظيفي يعمل بمفاهيم متعالقة فيما بينها) يشكل فضاء لاشتغال الكتابة فيه".
اللغة وحدها غير كافية لأن نقتنص بها معايير هوية تجنيسية لما تنسجه مادامت تخترق كل الحدود الأدبية بأشكالها البلاغية وتتحول إلى ميتا-لغة. 
------
يتبع
----
٢- الفكر بين المنطق والمعرفة في المفارقة
٣- القصصية في القصة كنوع أدبي
٤- المساحة النصية :
بنية المفاهيم المثالية والقصة القصيرة جدا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق