التحليل الإحصائي النوعي والكمي والتوزيع الزمني لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي - العراق - 6.9.2018
لم يبن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دولة ومجد الإسلام إلا بتوفيق وتسديد من الله تعالى، في البداية كانت مكة، وفي البداية كانت دعوته صلى الله عليه وآله وسلم سرية لمدة ثلاث سنوات، حتى كون نواة الإسلام الأولى بعدها سارت الدعوة العلنية مسارها عشر سنوات في مكة، خلالها لم يستخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيًا من مظاهر استعمال القوة في التعامل مع مخالفيه، واستخدم الصبر وأمر المسلمين باستخدام الصبر كدرع ضد الاضطهاد والتعذيب الذي تعرضوا له. وفي مكة كانت العمليات الأساسية ذات التأثير السياسي التي قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها منحصرة في ثلاث: العملية الأولى: البناء الداخلي لمجتمع المسلمين، وذلك عبر وسائل وأدوات عدة، قائمة كلها على تعاليم الإسلام في ذلك الوقت، وكانت ذات طبيعة روحية مثل (قيام الليل بالصلاة، وتلاوة القرآن)، وكان دائمًا هناك تذكير بأحوال الأمم السابقة وعاقبة كل من الظالمين والمسلمين في كل أمة، وقبل ذلك ومعه كان ترسيخ مفاهيم العقيدة الإسلامية الصحيحة بصفائها ونقائها وتمايزها عن العقائد الباطلة، مع تبشير المسلمين بمستقبل مملوء بالنصر والتمكين والمجد. وقد حققت هذه الأدوات والوسائل نجاحًا منقطع النظير، ممكن إدراك مداه من إدراك حجم النجاح الذي تحقق في بناء الشخصية المسلمة لدى كل صحابي أو صحابية ممن تربوا في العصر المكي، وحجم الإنجاز الذي حققوه لأمة الإسلام سواء في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده، وتصفح سير وإنجازات أمثال أبي بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب أو مصعب بن عمير أو أبي عبيدة بن الجراح أو عثمان أو على أو غيرهم.. يظهر ذلك بجلاء فكلهم أبناء العصر المكي للدعوة الإسلامية. العملية الثانية: تحقيق أكبر قدر متاح من الحماية للمسلمين داخل المجتمع المكي الوثني المعادي للإسلام والمسلمين، وفق الأعراف والفرص التي كانت سائدة آنذاك في هذا المجتمع، مثل كتمان الإيمان والإسرار بالعبادات الإسلامية بالنسبة للبعض، ومثل القبول أو طلب حماية بعض سادة قريش الوثنيين ممن تعاطفوا مع بعض المسلمين بسبب أواصر الدم والنسب، أو الصداقة أو بدوافع أخلاقية ذاتية، ومن أبرز الأمثلة على الحماية التي تمت بدافع النسب والدم حماية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحماية عشيرة أبي بكر الصديق له، وكذا عشيرة عثمان ابن عفان له وغيرهم، ومن أبرز عمليات الحماية بدوافع أخلاقية حماية المطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد عودته من الطائف، وكذلك إجارة ابن الدُغنة -سيد القارة- لأبي بكر الصديق عندما همَّ الأخير بالهجرة إلى الحبشة. وفي إطار الرغبة في تحقيق هذه الحماية أيضًا تم استعمال أسلوب آخر هو أسلوب الهجرة، وفي هذا الإطار تمت عمليتا الهجرة للحبشة، الهجرة الأولى والهجرة الثانية، وهما في التحليل الأخير دخول في حماية ملك أجنبي عن مكة هو ملك الحبشة، الذي كان معروفًا عنه في ذلك الوقت أنه ملك عادل لا يظلم أحدًا. وقد حققت هذه الأدوات كلها نجاحًا ملحوظًا وإن تفاوتت درجاته، ورغم هذا ففي هذه المرحلة تم حبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته من بني عبد المطلب وبني هاشم -سواء مسلميهم أو كافريهم المساندين للنبي- في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يصلهم الطعام إلا تهريبًا، كما تعرض الكثير من المسلمين للتعذيب طوال العشر السنوات التي دارت فيها الدعوة الإسلامية في مكة في شقها العلني، بل مات بعض المسلمين تحت التعذيب كما تعرض الكثيرون منهم لإصابات بالغة وخطيرة، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى..
الإسلام حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، وقد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمبادئ بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال مثل: أسباب الحرب وأهدافها – آداب الحرب – بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب… الخ، وهكذا تكوّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله" . وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي "بوتقة الحرب" ليس من شك أن في الجيش الإسلامي في عصر النبوة قد حقق الهدف الاستراتيجي وهو تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية وتوفير الأمن والاستقرار لها لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية. ولقد حدد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم هذا الهدف منذ اللحظة الأولى من الصراع مع المشركين حين رفع يديه بالدعاء إلى ربه بعد أن نظم صفوف الجيش في بدر وقال: »اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض..« بهذا الوضوح والتحديد ربط عليه الصلاة والسلام برباط وثيق بين الدعوة وبين القدرة على الدفاع عنها وتأمينها، فكان من ذلك الهدف الاستراتيجي واضحاً ومحدداً.وفي سبيل تحقيق هذا الهدف حارب المسلمون أكثر من ستين عملية من عمليات القتال قاد منها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثماني وعشرين غزوة، وقد واجه المسلمون –وهم قلة في العدد والعدة- في تلك العمليات أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم. في فترة وجيزة لا تتجاوز سبع سنوات لحق جيش الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضيات عصره من حيث تكوين القوة الضاربة والتنظيم والتسليح: فلقد كانت الاستراتيجية العسكرية العالمية المعاصرة لعصر النبوة (فارس وبيزنطة) تقوم على أساس أن تشكل القوة الضاربة للجيش من الفرسان بنسبة الثلث تقريباً من مجموع قوته.وكان جيش الإسلام في بادئ الأمر يفتقر إلى الفرسان، ففي أولى الغزوات مثلاً –وهي بدر – كانت لدى الجيش فرَسان فقط، فعُني الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب المسلمين على الفروسية وحثهم على اقتناء الخيول حتى قفزت قوة الفرسان إلى المعدل العالمي وهو الثلث، ففي آخر غزوة -وهي تبوك- كان عدد الفرسان عشرة آلاف في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وتطور تسليح الجيش بأن أضاف إلى أسلحته المنجنيق والعرادات والدبابات، وهي أسلحة خاصة بالحصار ودك الحصون والأسوار. فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثة من اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام فتعلما صنعة هذه الأسلحة، ثم استخدمها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حصار الطائف وخيبر.وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية كاملة لها مبادئها ونظرياتها في أسباب الحرب ودوافعها وآدابها، ونظرياتها في إعداد الأمة للحرب، وفي إعداد المقاتلين وإعداد القادة، وفي الاستطلاع والأمن ومقاومة الجاسوسية، ونظرياتها في الحرب النفسية والتدريب على القتال واقتصاديات الحرب ، وترك لنا أيضاً شهادة من التاريخ بأن الجيوش التي تطبق هذه المبادئ تصبح قوة لا تقهر
أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يشارك في أية حروب قبل البعثة كما أنه طيلة 13عاما في مكة بعد البعثة بلا حروب أو قتال لأنه كان يهدف أولا لنشر الدعوة، أما بعد الهجرة فقد تطورت أهدافه وكانت هي قيام الدولة لتولد دولة الإسلام ولم تكن تولد هذه الدولة إلا بكثير من الحروب والمعارك·
أن الغزوات في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، كانت 27 غزوة بينما كانت السرايا 47 سرية ولم يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا في 9 غزوات لكنه في كل الغزوات والسرايا كان القائد المخطط صاحب البصيرة التي لا تخيب·
واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتكر الكثير من فنون الحرب والقتال وأن يبتكر أيضا الكثير من فنون المخابرات والجاسوسية التي لم تُعرف إلا بعد وفاته بعدة قرون في الحربين العالميتين· أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان منهجه في الحرب والسلام والمخابرات يتلخص في عدة نقاط أهمها :
اولا: الاستعانة بأهل الخبرة حتى لو كانوا من غير المسلمين· فقد استعان في هجرته من مكة إلى المدينة بعبد الله بن أريقط رغم أنه كان مُشركاً لكنه كان خبيرا في الطرق والأودية·
كما استعمل في غزواته كلها الخبراء في مسالك الطرق المؤدية إلى أي جهة يريدها من اعتاد زيارتها·
ثانيا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدخل معركة إلا بعد أن يعرف معرفة كاملة حالة العدو ومعسكراته ومواقفه العسكرية وطبيعة الأرض التي ستتم عليها المعركة·
ثالثا: كان النبي صلي الله عليه وسلم يجيد استثمار المواقف وقد وضح ذلك في كيفية استثماره لإسلام نعيم بن مسعود أثناء غزوة الخندق من خلال حيلته الذكية لإفشال الأحزاب بإيقاع الفتنة بين اليهود وقريش·
رابعا: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن لا تتسرب الأخبار إلى العدو ومن أهم السبل إلى ذلك الكشف عمن يقوم بأعمال التجسس وتعقبهم ومتابعة نشاطهم لإحباط أية محاولة للحصول على الأخبار·
خامسا: كان حريصا جدا على السرية التامة ولم يكن يعلن الأخبار إلا ساعة الصفر فعند الهجرة إلى المدينة لم يخبر أبا بكر بموعد الهجرة إلا في ليلتها وعند فتح مكة لم يكن يخبر حتى عائشة عندما كانت تساعده في ارتداء ملابسه·
سادسا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ابتكر وسائل جديدة لم تكن معروفة في عالم المخابرات من قبله فابتكر ما يسمى بالأوامر المختومة وهي رسائل يحملها المكلف بما فيها ولا يفتحها إلا في مكان معين وزمان معين· ومن ابتكاراته أيضا في عالم الحرب والمخابرات ما يعرف الآن بالشفرة أو الشعار أو كلمة السر فقد كان للجيش الإسلامي نداءاتٌ خاصة يصدرها القائد للجند في الحرب لتنوع الحركات في الحرب والحاجة إلى إخفاء الحركة عن العدو.
وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من خبرات البلدان الأخرى في الحرب فأخذ فكرة سلمان الفارسي في إقامة الخندق·
سابعا: كان للنبي صلى الله عليه وسلم شبكة عيون مبثوثة في كل مكان بالجزيرة العربية·
ثامنا: انتهج الرسول صلى الله عليه وسلم منهج (اعرف عدوك) ذلك الشعار الذي انتشر في الوطن العربي أواخر الستينيات·
تاسعا: لا يقاس نجاح أي من عمليات المخابرات في العالم بكمِّ المعلومات التي حصلوا عليها لكن يتوقف ذلك على القدرة على تحليل هذه المعلومات والاستفادة منها، وكان الرسول سباقا إلى ذلك ويتضح ذلك جليا من خلال أحداث غزوة بدر فعندما أرسل للسني كلا من بسبس بن عمرو الجهني حليف بني مساعد وعدي بن الزغاء الجهن حليف بني النجار يستطلعان الأخبار سمعا حوارا لفتاتين على ماء بدر ونقلاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلم منه موعد وصول قريش وعندما استجوب الغلام الذي جيء به من جيش قريش علم منه عدد مقاتلي قريش ذلك من خلال معرفته عدد الذبائح التي يذبحونها كل يوم·
عاشرا: اختيار من فيه الكفاية لجمع المعلومات فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يختار رجال مخابرات من ذوي المواهب الخاصة تتحقق فيهم القدرة على التعامل مع أصعب المواقف مثلما حدث مع علي بن أبي طالب ليلة الهجرة وحذيفة بن اليمان الذي تسلل في صفوف العدو ليجمع الأخبار في غزوة الخندق والدول الآن تعامل رجل المخابرات على أنه مقاتل له كل حقوق المقاتل·
بلغ عدد العمليات الحربية في عصر النبوة أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة.
وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية.
تحليل التوزيع الزمني والكمي
------------------------- أول ما يسترعي الانتباه، التوزيع الزمني للغزوات خلال الفترة التي دار فيها الصراع المسلح بين المسلمين وأعدائهم في عصر النبوة، والتي امتدت سبع سنوات تقريباً من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة (من صفر سنة 2 هـ، إلى رجب سنة 9 هـ) حيث يتضح التوزيع كما يلي:
ا. عدد الغزوات في السنة الثانية للهجرة: 8
ب. عدد الغزوات في السنة الثالثة للهجرة: 4
ج. عدد الغزوات في السنة الرابعة للهجرة: 3
د. عدد الغزوات في السنة الخامسة للهجرة: 4
ه. عدد الغزوات في السنة السادسة للهجرة: 3
و. عدد الغزوات في السنة السابعة للهجرة: 2
إ . عدد الغزوات في السنة الثامنة للهجرة: 3
ح. عدد الغزوات في السنة التاسعة للهجرة: 1
ومن ذلك نلاحظ ما يلي:
1- أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة -في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والاستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة.
أ. فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة).
ب . ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية".
ج . هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.
د . ونتيجة لذلك تنمو لدى القائد ثقته بنفسه وبكفاءاته وقدراته، كما تنمو لدى سائر أفراد الجيش ثقتهم بأنفسهم وقائدهم، فيواجهون تحديات الصراع المقبلة واثقين من النصر.
3- ونلاحظ أيضاً من تحليلنا لهذا التوزيع الكمي والزمني للغزوات: أنه يكشف عن مبدأ من أهم مبادئ إعداد القادة العسكريين لتولي القيادة، وهو أن يتولى قادة المستقبل قيادة الوحدات الفرعية للجيش تحت قيادة القائد العام، وهذا الأسلوب يفيد القدة من عدة نواح نذكر منها:
ا . مباشرة القيادة عملياً تحت إشراف القائد الأكبر، والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته.
ب . إتاحة الفرصة لهم لملاحظة أسلوب القائد "المعلم" في القيادة الحربية من حيث التخطيط للمعركة وإدارته، وتصرفه في مواقفها المختلفة، وهي فرصة ممتازة للتعليم على الطبيعة واكتساب الخبرة القتالية في الوقت نفسه.
ج . تدريب قادة المستقبل على فن التفكير واستخدام العقل والتعبير عن الرأي وذلك من خلال اشتراكهم مع القائد الأكبر في مرحلة التخطيط للمعارك، ويدخل ذلك في نطاق مبدأ الشورى الذي أمر به الإسلام وطبّقه القئاد صلى الله عليه وسلم خير ما يكون التطبيق حتى قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في كافة غزواته، ففي غزوة بدر مثلاً استشارهم في مبدأ دخول المعركة ضد قريش، واستقر الرأي على قبول المعركة، وعندما وصل جيش المسلمين إلى مكان المعركة نزل الرسول عليه الصلاة والسلام على رأي الحباب بن المنذر الذي أشار بأن ينتقل الجيش إلى مكان آخر أفضل من الأول، لأنه قريب من ماء بدر ويتحكم فيها.
وفي غزوة أحد استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه في مبدأ البقاء في المدينة ولقاء قريش فيها، أو لقائهم خارجها، فاستقر الرأي على الخروج، واستجاب صلى الله عليه وسلم لذلك الرأي وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم".
د . ثم إن هذا الأسلوب بقيد قادة المستقبل من حديث أنه يكسبهم القدرة على إصدار القرارات السليمة، وفي وقتها المناسب، مما يعد من أهم خصائص القيادة الناجحة، ذلك لأن مشاركتهم في مرحلة التخطيط تتيح لهم معرفة واسعة بفكر القائد ونواياه وأهدافه، وإحاطة وافية بجوانب الموضوعات، والقضايا تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة في المواقف التي يواجهونها في المستقبل بهدي تفكيرهم وحده، ودون حاجة إلى الرجوع إلى القيادة العليا، وخاصة في المواقف المفاجئة أو التي لا تحتمل التأخير.
ثانياً: التحليل النوعي لغزوات الرسولوإذا تناولنا غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحليل من حيث النوع أو الطابع، فسوف تتكشف لنا جوانب أخرى في القيادة الحربية، وفي إعداد القادة وتدريبهم. فقد احتوت الغزوات على شتى صور وأشكال العمليات الحربية كما يلي:
ا. عمليات الإغارة ودوريات القتال والردع والتأثير المعنوي مثل:
غزوة ودان – بواط – العشيرة – بدر الأولى – بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – بدر الآخرة – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان – الحديبية – عمرة القضاء.
ب . العمليات الدفاعية، مثل: غزوة بدر الكبرى – أحد – الخندق.
ج . العمليات الهجومية، مثل: غزوة فتح مكة – غزوة حنين – تبوك.
د . عمليات المطاردة، مثل: غزوة السويق – حمراء الأسد – ذي قرد.
ه . عمليات الحصار والقتال في القرى الحصينة، مثل: غزوة بني قينقاع – بني النضير – بني قريظة – خيبر – الطائف.
نتائج التحليل النوعي والزمني والكمي
------------------------------- من هذا التحليل نستخلص أن جيش الإسلام الأول (قادة وجنداً) قد تعلموا ومارسوا عملياً كل أشكال العمليات الحربية تحت قيادة القائد المعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم اكتسبوا بذلك خبرة قتالية فائقة. كما نستخلص أنهم اكتسبوا خبرة حربية في مواجهة التنظيمات الحربية والنظريات القتالية المختلفة، فهم قد حاربوا المشركين من العرب الذي كانوا يقاتلون بأسلوب الكر والفر، وحاربوا اليهود الذين كانوا يحاربون "من وراء جدر" ومن داخل حصونهم وقراهم المحصنة.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك المعارك التي دارت في مواجهة الروم في عصر النبوة "مؤتة وتبوك" يكون جيش الإسلام قد اكتسب الخبرة القتالية في مواجهة الجيوش المنظمة، بالإضافة إلى خبرته في قتال الجيوش غير المنظمة (قريش والقبائل العربية الأخرى).
وبعد، فإنه يبقى لنا من هذا التحليل درس عظيم، وهو أن نمط "القائد المعلم" هو النمط الذي يدعو إليه الإسلام، والذي لا يرتضي عنه القائد المسلم بديلاً، وأن القائد في الإسلام "صاحب مدرسة ورسالة" يدرك تماماً أن قيامه بإعداد أجيال من القادة من أسمى واجباته لها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. صدق الله العظيم.
" د. صالح العطوان الحيالي "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي - العراق - 6.9.2018
لم يبن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دولة ومجد الإسلام إلا بتوفيق وتسديد من الله تعالى، في البداية كانت مكة، وفي البداية كانت دعوته صلى الله عليه وآله وسلم سرية لمدة ثلاث سنوات، حتى كون نواة الإسلام الأولى بعدها سارت الدعوة العلنية مسارها عشر سنوات في مكة، خلالها لم يستخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيًا من مظاهر استعمال القوة في التعامل مع مخالفيه، واستخدم الصبر وأمر المسلمين باستخدام الصبر كدرع ضد الاضطهاد والتعذيب الذي تعرضوا له. وفي مكة كانت العمليات الأساسية ذات التأثير السياسي التي قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها منحصرة في ثلاث: العملية الأولى: البناء الداخلي لمجتمع المسلمين، وذلك عبر وسائل وأدوات عدة، قائمة كلها على تعاليم الإسلام في ذلك الوقت، وكانت ذات طبيعة روحية مثل (قيام الليل بالصلاة، وتلاوة القرآن)، وكان دائمًا هناك تذكير بأحوال الأمم السابقة وعاقبة كل من الظالمين والمسلمين في كل أمة، وقبل ذلك ومعه كان ترسيخ مفاهيم العقيدة الإسلامية الصحيحة بصفائها ونقائها وتمايزها عن العقائد الباطلة، مع تبشير المسلمين بمستقبل مملوء بالنصر والتمكين والمجد. وقد حققت هذه الأدوات والوسائل نجاحًا منقطع النظير، ممكن إدراك مداه من إدراك حجم النجاح الذي تحقق في بناء الشخصية المسلمة لدى كل صحابي أو صحابية ممن تربوا في العصر المكي، وحجم الإنجاز الذي حققوه لأمة الإسلام سواء في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده، وتصفح سير وإنجازات أمثال أبي بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب أو مصعب بن عمير أو أبي عبيدة بن الجراح أو عثمان أو على أو غيرهم.. يظهر ذلك بجلاء فكلهم أبناء العصر المكي للدعوة الإسلامية. العملية الثانية: تحقيق أكبر قدر متاح من الحماية للمسلمين داخل المجتمع المكي الوثني المعادي للإسلام والمسلمين، وفق الأعراف والفرص التي كانت سائدة آنذاك في هذا المجتمع، مثل كتمان الإيمان والإسرار بالعبادات الإسلامية بالنسبة للبعض، ومثل القبول أو طلب حماية بعض سادة قريش الوثنيين ممن تعاطفوا مع بعض المسلمين بسبب أواصر الدم والنسب، أو الصداقة أو بدوافع أخلاقية ذاتية، ومن أبرز الأمثلة على الحماية التي تمت بدافع النسب والدم حماية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحماية عشيرة أبي بكر الصديق له، وكذا عشيرة عثمان ابن عفان له وغيرهم، ومن أبرز عمليات الحماية بدوافع أخلاقية حماية المطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد عودته من الطائف، وكذلك إجارة ابن الدُغنة -سيد القارة- لأبي بكر الصديق عندما همَّ الأخير بالهجرة إلى الحبشة. وفي إطار الرغبة في تحقيق هذه الحماية أيضًا تم استعمال أسلوب آخر هو أسلوب الهجرة، وفي هذا الإطار تمت عمليتا الهجرة للحبشة، الهجرة الأولى والهجرة الثانية، وهما في التحليل الأخير دخول في حماية ملك أجنبي عن مكة هو ملك الحبشة، الذي كان معروفًا عنه في ذلك الوقت أنه ملك عادل لا يظلم أحدًا. وقد حققت هذه الأدوات كلها نجاحًا ملحوظًا وإن تفاوتت درجاته، ورغم هذا ففي هذه المرحلة تم حبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته من بني عبد المطلب وبني هاشم -سواء مسلميهم أو كافريهم المساندين للنبي- في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يصلهم الطعام إلا تهريبًا، كما تعرض الكثير من المسلمين للتعذيب طوال العشر السنوات التي دارت فيها الدعوة الإسلامية في مكة في شقها العلني، بل مات بعض المسلمين تحت التعذيب كما تعرض الكثيرون منهم لإصابات بالغة وخطيرة، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى..
الإسلام حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، وقد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمبادئ بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال مثل: أسباب الحرب وأهدافها – آداب الحرب – بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب… الخ، وهكذا تكوّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله" . وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي "بوتقة الحرب" ليس من شك أن في الجيش الإسلامي في عصر النبوة قد حقق الهدف الاستراتيجي وهو تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية وتوفير الأمن والاستقرار لها لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية. ولقد حدد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم هذا الهدف منذ اللحظة الأولى من الصراع مع المشركين حين رفع يديه بالدعاء إلى ربه بعد أن نظم صفوف الجيش في بدر وقال: »اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض..« بهذا الوضوح والتحديد ربط عليه الصلاة والسلام برباط وثيق بين الدعوة وبين القدرة على الدفاع عنها وتأمينها، فكان من ذلك الهدف الاستراتيجي واضحاً ومحدداً.وفي سبيل تحقيق هذا الهدف حارب المسلمون أكثر من ستين عملية من عمليات القتال قاد منها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثماني وعشرين غزوة، وقد واجه المسلمون –وهم قلة في العدد والعدة- في تلك العمليات أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم. في فترة وجيزة لا تتجاوز سبع سنوات لحق جيش الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضيات عصره من حيث تكوين القوة الضاربة والتنظيم والتسليح: فلقد كانت الاستراتيجية العسكرية العالمية المعاصرة لعصر النبوة (فارس وبيزنطة) تقوم على أساس أن تشكل القوة الضاربة للجيش من الفرسان بنسبة الثلث تقريباً من مجموع قوته.وكان جيش الإسلام في بادئ الأمر يفتقر إلى الفرسان، ففي أولى الغزوات مثلاً –وهي بدر – كانت لدى الجيش فرَسان فقط، فعُني الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب المسلمين على الفروسية وحثهم على اقتناء الخيول حتى قفزت قوة الفرسان إلى المعدل العالمي وهو الثلث، ففي آخر غزوة -وهي تبوك- كان عدد الفرسان عشرة آلاف في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وتطور تسليح الجيش بأن أضاف إلى أسلحته المنجنيق والعرادات والدبابات، وهي أسلحة خاصة بالحصار ودك الحصون والأسوار. فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثة من اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام فتعلما صنعة هذه الأسلحة، ثم استخدمها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حصار الطائف وخيبر.وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية كاملة لها مبادئها ونظرياتها في أسباب الحرب ودوافعها وآدابها، ونظرياتها في إعداد الأمة للحرب، وفي إعداد المقاتلين وإعداد القادة، وفي الاستطلاع والأمن ومقاومة الجاسوسية، ونظرياتها في الحرب النفسية والتدريب على القتال واقتصاديات الحرب ، وترك لنا أيضاً شهادة من التاريخ بأن الجيوش التي تطبق هذه المبادئ تصبح قوة لا تقهر
أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يشارك في أية حروب قبل البعثة كما أنه طيلة 13عاما في مكة بعد البعثة بلا حروب أو قتال لأنه كان يهدف أولا لنشر الدعوة، أما بعد الهجرة فقد تطورت أهدافه وكانت هي قيام الدولة لتولد دولة الإسلام ولم تكن تولد هذه الدولة إلا بكثير من الحروب والمعارك·
أن الغزوات في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، كانت 27 غزوة بينما كانت السرايا 47 سرية ولم يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا في 9 غزوات لكنه في كل الغزوات والسرايا كان القائد المخطط صاحب البصيرة التي لا تخيب·
واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتكر الكثير من فنون الحرب والقتال وأن يبتكر أيضا الكثير من فنون المخابرات والجاسوسية التي لم تُعرف إلا بعد وفاته بعدة قرون في الحربين العالميتين· أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان منهجه في الحرب والسلام والمخابرات يتلخص في عدة نقاط أهمها :
اولا: الاستعانة بأهل الخبرة حتى لو كانوا من غير المسلمين· فقد استعان في هجرته من مكة إلى المدينة بعبد الله بن أريقط رغم أنه كان مُشركاً لكنه كان خبيرا في الطرق والأودية·
كما استعمل في غزواته كلها الخبراء في مسالك الطرق المؤدية إلى أي جهة يريدها من اعتاد زيارتها·
ثانيا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدخل معركة إلا بعد أن يعرف معرفة كاملة حالة العدو ومعسكراته ومواقفه العسكرية وطبيعة الأرض التي ستتم عليها المعركة·
ثالثا: كان النبي صلي الله عليه وسلم يجيد استثمار المواقف وقد وضح ذلك في كيفية استثماره لإسلام نعيم بن مسعود أثناء غزوة الخندق من خلال حيلته الذكية لإفشال الأحزاب بإيقاع الفتنة بين اليهود وقريش·
رابعا: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن لا تتسرب الأخبار إلى العدو ومن أهم السبل إلى ذلك الكشف عمن يقوم بأعمال التجسس وتعقبهم ومتابعة نشاطهم لإحباط أية محاولة للحصول على الأخبار·
خامسا: كان حريصا جدا على السرية التامة ولم يكن يعلن الأخبار إلا ساعة الصفر فعند الهجرة إلى المدينة لم يخبر أبا بكر بموعد الهجرة إلا في ليلتها وعند فتح مكة لم يكن يخبر حتى عائشة عندما كانت تساعده في ارتداء ملابسه·
سادسا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ابتكر وسائل جديدة لم تكن معروفة في عالم المخابرات من قبله فابتكر ما يسمى بالأوامر المختومة وهي رسائل يحملها المكلف بما فيها ولا يفتحها إلا في مكان معين وزمان معين· ومن ابتكاراته أيضا في عالم الحرب والمخابرات ما يعرف الآن بالشفرة أو الشعار أو كلمة السر فقد كان للجيش الإسلامي نداءاتٌ خاصة يصدرها القائد للجند في الحرب لتنوع الحركات في الحرب والحاجة إلى إخفاء الحركة عن العدو.
وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من خبرات البلدان الأخرى في الحرب فأخذ فكرة سلمان الفارسي في إقامة الخندق·
سابعا: كان للنبي صلى الله عليه وسلم شبكة عيون مبثوثة في كل مكان بالجزيرة العربية·
ثامنا: انتهج الرسول صلى الله عليه وسلم منهج (اعرف عدوك) ذلك الشعار الذي انتشر في الوطن العربي أواخر الستينيات·
تاسعا: لا يقاس نجاح أي من عمليات المخابرات في العالم بكمِّ المعلومات التي حصلوا عليها لكن يتوقف ذلك على القدرة على تحليل هذه المعلومات والاستفادة منها، وكان الرسول سباقا إلى ذلك ويتضح ذلك جليا من خلال أحداث غزوة بدر فعندما أرسل للسني كلا من بسبس بن عمرو الجهني حليف بني مساعد وعدي بن الزغاء الجهن حليف بني النجار يستطلعان الأخبار سمعا حوارا لفتاتين على ماء بدر ونقلاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلم منه موعد وصول قريش وعندما استجوب الغلام الذي جيء به من جيش قريش علم منه عدد مقاتلي قريش ذلك من خلال معرفته عدد الذبائح التي يذبحونها كل يوم·
عاشرا: اختيار من فيه الكفاية لجمع المعلومات فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يختار رجال مخابرات من ذوي المواهب الخاصة تتحقق فيهم القدرة على التعامل مع أصعب المواقف مثلما حدث مع علي بن أبي طالب ليلة الهجرة وحذيفة بن اليمان الذي تسلل في صفوف العدو ليجمع الأخبار في غزوة الخندق والدول الآن تعامل رجل المخابرات على أنه مقاتل له كل حقوق المقاتل·
بلغ عدد العمليات الحربية في عصر النبوة أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة.
وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية.
تحليل التوزيع الزمني والكمي
------------------------- أول ما يسترعي الانتباه، التوزيع الزمني للغزوات خلال الفترة التي دار فيها الصراع المسلح بين المسلمين وأعدائهم في عصر النبوة، والتي امتدت سبع سنوات تقريباً من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة (من صفر سنة 2 هـ، إلى رجب سنة 9 هـ) حيث يتضح التوزيع كما يلي:
ا. عدد الغزوات في السنة الثانية للهجرة: 8
ب. عدد الغزوات في السنة الثالثة للهجرة: 4
ج. عدد الغزوات في السنة الرابعة للهجرة: 3
د. عدد الغزوات في السنة الخامسة للهجرة: 4
ه. عدد الغزوات في السنة السادسة للهجرة: 3
و. عدد الغزوات في السنة السابعة للهجرة: 2
إ . عدد الغزوات في السنة الثامنة للهجرة: 3
ح. عدد الغزوات في السنة التاسعة للهجرة: 1
ومن ذلك نلاحظ ما يلي:
1- أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة -في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والاستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة.
أ. فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة).
ب . ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية".
ج . هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.
د . ونتيجة لذلك تنمو لدى القائد ثقته بنفسه وبكفاءاته وقدراته، كما تنمو لدى سائر أفراد الجيش ثقتهم بأنفسهم وقائدهم، فيواجهون تحديات الصراع المقبلة واثقين من النصر.
3- ونلاحظ أيضاً من تحليلنا لهذا التوزيع الكمي والزمني للغزوات: أنه يكشف عن مبدأ من أهم مبادئ إعداد القادة العسكريين لتولي القيادة، وهو أن يتولى قادة المستقبل قيادة الوحدات الفرعية للجيش تحت قيادة القائد العام، وهذا الأسلوب يفيد القدة من عدة نواح نذكر منها:
ا . مباشرة القيادة عملياً تحت إشراف القائد الأكبر، والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته.
ب . إتاحة الفرصة لهم لملاحظة أسلوب القائد "المعلم" في القيادة الحربية من حيث التخطيط للمعركة وإدارته، وتصرفه في مواقفها المختلفة، وهي فرصة ممتازة للتعليم على الطبيعة واكتساب الخبرة القتالية في الوقت نفسه.
ج . تدريب قادة المستقبل على فن التفكير واستخدام العقل والتعبير عن الرأي وذلك من خلال اشتراكهم مع القائد الأكبر في مرحلة التخطيط للمعارك، ويدخل ذلك في نطاق مبدأ الشورى الذي أمر به الإسلام وطبّقه القئاد صلى الله عليه وسلم خير ما يكون التطبيق حتى قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في كافة غزواته، ففي غزوة بدر مثلاً استشارهم في مبدأ دخول المعركة ضد قريش، واستقر الرأي على قبول المعركة، وعندما وصل جيش المسلمين إلى مكان المعركة نزل الرسول عليه الصلاة والسلام على رأي الحباب بن المنذر الذي أشار بأن ينتقل الجيش إلى مكان آخر أفضل من الأول، لأنه قريب من ماء بدر ويتحكم فيها.
وفي غزوة أحد استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه في مبدأ البقاء في المدينة ولقاء قريش فيها، أو لقائهم خارجها، فاستقر الرأي على الخروج، واستجاب صلى الله عليه وسلم لذلك الرأي وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم".
د . ثم إن هذا الأسلوب بقيد قادة المستقبل من حديث أنه يكسبهم القدرة على إصدار القرارات السليمة، وفي وقتها المناسب، مما يعد من أهم خصائص القيادة الناجحة، ذلك لأن مشاركتهم في مرحلة التخطيط تتيح لهم معرفة واسعة بفكر القائد ونواياه وأهدافه، وإحاطة وافية بجوانب الموضوعات، والقضايا تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة في المواقف التي يواجهونها في المستقبل بهدي تفكيرهم وحده، ودون حاجة إلى الرجوع إلى القيادة العليا، وخاصة في المواقف المفاجئة أو التي لا تحتمل التأخير.
ثانياً: التحليل النوعي لغزوات الرسولوإذا تناولنا غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحليل من حيث النوع أو الطابع، فسوف تتكشف لنا جوانب أخرى في القيادة الحربية، وفي إعداد القادة وتدريبهم. فقد احتوت الغزوات على شتى صور وأشكال العمليات الحربية كما يلي:
ا. عمليات الإغارة ودوريات القتال والردع والتأثير المعنوي مثل:
غزوة ودان – بواط – العشيرة – بدر الأولى – بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – بدر الآخرة – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان – الحديبية – عمرة القضاء.
ب . العمليات الدفاعية، مثل: غزوة بدر الكبرى – أحد – الخندق.
ج . العمليات الهجومية، مثل: غزوة فتح مكة – غزوة حنين – تبوك.
د . عمليات المطاردة، مثل: غزوة السويق – حمراء الأسد – ذي قرد.
ه . عمليات الحصار والقتال في القرى الحصينة، مثل: غزوة بني قينقاع – بني النضير – بني قريظة – خيبر – الطائف.
نتائج التحليل النوعي والزمني والكمي
------------------------------- من هذا التحليل نستخلص أن جيش الإسلام الأول (قادة وجنداً) قد تعلموا ومارسوا عملياً كل أشكال العمليات الحربية تحت قيادة القائد المعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم اكتسبوا بذلك خبرة قتالية فائقة. كما نستخلص أنهم اكتسبوا خبرة حربية في مواجهة التنظيمات الحربية والنظريات القتالية المختلفة، فهم قد حاربوا المشركين من العرب الذي كانوا يقاتلون بأسلوب الكر والفر، وحاربوا اليهود الذين كانوا يحاربون "من وراء جدر" ومن داخل حصونهم وقراهم المحصنة.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك المعارك التي دارت في مواجهة الروم في عصر النبوة "مؤتة وتبوك" يكون جيش الإسلام قد اكتسب الخبرة القتالية في مواجهة الجيوش المنظمة، بالإضافة إلى خبرته في قتال الجيوش غير المنظمة (قريش والقبائل العربية الأخرى).
وبعد، فإنه يبقى لنا من هذا التحليل درس عظيم، وهو أن نمط "القائد المعلم" هو النمط الذي يدعو إليه الإسلام، والذي لا يرتضي عنه القائد المسلم بديلاً، وأن القائد في الإسلام "صاحب مدرسة ورسالة" يدرك تماماً أن قيامه بإعداد أجيال من القادة من أسمى واجباته لها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. صدق الله العظيم.
" د. صالح العطوان الحيالي "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق