الأحد، 2 يوليو 2017

قراءات نقدية في تعاليق / عن قصص للاستاذ : صالح هشام // المغرب

قراءات نقدية في تعاليق : 
٠٠٠٠٠٠٠٠٠AHMED TNTAWy /و /RAJE BEKKAL٠٠٠٠٠٠٠
هي عبارة عن تعاليق رائعة ،توج بها هذا النص [بومة منيرفا ] ،ونظرا لأهمية هذه القراءات التي ، فككت شفراته وحللت رموزه ، وأبرزت ما له وما عليه ، ارتأيت جمعها على شكل قراءات نقدية متكاملة - دون استشارة الناقدين -حتى لا تضيع في متاهات أعمدة العالم ، ولا يسعني إلا أن انحني تقديرا واحتراما لهذين القلمين الرائعين ، اللذين مارسا الإبحار والكشف والاكتشاف والاختراق والعبور في خبايا نص ، كتبته بطريقة عفوية دون أن أعي ما يحتويه من كنوز معرفية وما يتضمنه من دلالات رمزية ،أخرجها الناقدان الكريمان إلى حيز الوجود ، فالإبداع متوقف على المواكبة النقدية التي من شأنها أن تعيد إحياءه وإخراجه في أبهى حلله ، إذ يتحول المبدع قارئا متفاعلا مع هذه الابداعات النقدية غريبا عن كل ما كتب ، وما النقد بصفة عامة إلا إبداع على إبداع أو لغة على لغة ، تشريح واستجلاء لمكامن الجمال والقبح في النص الإبداعي ، وحتى لا أطيل في هذا التقديم المتواضع ، أترك للقاريء الكريم فرصة الكشف عن جماليات هذه القراءات النقدية الرائعة ، وأشكر جزيل الشكر الناقدين على هذا الفيض الباذخ من قلميهما المتمكنين !
----------------------------------------------------------------
الناقد القدير: أحمد طنطاوي !
[هذاتشجيع من ناقد كبير أتمنى أن أكون في مستواه ]
ألله ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
هذا هو إبداع الكاتب الناقد القدير ــــــــــــــــــ
من لم يعرف الأستاذ صالح قبلا , سيعلم مباشرة أن كاتب النص هو كاتب ذو شأن كبير !
اكتفى الآن سيدى بإعلان إعجابى و تقديرى و تهنئتى للنص الشائق الشاهق٠ 
نص أنثروبولوجى يخاتل اللاوعى الجمعى الذى قال به يونج , و يكمن فى عمق الذاكرة البشرية , و يحوي كل تجارب الجنس البشري كذكرى في عقل الإنسان
تحركه ، و تشكل مخاوفه و أوهامه و تكوِّن الأساس الروحى للأساطير و الأفكار المبهمة ٠
و الهامة ( أو البومة ) هى نذير الشؤم ربما لارتباطها فى الوعى الأسطورى منذ القدم بالمقابر و الجثث..
إنه الخوف يجتاح القرية .. خوف اصطنعوه ،ربما كحاجة تتلذذ بالألم كعقاب ذاتى جزاء الانكسار و التخاذل ٠ 
فى مسرحية أوديب كان أبو الهول ( الوحش الأسطورى ) يمارس دورا شبيها , يسأل حلا للغزه , و من يفشل فى الإجابة يأكله و لا يتركه حيا ،هذا الوحش الأسطورى أو فكرتنا عن الهامة و ذلك الرعب نصنعه لأنفسنا و نطلب المخلص ..
ننتظر ( جودو ) الذى لا يأتى أبدا .. ببساطة لأنه داخلنا _ كما أن الخوف أيضًا داخلنا _ و علينا استخراجه لقتل الوحش و الهامة و الانتصار لجوهرنا الأصيل المفترض ٠
تقنيًا ... لابد من تحية إكبار لروعة صياغة مقدمة القصة .. و المقدمة هى أولى عناصر القصة القصيرة الثلاثة :
المقدمة ٠
الوسط ٠
النهاية٠
ووظيفتها خطيرة جدًا , فهى العتبة و الاستهلال و المفتتح , و هى تقديم للشخصيات و للجو العام للنص ..
ترسم سماءه و تحدد ألوانه .. إنها كخلفية المسرح و قد قامت الأضواء بتهيئة الوجدان لتقبل الأحداث القادمة وهي أيضاكافتتاحيةالأوبراالأوفيرتور أو الاستهلال 
(ouvertur)
التى تهيىءالجمهور نفسياً وحسياً ( موسيقيًا ) للإصغاء قبل عرض المشاهد الأوبرالية , و التى يجب أن تكون ثمة علاقة عضوية بينها و بين موضوع الأوبرا وألحانها. بل أصبحت تلخيصاً «أوركسترياً» لحوادث الأوبرا كلها كإطار عام و هنا ٠
ها هى افتتاحية هذا العمل ( و ترنيمته ) الموسيقية , أو (أوفيرتور ) النص :
تلملم الشمس ضفائرها الذهبية ،تستعد للرحيل ، تغوص في بحرمن دم أحمر قان ،تشرع العتمة تقضم أطراف النهار، يجن الليل، تنكمش أزهاره ، تفوح روائحها اسرارا خفية !
تحصن الجحور أهلها ، والغيران قوارضها ، و تهيم هوام أخرى في متاهات ظلام دامس ، يفك قدومه عقال ملوك العالم السفلي، يهجرون معازلهم الخفية إلى حين :
يرقصون رقصة حرية حرة، على صفحة ماء النهر ، على إيقاع حفيف سويقات سمار كثيف يحف الضفتين ، مزهوين بألوان قزحية ، تنعكس عليها أشعة هالة قمر خجول ساهر وعيون لا تنام أو هكذا يبدو لنا !
تبتلعنا بيوت طينية متراصة كحبيبات العنب ،نطلب دفء الأب و حنان حضن الأم ، متى تمنعت الأرض على الأقدام والحوافر والأظلاف ، وانقطعت الحركة و الدبيب !
إنه بالفعل مشهد ( أوركسترالى ) مهيب هيأ تمامًا للنص و رسم مباشرة و بقوة جوه العام , و أدخل القراء ساحته .. بكل الأضواء و الألوان .. بل و الأنفاس أيضا المترددة فى الجنبات , فتصوير رحيل النهار و مقدم الليل و الظلام _ بكل هذه المهابة و التهيب _ كان لابد منه لتوظيف المظاهر الكونية لتحديد الإطار , فالأمر جلل ..التهيؤ و النذير و هجوم جحافل الخوف ، و الرعب الكامن فى الأعماق و الساكن فى المخيلة .
هذا الإعداد الكونى للمشهد كان لازمًا بالنسبة لكاتب ماهر يعرف وحدة العمل و مدى التأثير الوجدانى المتحقق فى كل قسم من أقسام النص القصصى القصير لخدمة القسمين الآخرين , و كان التوظيف محكما تمامًا و يستدعى التقدير بحق ٠
غنائية الاحتدام تؤسس ذروة العمل:
على قمم الجبال وزوايا الخرائب، يتشظى صراخها ،حاقدة ناقمة على جرائم البشر، يردد صداها فراغ المدى السحيق :
-مياو ٠٠٠ مياو ٠٠٠عمرانكم خراب!
-مياو ٠٠٠٠مياو ٠٠٠حياتكم عذاب!
-مياو٠٠٠مياو ٠٠٠أحلامكم ضباب !
-مياو٠٠٠مياو ٠٠٠ وجودكم سراب!
-مياو ٠٠مياو ٠٠٠أنتم ،يباب ،يباب!
" سمفونية كئيبة مخيفة " هكذا فسرها فقيه تفسيرًا ساذجًا لم يرتق إلى المستوى الكلى الأشمل الذى بسطه
ت. س, إليوت فى رائعته ( الأرض اليباب أو الخراب ) و الذى تمثل هذه المقطوعة تناصًا منطقيًا معها ٠
بومة منيرفا هنا هى الكاشف لأهل القرية ما غفلوا عنه _ أو يتجاهلونه عمدًا و يتناسونه _ إنها الحكيم و الرمز الفرعونى الذى يفض الأسرار حتى لو كانت قاسية دامية ، لابد لهذا الخوف و الرعب أن يجتاح القرية كي تحدث الاستفاقة و اليقظة بعد ذلك ، هذا النشيد هو مفتاح النص و ذروته الزاعقة كنشيد الفرح لشيللرفي السيمفونية التاسعة، الكورالية لبيتهوفن _ هنا هو نشيد الحزن _ أو هو ذلك الإقدام فى الأنشودة الموسيقية ،( كارمينا بورانا ) لكارل أورف حيث يشتد التموج كعاصفة منغمة .
تضمين القصة هذا النشيد الغنائى هو تكريس للإيقاع السارى فى الكون ،الموقظ ..المنبِّه .. المستثير للروح كي تفيق و تفكر , و كان لابد أن تجىء فى منتصف القصة 
_ لا نهايتها _ لأن النشيد ليس هو لحظة التنوير النهائية , بل إنها الأجراس تدق فى منتصف الطريق ،يأتى صداها من بعيد و تسرى خلال الأشجار كتحذير و تنبيه بينما يمارس بعده الناس حياتهم ، و يسيرون نحو مصيرهم المحتوم !
----------------------------------------------------------------
الناقدة : رجاء البقالي !
ثنائية الخير // الشر 
طرفان لا يتوقفان عن الصراع في بنية النفس البشرية ، تجد أساسها في أعماق اللاوعي باستيهاماته الحلمية التخييلية الرمزية التي تعتبر الملاذ لمعاناة وجودية ، يعجز فيها العقل عن فهم ما يجري من صراع و تقاتل ، فيرده إلى الخطيئة ، أو الذنب الأول الذي يدفع الإنسان ثمنه إلى أن يتلاشى في الفناء !
هنا يتجذر في اللاوعي الجمعي شعور بالخوف و بالعجز و بالعبثية ،فكل ما نفعله محكوم عليه بالفشل ، و الأمن مفقود و الحياة لن تكون إلا مسرحا للانتقام ، تمارسه بعنف و رعب كائنات حيوانية أكسبها الوعي الجمعي هالات أسطورية خارقة كالهامة الترابية هنا ..
الطفولة هي المرتع الخصب لممارسة هذه الكائنات قوتها السحرية العجيبة على لاوعي طفولي في طور التشكل ، يزكيها الكبار في حكاياهم و إيحاءاتهم بكونهم القادرين على فك شفرات و طلاسم هذا العالم المرعب الموازي و المتخفي في سراديب اللاوعي المظلمة 
هنا في النص ، تتخذ الظاهرة بعدا أنتروبولوجيا كما قال أستاذتا الكبير أحمد طنطاوي ، لا يخفي أساسها السيكولوجي ( التحليل النفسي ) 
هي إذن قدرية تجثم علينا ، نجتر دون وعي عبء أحكام مسبقة و ضلالات و أوهام رافقت الوجود البشري منذ القدم ، عبرت عنها الأساطير و الآداب و الفنون حتى أصبح ذلك الساكن فينا ، الذي يرعبنا ضروريا في بقائنا ، هو رمز لأي عدو مفتَرض يتربص بنا ، و علينا مقاوته رغم أنه يعمل في الخفاء، في أعماق أعماق الماضي النفسي السحيق ..
هل هي متعة أسطرة الواقع لإضفاء المعنى الملحمي في صراع الإنسان من أجل البقاء ، بعد أن عجز عن قهر الشر الكامن في داخله ؟
هل هو هروب من جلد الذات إلى إدانة كائنات صنعها اللاوعي في مصانع الأقنعة المخيفة المدمرة ؟
لا شك أن الوهم يسكننا ، فلا حقيقة أبدا ، بل ما نراه حقيقة إن هو إلا أوهام صنعناها في خضم صراعنا من أجل البقاء فتحولت إلى حقائق كما قال نيتشه .
و نحن بها نستلذ قيودنا التي تعصمنا إلى جدار كهف أفلاطوني نرى عليه الظلال فنحسبها الحقيقة ..هكذا جاء النص ، عاكسا هذا التداخل بين :
الحلم و اليقظة 
الوهم و الحقيقة
التسبي و المطلق 
الخيال و الواقع 
في سرد شاعري مشهدي ملحمي بطلته بومة تتخذ أشكالا ، لا تتوقف عن النعيب إنذارا بمآل بشري مرعب يقود إليه واقع أشد رعبا ، مسرح على خشبته تنزف دماء تتحمل وزرها بومة ، تقف في وجه الإنسان ، تذكره بالذنب الاول ،( قتل قابيل لهابيل ) و بأنها لن تتوقف عن الانتقام 
من أول جريمة قتل ، والتي تستمر الآن ، حيث الوجود البشري قائم على القتل و النفي و الإقصاء :
في سرد ملحمي غاية في الجمال نطقت فيه بومة كما الشاعر العظيم إليوت :
أرضك يا إنسان يباب 
خراب .....
أحييك الأستاذ الأديب و الناقد القدير صلاح هشام على نص حقق المفارقة الشاعرية و القصصية و العمق الفلسفي و النفسي .. كل الامتنان أستاذنا الناقد الكبير أحمد طنطاوي .. 
-----------------------------------------------------------------
بومة منيرفا : قصة قصيرة !
بقلم : صالح هشام/المغرب ! 
تلملم الشمس ضفائرها الذهبية ،تستعد للرحيل ، تغوص في بحرمن دم أحمر قان ،تشرع العتمة تقضم أطراف النهار، يجن الليل، تنكمش أزهاره ، تفوح روائحها اسرارا خفية !
تحصن الجحور أهلها ، والغيران قوارضها ، و تهيم هوام أخرى في متاهات ظلام دامس ، يفك قدومه عقال ملوك العالم السفلي، يهجرون معازلهم الخفية إلى حين :
يرقصون رقصة حرية حرة، على صفحة ماء النهر ، على إيقاع حفيف سويقات سمار كثيف يحف الضفتين ، مزهوين بألوان قزحية ، تنعكس عليها أشعة هالة قمر خجول ساهر وعيون لا تنام أو هكذا يبدو لنا ! 
تبتلعنا بيوت طينية متراصة كحبيبات العنب ،نطلب دفء الأب و حنان حضن الأم ، متى تمنعت الأرض على الأقدام والحوافر والأظلاف ، وانقطعت الحركة و الدبيب ! 
فترة صراع نفسي رهيب يحبس منا الأنفاس :
اليد خارج عتبة البيت تقطع من المعصم ، الرؤوس الشاردة من الأبواب تجزمن الرقبة ، تفصل عن الأجساد ، أسرار الليل رهيبة خفية موحشة ! 
لا أحد يجرؤ على الخروج من البيت !
أبي هذا الكبير الضخم ، قاهر الأشباح ، ومروض الأرواح أيضا يخشى العتمة ، كعقرب الصحراء يخيفه الماء البارد :
مثلنا يصيبه الفرق ،يحتمي بضوء شمعة تذرف الدموع ،يطلب دفء موقد نار باهتة، و بعضا من لهاث أمي يشعره هو أيضا بالأمن والأمان ، وهي تطهو حساء ساخنا للعشاء ! 
الهامة ذات هامة عريضة ، غليظة، مسطحة، مخيفة ، لولبية الالتفات : فلتة من فلتات زمان أغبر ، قذر، تساوى فيه الخير و الشر ،الحكمة و الغباء ، آه ! ربما اللسان مرن لا عظام فيه ، يقول ما يحلو له:
الهامة البنية ، سيدة الجوارح و هامة هوام الليل، قطعة من من أسرار الغيب ، فهناك من قائل : 
-مسخ ، متحول ، فهي ليست إلا [بيذخ] ، تهجر عرشها على الماء متى جن الليل !
وهناك من قائل : 
- كائن غريب قادم من رحم زمن وجع ، غاب فيه منطق الأشياء ، كان فيه الإنسان يحلم لأنه لم يكن يعلم ، كائن قادم من عمق صرع وصراع تفكير تائه غاب عنه علم الحق !
تضاربت الآراء حول حقيقة هذا الكائن الخرافي منذ القديم ، حقيقة واحدة نعرفها -نحن الصغار - نتبول كلما سمعنا نعيقه ، ونتعرق حتى الموت !
لا ندري أ أقوالهم هذه حقيقة أم كذب وافتراء؟:
من هامة القتيل تخرج هامة الشؤم هذه : 
تخرج من هامة هابيل ، تطالب كل مساء برأس قابيل ! 
تندب ٠٠ تصرخ ٠٠ تنعق ٠٠ تطلب السقيا دما من القاتل :
-أسقوني دما ، أسقوني دما ، لا شيء غير دم قابيل، فالعين بالعين، والسن بالسن ، والجروح قصاص !
لن يجف تراب قبر القتيل قبل أن يقتص من القاتل ، هذيان ٠٠هلوسات ٠٠ أفكار مخيفة ، لم تكن جماجمنا الصغيرة قادرة على استيعابها ! 
حفيف خفيف ٠٠نعيب غريب مكتوم ، يتحول أشبه بالصراخ، يقتص من صمت صمت قريتنا الغافية بعد طول عناء الفلاحين اليومي ! 
هناك جذع يابس قديم : بقى من بستان صبارنا ، ذات سيول جارفة ٠٠ذات شتاء ممطر طوفاني ٠٠ تقبع فوقه تلك الهامة البنية المشؤومة ، كرمح مركوز ،مغروز في خاصرة هذا الجذع الذي نخره نقار الخشب بمنقاره الثقيل !
هامة الهامة البنية ، تنبت فيها زهرتان كبيرتان من زهور عباد الشمس ،لا تطبقان الرموش ، أبد الدهر مفتوحتان عن الآخر ،رأس عجيبة ، غريبة ، تدور دورة كاملة تحطم كل قوانين الزوايا ، في دورة لولبية ، كعيون الحرابي !
رفرفة باهتة٠٠فرقعة جناحين : حفيف خفيف طفيف ، يرصد رادارها اللعين بأشعته الحمراء طريدة ما : 
جرذا٠٠فأرا٠٠حشرة ٠٠أو سحلية ٠٠صيدا ثمينا تلتهمه ، وتعود لتقبع من جديد ، تعود للتهديد و الوعيد و النعيق والنحيب !
نعيق أشبه بمواء الهررة ،لكنه متقطع ، يقول أبي خبير لغة الطير : 
-وجهها وجه قط ، صوتها صوت قط ، وشراهتها شراهة قط ، لكنها ليست رباعية القوائم : قط ممسوخ ، كائن متحول عن أرواح شريرة ، وربما تكون روح [بيذخ] الشيطانة بنت إبليس ! 
على قمم الجبال وزوايا الخرائب، تنزوي كالناسك ،يتشظى صراخها حاقدا ناقما على جرائم بني البشر عبر الزمن ، يردد صداه فراغ المدى السحيق : 
-مياو ٠٠٠ مياو ٠٠٠عمرانكم خراب!
-مياو ٠٠٠٠مياو ٠٠٠حياتكم عذاب! 
-مياو٠٠٠مياو ٠٠٠أحلامكم ضباب ! 
-مياو٠٠٠مياو ٠٠٠ وجودكم سراب!
-مياو ٠٠مياو ٠٠٠أنتم ،يباب ،يباب!
سمفونية كئيبة مخيفة ، هكذا فسرها فقيه القرية ذلك العالم بدون علم يدعي معرفة كل لغات الطير والحيوان ،كان هدفه زعزعة ثقتنا بوالدنا ،ذلك الكبير !
مرة حكى لنا مغامرة نملة في عمق البحر ، تطعم ضفدعة عمياء ، ثم تطفو على السطح بين الفينة والفينة فكيف له أن لا يعرف من تكون [ بومة منيرفا ] ؟ كدنا نصدقه ، لو لم يطعن والدي في حكاياته ويفند مزاعمه ! 
كل ما أعيه من هذا كله ، وأدركه حق الوعي و الإدراك ذلك النعيق المخيف : يبللني البلل من القفا إلى عمق المداس كلما سمعت نبراته، أشعر بخوف شديد بارد ، يكاد يخنقني فأ تلمس ركبة أمي أمسح بها رعبي :
-قابيل فعلها ، فما ذنبنا نحن ، أتعاقبنا هذه المشؤومة على جرائم لم نقترفها ؟
ينتفخ قلبي ، يركل في أقصى يمين صدري ، تستقيم شعيرات رأسي واقفة ، تراقصها قشعريرة ثلجية ،فتنفتح كل مسام جلدي! 
أزحف على ركبتي، أحتمي من رهبتي ، أتمسح بركبتي أمي كالجرو المذعور: أمسح رعبي برباطة جأشها ، أو هكذا يبدو لي ! 
تنشغل عني بشمعة تأبى التوقد و التوهج ، تداعب فتيلتها بعود يابس ، تريد كبح جماح شرودها ! 
أضع رأسي بين ركبتي ،أشعر ببلل ثلجي يجتاحني كلي ، ترق والدتي لحالي، تضمني إليها برفق ، تلفني بجناح لحافها الرمادي ، تقهقه عاليا، تتظاهر باطمئنان النفس ، تربت على شعري الذي نفشه الخوف : 
- يا صغيري أ تخيفك هذه البلهاء الرعناء ؟ أتتطير من هذه العوراء ، شمطاء الطير ، هي طير نحس ، رمز يأس ، لا٠٠ لا تخف : (لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر ) !
أ ضغط بقوة على ساقها الخشنة بقبضتي الواهنة واستفسر والدي ، أريد التأكد من أقوال أمي و فقيه القرية ، هذا المعتوه :
-أبي لماذا يكره الناس سماع نعيقها ، ويهابونها أليسو ا القائلين؟:
- إنها مقدسة (إلهة أثينا عند الاغريق )، إنها بومة (منيرفا إلهة الحكمة) عند الرومان ! حكيمة الحكماء منذ الأزل ، أم أن هذا كلام كتب صفراء قديمة فسرت كل شيء ولم تقل شيئا يشفي الغليل ؟ أ م أنه هذيان أموات طواهم النسيان ! 
يسحب العود اليابس من يد أمي ،يضغط على فتيلة الشمعة تومض و تخبو تكاد تنطفئ تماما ، ويقول بثقة زائدة :
-يا بني ، نعيقها ، خراب بيوت ، موت أحبة ، إنها قادمة من زمن غابر أغبر ، تطلب ثأرا من المذنب والبريء معا ،كعاصفة هوجاء يساوى جبروتها كل القش ، فتأخذ البريء بذنب المذنب ، هي نذير شؤم ، نذير موت ، لكننا نكره الهامة ترابية اللون أما بومة الحظائر ،فإننا نحترمها ، فهي في ثوبها الأبيض ، تبغي إنهاء عدتها و عهدتها لأزمنة غابرة ،لا تزعجنا أبدا ،ألا ترى أن وجهها قلبي الشكل ؟ و هذا دليل حب لا دليل كراهية !
تنهض أمي تجرجسدها جرا و بصعوبة كبيرة ،تضع قصعة الحساء على المائدة،ينذلق بعض منه فوق برنوس أبي ينهرها بامتعاض ملحوظ : 
- ما بالك يا امرأة ؟ هل أفقدك نعيق هذه العوراء، الشمطاء قدرتك على التحكم في أعصابك ؟
تتظاهر بعدم سماعه ، شاردة الذهن زائغة البصر ،تنفلت كلمات متقطعة من متاهات خيشومها، تتمتم ، تتف هنا ، هناك و تحوقل بدون انقطاع !
تتجه إلى أخي الصغير في مهده ، تجس نبضه وهو يغط في نومه عميقا ثقيلا ، تسحب لسانه من فمه بصعوبة ، تقلبه في كل الجهات، وتتفحصه بدقة ، يبدو عليها الارتياح : 
- الحمد لله لا زرقة ،لا كدمات ، لا خدوش ،لم يمسس الولد سوء ، إنه سليم معافى !
تتقافز جرذان مذعورة في دماغي ، استجمع قوتي استفسرها :
-ما باله أخي الصغير يا أماه ؟ما باله والهامة واللسان ؟ 
بنظرة متوجسة ، وبارتباك مفضوح : 
-هذه المشؤومة،تتحول روحا شريرة ،تغتنم فرصة سكون الليل والناس نيام ، تتسلل من شقوق الأسقف ، من ثقوب الحيطان، و من فتحات الأبواب والنواقد ،تختارالأطفال الرضع من النيام ،تمتص ألسنتهم الطرية وتسلب منهم الروح ، في غفلة من أمهاتهم ، يقولون إنها تتحول (أماتشو بنت أنانو ) وهي شيطانة شريرة ، تتلذذ بدماء الرضع وتمتصها دون رحمة أو شفقة ! 
يغمرها أبي بنظرة استهزاء وسخرية من الرأس إلى القدمين : 
- هذا كلام غير صحيح يا ولدي ،يموت الرضع اختناقا بأثداء أمهاتهم :
في عز النوم العميق ، تلقم الأم الرضيع ثديها دون وعي ، تهوي عليه بثقل جسدها ، فتخنقه حتى الموت ،و تمسح جرمها ببراءة هذه الهامة ، وهذا ليس غريبا عنا ، فقد مسحنا دم يوسف بلبدة ذئب بريء ! افتراء وكذب مقيت ، ينجي الأمهات من فضيحة كبرى و طلاق وخراب بيوت محقق ! 
يسري الهدوء موتا باردا في أوصال قريتنا ، يتلاشى النعيب ، يخمد حفيف الأجنحة ، إلا بعض الرفرفة الشاردة تقاوم ثقل ظلام الليل ، وهسيس كلاب ، في حرب ضروس مع الكوابيس !
نبحر في نوم عميق ،تستوطن زرقة لسان أخي الصغير مكامن أحلامي ، تتحول إلى جاثوم ، يضغط على صدري بقوة ، و يزيدني شخير أبي وأمي وحشة ! 
تدغدغ لمسات ساخنة جبيني المتصبب عرقا :
أول أشعة شمس الصباح تتسرب من شقوق السقف ،تتكسر صورة هامة الشؤم على جدار ذاكرتي، أستفيق مذعورا ، أتحسس أنفاس أخي ، أجس نبضه ، مازال حيا، أفتح فمه ، أحاول إخراج لسانه من حنكه ، أريد فحص زرقته ، يقاومني ، يصرخ مرعوبا ، يركل عشوائيا ، تستقر ركلاته في فم معدة أمي ، تستفيق من نومها ، تتأفف ،وتتف في كل الجهات ،يحوقل أبي ،يلعن تربيتي :
-ماذا دهاك يا ولد ؟ تفو ٠٠٠تفو٠٠٠ تربية آخر الزمن ، جيل ( قمش ما يحشم ما يرمش) جيل لا ينام ولا يترك من ينام !
بقلم الاستاذ صالح هشام 
الجمعة ١٦نونبر٢٠١٦

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق