ملف للمبدع القاص العراقي الاستاذ عبد الكريم الساعدي / العراق /
تنفرد بنشره مجلة انكمدو وهمسات القمر مع ملفات جميع المبدعين الكبار الاخرين ...
عبدالكريم الساعدي/ قاص
مواليد 1958 – بغداد
حاصل على:
1- شهادة بكالوريوس/ لغة عربية / كلية التربية/ جامعة بغداد/ 1998. 2-
ودبلوم فني/ قسم التربة / المعهد الزراعي الفني / 1979.
عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق
عضو اتحاد الصحفيين العراقيين
عضو نقابة المعلمين العراقيين
المنجز الأدبي والثقافي:
1- ما بعد الخريف /
مجموعة قصصية / دار أمل الجديدة / دمشق/ 2015
2- كوميديا العالم السفلي/ مجموعة قصصية / دار بورصة الكتب/ القاهرة /
2016 3- مرايا الشيب / مجموعة قصصية / مخطوطة
4- ضمير الفصل في القران الكريم/ دراسة نحوية ودلالية (مخطوطة)
الجوائز:
1- حاصل على درع حضارة العراق من منظمة الكلمة الرائدة عن قصتي الفائزة
بالمركز الأول ( طقس عبثي) في مسابقة واقع الطفولة العربية / 2015
2- حاصل على درع بغداد للتميز والإبداع / 2015
3- فوز قصتي ( قرابين البحر ) بالمركز الأول في المسابقة التي أجراها (
صالون مي زيادة الأدبي)
4- فوز قصتي ( صهيل القوافي ) بالمركز
الأول في المسابقة التي أقيمت في الكويت تحت رعاية رابطة أدباء الكويت / 2015 5- فوز قصتي ( هبوط
عابر ) بالمركز الخامس في المسابقة التي أجرتها دار ضاد للنشر والتوزيع / مصر /
2015 والتي تنافس فيها أكثر من 700 قاص عربي.
نشرت قصصي في أغلب الصحف والمجلات العراقية والعربية، وكذلك في المواقع
الألكترونية.
أعمل حالياً مدرساً للغة العربية
دراسات نقدية
1-
دراسة نقدية للأستاذ الناقد أحمد طنطاوي (
مصر )
( مرايا الشيب ) نص يؤسس لنمط مميز في السرد
دراسة نقدية
بقلم أستاذ النقد العربي: أحمد طنطاوي
النص/ مرايا الشيب /
للقاص عبدالكريم الساعدي
كتابة عملاقة تؤسس
لنمط مميز في السرد ..كتابة تعيد إلى الأذهان عصر هذه الريادة للأساطين, كمصطفى صادق الرافعي و قلمه المعجز الجبار
الرصين
, و محمد عبد الحليم عبد الله و ريشته
الناعمة مصورة الغمام و الأصيل و المشاعر المساوقة لهما, و من يماثل هذه الأمثلة و الروافد .قلم واضح أنه نهل و استوعب تماما تراث عميق, و معاصرة تجسِّد الفلسفة
و الفكر الثاقب و التأمل الاشراقي.الكاتب يجيد تمامًا و بشكل مذهل آليات التناول لموضوعاته ... يعرف كيف يقتحمها بحس الخبير الواعي لخصائص المتلقي المنتظر .. هو يُنشىء و منذ الوهلة الأولى جدلية بينه و بين قارئه هذا على أسس معرفية يقترحها مسبقًا, مفادها أن عليك أن [ تتمثل و أن تعايش ] و أن تتشرب الكلمات بقلب عازف حالم و منشد مبتهل .. أنت الآن في ساحة القداسة, و عليك أن تتنسم الأريج, و تستشعر المسك و الأراك, و هذا البخور النادر الذي تحتشد به الأركان. أنا أصر على هذا المنحى العطري التنويمي الذي تمارسه هذه الكتابة
العبقرية الغريبة..أن القارئ لن يكون بعد القراءة هو هو نفس الشخص قبل أن يقترب و يكتشف هذا المنحى الصوفي المحلِّق في الأرجاء يلح عليه الكاتب, و هي سمة
لصيقة
به تمامًا. إنه يدخل بك عبر القراءة إلى
كهوف [ التذوق ] الجليل بالمفهوم الصوفي , و يهمس إليك بالمقولة الشهيرة [ من ذاق عرف ] .. فتعال نديمي _ عبر الكتابة_ نلج غمار الوعي المعرفي الفائق بصياغة أدبية صرفة, و هي
الفلسفة أيضًا بتمامها مستترة
لو تأملنا.(مرايا الشيب) - هذه بالمناسبة- و قبل البدء في محاولة القراءة للنص الثرى _ هي مرايا متعاكسة تُرى فيها الذات على
أسطح
مختلفة الألوان و الإضاءات , فتشكِّل في
مجموعها بانوراما من التعرُّف النشِط للروح في رحلتها
السرمدية.
[1]
حين تقوم الروح
بتجميع المفردات المتناثرة في سماء التوله، في نظرة متأمل يمزج بحكمة رجل
ستيني لن يطأ غير حرائق الأمس و يخرج منها مفعمًا ,
لاشك أن نتوقع التحليق في آفاق تجربة عرفانية عانت من قبل إحباطاته, رجل جديد خرج لتوه من انصهار يماثل
تجربة "جوتاما بوذا " تحت
الشجرة بعد اليقظة و التنور.. الرؤى تتغير حتمًا حين تكتسب الأشياء خطوطها القزحية
متجسِّدة بضياءٍ كأنه آتٍ من سدمٍ بعيدة المكان اختيار يحتشد بكل الإمكانات
الداعية للتفكر المدهش .. نُزل أتخيله في مكان منعزل يؤمه المسافرون , هذا المكان مسرح خيالي ممتاز يردد إيقاع سكنى
الغرباء القليلة الشاحبة
للعابرين في رحلات رمادية و أسفار مجهولة لا شك تحمل في رحمها حكاياها هرم وحيد
يجتر في توهُّج و توقد و لهيب أحداث حياته, و ينبش عبر الذاكرة و يجترح ماضيه المثقل بمعاناته التي ما فتىء ينظرها في المرايا و هو
قابع في دائرة ذاته استكشافًا, هو يراقب في وله و تمعُّن حركة الحياة في
مقابلات مع مراياه الخاصة .. هذه التحركات للمسافرين تلقى انعكاساتها _
تكشـــــُّفًا _ على ذاته القلقة التي تراجع حياتها من جديد المعاني الجديدة لخطوط رسمها الزمن على جبينه دون أن
يدرى, و نشر الشيب ستائره على نوافذ الوجدان, و ها قد حان الآن وقت التعرف و
الاكتشاف
..هذا الاقتراب التدريجي يُماثل ليلة ديكارت
الشهيرة أمام المدفأة و رحلته الفكرية المتدرجة حتى الوصول
إلى الكوجيتو المعروف " أنا أفكر إذا أنا موجود " , و هي وحدة و رحلة اكتشاف موازية أيضا لرحلة حي ابن يقظان منفردًا على الجزيرة النص إذًا إبستمولوجى [ بحث معرفي ] بامتياز , و إن كانت
مادة المعرفة ها هنا هي المعرفة الباطنية
الأفلوطنية المدهشة , و هي تقصٍ مضنٍ عن اللوغوس Logos القانون الكلى للكون و المبدأ الفعال ] , و يجب الحرص على النظر إلى
النص من هذه الزاوية , و لهذا
كنت قد وصفت النص في أول تعليق لي _ و مباشرة _ [أنه إشــــــــــــــــــــراقة تستدعي
التأمل .[
[2.
الضجر و افتقاد المعنى
[2.
الضجر و افتقاد المعنى
يتراوح السرد في النص بين نعومة الاستقصاء .. و
اقتحام دوائر اللهب .. و بشكل عام , فإن قصص الذكريات و التغلغل النفسي
و الاستبطان تتميز بحميمية و توتر و قلق مساوق, في نفس الوقت الذي تتدرج فيه
السياقات في دروب تحاول أن
تلمس الجوانب الخبيئة للنفس .. إن الأحداث [ باطنية ] و التطور تمثله المونولوجات الداخلية و الرؤى الذاتية , و التصور الراسم الرؤيوي و لن نرى أحداثًا خارجية كبيرة , بل إن التطور الدرامي يعتمد على تدرج الشحنات الوجدانية تصاعدًا كلما اقتربنا من بؤرة التذكر , أو
الاكتشاف النهائي المراد كما في
رواية "ذكريات " مثلا لأجاثا كريستي , و التي تحكى فيها استدعاءات ماضٍ يعج بالعلامات , و كما في رواية "
الغثيان
"لسارتر التي أجد
تشابهًا في الروح و السياق العام بينها و بين هذا النص من حيث التعامل بصيغة اليوميات و العدمية المسيطرة , و الإحساس العام
بالعبثية
و عدم وجود المعنى الكامل المفهوم للحياة , و حتى في النهاية التي يحدث فيها الفراق بين البطل و حبيبته إن القصة التي بين أيدينا درس كامل في هذا المفهوم [ مفهوم الضجر
و افتقاد المعنى ] , و هو التجسيد الرمزي لعتبة النص _ عنوانه الدال ) مرايا الشيب )،
فالنص يمثِّل انعكاسات العمر مُلقاة على جدران التأمل ..السطوع و الظلال ..المرايا المتعددة المساهمة في تحقيق التعرُّف و اكتشاف المعنى المستتر.
و عدم وجود المعنى الكامل المفهوم للحياة , و حتى في النهاية التي يحدث فيها الفراق بين البطل و حبيبته إن القصة التي بين أيدينا درس كامل في هذا المفهوم [ مفهوم الضجر
و افتقاد المعنى ] , و هو التجسيد الرمزي لعتبة النص _ عنوانه الدال ) مرايا الشيب )،
فالنص يمثِّل انعكاسات العمر مُلقاة على جدران التأمل ..السطوع و الظلال ..المرايا المتعددة المساهمة في تحقيق التعرُّف و اكتشاف المعنى المستتر.
[3 ]
( أ ) في صناعة النثر
أبو الهلال العسكري في
كتابه { الصناعتين : الكتابة و الشعر }
أورد _ في باب البديع , فصل الاستعارة و المجاز _ نماذج كثيرة رائعة
للكتابة المحلِّـــقة في
سماوات التألق و الفخامة مثل قول أعرابي " ما رأيت دمعة ترقرق في عين , أحسن من عبرة أمطرتها عينها , فأعشب لها قلبي " , و أعرابي آخر
وصف دارًا فقال " هي و
الله معتصرة الدموع . جرت بها الرياح أذيالها , و حلت بها السحاب أثقالها و في
العصر الحديث نجد الأمثلة الراقية عند من أعطوا للنثر ألوانه الفخيمة اللائقة شديدة التأثير كمصطفى صادق الرافعي , و محمد عبد الحليم عبد الله {
الذي يماثل في رأيي مدرسة أبوللو
في الشعر رومنسية و حزنًا } و نموذج شاعر النيل " حافظ إبراهيم" النثري في تعريبه لرواية البؤساء
لفيكتور هيجو و التي بدأها بهذه السطور :
" أشرف على مدينة ديني رجل يضرب في الأرض على قدميه فدخلها و قد مال ميزان النهار و اكتهل اليوم الأول من شهر أكتوبر سنة 1815 و كان قد ركب نعليه عامة يومه فما أدركها حتى أخذ منه الجهد و أعياه النصب و أمله طول الشقة , و حتى ملكه الجوع و نال منه الظمأ و جمع في منظره بين تعب الحياة و تعب السفر , فكانت النظرة إليه تدعو إلى الريبة فيه . لذلك ما نظره أحد من سكان تلك المدينة إلا و مرت بالمخيلة, في أمره و تصويرًا سعوا إلى اتخاذ اللغة سبيلا للتشكيل الفني و رسم اللوحات الشعورية المسرفة في الإيحاء و المغايرة عن الواقع الذي يعانى جفاف روتينيته . بإيجاد العطر المختفي بعيدًا .. و استحضار العبق الكامن داخل الأشياء ليمثلا أمام المخيلة , ليرسما لوحاتها و يردِّدا إيقاعاتها هؤلاء و غيرهم ممن سلكوا نفس هذا المسلك الجمالي في التعامل مع اللغة سبكًا. و كاتبنا هو المظهر الحالي لهذه السلسلة الممتدة عبر حلقات الإبداع الثرى النشِط كما سنرى بهاء الفيوضات , و أنوار التجليات التي أبدعها قلمه العجيب و ريشته الغريبة.
" أشرف على مدينة ديني رجل يضرب في الأرض على قدميه فدخلها و قد مال ميزان النهار و اكتهل اليوم الأول من شهر أكتوبر سنة 1815 و كان قد ركب نعليه عامة يومه فما أدركها حتى أخذ منه الجهد و أعياه النصب و أمله طول الشقة , و حتى ملكه الجوع و نال منه الظمأ و جمع في منظره بين تعب الحياة و تعب السفر , فكانت النظرة إليه تدعو إلى الريبة فيه . لذلك ما نظره أحد من سكان تلك المدينة إلا و مرت بالمخيلة, في أمره و تصويرًا سعوا إلى اتخاذ اللغة سبيلا للتشكيل الفني و رسم اللوحات الشعورية المسرفة في الإيحاء و المغايرة عن الواقع الذي يعانى جفاف روتينيته . بإيجاد العطر المختفي بعيدًا .. و استحضار العبق الكامن داخل الأشياء ليمثلا أمام المخيلة , ليرسما لوحاتها و يردِّدا إيقاعاتها هؤلاء و غيرهم ممن سلكوا نفس هذا المسلك الجمالي في التعامل مع اللغة سبكًا. و كاتبنا هو المظهر الحالي لهذه السلسلة الممتدة عبر حلقات الإبداع الثرى النشِط كما سنرى بهاء الفيوضات , و أنوار التجليات التي أبدعها قلمه العجيب و ريشته الغريبة.
( ب ) ميتافيزيقا
اللغة
كان النقد الجمالي
القديم يتعامل مع فنيات اللغة استخدامًا ظاهريًا يهتم بالخطوط].الألوان الخارجية للوحة دون استيحاء الأبعاد الباطنية و
الماورائية التي يمكن أن [ تهبها
] و توفرها اللغة [ كبناء فلسفي .. كأيقونة فلسفية و سيكولوجية ] تتجاوز الأبعاد المتاحة إلى تلك الأخرى المتجاوزة و
المستحيلة
, و الضاربة في جذور
اللاوعي .. و حتى بالنسبة للمستويات الممكنة للوعي فهي تتعامل معه باعتباره [ وعيًا جديدًا ] .. وعيًا يدرك علاقة جديدة مع
الكون لم يكن
العقل يدركها قبل ظهور النظريات الحديثة التي تدخل نطاق الغرابة و اللامعقول فيما يتصل بالزمن مثلا كالنسبية و الكوانتم _ النظرية الكمية _ بأبعادهما العلمية و الفلسفية، كان الهلال قديمًا صورة بالغة الروعة في تصوير ابن المعتز له :
" انظر إليه كزورق من فضة ** قد أثقلته حمولة من عنبر "
أو أنه :
" كَمِنجَلٍ قَد صيغَ مِن فِضَّة يَحصُدُ مِن زُهرِ الدُجى نَرجِسا "
أو كما وصف الشاعر محمود سامي البارودي محنته بأنه قد :
مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي...فَشِبْتُ وَلَمْ أَقْضِ اللُّبَانَةَ مِنْ سِنِّي
عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ…أَلا شَدَّ مَا أَلْقَاهُ فِي الدَّهْرِ مِنْ غَبْنِ "
إنه الظاهر , و هي المباشرة غير المتوغلة لأسطح المرايا الأخر , تعامل لا يتوخى الانعكاسات العميقة و لا ينبش باحثًا عنها في الثنايا .روح تتشهى القبض على الحقيقة .. بالتأكيد ليست هي الحقيقة كما كان يراها الأدب القديم , و المعروضة نماذج منها فيما سبق عند ابن المعتز , و الذي اكتفى بوصف ( شكل ) الهلال كأنّه زورق فضي يفيض بحمولة سوداء , و لم يتخذه معبرًا لتصوير المماثل النفسي الذي ينوء بالأثقال في عصر قلق و هاجس مترع , و حافظ إبراهيم الذي اهتم بجماليات اللغة فقط , و حتى في عصر الإحياء عند البارودي الذي وصف محنته أن الفراق قد أورده للشيب في عهد الشباب , و شرح الأمر في تقرير مفاده أنه :
عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ فقط .......... و ليس ذلك العالم الكبير الذي صوره " السياب " في قصيدته " غريب على الخليج " لم يرسم هذا الأدب إذًا ( الما وراء ) أو يصور باطن هذه الخطوط المسرفة في عموميتها , و التي اهتم الأدب المعاصر بالتركيز عليها .. كما عند
" بشر فارس " مثلا في جبهة الغيب 1960التى يتطلع بطل المسرحية فيها إلى الوصول إلى "العالية" ذلك الجبل الذي تستقر فيه الأبدية , و حين يستوقفه الإمام كي لا يصعد يخاطبه قائلا:
"حسبك أن تكون سلكت في الطريق، أن تهجر الخيمة بعد أن غلغلت الصحراء في فؤادك، لا نظرة من حدقة جنيت بغبار السنابل، ولكن من حدقة هي للروح طاقة " أو في هاتف المغيب لجمال الغيطاني 1992 التي يحس البطل فيها بهاتف غريب يضطره إلى الهجرة نحو مغيب الشمس يتساءل :
" لماذا يكون الموت فجرا ؟ كذا الميلاد في معظم الأحيان ؟ و
" خلال للحظات الفاصلة , الواصلة بين عالمين , دوى الهاتف , برق , لكم تكررفيما بعد , لكنه لا ينسى أبدا المرة الأولى , هكذا .. لا تمحى البدايات من الذهن , كذا النهايات , أما ما يقع بينهما فنسبى " أو كما بلغ الذرى بعد ذلك في " كتاب التجليات " 1997 وصولا إلى كاتبنا الأستاذ عبد الكريم الساعدي .. هذا الامتداد الطبيعي و الصادق في تمثيل هذا الاتجاه الأسلوبي العميق الفريد.
العقل يدركها قبل ظهور النظريات الحديثة التي تدخل نطاق الغرابة و اللامعقول فيما يتصل بالزمن مثلا كالنسبية و الكوانتم _ النظرية الكمية _ بأبعادهما العلمية و الفلسفية، كان الهلال قديمًا صورة بالغة الروعة في تصوير ابن المعتز له :
" انظر إليه كزورق من فضة ** قد أثقلته حمولة من عنبر "
أو أنه :
" كَمِنجَلٍ قَد صيغَ مِن فِضَّة يَحصُدُ مِن زُهرِ الدُجى نَرجِسا "
أو كما وصف الشاعر محمود سامي البارودي محنته بأنه قد :
مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي...فَشِبْتُ وَلَمْ أَقْضِ اللُّبَانَةَ مِنْ سِنِّي
عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ…أَلا شَدَّ مَا أَلْقَاهُ فِي الدَّهْرِ مِنْ غَبْنِ "
إنه الظاهر , و هي المباشرة غير المتوغلة لأسطح المرايا الأخر , تعامل لا يتوخى الانعكاسات العميقة و لا ينبش باحثًا عنها في الثنايا .روح تتشهى القبض على الحقيقة .. بالتأكيد ليست هي الحقيقة كما كان يراها الأدب القديم , و المعروضة نماذج منها فيما سبق عند ابن المعتز , و الذي اكتفى بوصف ( شكل ) الهلال كأنّه زورق فضي يفيض بحمولة سوداء , و لم يتخذه معبرًا لتصوير المماثل النفسي الذي ينوء بالأثقال في عصر قلق و هاجس مترع , و حافظ إبراهيم الذي اهتم بجماليات اللغة فقط , و حتى في عصر الإحياء عند البارودي الذي وصف محنته أن الفراق قد أورده للشيب في عهد الشباب , و شرح الأمر في تقرير مفاده أنه :
عَنَاءٌ وَيَأْسٌ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ فقط .......... و ليس ذلك العالم الكبير الذي صوره " السياب " في قصيدته " غريب على الخليج " لم يرسم هذا الأدب إذًا ( الما وراء ) أو يصور باطن هذه الخطوط المسرفة في عموميتها , و التي اهتم الأدب المعاصر بالتركيز عليها .. كما عند
" بشر فارس " مثلا في جبهة الغيب 1960التى يتطلع بطل المسرحية فيها إلى الوصول إلى "العالية" ذلك الجبل الذي تستقر فيه الأبدية , و حين يستوقفه الإمام كي لا يصعد يخاطبه قائلا:
"حسبك أن تكون سلكت في الطريق، أن تهجر الخيمة بعد أن غلغلت الصحراء في فؤادك، لا نظرة من حدقة جنيت بغبار السنابل، ولكن من حدقة هي للروح طاقة " أو في هاتف المغيب لجمال الغيطاني 1992 التي يحس البطل فيها بهاتف غريب يضطره إلى الهجرة نحو مغيب الشمس يتساءل :
" لماذا يكون الموت فجرا ؟ كذا الميلاد في معظم الأحيان ؟ و
" خلال للحظات الفاصلة , الواصلة بين عالمين , دوى الهاتف , برق , لكم تكررفيما بعد , لكنه لا ينسى أبدا المرة الأولى , هكذا .. لا تمحى البدايات من الذهن , كذا النهايات , أما ما يقع بينهما فنسبى " أو كما بلغ الذرى بعد ذلك في " كتاب التجليات " 1997 وصولا إلى كاتبنا الأستاذ عبد الكريم الساعدي .. هذا الامتداد الطبيعي و الصادق في تمثيل هذا الاتجاه الأسلوبي العميق الفريد.
[4 ]
الأسلوب و السرد
بداية, لا أتخيل أن يُكتب هذا النص بأي شكل آخر غير هذا الشكل , و لا أسلوب و قلم غير هذا القلم .الجماليات.لتناول و معالجة السياق المحموم الرهيف, ساروا جميعًا بإحكام
و سبك مذهل في بلاغة و تمكن يستثيران التأمل و الدهشة الكاملة :فسيفساء اللغة .. الجماليات .. الشعريالراسمة. .. الإيقاع الصوتي و التناغمي بين الجمل و الفقرات , معمار هندسي يدعو للتوقف , فالعتبة مثلا :
" مرايا الشيب" بصيغة الجمع , تؤكد _ منذ البداية _ ما سيتضمنه النص من تراوحات و أخيلة عاكسة _ فهي ليست مرآة واحدة مخاتلة , بل هي مرايا مثيرة للقلق , و أن المرايا المتعددة ستسعى لرسم المعنى الشائق من خلال تقليب الأوجه , و عدم الارتكان للظن الواحد اليقيني , فالحقيقة في النهاية مغلّفة برقائق الخداع و عدم الفهم الكامل "ما كنت أدري أنّي دوّنت أنين النزلاء، كبرياءَ الأمس، بعدما لفظتهم لوعة" النهاية هي تجربة صوفية .. و هي استدعاءات ماض يعج بالعلامات . التعامل الآن يسعى للقبض على الكامن في الأشياء .. إيمان بتجليات الباطن اللامحدودة , و تلك اللهفة العارمة للتوحد بالكون في هرمسية تستبدل
"مطوّقة بالإثم " جملة واحدة حوت مجلدًا من سماوات التألق المصوِّر لهؤلاء الذين يحملون
تعاستهم _ و خطاياهم _ تنوء بها ظهورهم و يسعون لما يشبه المطهر الدانتي , و يشير أيضًا من طرف خفي إلى فكرة المخلّص و مفهوم الفداء في المفهوم المسيحي . المعنى فلسفي غائر , و لا تصلح كل الطرائق القديمة لرسمه , فالمعنى متسع للغاية و متشابك , و القارئ نفسه هو قارئ جديد مغاير , و بين الكاتب ] الحديث [ و القارئ [ الحديث ] وشائج و جدليات
تختلف _ أيضًا _ باختلاف كل من الكاتب ( الفذ ) و المتلقي ( الواعي) , روابط و اتفاق مسبق على المشاركة المزدوجة لكشف المغاليق عبر التحليق المتكاتف في سماوات التجلي الفائق، و التجربة هنا في :
الكوجيتو الديكارتي [ أنا أفكر إذا أنا موجود ـــــــ إلى [أنا أسبر أغوار الوجود و أتشربه و أحاوره و اتحد به ..... إذا أنا موجود ] إنّها مراودة صوفية للقبض على الحقيقة .. و أنوار التجلي
" كان المكان يوشوش بالصمت والهدوء، يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع عيون تقطر دهشة وندم، مكان اتكأَ فوق عجز نزلائه. ، أجسادٌ خاوية مرّ بها المكان أرقاً "
بداية, لا أتخيل أن يُكتب هذا النص بأي شكل آخر غير هذا الشكل , و لا أسلوب و قلم غير هذا القلم .الجماليات.لتناول و معالجة السياق المحموم الرهيف, ساروا جميعًا بإحكام
و سبك مذهل في بلاغة و تمكن يستثيران التأمل و الدهشة الكاملة :فسيفساء اللغة .. الجماليات .. الشعريالراسمة. .. الإيقاع الصوتي و التناغمي بين الجمل و الفقرات , معمار هندسي يدعو للتوقف , فالعتبة مثلا :
" مرايا الشيب" بصيغة الجمع , تؤكد _ منذ البداية _ ما سيتضمنه النص من تراوحات و أخيلة عاكسة _ فهي ليست مرآة واحدة مخاتلة , بل هي مرايا مثيرة للقلق , و أن المرايا المتعددة ستسعى لرسم المعنى الشائق من خلال تقليب الأوجه , و عدم الارتكان للظن الواحد اليقيني , فالحقيقة في النهاية مغلّفة برقائق الخداع و عدم الفهم الكامل "ما كنت أدري أنّي دوّنت أنين النزلاء، كبرياءَ الأمس، بعدما لفظتهم لوعة" النهاية هي تجربة صوفية .. و هي استدعاءات ماض يعج بالعلامات . التعامل الآن يسعى للقبض على الكامن في الأشياء .. إيمان بتجليات الباطن اللامحدودة , و تلك اللهفة العارمة للتوحد بالكون في هرمسية تستبدل
"مطوّقة بالإثم " جملة واحدة حوت مجلدًا من سماوات التألق المصوِّر لهؤلاء الذين يحملون
تعاستهم _ و خطاياهم _ تنوء بها ظهورهم و يسعون لما يشبه المطهر الدانتي , و يشير أيضًا من طرف خفي إلى فكرة المخلّص و مفهوم الفداء في المفهوم المسيحي . المعنى فلسفي غائر , و لا تصلح كل الطرائق القديمة لرسمه , فالمعنى متسع للغاية و متشابك , و القارئ نفسه هو قارئ جديد مغاير , و بين الكاتب ] الحديث [ و القارئ [ الحديث ] وشائج و جدليات
تختلف _ أيضًا _ باختلاف كل من الكاتب ( الفذ ) و المتلقي ( الواعي) , روابط و اتفاق مسبق على المشاركة المزدوجة لكشف المغاليق عبر التحليق المتكاتف في سماوات التجلي الفائق، و التجربة هنا في :
الكوجيتو الديكارتي [ أنا أفكر إذا أنا موجود ـــــــ إلى [أنا أسبر أغوار الوجود و أتشربه و أحاوره و اتحد به ..... إذا أنا موجود ] إنّها مراودة صوفية للقبض على الحقيقة .. و أنوار التجلي
" كان المكان يوشوش بالصمت والهدوء، يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع عيون تقطر دهشة وندم، مكان اتكأَ فوق عجز نزلائه. ، أجسادٌ خاوية مرّ بها المكان أرقاً "
" عدت وأنا كلّي شوق لأملأ كأسي من إيقاع ثمالته، من نبع أنينه "
" حين أطلق أحلامه المنسيّة اغتاله الفجر، كان فجراً كاذباً "
" أفترشُ أهداب المكان، تفزعني مقل تحدّق في الضباب، تنتظر أدوارها، تعدّ ما تبقّى من عمر". الزمانية \ المكانية تشكِّل مع الأبطال وحدة ما , يتم النظر إليها من خلال منشور زجاجي متقن الصنع .
[5 ]
لكل فن كتابي طريقته المميزة له , فكتابة المقال
الصحفي تختلف عن الكتابة القانونية عن الكتابة العلمية , و جميعهم يختلفون عن الكتابة
الأدبية التي تختلف هي أيضًا جناسيًا : { قصة \ شعرًا\ نقدًا و حتى في مجال القصة
فطبيعة الموضوع تقتضى [ نمطًا خاصًا ] من التناول .. [الأسلوبية حسًا معيناً ] من المعالجة .... } فالموضوع
السيكولوجي المتوتر اللاهث يقتضى [ كتابة قلِقة ] كما في قصص إدجار آلان بو
الكابوسية الخانقة التي تتميز بالسرعة و نيرانية الكلمة الصارخة المرضى النفسيين و
العقليين و القبور و لتصور البشاعة و
الجرائم , و الموضوع الشاعري الهامس ستختلف حريرية الألفاظ و رهافتها تمامًا عن
التناول السابق. أما الموضوعات
الميتافيزيقية الماورائية التي تخاطب الروح بالأساس في رحلتها السديمية الغامضة
المجهِدة _ كهذا الموضوع الفلسفي العميق _ فلابد أن تهرع إلى معالجة [ فوق \عادية
] في الوصف الذي يعالج مستوىً سادسًا أو
سابعًا من الوعي يجعل المكان مثلا: : .
يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع، صراخ يتلاشى في هدأة النسيان" "
و "يتكىء فوق عجز نزلائه" هذا التجسيد للمكان الذي يجعل الجماد يضج بالصراخ غير المجدي, و يشارك القابعين فيه أساهم , بل يغمره الإنهاك حتى يتكئ هو على عجزهم الملول , هو تصوير لا تقدر عليه كلاسيكيات الأدب العربي القديم في أقصى ما وصلت إليه من براعة بلاغية الصور تتابع في تدفق موجي ساحر لتؤكد ما ذهبت إليه من ما ورائية الرؤى الواصفة المتحدة بالشخصيات اتحادًا تامًا:
فرّ إلى نافذة الوجع، يلتهم مرارة صمته، فجاءت كلماته من فم ماضٍ يغشاه مدّ بعيد" "
القصة تحتشد كلها بأمثال هذا التناول , و من العبث الاستمرار في استحضار الأمثلة , و إلا سأنسخ القصة كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ عبد الكريم الساعدي علامة بحق في مجال الكتابة الفائقة الشائقة المحكمة , و المعالجة ذات الأبعاد الثلاثة , و استخدام قوس قزح ريشة , و مياه الأمطار مدادًا , و هو بحق فخر للكتابة العربية الرصينة.
يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع، صراخ يتلاشى في هدأة النسيان" "
و "يتكىء فوق عجز نزلائه" هذا التجسيد للمكان الذي يجعل الجماد يضج بالصراخ غير المجدي, و يشارك القابعين فيه أساهم , بل يغمره الإنهاك حتى يتكئ هو على عجزهم الملول , هو تصوير لا تقدر عليه كلاسيكيات الأدب العربي القديم في أقصى ما وصلت إليه من براعة بلاغية الصور تتابع في تدفق موجي ساحر لتؤكد ما ذهبت إليه من ما ورائية الرؤى الواصفة المتحدة بالشخصيات اتحادًا تامًا:
فرّ إلى نافذة الوجع، يلتهم مرارة صمته، فجاءت كلماته من فم ماضٍ يغشاه مدّ بعيد" "
القصة تحتشد كلها بأمثال هذا التناول , و من العبث الاستمرار في استحضار الأمثلة , و إلا سأنسخ القصة كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ عبد الكريم الساعدي علامة بحق في مجال الكتابة الفائقة الشائقة المحكمة , و المعالجة ذات الأبعاد الثلاثة , و استخدام قوس قزح ريشة , و مياه الأمطار مدادًا , و هو بحق فخر للكتابة العربية الرصينة.
2- دراسة نقدية للناقد علوان السلمان (العراق )
استفزاز الذاكرة في(ما بعد الخريف(
دراسة نقدية للمجموعة القصصية ( ما بعد الخريف ) للقاص عبدالكريم الساعدي
بقلم الناقد: علوان السلمان
القص القصير تعبير عن الواقع المتداخل والخيال لتحقيق الوظيفة الإيحائية والجمالية عبر وعي المنتج وخزينه المعرفي المحقق للمتعة من جهة والمحرك للذاكرة الباحثة عن المنفعة من جهة أخرى..بنسيج فني تشكل الدلالات النفسية والاجتماعية روحه وعموده الفقري..
و(ما بعد الخريف)المجموعة القصصية التي خلقت عوالمها ذهنية متأملة لواقعها فكانت شاهدا ببصمة مبدعها عبدالكريم الساعدي..وأسهمت دار أمل الجديدة في نشرها وانتشارها/2015..كونها شاهدا على واقع أكلته الحروب فكان تركيزها على الهم الاجتماعي والنفسي كونه محرك فاعل ومؤثر في الوجود ابتداء من العنوان بفونيماته الثلاثة الدالة على ظرفية زمانية وواقع مأزوم تكشف عنه صورة الغلاف بمياهه الآسنة ومحيطه الظلامي الرامز بسواده ونص الإهداء الموازي...
(إلى..
من توضؤوا بشهد الحرائق
أحلامكم التي وطأتها سنابك الدمع
ما زالت تهطل) ص5
..إضافة إلى كشفها عن زمن القص 1984 ـ 2014 وهي فترة مكتظّة بالحروب والحصارات..(هي ذات الألم..أكفان..وخوف..كنت وحيداً سقيماً لمّا احترفت الكلام يخالني أمسك ضوءاً يستفز الوجع..كان خريفاً متجبّراً..مكابراً..)..ص7..
هذا يعني إنّ المجموعة تشكّل موقفاً مؤطّراً بإطار الحياة المكتظّة بالمتناقضات المتصارعة الحادة وهي تسير بخطين متداخلين: أولهما واقعي وثانيهما تخييلي
)وأنا معلّق في قبضة عينين تهزئان بأنفاسي اللاهثة بأطياف الحنين وأصداء الذكريات..أخشى أن تفتح لي جرحاً في خاصرة العشق..ومما زاد ارتباكي أنّه كان يفاجئني كلّ لحظة وعيناه تقفان عند اسم علي..كنت كنصف ميت أذوق مرّ الهوان..
ـ ما اسم أبيه؟
ـ ..............
كنت أطوف حول ملامحي المختبئة بين السطور بخشوع ناسك..كان يشبهني تماما..مرت ثوان بعمر الكون وأنا أرتل في المدى دعاء له نبض خوفي وضعفي وأنين الأمهات..عيناي تدوران بين الأسماء المرثية وبين ظلّ أمي القابعة خلف أسلاك المنايا..إنّها مسافة شهقة موت أو حياة..مسافة ثماني سنوات رعب متشحة بسواد القهر والحزن والتلاشي ..تدور في قبضة الموت ولما انغلق فضاء المجهول وختم على قلقي بالشمع تحررت من أسر كابوس العزاء..هرعت إلى أمي ملوحاً لها عن بعد بضوء أمل لعلها تستظل به..كانت فرحة لأنّه لم يمت..
ـ ألم أقل لك إنّ الموت لا يقدر أن يحزّ رقبة الورد؟ أريد أن أراه..) ص20..
فالنص يعبر عن لحظات مشبعة برائحة الحياة المأزومة وتفاصيلها بجمل سريعة متلاحقة بدلالاتها الحركية وانتقالاتها المتداعية..الموظفة بقصدية عبر مشاهد وصور وأجواء كاشفة عن لحظات الموت الذي يسير بموازاة الواقع بلغة مجازية مانحة إياه عمقا فكريا وبعدا دلاليا باعتماد القاص التكثيف على مستوى السرد والحدث والشخصية والحوم حول العمق السايكولوجي ورد الفعل النفسي بلغة انفردت بدقة تعابيرها التي تتسم بدور وظيفي في معناها..مع ابتعاد عن الإسهاب والاستطراد الوصفي واعتماد الرمز كوسيلة لإغناء عوالم النص والتعبير عن اللحظة المشهدية الحافلة بالاستثنائي من الواقع واستفزاز الذاكرة المستهلكة..كونه قدرة مشحونة بدلالات تفرض التأويل من أجل استنطاق الوجود...
(اختلس ميقات الطيوف كي لا يستبيحني المكان.أحدق في خيط من نور يتدلى من مصباح معلق في سقف صالة انتظار المشفى..يمضي على هدب الفراغ فاغرق فيه..وقبل أن يغزو جرحي صرير الباب استيقظت..انفض عن أنفاسي رعشة القلق ودوامة الانتظار..أرتل حلمنا المكتوم..انهض من مكاني يأتيني الصوت ممتشقاً وجه الحيرة والانكسار حين حاصرتني العيون بعطفها قالوا..
ـ إنّها ماتت
ـ أيّ واحدة منهما؟
ـ ....................
اعتقلني الذهول وانتظرت الدموع لكنها لم تأت..كانت الدموع تترقرق في عيون الناعي..امتد صمتي وذهولي في حناجر الصدى..صدى لهائي المهزوم يشيعه الوجع ولوعة الفراق في حواس الغرباء..وحين لم يعد غير الموت حاضراً..أضحت الأحلام تلاشياً..تعكزت طرف الغياب لألملم الفجيعة وانتظرت خطواتي لتخوض في مواسم العذاب..مواسم يلجمها السواد والغربة المميتة..لقد آن لي أن أعانق جرحي..لكن من سيشهق بالصراخ عند مدن طريدة أطفأت مصابيح المساء..ابنتي التي تحمل دفء العالم أم زوجتي التي أضنتها جراح المنافي؟ لا ادري..كانت عيناي تدوران بين باقة الزهور وبين لعبة ابنتي..)ص42..
فالنص يركز على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية السرد عبر لغة تمتلك دلالاتها لخلق تركيبة مكونة من الحلم المتداخل والواقع ليضفي عليه تسجيلية تمتلك قدرتها على التقاط اللحظة المشهدية الغنية بدراميتها النافدة في أعماق الوجود ومحاولة الكشف عن دواخل الشخصية الأنموذج عبر حوارها الذاتي(المنولوجي) والتي تعد وحدة أساسية منبثقة من واقع متشظ..باعثة للوعي عبر التساؤلات التي أضفت النمو الفكري عليها كي تحقق حضورها وتسهم في انبثاق هواجسها الحيوية.. بلغة تلامس الحياة بتراكيبها المشهدية وطراوة ألفاظها الواضحة المعالم ببعدها عن التقعر..
وبذلك قدم القاص نصوصا مكتظة بشحناتها الدلالية وترميزاتها المستفزة للذاكرة وتوثيق لحظتها العيانية التي شغلت مساحات زمنية لأحداث نامية مستجيبة لشخوصها مع اقتراب من التخييل والمجاز في التصوير ومزج الحقيقة بالحلم باعتماد لغة تلامس مجرى الحياة ونبضها المنطلق من لحظة وعي متجاوز للواقع وافرازاته للتعبير عن رؤية إنسانية تقوم على التركيز الدلالي بألفاظ موحية مثيرة للتأويلات بتجاوزها المعنى المتفرد بأحاديته..فضلا عن إنّه يوظف تقانات فنية منها التنقيط (النص الصامت)الذي يستدعي المتلقي كي يكون مسهما في بناء النص..
ـ إنّها ماتت
ـ أيّ واحدة منهما؟
ـ ................ /ص42
...فضلاً عن أنّه يوظف الهامش للشرح والتوضيح بعيداً عن الدلالة الفنية والجمالية..إضافة ألي أنسنة الجمادات وجعلها فعلاً فاعلاً في الواقع..
(على مسافة موت أحمر يقف(كردمند) شامخاً مدجّجاً بمذاق الغضب..تنحني الريح له بعدما تواطأ الموت معه..يحدق من أعلى قمته بعينين لا يخونهما المدى صوب(جومان)..) ص27..
3- دراسة نقدية للناقدة عزة الخزرجي( تونس)
دراسة نقدية لقصة (
طقس عبثي ) للقاص عبدالكريم الساعدي
بقلم الناقدة عزة الخزرجي / تونس
------------------------------
وممَا أومأت إليه قصة /طقس عبثي/ القاص عبد الكريم الساعدي
''للممارسات الدينية والطقسية دور في إحياء الأصول والعود الأبدي إليها ''
ميرسيا الياد
(الغصن الذهبي )
''الفعل الطقسي لصيق بكلّ الأفعال الاجتماعية ومناسبة لتعبئة الوعي الجمعي بطاقات من المعنى في مجتمعات تتغيّر بسرعة وتعيش أزمة كينونة''
الباحث محمد اسماعيل زاهر
فالطقوس على ضوء المقاربة الانثروبلوجية ضرب من الممارسات الرمزية في ارتباط وثيق بأساطير البدء والتكوين وطفولة الكائن البشري عندما كان هذا الكائن يحاول استمالة الآلهة والابتهال في حضرتها وتقديم القرابين حتى تمنحه السلام والانسجام والطمأنينة والأمان ولكن هذا الطقس الممارس في هذا المتن السردي* طقس عبثي*منزاح عن هذه المنابت الأولى مفارق لها إذ اقترن باللاجدوى وأفرغ من معانيه الأصلية وشحن بمعاني جديدة ترشح بطلانا وزيفا.
وهكذا كانت عتبة النصّ الأولى العنوان واقفة في مهبّ دلالات القلق إذ أنّ الفعل الطقسي بلا نجاعة ولا فائدة، ولا شكّ أن لهذا العدول عن وظائف الممارسة الطقسية المعهودة مبرراته وقد يفصح عنها المتن السردي أو حبكته الفنّية.
ينفتح هذا المتن السردي بصيغة مفتاح عادة ما تستهلّ بها النصوص السردية على عادة الرواة ونسجاً على منوالهم ولكنّ هذه الصيغة'' ذات زمن شاحب'' الافتتاحية شذّت كما شذّ الطقس العبثّي عن المعهود إذ كانت متصلة منفصلة في آن في تواشج مع القوالب الموروثة مثل زعموا أنّ / ويحكى أنّ/ ويقال/ بنية وصياغة ولكنّها على غير مثال سابق عمقا ودلالة فالنعت شاحب ينأى بها عن مجرّد التأطير الزماني أو إعلان بدء الحكي لتصبح حاملة لدلالات الشحوب المقترن بعدم وضوح الرؤية والتخبّط والعشوائية و اللامعنى و تتكثّف هذه الدلالات بتواتر أفعال متكررة في رتابة وبلا تجدد . ومن يأتيها تحوّل إلى آلة صمّاء فقدت كلّ إحساس وأضحت مفتقرة إلى طاقة حيويّة حتى وهي تبدأ يوما جديدا ولكنّه مبتذل لرتابته وأضحى بلا سحر البدء أو لذًّه فكانت أفعال هذه الآلة أقرب إلى الانعكاسات الشرطيّة المملّة بلا حسّ أو حياة وكانت اللاءات الآخذ بعضها برقاب بعض معلنة ألاّ تفادي لأوجاع تواجه هذا الفرد المنفرد ومن هذه الأوجاع المؤلمة لا طيف/ ولا أرجوحة /ولا حلوى/ وكلّها رغبات طفوليّة مكبوتة أو مجهضة طالها اللجم أو القمع واكتوى مفتقدها بنار الحرمان منها وهي من لوازم كل طفولة لم يصبها الشحوب وتضمن إذا كانت سويّة تأمين وضع من التوازن المطمئن وإنّها لإحدى إشارات العنوان *الطقس العبثي* أي فقدان الشعور بالحماسة المصاحب للأنشطة الطقسيّة الجماعيّة واضمحلاله فهذا المهمّش المفارق لسربه ولجماعته أصبح غير مبال وهو مستسلم للفراغ وللرتابة وللملل ويتصرّف كمن أصابه الإنهاك ويغرق في هذا الفراغ إذ لا وجود لما يفجّ به قوّة خلاّقة تجعله يتجاوز حدود فرديته. ولا يمكن أن تتجاوز هذه الفردية ووحشتها والرفيق كائن ضعيف فالأمّ ''هرستها الأيام'' وأضحت كيانا هشّا يسهل اختراقه لوهنه وعلله .
وتضيق دائرة الاكراهات والمكبّلات ويضطلع الحيّز المكاني الضيّق ''ركن في غرفة'' بدور الكشف عن جوانب من نفسيّة هذا الصبي المكتهل وهو يشعر بالاختناق لإطباق منغصات عدّة على عنقه فكان بذلك كيانا مأزوما محبطا عبثا يحاول الإفلات من قبضة الشعور بانعدام القدرة على التغيير والتبديل ويقف عاجزا إزاء ما يجري.
وهكذا يتّخذ القاصّ عبد الكريم الساعدي هذه الشخصيّة القلقة بؤرة للحدث والمبئر في آن آلية فنيّة تميل بنا إلى الواقعية المحبطة بكافة مفرداتها وتفصيلاتها وما تعكسه من متناقضات وكأنّ هذا الغلام الوجه الأخر لبطل قصّة المعطف للأديب الروسي ( نيكولاي غوغول ) وكأنّ هذا الصبي ممن يحيل عليه ضمير المتكلّم الجمع
''كلّنا خرجنا من معطف غوغول ''
إذ لازمه البؤس منذ الولادة '' وكأنّما ولد معه ختم بالبؤس على جبينه ''
إذا فالبؤس المادي والمعنوي من الوشائج الجامعة بين بطل طقس عبثي للقاصّ عبد الكريم الساعدي وبطل المعطف وقد لا نعدم وشائج أخرى ومنها آلية السخرية حكمة المفارقات الإنسانية وابنة المتناقضات والأسئلة المعلّقة على تحبير الباحث محمد إسماعيل زاهر .
وحتّى تتجلّى هذه المفارقات عمد القاصّ إلى أسلوب التقديم والتأخير والى تصرّف فنّي بالبنية الزمنية بالتلاعب بالمشاهد عبر فنّية الاسترجاع بالالتفات إلى الماضي في محاولة '' هرب من فزع اللحظة ''و متناقضاتها ولكنّ المحاولة باءت بالفشل وما الابتسام المرَ القلق إلا علامة من علامات استواء الأضداد فليس الأمس بأفضل من اليوم فيستحضر الصبي تذكّراً صورة ''أب مسجّى'' مستسلم للغياب فليس ما كان بأقل عبثية ممًا هو كائن بل إنّ الحاضر أشدّ عنفا وقهرا وقد تبدّى في صورة الأمّ المنتحبة وهي تشكو الفاقة والعجز '' لا وقود لدينا '' ومنطوقها هذا اختزل لحظة الأزمة وقد بلغت أوجها وذروتها و إنّها للحظة فاجعة والصبي المكتهل يجلد بسوط من نار الشعور بالعجز والاستسلام للواقع المأزوم العبثي، ولمّا كانت القصة القصيرة تحشد كلّ ثقلها في اتجاه النهاية لتكون كالقنبلة التي تلقى من طائرة ويكون هدفها الأساسي المسارعة بإصابة الهدف بكلّ طاقتها الانفجارية فقد كانت للصبي ومن ورائه القاصّ قنبلته الموقوتة وفي لحظة الكشف وفي النهاية و بطاقة تفجيرية هائلة أقدم هذا القلق حدّ الجنون على إحراق كتبه حتى يمنح أمّه دفئاً كما منحته من قبل عند تخلّقه جنيناً رحماً اكتنفه في حنوّ وحضناً أمومياً لن تظفر بما هو أدفأ منه.
وتعكس هذه النهاية غير المنتظرة والمفاجئة والمخاتلة للمتلقي منحى ثوريا تجلّى في كتابات المرحلة الراهنة بكل تناقضاتها في واقع بلغ منتهى تداعياته الرهيبة. ومن المتون السردية المنخرطة في هذا الاتّجاه ''الأشجار واغتيال مرزوق'' لعبد الرحمن منيف فبطل الرواية منصور عبد السلام لم يجد من وسيلة ليحقق ثورته الفارغة من كلّ مفهوم سوى الرفض والرغبة في تحطيم كل شيء يقول هذا البطل المأزوم '' ماذا أفعل إذا كانوا يريدون لنا أن نظلّ إلى الأبد في المزابل وتحت الأحذيّة ...يجب أن يدمّر نهائياً لعلّ عالماً جديداً يقوم على أنقاضه، لعلّ بشراً من نوع جديد يأتون من صلب عالم آخر لكي يطهّر هذه الأرض التي تعلوها طبقة سميكة من القذارة والتفاهة ''
والقاص عبد الكريم الساعدي انخرط في سياق الترجي والتمني وفي لحظة التنوير في قصته القصيرة طقس عبثي تجلّت أدوات تستعمل إمّا تمنيّاً أو ترجّياً ''لعلّ أمّي تحظى ببعض الدفء'' والسياق والرابط العاطفي المقدّس يرشّح لعلّ هذه لتكون ترجّياً ورغبة ممكنة الوقوع وأمّا ''علّني أجد ظلّي'' وقد ختمت بها القصّة قصّة الطقس العبثي فلن تكون إلاّ للدلالة على تمنّ مشرب حسرة إذ أن الواقع المريض والمرير لا يرتجى منه إلا أن ينسل أماني مجهضة.
بقلم الناقدة عزة الخزرجي / تونس
------------------------------
وممَا أومأت إليه قصة /طقس عبثي/ القاص عبد الكريم الساعدي
''للممارسات الدينية والطقسية دور في إحياء الأصول والعود الأبدي إليها ''
ميرسيا الياد
(الغصن الذهبي )
''الفعل الطقسي لصيق بكلّ الأفعال الاجتماعية ومناسبة لتعبئة الوعي الجمعي بطاقات من المعنى في مجتمعات تتغيّر بسرعة وتعيش أزمة كينونة''
الباحث محمد اسماعيل زاهر
فالطقوس على ضوء المقاربة الانثروبلوجية ضرب من الممارسات الرمزية في ارتباط وثيق بأساطير البدء والتكوين وطفولة الكائن البشري عندما كان هذا الكائن يحاول استمالة الآلهة والابتهال في حضرتها وتقديم القرابين حتى تمنحه السلام والانسجام والطمأنينة والأمان ولكن هذا الطقس الممارس في هذا المتن السردي* طقس عبثي*منزاح عن هذه المنابت الأولى مفارق لها إذ اقترن باللاجدوى وأفرغ من معانيه الأصلية وشحن بمعاني جديدة ترشح بطلانا وزيفا.
وهكذا كانت عتبة النصّ الأولى العنوان واقفة في مهبّ دلالات القلق إذ أنّ الفعل الطقسي بلا نجاعة ولا فائدة، ولا شكّ أن لهذا العدول عن وظائف الممارسة الطقسية المعهودة مبرراته وقد يفصح عنها المتن السردي أو حبكته الفنّية.
ينفتح هذا المتن السردي بصيغة مفتاح عادة ما تستهلّ بها النصوص السردية على عادة الرواة ونسجاً على منوالهم ولكنّ هذه الصيغة'' ذات زمن شاحب'' الافتتاحية شذّت كما شذّ الطقس العبثّي عن المعهود إذ كانت متصلة منفصلة في آن في تواشج مع القوالب الموروثة مثل زعموا أنّ / ويحكى أنّ/ ويقال/ بنية وصياغة ولكنّها على غير مثال سابق عمقا ودلالة فالنعت شاحب ينأى بها عن مجرّد التأطير الزماني أو إعلان بدء الحكي لتصبح حاملة لدلالات الشحوب المقترن بعدم وضوح الرؤية والتخبّط والعشوائية و اللامعنى و تتكثّف هذه الدلالات بتواتر أفعال متكررة في رتابة وبلا تجدد . ومن يأتيها تحوّل إلى آلة صمّاء فقدت كلّ إحساس وأضحت مفتقرة إلى طاقة حيويّة حتى وهي تبدأ يوما جديدا ولكنّه مبتذل لرتابته وأضحى بلا سحر البدء أو لذًّه فكانت أفعال هذه الآلة أقرب إلى الانعكاسات الشرطيّة المملّة بلا حسّ أو حياة وكانت اللاءات الآخذ بعضها برقاب بعض معلنة ألاّ تفادي لأوجاع تواجه هذا الفرد المنفرد ومن هذه الأوجاع المؤلمة لا طيف/ ولا أرجوحة /ولا حلوى/ وكلّها رغبات طفوليّة مكبوتة أو مجهضة طالها اللجم أو القمع واكتوى مفتقدها بنار الحرمان منها وهي من لوازم كل طفولة لم يصبها الشحوب وتضمن إذا كانت سويّة تأمين وضع من التوازن المطمئن وإنّها لإحدى إشارات العنوان *الطقس العبثي* أي فقدان الشعور بالحماسة المصاحب للأنشطة الطقسيّة الجماعيّة واضمحلاله فهذا المهمّش المفارق لسربه ولجماعته أصبح غير مبال وهو مستسلم للفراغ وللرتابة وللملل ويتصرّف كمن أصابه الإنهاك ويغرق في هذا الفراغ إذ لا وجود لما يفجّ به قوّة خلاّقة تجعله يتجاوز حدود فرديته. ولا يمكن أن تتجاوز هذه الفردية ووحشتها والرفيق كائن ضعيف فالأمّ ''هرستها الأيام'' وأضحت كيانا هشّا يسهل اختراقه لوهنه وعلله .
وتضيق دائرة الاكراهات والمكبّلات ويضطلع الحيّز المكاني الضيّق ''ركن في غرفة'' بدور الكشف عن جوانب من نفسيّة هذا الصبي المكتهل وهو يشعر بالاختناق لإطباق منغصات عدّة على عنقه فكان بذلك كيانا مأزوما محبطا عبثا يحاول الإفلات من قبضة الشعور بانعدام القدرة على التغيير والتبديل ويقف عاجزا إزاء ما يجري.
وهكذا يتّخذ القاصّ عبد الكريم الساعدي هذه الشخصيّة القلقة بؤرة للحدث والمبئر في آن آلية فنيّة تميل بنا إلى الواقعية المحبطة بكافة مفرداتها وتفصيلاتها وما تعكسه من متناقضات وكأنّ هذا الغلام الوجه الأخر لبطل قصّة المعطف للأديب الروسي ( نيكولاي غوغول ) وكأنّ هذا الصبي ممن يحيل عليه ضمير المتكلّم الجمع
''كلّنا خرجنا من معطف غوغول ''
إذ لازمه البؤس منذ الولادة '' وكأنّما ولد معه ختم بالبؤس على جبينه ''
إذا فالبؤس المادي والمعنوي من الوشائج الجامعة بين بطل طقس عبثي للقاصّ عبد الكريم الساعدي وبطل المعطف وقد لا نعدم وشائج أخرى ومنها آلية السخرية حكمة المفارقات الإنسانية وابنة المتناقضات والأسئلة المعلّقة على تحبير الباحث محمد إسماعيل زاهر .
وحتّى تتجلّى هذه المفارقات عمد القاصّ إلى أسلوب التقديم والتأخير والى تصرّف فنّي بالبنية الزمنية بالتلاعب بالمشاهد عبر فنّية الاسترجاع بالالتفات إلى الماضي في محاولة '' هرب من فزع اللحظة ''و متناقضاتها ولكنّ المحاولة باءت بالفشل وما الابتسام المرَ القلق إلا علامة من علامات استواء الأضداد فليس الأمس بأفضل من اليوم فيستحضر الصبي تذكّراً صورة ''أب مسجّى'' مستسلم للغياب فليس ما كان بأقل عبثية ممًا هو كائن بل إنّ الحاضر أشدّ عنفا وقهرا وقد تبدّى في صورة الأمّ المنتحبة وهي تشكو الفاقة والعجز '' لا وقود لدينا '' ومنطوقها هذا اختزل لحظة الأزمة وقد بلغت أوجها وذروتها و إنّها للحظة فاجعة والصبي المكتهل يجلد بسوط من نار الشعور بالعجز والاستسلام للواقع المأزوم العبثي، ولمّا كانت القصة القصيرة تحشد كلّ ثقلها في اتجاه النهاية لتكون كالقنبلة التي تلقى من طائرة ويكون هدفها الأساسي المسارعة بإصابة الهدف بكلّ طاقتها الانفجارية فقد كانت للصبي ومن ورائه القاصّ قنبلته الموقوتة وفي لحظة الكشف وفي النهاية و بطاقة تفجيرية هائلة أقدم هذا القلق حدّ الجنون على إحراق كتبه حتى يمنح أمّه دفئاً كما منحته من قبل عند تخلّقه جنيناً رحماً اكتنفه في حنوّ وحضناً أمومياً لن تظفر بما هو أدفأ منه.
وتعكس هذه النهاية غير المنتظرة والمفاجئة والمخاتلة للمتلقي منحى ثوريا تجلّى في كتابات المرحلة الراهنة بكل تناقضاتها في واقع بلغ منتهى تداعياته الرهيبة. ومن المتون السردية المنخرطة في هذا الاتّجاه ''الأشجار واغتيال مرزوق'' لعبد الرحمن منيف فبطل الرواية منصور عبد السلام لم يجد من وسيلة ليحقق ثورته الفارغة من كلّ مفهوم سوى الرفض والرغبة في تحطيم كل شيء يقول هذا البطل المأزوم '' ماذا أفعل إذا كانوا يريدون لنا أن نظلّ إلى الأبد في المزابل وتحت الأحذيّة ...يجب أن يدمّر نهائياً لعلّ عالماً جديداً يقوم على أنقاضه، لعلّ بشراً من نوع جديد يأتون من صلب عالم آخر لكي يطهّر هذه الأرض التي تعلوها طبقة سميكة من القذارة والتفاهة ''
والقاص عبد الكريم الساعدي انخرط في سياق الترجي والتمني وفي لحظة التنوير في قصته القصيرة طقس عبثي تجلّت أدوات تستعمل إمّا تمنيّاً أو ترجّياً ''لعلّ أمّي تحظى ببعض الدفء'' والسياق والرابط العاطفي المقدّس يرشّح لعلّ هذه لتكون ترجّياً ورغبة ممكنة الوقوع وأمّا ''علّني أجد ظلّي'' وقد ختمت بها القصّة قصّة الطقس العبثي فلن تكون إلاّ للدلالة على تمنّ مشرب حسرة إذ أن الواقع المريض والمرير لا يرتجى منه إلا أن ينسل أماني مجهضة.
*نصوص مختارة
1- دموع خرساء
كانت
الحشود قوافل مسافرة نحو الجنوب، نحو الموت والخراب، تستجدي من الدروب رائحة
بقاياها في ظلّ دموع خرساء، مختنقة بالخنوع والحرمان، يطلّ منها جفاف الزمن المسجى
في ظلّ الحرب وأصداء اليأس، قوافل من التوابيت، جحافل من النساء الملتفّة بعباءات
الدموع والعويل والفزع، جنود يحلمون بالأياب. كانت الأيام والليالي جراحاً نازفة
بعصف الآهات، تلثم شفاه الكون بالصراخ، باحثة عن وجه الله في كونها المنسيّ في
منعطف النيران والموت اليومي، عند منعطف المقابر المختنقة برفات القتلى، قتلى تبحث
في الظلام عن بقايا كفن، لعلّه يغطي بعض عوراتها. كنت أنا وأمي، نلوذ بدمنا
المحترق شوقاً لرؤية وجه أخي الذي عصفت به الأيام في دائرة المحنة، وهو لمّا يزل
في مقتبل أحلامه البريئة. كان مساء (الفاو)* غائماً ينقر قلوبنا بالرعب، ومساء وجه
أمي مشرقاً بأمل أن تلقاه:
- لا تخشَ شيئاً، سنلتقيه، أنا أعلم أنّ الموت لايحزّ رقبة الورد،عليٌّ
بستان ورد.
هكذا قالت لي أمي. كانت شعلة من الكبرياء، وأنا بقايا رماد، أرغب أن أغفو
على ملامحه البريئة في ظلّ دموع أخفيتها خلف جدار الوجل. ولمّا اقتربنا من خلفيات
وحدته العسكرية عند أطراف المدينة، تركت أمي خلف الأسلاك الشائكة، مفترشة تباريح
قلبها، مبلّلة ريق الكون بما تبقّى من أمل. خلع المساء برقعه، لبس وجه الرعب
المدجّج بالعتمة والتيه في احتمالات الفجيعة. كان الضابط برتبة عقيد، كرهته حين
نهشتني مخالب عينيه بالموت قبل أن يمدّ يده بالسلام:
-
ما اسم أخيك؟
-
علي...
صاح على أحد الجنود وملامحه يعتريها الانزعاج:
أعطني قائمة أسماء الشهداء.
جفلت وطافت بي دهشة مطوّقة بحجب خفية على صمت سجلات الموت، سطور تجهش
بأسماء غابت في صمت إلى الأبد، كان دمي مشنوقاً بالارتجاف، يرتجّ بحرارة القهر مثل
عصفور صغير بيد طفل، كنت أرقب عينيه عن كثب، تقلّب صفحات الماضي، تجتاز الخطوط،
خطوط الموت التي لعقت خفقات القلب بقسوة، وأنا معلّق في قبضة عينين تهزءان بأنفاسي
اللاهثة بأطياف الحنين وأصداء الذكريات، أخشى أن تفتح لي جرحاً في خاصرة العشق، وممّا
زاد ارتباكي أنّه كان يفاجئني كلّ لحظة وعيناه تقفان عند اسم علي، كنت كنصف ميت، أذوق
مرّ الهوان:
-
ما اسم أبيه؟
- ................
كنت أطوف حول ملامحي المختبئة بين السطور بخشوع ناسك، كان يشبهني تماماً. مرّت
ثوانٍ بعمر الكون، وأنا أرتّل في المدى دعاء له نبض خوفي وضعفي وأنين الأمهات، عيناي
تدوران بين الأسماء المرثية وبين ظلّ أمي القابعة خلف أسلاك المنايا، إنّها مسافة
شهقة موت أو حياة، مسافة ثماني سنوات رعب، متّشحة بسواد القهر والحزن والتلاشي،
تدور في قبضة الموت. ولمّا انغلق فضاء المجهول وختم على قلقي بالشمع، تحررت من أسر
كابوس العزاء، هرعت إلى أمي ملوّحاً لها
عن بعد بضوء أمل لعلّها تستظلّ به، كانت فَرِحة لأنّه لم يمت:
-
ألم أقل لك أن الموت لا يقدر أن يحزّ رقبة الورد؟ أريد أن أراه.
ومضيت وحدي في سيارة الأرزاق إلى وحدته على أمل أن تراه أمي ولو لدقائق،
مضيت والطريق إليه كما حدقة الموت، يغمزنا بجنائز تترى، تتقافز الأشلاء منها، أشلاء
افترستها شهوات جنرالات الموت البلهاء، كانت الحرب تنطلق من خلف غرائز الصمت، فتفرّ
الأجساد ويبقى الصدى معلقاً بغيمة، يترجّل منها دوي القذائف وأزيز الرصاص، ينخلع
من ظلّها صراخ وبقايا رماد، مختلطاً بدخان يترقرق بدم يهذي بأحلام تحتمي بألمها.
كان الطريق يلتهم بعض أنفاسي كلّما توغلت في مسافات الموت، مسافات بلا أزمنة، تزدحم
بالغموض، بالغضب في ظلّ عبوات ناسفة، وضجيج المجنزرات وأمطار القذائف وبقايا
شظايا، والفضاء مشتعل بالأرق والنسيان وظمأ الغزاة. كان الطريق ضريراً قبل آخر
خطوة ونحن قاب الموت أو أدنى، الجندي الذي رافقني يحلم بموته في تمام صمت مضيء عند
خليج السأم والأوهام، يلتمس خطوات أقرب إلى الجري، أدركت أنّنا نسير بلا ظلّ،
تقتفي خطواتنا مساحة شاسعة من المخاوف، وأنّ الأرض تأخذ شكلّ الخنادق، والسماء
تحمل أدمعنا، وظلال وجه أمي الذي ترك زيف المكان وجاء يسعى مرتعشاً في رحلة الإسراء،
حاملاً دفء أحضان الأمس. لمحت عن بعد ظلال جنود، لوثت وجوههم سنين الدمار والخراب،
كانوا كالموتى يحملون بقايا تعب دفين، تجمعهم حزمة من الجراح وباقة من طيوف الأسى،
يصطفون خلف جنائزهم في زمن بِيْعَ فيه الماء والنخل، وصُودرت فيه خلاخيل الأمهات، جدائل
الصبايا، ورغيف الخبز، زمن زرع وجه صباحاتنا جرحاً وسط ضجيج الأناشيد وصهيل موائد
العهر. كان عليّ أن أقتفي أثره، أرقب أخباره وأنا أرسمه حلماً على قيد الحياة، ألقي
السؤال بعد الآخر في موقد الفراغ، لعلّه يزهر فرحاً. كانت الخطى رثة طاعنة
بالتعثّر، والموت ملقى بين خنادق صلبت على جدرانها أحلام الطفولة. أرخيت جفن العين،
أطلقت في المدى وجه أمي، كان النور خافتاً يسطع ويغيب بين خوافي الريح، أخذ قلبي يرتجف
بقسوة، وأنا ألمح شخصاً ما، قادماً نحوي، له ملامحي، فبرزت عيناه من تحت السكون
ملوّحاً بـ(بيريته ) السوداء كطيف موشّى بالحنين، يتلو سيرة الخراب، تعانقنا عن
بعد وخطواتنا لمّا تزل تحتلّ مواقعها، والشوق محنّى بالدمع، كان العناق مكتظاً
باللوعة ومرايا الذكرى، تلاشينا وسط ينابيع العطش، ونحن نكتم دموعنا في سعة من
الحضور:
- لقد تأخرتَ كثيراً.
- نعم تأخرتُ كثيراً...
حينها لم يكن للدمع محلّ،
وأدركت أنّ قلب أمي لم تخنْه النظرة.
----------------------------------------------------------------------------- * الفاو: منطقة في أقصى جنوبي العراق، شهدت
أعنف المعارك في ظلّ حرب السنوات الثمان من
ثمانينيات القرن العشرين .
2- غبار القصائد
في ساحة الميدان رأيته يحثّ الخطى إلى شارعه، أسطورة علت صهوة القوافي، لم
يمسَسْها كدر، تتبعه خيول من كبرياء، تظلّل سَيرَهُ أسراب السمو والبهاء، يهزّني
طرب اللقاء، حسبي دقائق معدودات؛ لأبحر في عوالم الصور والخيال، عوالم تناطح
الغيوم، تلكزها، فتشدو مطراً من كلمات، تتلو سورة المجد رعداً في مواكب الكلام.
أمضي قدماً خلفه، لعلّي أدرك ظلّه قبل أن يختفي بين الباعة المتجولين، باعة أكل
الرصيف أعمارهم، طاعنة وجوههم بالشقاء، أيديهم تلوّح له سلاماً، وقبل أن أجهّز
أوراقي وأهيّئ كاميرتي، سمعته يذمّ الدنيا ملتاعاً،
لَحِا اللهُ ذِى الدُّنيا
مُناخاً لِراكبٍ ... فَكلُّ بعيدِ الهمِّ فِيها مُعَذَّبُ
كان الوقت صباحاً، أنثر النداء خلفه:
- أبا محسد..
- نعم يا ولدي.
- أريد أن أقطف وردة من بستانك.
يبتسم، يطوّقني بندى السؤال:
- ألا يكفيك عطرها؟
- بلى، ولكن أريد أن أفخر بها.
عبرنا مقهى الزهاوي معاً، نقلّب صفحات مدائن
الشعر، مدائن قضمتها الخرائب، توقف فجأة، أراه محدّقاً في لوحة تعلو باب المقهى:
- أ
ترى تلك الندب؟. تلك أسماء أهيل التراب على مربدها.
- سيدي دعنا نسترح هنا قليلاً قبل أن تلتقي
مريديك.
- أين؟
- في مقهى( حسن عجمي ). هنا يا سيدي، تتجلى
أنفاس الشعراء والكتاب وعشاق الحرف، أماني وملامح أحبة افترشت أرضها قبل أن تزكم
أنوفنا رائحة البارود؛ فتفارقنا إلى الأبد، فاملأ جوانحي غبطة وأوراقي جواباً قبل أن ترحل ثانية.
استوى على عرشه كما الطاووس، يقلّب بميمنة
الشعر صفحات الكوفة وبغداد والشام، وأخرى لمصر، فتراني معلّقاً بغبار الأسماء
والقصائد، ينتصب أمامي سيف الدولة الحمداني وأبو المسك وأبو الفضل بن
العميد...سألته:
- لِمَ
لم تحفل بشعراء بغداد لمّا نالوا من عرضك وتباروا في هجائك؟
- أتقصد ابن الحجاج والحاتمي
وابن سكرة الهاشمي؟
-
نعم سيدي الجليل.
- لقد فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع
طبقة منهم في الشعراء:
أرى المتشاعرينَ غروا بذمى ...
ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يكُ ذا فمٍ مرّ مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
أهزّ جذع الفضول، يتساقط صدى الشبهات أحجية
نبوة، كان الشاعر مصلوباً على أجنحة الكفر،
- وأيم الحرفِ، إنّي نبي الشعر لا غير.
يداهمني أثر في جبهته، ينتزع ذكرى أليمة،
أوصد عليها أبوابه مكرهاً،
- جرت بيني وبين ابن خالويه النحوي مسألة في
اللغة، وقد ضعّفت رأيه، فما كان منه إلّا أن يرميني بدواة حبر؛ فكان هذا الجرح،
جرح أعلن فراقي عن الأمير. وقتئذ أطلقت صرخة استنكار في حضرته:
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي
... فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
الماضي يمتدّ بيننا جسراً، الحرف يصهل بين
شفتيه متّشحاً بالزهو، يطارد خيل ربات الشعر، عيناه تأسران المكان، أنفاسه تسكنني،
نوارس التفرّد تحوم حول رأسه... قلبه يهفو إلى سوق الورّاقين، الشعراء والكتّاب
يمدّون له سهلاً، يصطفّون شوقاً ليكتبوا معلّقة اللقاء.
عند بوابة سوق الوراقين، يستوقفنا رجال من
الشرطة، تصفعهم الحيرة لرؤية صاحبي، تتملكهم الدهشة من غرابة زيّه، يوخزني
التساؤل:
-
إلى أين؟ ومن يكون هذا الغريب؟
- هذا مالئ الدنيا وشاغل الناس.
- أمجنون أنت؟ أرني هويته.
يعتريني الصمت والذهول ممّا يجري، يصيبني الذعر،
الأجواء غائمة، أقع في دائرة مشادة كلامية، يورق الغضب في دمي. الضابط الواقف
جانباً يأمر باعتقالنا بتهمة الشغب:
- عجيبٌ أمركم، والله لو تعلمون ما قاله
الجواهري في حقّه لما اعتقلتموه.
- وماذا قال؟. كانت كلماته ساخرة.
- تحدّى الموتَ واختزل الزمانا ... فتىً لوّى
من الزمنِ العنانا
فتىً خبطَ الدُنى والناسَ طرّاً... ...وآلى أن يكونَهما فكانا
وقبل أن نساق كالخراف إلى مركز الشرطة، أطلق
ضحكة عالية:
- قل كلمتك لقاضي التحقيق، لعلّ الجواهري
يكفل خروجكما.
وبعد ثلاثة أيام عصيبة قضيناه في غرفة مظلمة، أُطلق سراحنا لعدم كفاية
الأدلة، على أن لا يدخل صاحبي سوق الورّاقين.
ودعته عند رقبة الجسر معتذراً لما جرى، وقبل
أن يعبر الجسر ناحية الكرخ، التفت نحوي:
- أوصيك بني، والشعراء، أن تطعم حرفك بهاء
الصدق وعظيم المعنى، اجعله وهجاً تهيم به فراشات الحب والجمال، ولا تخشَ إلّا
الله.
كانت قوافي الشعر وبحور الفراهيدي تلهث خلفه
شوقاً لنبضات قلبه. في ذلك اللقاء كنت
غارقاً في ينبوع الجمال، تداهمني غفوة السحر، كنت تائهاً في كهف بيتين من الشعر،
في حروف من ضوء، خُطّت بماء الألق على جيد تمثاله الغافي على شاطئ دجلة:
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي ... وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ
تَعرِفُني... وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ
ربما نلتقي في المرة القادمة في سوق الورّاقين حين تحفّ بنا نهارات
تحتضن ضوءاً شاسعاً، يتسع لوهج العاشقين على ضفاف مربدنا.
3- صمت
كنت حريصاً على التزاماتي الرتيبة؛ كي أنحت ما تيسر من وجودي، على شرفات
السوق المشرعة على ضجيج الوجع؛ يبدو المشهد من أعلى مثل لوحة سريالية؛ ضجيج صامت،
عربة يجرها حمار، رضيع يتعثّر بثدي امرأة انطفأ الكحل في عينيها، شباب يقفون قرب
البوابة، رافعين ياقاتهم في زهو، بناطيلهم مثبتة بإحكام عند منتصف استهم، فتيات
يتدثّرن بملاءات سود، دمى تلملم أعطاف حلم الأطفال، راقدة فوق متاريس السوق، مجنون
يردّد خطيئته في موجة غناء منذ ألف عام، شيخ يمسّد طرف عصاه، يخثّر عينيه رعب صرخة قديمة، صدى موهوم لموكب ملكي، محاط
بحاشية تردّد تراتيل الخراب في صمت هامد؛ الشارع يمشي تحت أقدام الحفاة، يفرش
موائده، يرسم خطى التيه فوق تقويم بائد؛ الجميع يحلّق في برد الصمت؛ يهبط المساء
بشفقه الأحمر، ينشر أشرعة انفجار موشّى بالتكبير، يمزّق أذني، يخرسني ذهول انفجار
آخر، يتضخّم، يصير وحشاً، ينحر نذور اليوم في طقس ذليل، ينكسر حاجز الصمت، يحلّق
العويل والصراخ مع ارتفاع الدخان في سماء ملبّدة برعب وحشي؛ تمطر شظايا وأعضاء
بشرية، تجلد أحلاماً ميتة؛ أقف على تلّ الحطام فزعاً، ذراع يلّوح بالوداع، كتف ما
زال يحمل صرة الهموم، صدر عارٍ إلّا من قبلات أمّ وتميمة بائسة، ثياب ممزّقة، تبحث
عن جسد أدمنت رائحته، شفاه منهمكة بالتسبيح، العيون غائرة في محجر الحريق؛ أحضنها
باكياً، أصلي من أجلها، أحتمي بجذع نخلة مقطوعة الرأس، أدوّن نافلة الحرائق، أسترق
النظر إلى وجه المساء، يرتبك، يندسّ في معطف غروب متوهج بظلمة الأجداث؛ تُجمع
الأشلاء قرب الرصيف، تبدو كما الدمى المشوّهة، مغطّاة بأسمال الرماد. أهرب بعيداً
لعلّي أدرك الوضوح.
الرصيف ينحني خجلاً، يتمرّغ بالدم والوحل،
يذرف دموعه فوق الأشلاء المتناثرة، يتقوّس دهشة وسط ظلمة طافحة بالبشاعة؛ بينما
الشارع يتلّوى في متاهته، يمضي بعيداً، مشتعلاً بلهب أحمر، فارشاً موائده في ظلّ
مواكب الصمت.
4- عطب
- بني، سيصبح لك شأنٌ. قالها منذ أربعة عقود خلت.
الصدى يقرع سمعي، يجلو صدأ غيبوبتي، أسرج
دمعي مثقلاً بالخوف، أمتطي صهوة عدمي المحض، متأبطاً قلقي، يراودني شعور غريب أن
أذهب لمقهى يسمى غرناطة؛ لعلّي أدرك
كينونتي، أمشي كعجوز يتوكأ على خصلات شعر سوداء، تبرق في مفرق الشيب، متعثراً
بخطواتي، يشاكسني الأمل، أبحث عن آثار خطاي في مدينة هرمة، ما زلت أذكر أول لقاء
في ذلك المقهى المزدحم بالضجيج والمضمخ برائحة التبغ المحلّي، أذكر أنّه يقع بين
مكتبة صغيرة ومحل لبيع العطور؛ أرتب الماضي، أمضي محتضناً ثروة من حنين، رأيته
منتظراً قدومنا، لم يبصر غيري، كانوا أضغاث أحلام، سرّ بي أيما سرور، رسمنا هدأة
أحلامنا على نغم ( البنفسج )، ودفء استكانات الشاي المقدمة من سماورات كبيرة،
ننتظر طلوع الفجر، تشرق مواعيدنا في جادة مظلمة، حفظتُ الطريق جيداً، غير مبالٍ
بمنعطفات الممنوع، مفتوناً بالأسماء وخمر القصائد وعطر وطن مصلوب على كتف المقابر؛
سلكت كلّ الدروب، مشمراً عن ساعديّ، متوضئاً بالأمل حتى انطفأت ناري لمّا حاصرتني
ريح القضبان، معصوب العينين، أرقص فزعاً على نغم سياط جلاد محترف، حشد من السنين
يمرّ، القلب يخفق، يعوم في مدى كوني شوقاً ليشمّ روائح ورود الصباح، وبعد حين من
الوجع خرجت أبحث عن الجهات، عارياً أتجول دون دليل؛ لأولد ثانية في جحيم الحروب،
لا أعلم كيف عشت كلّ هذا الموت، كنت ملتاثاً بأغنية حزينة، تستدعي ماضياً أفل،
مبتهجاً بحزني، أدور حيث الوهم دار، أعتلي سلالم المجهول، أتوسل ذكرى منسية؛
لعلّها توقظ الحياة، ليس ثمة من ملامح تشير إلى ذات الطريق الذي سلكته يوماً ما،
الأزقة تمسّد شعر الخراب المنسدل على واجهات البيوت الأمامية، يؤرقني رؤية الأشياء
معلّقة في هاوية الجحيم، يفزعني أنين الموتى، خيط من الدمع ينسلّ من عيني، ألوذ
بحزني منكسراً، مضطرباً؛ لمّا انبثق المكان أمامي ساخراً، ملوحاً لي بالعطب,
مزدحماً بالعويل وبخرافة (بُني، سيصبح لك شأنٌ )؛ عيون المارة منطفئة، تغرق في
موجة ضحك حتى الإعياء، أنزوي جانباً،
مندهشاً، أفتّش عن طريق يخرجني إلى عنوان يحتضن ملامحي، يبدو أنّ الطرق تلبس
أقداماً غير قدميّ، لا مقهى هنا، ولا مكتبة ولا محلاً لبيع العطور؛ لا شيء سوى
رمادٍ، ورائحة غائطٍ وبولٍ وبارود، ومحلاتٍ لبيع الملابس العسكرية.
5- طقس عبثي
ذات زمنٍ شاحب، تراني أستيقظ من نوم طويل، أفرك عينيَّ، لا أثرَ لطيف،
أتطلّع إلى السماء، غيوم داكنة، أحدّق عبر النافذة، لا أرجوحة، لا قطعة حلوى.
الصباح معتلّ بعزلة خانقة، أصحو على سعال أمّي التي هرستها الأيام، تربض قرب
الباب، ترتجف من شدة البرد، أنزوي في ركن الغرفة، خيبة وغربة عن المكان والزمان؛ هكذا أنا، طفولة
تتأرجح في غياهب المجهول رغم أنفي، أحاول أن أتسلّق ذاكرتي هرباً من فزع اللحظة،
أبتسم هازئاً، لا شيء غير أب مسجّى دون ملامح. في تلك اللحظة، وقبل ذهابي إلى المدرسة،
سقطتْ دمعة من عين أمّي، لم تكن دمعة، كانت طوفاناً من الوجع والانكسار, تحدّجني
بنظرة محاطة بالغموض، تتلو أزمنة الفجيعة، تعتذر:
- لا وقودَ لدينا.
يخذلني الحياء، يلفّني الجزع والحرمان، كلّ شيء
فقد ملامحه. أتساءل،
" هل خرجت من معطف الحماقة أم هي أقدارنا؟
".
أشمّ عبق معلمي الأول، أعتذر لمدرستي
الطينية، أحرق كتبي؛ لعلّ أمّي تحظى ببعض الدفء، أرقص فزعاً، أستنفر دموعي، أتشكّل
طقساً عبثياً؛ فأهرب صوب اللاأين، علّني أجد
ظلّي.
6- أحلامٌ وذباب
انقضى يوم آخر، عيناه الغائرتان في كهف
الأسى، مازالتا معلّقتين في سقف القاعة، ظلمة شاحبة تقرع المكان، تحمله على براق
لحظة صمت مغلّفة بأحلام عاقرة، سحاب لايمطر. كلّ شيء حوله يبدو باهتاً، ضنيناً،
حاول أن يرتّق أحلامه المبعثرة عند أطراف سريره، بعدما أخذته رعشة خفيفة، تغصّ
بلهاث شهوة عوالم وهمية، إلّا أنّ طنين ذبابة ماردة أطفأ ذلك الشعاع الهارب من
حلكة ليله. امتطى غضبه وأطلق سيلاً من اللعنات:
" في الصباح قصف الطائرات ودوي المدافع، وفي الليل
الذباب!"
التفت حوله، جميع رفاقه
يغطّون في نوم عميق، إلّا هو، ابتلى بأرقٍ متجدّد. مرّت ساعات يتوسل نومه، الأبواب
موصدة، الظلمة تمخر عباب عينيه المعلّقتين في سقف الأوهام، وما من طيف يمرّ، ولا
صورة تجوس ظلّ ذاكرته الهرمة. الصداع يتسلّل إلى رأسه، الذبابة الماردة مازالت
تدور بين الحين والآخر حوله، ترصد صمته، ترشقه بوابل من طنين، قفز من فراشه
مذعوراً، يداه تلاكمان الهواء، الفراغ، يطارد الذبابة بحنق - بلا وعي- من مكان إلى آخر، يرتطم بالجدار، يسقط، تؤسره
الخيبة. يمتطي خطوات الخذلان، ما تبقى من ليله. يذرع المكان كالمتسول، يقتفي
هزائمه المتلاحقة، يجفّف عرق جبينه، يستوي على سريره، ينظر إلى السقف ثانية، يرصف
أشلاءه التي بعثرها الطنين، يبتسم، يدسّ رأسه تحت الغطاء، يبدو أنّه تذكر شيئاً
ما. وقبل أن يتسلّق ضوء الصباح أفق فجر جديد، يستيقظ الجندي على صوت صافرة النهوض
لقيامة جديدة، فتح عينيه ببطء شديد، مسّ عينيه شبح العريف، فانطفأت أحلامه، كانت
حفنة من رماد خلّفها عند وسادته:
-
لا أدري لماذا يتكرر موتنا؟ ولماذا يهدم الذباب أحلامنا البائسة؟
-
أ ما زلت تحلم، أيّها الدب الكسول؟
-
وكيف تعيش أيّها الأبله؟ وأردف بنبرة حزن:
- لم يبقَ لنا سوى الأحلام.
-
وبِمَ تحلم؟
- أيّ شيء، المهم أنّي أحلم، سأقصّ لك حلم الليلة الفائتة بعد أن نعود
إلى القاعة، كان حلماً جميلاً.
في ساحة العرض انتظم الجنود في صفوف متوازية، العيون شاخصة، يلدغها
الصوت الآتي من بعيد:
-
استعد، استرح، استعد.
الصمت ينزلق على كتف المكان، البنادق انتصبت بموازاة الأرجل
المتصلّبة. الذبابة الماردة تعود، تتسلّق أنف الجندي، يتمازج القلق مع ارتعاشة
كتفيه، يحرك أنفه، يمطّ شفتيه، لم تغادر مكانها، يحولق بصوت خفيض. قال الجندي
المحاذي له هامساً:
- ما بك؟
- ذبابة لعينة فوق أنفي.
- هشّها.
-
كيف؟
- هكذا... مطّ شفتيه للأمام، ونفخ في الهواء.
حاول أن يداري حيرته، يتلبّس المشهد باحتراف ويطلق عدة زفرات، لحظة
ويشنق ارتباكه بلذة :
- لأول مرة أحسّ بلذة الانتصار.
-
اصمت ، ثمة من ينظر إلينا.
يمضغ بعض الوقت بلامبالاة، يرتقي حاجز الحضور الموحش، يغرق في لحظة تجلي، يتراءى له جداول متبرّجة
بأزهار ملوّنة، تطلق أحلامه عند حافة امرأة تنثر عطرها فوق جدائلها المسفوحة فوق
عشب أخضر، لم يرَ مثله من قبل، تعصر روحه بفيض فتنتها، رتّب زهوه، تسلّل ما وراء
صحوه، تقرعه رغبة العناق ولثم ثغرها، وقبل أن يقتحم ظلال الأشجار الوارفة، اقتحمه
طنين تلك الذبابة اللعينة لتحطّ مرة أخرى فوق أنفه الغارق بعطر أوهامه، وما كان
منه إلّا أن يصفقها بكلتا يديه تاركاً سلاحه يقعقع، يستثير السمع وسط ذهول
الجميع.لا يدري- هذه المرة - كيف يداري ارتباكه؟ خرج وسط الساحة، يلج فجوة إهماله،
مغتصباً رعشة خوف سرت في كيانه:
- ما لذي فعلته، أيّها الأحمق. قال الضابط.
- لا شيء، سيدي، أردت
إبعاد الذبابة.
-
وكيف يتسنّى لك مواجهة العدو، وأنت لا تحتمل موقفاً كهذا؟
- سيدي، أستطيع مواجهة كتيبة من الأعداء
ولكن...
- ولكن ماذا؟
وبعد لحظات قصيرة كان
الجندي يتمرغ في الوحل، الضابط كان مبتهجاً وسط صمت الجميع، يطلق أوامره بالتحرك
إلى الأمام. واصل الجنود المسير نحو التلال المحيطة بالمكان، بينما الضابط راح
يراقب سير المعركة عن بعد.
- ما الذي ستفعله، أيّها الدب الكسول؟ قال الجندي ضاحكاً.
ارتسمت على شفتيه ابتسامه خفيفة:
- سأحتسي المزيد من الأحلام، وأطارد الذباب
في كلّ مكان.
دوي الانفجارات يتسوّر المكان، يلفحه أزيز الرصاص وسط موجة
ذهول، لم يتوقع أحد أن العدو بهذا القرب، احتمى الجميع بالانبطاح، وبعد دقيقة
تدفّق القصف بشكل كثيف، حتى لفّ المدى دخان وصراخ يخمش القلوب رهبة ورعباً. وما إن
انجلى غبار القصف واطبق الصمت على المكان، كان الجندي المتمرغ بالوحل يشخب بدمه،
يصافح دمعه لوعة، تطوّقه نظراته الحالمة، يختنق بعبرة، يشهق صاحبه ملء روحه:
- لا تمُت، أيّها...
- قلها ياصاحبي .....
يميد
به الشوق، يعانقه، يعاتبه، تحشرج صوته حزناً:
- لا تمت أيها الدب الكسول، احكِ لي حلم الليلة الفائتة، من سيقصّ
لي الأحلام بعدك؟
- لا تخش شيئاً، هاأنذا أسلمك أحلامي. وقبل أن ينطفئ ضوء القاعة كانت أسراب من الذباب
تلعق دمه.
7- رفيف الكأس
في تمام الفراغ، تمام التيه،
وعند منتصف الهيام بعدما ملأ الشيب خافقي، ورأيتني وحيداً متوجعاً، تحرسني أطياف
الغربة، مطوّقاً بأسر السنين، عصفَ بقلبي الحنين لأيام خلت، رحت أقلّب وجوه
العابرين، هي تصبو لعوالم وأمكنة ومواعيد، لم تنكرني من قبل، تلفّ ملامحي
بأضوائها، تنثل ببريق الغنج فوق كلماتي الآسرة لقلوب خافقة بالعشق. لقد أدمنت من
قبل تلك الأزقة والدروب، اليوم أراها تنكر خطواتي، تسدل أجفانها، يغمرها الارتباك،
تغزوها ملامح التيه، كلّ شيء يبدو غريباً إلّا الذكريات، ذكريات تبوح بجمال المكان
الذي استقبلني بأطلاله الراقدة على حافة الخراب، المساء يحملني عطشاً، يحلّق بي في
عتمة من أنين، وقبل أول منعطف يرقد في دفقة مطر، استوقفتني حانة قديمة، تعانق طرف
نهرٍ غادرَ ضفافه متعثّراً بالجفاف، مذ غادرت موائدها مازالت تحمل جرارها، تدخن
رعشتي، منبسطة كغانية ثملة، تضاجع كأسي الأولى، طرقت بابها، باب خمورها، الحانة
تمسّ طيفها، تفتح ذراعَي نافذة من بوح، الهمس يتسلّق معارج حقول العشق، النبيذ
أنهار من ذكرى، أنهار من وجعٍ لذيذ، وأسى شفيف. الخطى كلّها لاهثة، تائهة، تطرق
باب الحانات واحدة تلو الأخرى، نادل أنيق خلف الطاولة، ينقرها بأنامل من دخان،
يفزّ السكارى بطيفك عند دموع غيمة عابرة شفّت عن حزنها، صاحوا بصوت واحد:
- نعم سيدي النادل.
-
أرووا عطشي من دموع تلك الغيمة العابرة.
ما
لي أرى كلّ شيء بالمقلوب قبل أن أحتسي رفيف نشوتها؟
-
سيدي النادل " أدر كأسي القديمة واسقني، لعلّي أرى النشوة مرة أخرى، فبعد
العشق ما عادت خمور الكون تعنيني، كسرت زجاجتي وانتشيت عبيرها سحراً، أنا فقير
خمارة الدنيا، وكأس منك تُغنيني".
ورحت
أعبّ كأس المنى، كأساً بعد أخرى، أسكب فتنتها في ثنايا الحريق. ولمّا شفّ الليل عن
دجاه، جال في الأرجاء خدر، وطاف بي نعاس حين وخزني القرب. الحانة تنوء بالهيام، أنتصب
دهشة حين طال الانتظار، تراني أطوف حول الأرجاء، أبحث عنك، أتجشأ بعضي، وفي غياب
الحضور أراني أحبس رغبتي وسط سماء من ذهول، كنت وما زلت أبحث عنكِ، أنت هنا، لا
هناك، في كلّ مكان أنتِ، لن أغادر حانتي فأنت هنا، جدائل نشوتك تهزّني، تراقص
المكان، عطرك، آه من عطرك يعبث بأنفاسي، لونك الأبيض، أبيض مثل حليب الأمهات يرتشف
شفتيّ، اقتربي أكثر من ثرثرتي، مازلت أراكِ تشعّين في كأسٍ من شهوة أو من لذّة، أراك
كؤوساً من رغبة تملأ العين سحراً، رغبة تحلّق في عوالم أخرى، أكاد لا أرى سوى ضباب
كثيف لكنّه جميل، أتجشأ بعضي الآخر. أصابتني الدهشة لمّا حدّقت في مرآة الحانة، لم
أكن أنا موجوداً حين تجشأت ما تبقى مني، أغير موجود أنا؟
-
سيدي النادل، ألا سقيتني من رضاب قوافيها، لا أثرَ لغيري، ربما كانوا أشباحاً. صوت
النادل يأتي من خلف الطاولة:
-
لم يبقَ غيرك.
-
والندامى، أين الندامى؟
أسقطُ
خلف الصوت حفنة من تجلّي. يحملني الوله إليها:
-
ألم تكن هنا ؟
-
حذارِ، لا تفقد خطواتك، كانت هنا منذ كأسين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق