السبت، 25 مارس 2017

ماء الحب // قراءة في قصيدة الشاعرة رلى براق في الأوقات التي لااعرف ماذا افعل فيها // بقلم اوس غريب / سوريا

"ماء الحب " قراءة في قصيدة الشاعرة رلى براق في الأوقات التي لا أعرف ماذا أفعل فيها "
أولاً : نصُّ القصيدة :
في الأوقاتِ التي لا أعرفُ ماذا أفعلُ فيها
لا أفكرُ فيكَ
لأنَّكَ حقيقةٌ
لا أتخيلُ ما تقولُهُ لي
ولا أعدُّ لقاءاتِنَا فوق الغيمِ
نحن نتواجدُ هنا
في مسافةِ الجنونِ
حيث أنتَ تشتاقُ أن أشتِمَكَ
وحيث أنا أشتاقُ أن تخذلَني
هنا تماماً
كانت أولى انكساراتِنَا
حين داهمتْنَا أطرافُنَا بالعناقِ
ممزقةً كلَّ هذه الفضةِ الفارغةِ
وكانت هنا أولى دموعي
التي خبأتُهَا عن صورتي الشاحبةِ
وكانت كلُّ دموعِكَ هنا
التي حجبتَهَا عن لحظاتي المتعبةِ
/أنتِ فرحةُ دموعي/ تصرخُ للمطرِ
/أنتِ دموعَ فرحتي/ تهمسُ في إذني
تلصقُ كفّي بشفتيكَ
لتتوقفَ عن تكرارِ
/أحبُّكِ/ 
وألصقُ اسمكَ بقلبي
وأسكتُ !
ثانياً : القراءة :
ليس من السهل أن تحاور نصاً ممعناً في الاحتجاب ، بمقدار ما هو ممعن في الجلاء.
يرامي بألفاظه فوق كفيك ، كل لفظٍ ذُبَالةٌ تتوقد شعلةٌ تومض بزيتها وتلتهب .
فإذا آنست النار وهممت بالقَبَسْ ، لم تجد ناراً 
وجدت مِزَقاً من القلب ، وشظايا من الروح .
تبدأ الشاعرة قصيدتها بالقول :
" في الأوقات التي لا أعرف ماذا أفعل فيها
لا أفكّر فيك
لأنّك حقيقة "
لنؤجّل الكلام في كلمة "حقيقة " 
ونتأمل في لوازمها .
تقول : " الأوقات التي لا أعرف ماذا أفعل فيها "
لم تقل : الوقت ، قالت : الأوقات 
ذهولها عن الهدف ، ليس مؤقتاً أو محدوداً
إنه يضطرد وينداح في مساحةِ الزمن .
بماذا يقترن العجز عن الفعل ؟ 
" لا أفكر فيك " بغياب التفكّر ، هل نستطيع أن نؤلف علاقةً سببيةً من هذين الطرفين فنقول : كلما ارتفع التفكير ، ارتفع الفعل ، أو لا فعل ، حين لا فكر
لكن لماذا يكون التفكير مقيداً ب " فيك " بكاف المخاطب ؟؟
من هذا المخاطب الذي يطابق الحقيقة ؟؟
من هذا المخاطب الذي ينفك عن التفكير والفعل ؟؟ أو لنقل : من هذا المخاطب الذي ينفصل عنه الفكر والفعل ، انفصالهما عن الحقيقة .
إنّه الحقيقة " لأنك الحقيقة "
لدينا مفهوم الحقيقة ولدينا مصداقها ، لن نفسّر المفهوم الآن ، لأننا تبيّناه بمصداقه : " ك"
هذا ال" ك" المحكوم بالحقيقية كيف خرج عن الفكر وانفك من الفعل ؟
تقول الشاعرة :
"لا أتخيّلُ ما تقولُهُ لي"
"ولا أعدُّ لقاءاتِنَا فوق الغيمِ"
كما خرج بلحمه ودمه من فكرها ، وكان خروجه سبب حيرتها وذهولها عن أمر نفسها ومرادها 
يخرج من خيالها ولكن في : "قوله" .
ما الذي يحدث حين ينفك القول عن الخيال ؟
يستحضر الخيال ظلال القول ، امتداداته الوجدانية والجمالية .
يصل الخيالُ القولَ بمنبعه الروحي ، بعمقه الباطني 
" لا أتخيّل ما تقوله لي " لا يمكننا أن نُغْفِل دلالة التجدد والحدوث مرة بعد مرة في " تقوله لي " ولكنه تجددٌ منفيٌ .
قولك لي مرةً بعد مرة ينفكّ من خيالي من تلك القدرة على بلوغ سرك وباطنك ، من تلك القدرة على النفاذ إلى الحقيقة ، من الوصول إلى هناك إلى فوق الغيوم إلى العرش المتأرجح فوق الماء ، يفلت منها. اللقاءُ الذي لم يحصل مرةً واحدة بل مراتٍ ومرات ،
كأنها تشير إلى توالي الأنبياء .
- لماذا تؤكّد الشاعرة على العلاقة بين الخيال والقول وهي تخاطب أمة الكلام - ؟؟
ما هو الحاجز الذي يحول بين الحقيقة وبين فكرنا ، بين الحقيقة وبين قدرتنا على النفاذ والمضاء إلى الأعماق ، وإلى الآفاق حيث تستكنُّ السّرائر وتُركز الغايات؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نتوقف عند الفعل " أعد" وكيف اقترن بالنفي ، وجعل الحقيقة خارج الحسبان ، ومن دونما قيمة ؟ كيف تكون منية الروح ومحل الحنين والتشوق ، كيف يكون هذا الحبيب الذي بيته حبة القلب والذي هو مقصد الفكر ومرمى الخيال ،كيف يخرج من القيمة والحسبان ، ولماذا ؟؟
" نحن نتواجدُ هنا
في مسافةِ الجنونِ "
لم تقل : أتواجد ، قالت : نتواجد ، وجاءت بضميرنا 
كأنما الانفكاك من الحقيقة أمر جمعي 
كأن قواء الأرواح والخيالات عامٌ ؟ 
نحن جميعاً إذن في مساحة الذهول ، في شُقّةِ الجهل ، في مسافة ومدى الجنون .
كلنا في اختبال ، في اختلاط عقلي ، كلنا في هوس ، وبله ، في خرف ، وعَتَه ، في فتنة ، وشبهة ، في التباس ، ومسّ ،في هُتْر ، وهياج .
كلنا في غير رزانةٍ أو رصانةٍ ، في غير كياسةٍ ، او وقارٍ ، كلنا بلا اتزانٍ أو منطق .
ما الذي أحدثه فينا الجنون ؟؟
ما الذي صنعه بأرواحنا ، وأشواقنا ؟ 
تقول الشاعرة :
" حيث أنتَ تشتاقُ أن أشتِمَكَ
وحيث أنا أشتاقُ أن تخذلَني "
لانحراف الشوق معنيان ، معنى متصل بذهن الشاعرة ، ومعنى متصل بفنها .
بالأول تشير إلى التشاغبات والمخاصمات البريئة مع حبيبها الحسي .
وبالثاني تكشف عن واقعية الجنون التي حولت أشواق الروح عن الوجود و التفكر فيه
عن القول و التحلق حوله 
عن الاتصال واندفاع الاشواق إليه
حاد التشوّق عن سبيله فوق الغيم إذن 
حاد التشوق عن مقره فوق الغيم و في باطن الروح ليجعل من صهوة التشاتم مقراً .
ومن ظهر الخذلان مركباً
حاد عن القوة التي تجعلنا نتعاضد ونتساند .
حاد عن القوة التي بها يدعم بعضُنا بعضاً .
عن القوة التي تجعلنا نتكاتف و نتعاون
نتناصر ونتآزر .
القوة التي خرجت من فكرنا ، من جوانح خيالنا ، من مطمح تسامينا وتعالينا .
خرجت فأوقعتنا على مهاوي الشتيمة ، والعيب ، الازدراء والهوان .
الخفة والسفه .
الطيش والنقيصة .
ما هو الحل إذن ؟ كيف السبيل لنخرج من هذه الحدرة والمهوى ؟
" هنا تماماً
كانت أولى انكساراتِنَا
حين داهمتْنَا أطرافُنَا بالعناقِ
ممزقةً كلَّ هذه الفضةِ الفارغةِ"
لنتأمل في هذه الإشارة المقرِّبة " هنا " 
في هذا الجنون المستطير ، 
في هذا الانفصال فكراً وخيالاً وقيمةً : انكسرنا .
بل كانت أولى انكساراتنا .
كأنها تشير إلى تاريخٍ من الخواء يمتد بنا في الماضي .
كأننا قد مرّتْ علينا أزمنة نتهاوى فيها من حدرة إلى حدرة ، ومن مهوى إلى مهوى 
ماذا نصنع أيتها النبيّة ، أيتها العرّافة ؟
ندهم .
لا بل نداهم 
نهجم ونكتسح ونفجأ الجنون. 
نفجؤه بالعناق 
لم تقل تداهم أطرافنا الجنون .
قالت : داهمتنا .
فالجنون داخلي بقدر ما هو خارجي .
والسبيل إلى التطهر منه أن نضع العنق على العنق ، والصدر على الصدر .
أن نتحابب ، أن يحب واحدنا الآخر ويسانده .
أن نخرج من التلاعن والتعايب ، من التنازق و التجالع ، من التهاجي والتباغض .
عندها نمزّق هذه الفضة الفارغة .
كيف جمعت بين الفضة والفراغ ، بين هذا المعدن النفيس الغالي وبين الفراغ والخواء ؟؟
تريد بالفضة البياض كأن سفر الوجود لم يخط بحرف واحد .
إذن فالحب هو الذي يحيل هذا الفناء وجودا ، ويجعل هذا الخراب بناء .
" وكانت هنا أولى دموعي
التي خبأتُهَا عن صورتي الشاحبةِ
وكانت كلُّ دموعِكَ هنا
التي حجبتَهَا عن لحظاتي المتعبةِ "
الانفصال عن الحقيقة ليس موتاً للحقيقة هو موتٌ
لنا
قالت : صورتي ، وقالت : لحظاتي .
كأنه تحترس من ربط المخاطب بالإعياء ، من وصله بالضعف والخور والهزال .
نحن وزماننا من يموت بالانفصال عن الحقيقة إذن
الحب هو حياتنا إذن 
هو أداة تطهيرنا وتطهرنا 
الحب هو الذي يصلنا بالحقيقة ويجعلنا معها في طول واحد .
هو الذي يجعلنا نذرف تاريخنا الأسود بكل ما فيه من فظائع وفجائع .
تشيّد الشاعرة البكاء تشييدا ، وتحفره حفراً .
لم تقل : دموعي ، قالت : أولى دموعي .
ولم تقل : دموعك ، قالت : كل دموعك .
كأن الدموع أجيالٌ تتدفق ، أتيٌ يدافع بموجه هذا البياض ، يجري على هذا الفراغ فلا يتوقف حتى ينهيه ، و يمزّق فضته.
لم تصل المخاطب بالتعب والإعياء ولم تصل الحب 
لأن الحب قوته التي باتصالنا بها نخرج من الانجذاذ ، والانشداخ .
من التفرق ، والانفلال .
من التحطم والدحر 
من العجز والضعف 
من الفشل ، والخيبة .
تريد أن تربطنا به مع الظفر .
مع الجبر 
مع الفوز و الغلبة .
لهذا تصله بالفرح وتربطه بالمطر وتحمله على الصرخة
" /أنتِ فرحةُ دموعي/ تصرخُ للمطرِ
/أنتِ دموعَ فرحتي/ تهمسُ في إذني
تلصقُ كفّي بشفتيكَ
لتتوقفَ عن تكرارِ
/أحبُّكِ/ 
وألصقُ اسمكَ بقلبي
وأسكتُ ! "
لتكن : فرحة دموع ودموع فرح .
لتتدافع أمواج البهجة ، والسرور .
الرضا ، وانشراح الصدور .
لتتدفق صراخاً ، وجهراً .
دوياً وهدراً .
هتافاً وصخباً .
حتى تملأ فراغ العالم ، حتى تصمّ أذن الجنون وتدهم عينيه .
عندها تلصق كفيّ بشفتيك وألصق اسمك بقلبي 
عندها نسكت ، ونترك ماء الحب يتكلم ويجري وينتهب الأعماق والآفاق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق