السبت، 3 مارس 2018

نسيان أمنية // للشاعرة المبدعة : ابتهال الخياط // العراق

نسيان أمنية
عجوز تلتف بمعطفٍ بال ٍ ،تجلس قرب مدفأة قديمة .. أتعبتها النار وكثرة ما احترق فيها من أشياء على مر السنين ..
تلك العجوز مُطرقة رأسها وكأن ثقلا ما قد وُضِع على رأسها فلا تتمكن من دفعه عنها.. مَرَّ بعض الوقت بدا لي طويلا حتى فُتحت الباب ليدخل شابا يافعا يحمل بين يديه صندوقا جمع فيه أكياسا من الأطعمة والفاكهة و هو مبتسم . قال محدثا العجوز: جدتي ! هل مازلت على قيد الحياة ؟ أجابته : نعم ولدي ..مازلت.
قال: لقد أتيت بالطعام ، كان اليوم صاخبا بالعمل .. ماجئت به يكفينا لأيام.
الجدة : نعم ولدي..الحمد لله.
تقدم ورفع رأسها قائلا: هل أنتِ بخير ؟ 
أجابته: ربما .
دخل وأعدَّ بعض الطعام ..وقدم به .
جلس أمامها و أخذ باطعامها ..بعد قليل كانت الجدة تجلس بشكل أفضل وتتحدث معه بهدوء ..وما حولهما دعاهما للتأمل .. فقد قالت: ولدي ألا تفكر بالزواج؟ أنت َ في عمر جميل .
قال : أي زواج ياجدتي ؟ ومن ترضى أن تكون هنا في هذا الكفاف؟ إنما أحتاج فتاة من نوع خاص لا تعرف الدنيا بل تعرفني وحدي .
ضحكت الجدة وقالت: إذن عليك يا بني أن تزرعها .
نظر اليها وقال: فكرة جميلة ليتها ممكنة!
قالت: إنها ممكنة ..وعندي البذرة ..هل تحفظ سرا ؟
قال : نعم جدتي!
قالت: أنا بذرة ، زرعني جدك . ولن أموت مادمتَ تسقيني.
تفاجأ الشاب من كلامها وقال: 
وهل يُعقل ما تقولين ؟!!
قالت: نعم وعندي المزيد منها لقد أخبرني جدك بمكانها قبل وفاته.
هي بذور سحرية تنبت كما في بالك وما ترسمه أفكارك و نواياك .
قال: عزيزتي ..هل تريدينني أن أصدق؟ 
قالت : كما تريد ولدي .
إن صدقت سيحصل ما تريد و إن لم تصدق فلن يكون إلا زرعا مما يزرع الباقون ..وبلا ثمر.
قال: إليَّ بها ..سأمسك بها و استشعرها .
قالت: هل ستزرعها كلها ؟ 
قال: عندي طموحات كثيرة بعيدة عني .. أريد زوجة رائعة الجمال و أريد من يعمل معي و أخرى تخدمك و هكذا ..سأفكر بأشياء أخرى !
قالت : على مهلك ولدي.. إنما هي ثلاث حبات فقط..لبنت و ولدين..ثم يجب أن ترعى زرعك حتى يكتمل مصيره دون استعجال .
( بدا متوترا مشغول البال مندهشا ) فقال : لابأس جدتي.
في الصباح كان الشاب يجلس خلف الدار عند بقية من أرض لم تُبنى ، انتشر فيها بعض النبات البري .. فقام بتنظيفها و بسط التبيديه ودسَّ الحبات واحدة تلو الأخرى و كان عند كل واحدة يتمتم و يده ترتعش.
مرت الأيام و الشاب يسقي و يراعي ما زرع ..حتى ظهر من شق الأرض ثلاث شجيرات عجيبة من ثمرات كل واحدة بلون .. و مازالت مغلقة تحتاج الانتظار . مالت الشمس إلى الغروب و الشاب منتظرا لما تحمله له الثمرات من أمنيات . فكان له ما طلب و لكن كما تمنى فقط بلا زيادة .. انفرجت الأولى عن بنت رائعة الجمال فُتحت زهرتها و أطلت منها عارية تبتسم عن ثغر جميل كعنقود شهي فمال لها بمعطفه و قد فقد نطقه مبتهجا . 
قال:سأسميك"بهجة الروح" وسارت معه حتى دخلا الدار . 
صاح :جدتي ..انظري ..هاهي بهجتي هل رأيت أجمل منها؟ 
قالت الجدة: الحقيقة هي الجمال .
لم ينتبه الشاب الى مقصد جدته بل انشغل بجمال ما أثمرت بذرة أمنيته الأولى .
بعد قليل ..دفع الباب شاب حسن الوجه عاريا يتلفت ويقول: أين سيدي؟
تقدمت الجدة منه ..ثم قالت: فهمت .
أدخلته إلى المطبخ و أخذت تنادي : يا ولدي لِمَ لمْ تنتظر بقية زرعك ؟
جاء الشاب ليرى أمامه خادمه المزروع بطلب أمنيته الثانية، وكان ينظر بغرابة إليه ..فقد تكاثرت عليه الأمنيات المتحققة فأمسك ببعض الملابس ليستره فقد أصبحت له أنثى في الدار يخاف عليها من كل أثر.
تحرك بقربه شيء ..قفز مذعورا فكان بجانبه ثعبان أسود يدور حوله .
صرخ : من أين هذا الثعبان ؟ يالغرابة ما يحدث لي!
أجابه الثعبان : أنا حارسك .. أنت مَن تمنيتني هكذا.
قال: هل تمنيتُ ثعبانا ؟! 
أجابه الثعبان: هل نسيتَ ماقلتَ؟
لقد قلت " أريد حارسا متمكنا لا يجزع من قتل أحد لأجلي".
صمت الشاب قليلا..ثم استطرد : لابأس 
لك عملك أيها الحارس و كما ينبغي.. و أنت أيها الخادم عملك في داخل الدار وخارجه .
تمر الأيام والأحوال تغيرت .
يدخل الشاب مناديا : بهجتي أين أنتِ؟
أجابته بهجة الروح : أنا هنا .
قال: هل أطعمتِ جدتي؟
قالت: لا. 
قال: لماذا ؟ ألم أطلب منك عدم نسيانها؟
قالت: لم أنسَ ..لكنني لا أحبها.
قال: عليك بحبها لأني أحبها.
ضحكت منه ..وقالت : إذن لن أحبها.
أخذ الشاب بعض الطعام وجلس ليُطعم جدته حتى استطاعت أن ترفع رأسها وأخذت تنظر إليه بحزن وهي تقول " الحقيقة هي الجمال "
أطرق رأسه و أجاب: نعم جدتي لقد فهمتها متأخرا.
سكن البيت ونام الجميع .
حركةٌ ما أحدثت ْ صوتا .
خرج الشاب من غرفته مستغربا غياب "بهجة روحه" دخل المطبخ فلم يجد خادمه .
نظر إلى جدته نائمة حيث مقعدها !
خرج غاضبا ..كانت جلبة هناك خلف شجرة قديمة كثيفة الفروع والأغصان فوجدهما .. لقد تمكن منهما حارسه فقتلهما عصرا وتمزيقا.
تم قتل أمنيتين ..وبقيت واحدة تلك التي كانت منسية .
"الحقيقة هي الجمال" و ليس الجمال هو الحقيقة" قالها لنفسه ، كنتما حصادي البائس و يالها من تجربة حكيمة .
عاد إلى داخل الدار و أيقظ جدته ليحكي لها ما حصل : ياجدتي ألا تريدين أن تعرفي الحقيقة؟
قالت: أنا عرفتها من جدك حين زرعني..
كنت أسمعه يتمتم بها فكنتُ الثمرة الطيبة:
" أريد زوجة وفية مطيعة مخلصة جميلة " فكبرت برعاية كلماته وصرت كما تراني ،
هو مات و ولده و أمك ..وبقيتُ معك حتى تجد طريقك.. لن أموت يا ولدي ما دمت تطعمني وتسقيني فأنا نبتة خير و أمنية طيبة لا أثر لنزعات الشر فيَّ كما البشر .. سأبقى معك حتى تملَّ مني ومن اطعامي فأموت حينها .
قال: لا يا جدتي بل سأبحث عن مَن يرعاكِ بعدي .
سأبحث عن زوجة صالحة . 
"و استطرد " هل أذهب لدفنهما ؟
قالت: لا يا ولدي ..بل سيتحولان إلى بقايا زرع خرب تمتصه الأرض تلك حقيقة أمنياتك ..أما الثعبان فسيبقى بقربك فطعامه في الأرض ولا يحتاج سقيك ..
لا تحزن على ما فقدت فقد امتلكت حجتك يا ولدي و الأشياء لا تكتمل بالظلمة أو امتداد الأمل بلا نهاية . 
قال: نعم ..القمر ينتمي للشمس و كلاهما في الأعلى و هكذا الإنسان و أمانيه لابد أن تخرج من الأرض لتصعد إلى السماء لا لتتعفن فيها .
إنّ قدر الإنسان لشيء عظيم ، و إن عرف قدره عرف حقيقة الجمال فيه.
.......................................................
ابتهال الخياطراب 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق