السبت، 23 أبريل 2016

حنين النوارس / قصة قصيرة / للقاص الاستاذ عبد الكريم الساعدي / العراق

حنين النوارس
عدت بلا موعد، أحمل شوقي الهائم بغفوة الندى إلى نهرٍ ارتدت ضفّته حلّة أيامنا الجميلة، وليالٍ تلألأت بالشجون والرؤى والشوق، عدت إليه أحمل تشوهات سنين الفراق، وانتظرت ساعات وسط عتمة دهشة، أذهلتني، أسقطَت لهفتي أمام عراء النهر، لم أرَ غير ملامحي، ورجلاً يحمل بقايا عمره، يبحلق في كتيب بعينين يتوسدان محجر النسيان. لا بروق، لا قلوب مسافرة. القارب الجميل الذي أودعته قصائدي، كان يتهادى وسط الموج.
- سيدي، مالي أراه مقلوباً على وجهه ؟ 
لم يجبني، بعدما رماني بطرف عينه مستغرباً. أسكنني الصمت والحيرة، هل أنا في طيف؟
- سيدي الكريم، أين تلك الشموس؟ وأين أقمار الليالي ووشوشة النهر؟
- بني، أراك إمّا غريباً وإمّا مجنوناً، ألا ترى، حتى النوارس غادرت أعشاشها، ماذا ترى غير أشجار شاخت عند جدار الوحشة والنسيان؟ انتبه، ثمة غرباء على آخر الشارع. كانوا يعتلون دباباتهم، يلوكون كلاماً لا أفهم منه شيئاً، يحملقون فيّ عن بعد، كأني غريب اجتاح منطقة محرّمة.
- لا يهمني أمرهم، سأقلع بقاربي إلى تلك التلّة الخضراء المعانقة حلم الطفولة، الناشدة قصائدي المنسيّة، سأغادر حيث الأغصان التي تتفيأ هواجسي، وذكرى امرأة ممزوجة بأسفاري.
التفت إليّ مستغرباً، ارتسمت على محيّاه دهشة ونظرات استنكار، لم أفهم منها شيئاً. وانتظرت تحرقني آه الأمس، أمس مطرّز بليالي الموت، وآهات منافي لا قرار لها، لوّنتنا تلك الليالي بالخوف والعدم ونفايات الحروب، فكم من قمم جبال مرعبة، اتخذت شكل مجزرة، نحرت فوق مراياها أحلاماً وسنيناً، اختلطت عند سفوحها وفوق صخورها أشلاؤنا، أشلاء مبعثرة مازالت راقدة تحت الثلج، نابضة بأوجاعنا، تطلق أنفاساً نازفة بالجنون، تحكي قصة جندي مرّ من هنا وآخر غادر جسده مكرهاً. فزّ الرجل مذعوراً حين رآني أكلم نفسي كما المجنون:
- يا هذا لقد أفسدت خلوتي، حقاً إنّك لمجنون، ألم ترَ النهر حاصره الجفاف، وخطى العاشقين ترجمها طقوس الحرائق؟.غادر المكان مسرعاً ملوّحاً لي بأنامله التي اقتربت من صدغه بحركة دائرية. 
تركني وحدي في مواجهة النهر، مواجهة طقوس الأمس، أبحر في مركب الذاكرة، ذاكرة لا حدود لها سوى الوجع والحرمان، أستعيد جمال المكان كي تنبت الروح زنابق وياسمين، أمضي في كلّ الاتجاهات، مرايا تورق ظلال قمر راقص فوق شفة الليالي، قناديل تنير أوجاعنا القديمة، يعانقني كأس معطّر برائحة النهر، أمضي في دروب غنّت لها الذكريات، كنّا نأتي هنا نرتّل مواويل الفجر في ظلّ أشجار النخيل والصفصاف التي تّلوح لقدومنا عن بعد، كانت تسعدنا غفوة المساء على أكتاف تثاؤب العيون الناعسة، أضحت الأمنيات أرضاً يباباً، وشواطئ الذكريات ملاذاً ضائعاً ، لا أثر له سوى جذوع متيبّسة، راقدة على صراخ نهرٍ يمور بالعشق لصخب العابرين، يحكي سرّ القصائد التي التهمتها أمواج مفتونة بجنون قارب شيَّعته سنون الجفاف والخراب، قارب يحلم بضياء المدّ بعدما انتابته قذائف مدجّجة بالجزر. ارتديت أفق الرغبة، تتسلّل بين أصابعي ارتعاشة عناق يتسع لوهج الإبحار لتلك التلّة الخضراء، الغافية على صمت يهمس باللقاء. سأكتفي بفيض كهولتي وعطش غريب لأهلهِ، أمتطي صهوة أنفاس قاربي، وأعبر سموم حرائق الخداع إليها، حتى أهشّم ما تبقى من عروق حيرتي و اندهاشي. كانت مآتم الأحجيات تتلاشى بين دخان الصمت، خطواتي القادمة ترتدي وجه الأمس، المسافة الممتدّة بين أول خطوة وبين القارب المقلوب على وجه الرمال، تغريني بقبلاتها، أحمل مجداف سنين الوجع المرجومة بالخراب والتيه، أنحدر في لباب نسيم هبّ من ضلع الآه، أنشد لهفتي لموجٍ يرسيني لمرافئ الجمال وحكايات الينابيع، ينابيع العشق وبراءة الطفولة، خطى المسير تقطع أزمنة شهقاتي، تتخذ شكل رغبة مجنونة بالصراخ، صراخ يملأ المدى، يجهش بأماني محنّطة بالتوق لضياء القارب، الموج يغسل وجه الأرض، مكتنز باللهاث، القارب مشدود بنشيد المدّ، خطوة خطوتان ثلاث مرتعشة بأصوات حنين النوارس، و ما بين الموج والخطوات مسافة قارب تهتف بالتلاقي، غير أنّ رصاصة من آخر الشارع أسكنت آخر الخطوات.
عبدالكريم الساعدي
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق