الثلاثاء، 15 مارس 2016

الاستاذ هادي المياح / يكتب من العراق / قصة ..ق .. / هموم ركاب الكيا

هموم ركّاب الكيّا
ركنتُ نفسي على جهة من رصيف الشارع. كنت بانتظار سيارة تقلُّني الى مقر عملي. الجو لاهب والريح تعصف فتعبث بألاكياس وقناني الماء الفارغة. بحثت يميناً وشمالا عن ظل اتفيأ به. كانت الشمس عمودية على الأشياء،ولا وجود لمكان ظليل على الرصيف. الحرارة تلفح وجهي ويرشني الغبار المتطاير من الشارع بين حين وآخر.
تأخر قدوم السيارة. تعبت.تمنيت ان أنتشل نفسي باي طريقة كانت. قلت لنفسي بغضب: يجب ان اركب أي شئ حتى لوكان صاروخاً! وجاء الصاروخ، جاءت سيارة كيّا كالقفّة وحطت قربي. ركبت بها. إنطلقت القفّة. فتلاشى جسمي بين الركاب..
مابين الزحمة والحرارة المرتفعة، وجوف السيارة الضيق، بدوت أتعرق بغزارة. سرحتُ بذهني خارج القفّة. تمنيتُ لو اني أنهضُ من فراشي صباحاً فأجدُ نفسي طيراً. سأقبلُ حتى لو كنت عصفوراً صغيرا،لا يضر ذلك. فسوف لن أحتاج الى بيت. سأسكن فوق أسلاك الكهرباء ! وسأضع فراخي بعد التفقيس (في حالة التناسل ) على فتحة المزراب.
ولوكان جميع أهالي المدينة عصافيراً مثلي، لما عانينا من مشكلة إسمها نفايات. الانتظار لأيام طويلة لحين قدوم عمَّال البلدية، أمر في غاية السوء. ربما ستلغى جميع دوائر البلدية،لأن طعامنا لا يتعدى ما تناثر من حبّ بفعل الريح، وفضلاتنا ستكون أصغر من حبة الرز. سوف أمتنع عن الكلام الكثير ولغو الحديث فأتجنب غيبة الناس. لا أعرف تماماً كيف أقضي وقتي بعد إنتهائي من توفير ما يلزم من مأكل ومشرب. فأنا لا أحب الركون الى الصمت. عَليَّ أن أحمد الله كون حياتي أصبحت سهلة بسيطة. سأُسبّح وأنا في مكاني، فوق أسلاك الكهرباء. 
ولكن هل العصافير تُسبّح ؟ما أعرفه انَّ العصافير تغرد فقط، تغرد وهي واقفة، وفي حالة الطيران،تغريدها لا يعدو الا زقزقة. الهموم الكبيرة لا تحلها زقزقة بسيطة. من اين تأتي الهموم الكبيرة؟ سأمتلك جناحين أرفرف بهما وأحلق فوق الهموم والمعاناة،أرتفع عالياً بجسمي الصغير في السماء بعيداً عن الصخب وموجات الحر والغبار ولكني لا أفضل ان أكون كالطيور المهاجرة بعيداً عن مدينتي.أنا نسيت باني حريص بأن تكون ألواني زاهية جميلة، لان اغلب الناس يتأثرون في هذه الأيام بالمظهر.
بدأت أشعر بالضيق من الشاب الجالس على يميني، فرائحته لا تطاق والرجل الذي على يساري يحاول ان ينافسني على المسافة التي أضع فيها قدمي، كان نصف جسمي ملتصقا به..إحترت أين أضع بصري ،توجد نساء في الصف المقابل ولكنني لا أحبذ النظر الى احد حتى لا تفسر نظراتي بسوء نية.ومع ذلك كانت هنالك شابة رأيتها تحدِّق في وجهي كحمامة، تنظر لي دون أن تواجهني ، ولكنني ما زلت في حيرة أين أعلّق ناظري!
غدت نظراتي مشوّشة وأنا أرم بها من خلال الشباك الصغير، بسبب سرعة السيارة وجنون السائق. فأدركت صدق نبوئتي وانا على الرصيف، حين جاءت على لساني كلمة صاروخ! 
السائق كالعادة هّمه ان يجمع الأجرة ويعدّها أكثر من مرة وينسى قدمه حين تهبط ثقيلة على دواسة البنزين. فوق الجسر وفي ذروة زحمة الشارع، جهاز الموبايل دائماً يلتصق باذنه. وفي أبسط المواقف يلجأ لضرب مقود السيارة بقوة، مثيراً جلبة مزعجة تعكر المزاج. يجمع لوحده كل عوامل وأسباب نشوء الحادث، عاداته سيئة وأكثرها سوءاً تدخينه المتواصل اثناء السياقة،دخان سيجارته تصل دواماتها حتى المقعد الخلفي. وشرارها المتطاير لا يستبعد ان يؤدي الى نشوب حريق خطير، في اي لحظة داخل السيارة.
لا مجال لخيارات بديلة حينما تكون واقفاً على الشارع وفي منطقة بعيدة عن المركز. في هذا اليوم بالذات كان الكلب الذي ينتظرني واقفا في رأس الشارع قد قلّ نباحه. لكن تأخر قدوم سيارة مناسبة، سبب ظهور خمسة آخرين تناوبوا عليّ بالنباح! سجّل السائق ما لا يقل عن عشرين مخالفة ونحن ما زلنا في ربع الطريق، سائق محترف يلهث وراء الأرقام القياسية ناهيك عما تسمع منه من كلام سوقي وغير لائق. 
شعرت بان الخوف والقلق، هذا الثنائي الذي يرافقنا دائماً يظهر واضحاً على وجوه الركاب، الشباب صامتون رغم كل شئ والنساء تخرج همهمات أشبه بصرخات منفلتة. الا ان هذه قد لا تكون دائماً قوية ومعبرة. 
-لوكنت تقود صاروخاً ماذا ستفعل؟ قلت ذلك للسائق بصوت عال وضحكت سراً مع نفسي من كلمة صاروخ.
رد علىَّ بوقاحة:
-من لا يعجبه فلينزل، أنا أُريد أن الحق بالدور في الكراج!
-وماذا لو حدث لنا حادث ! ما ذنبنا نحن الركاب؟
إرتفعتْ همهمة خفيفة مساندة من بعض الركاب ولكنها إختفت بسرعة..فالركاب دائماً يميلون للاصطفاف مع السائق، حتى لو كان الاخير متهوراً..هذا السائق ليس متهوراً فقط بل عديم الذوق وقليل التهذيب، حاولت التطلع اليه من مكاني فلم أُميّز بسهولة وجهه من رأسه فقد كان ملطخاً، بزيت المحرك .. وكذلك قميصه وذراعيه.
-ستندم ذات يوم وتتذكر نصيحتي : السياقة الرعناء تودي بحياتك ومن معك!وزعقت به:
-توقفْ هنا ؟ 
لأول مرة تواجهني تلك الفتاة وجهاً لوجه وبإهتمام وتعاطف..كنت في أشد حالات عصبيتي، حاولت ان استغل هذه اللحظة حتى اتمعن ولو لفترة في وجهها المدوَّر وعينيها السوداوين وشعرها المخضب بشقرة خفيفة، فبدت لي خائفة هي الاخرى، ولهذا فقد سبقتني الى النزول من السيارة..
حينما انطلق الصاروخ مرة اخرى، كانت تقف بجانبي على الرصيف، ابتسمت لي ، وشدت على يدي بكل قوة، فشعرت بالاطمئنان وخف اضطرابي ،لقد كانت مدرّسة جديدة التحقت قبل ايام في المدرسة النموذجية المختلطة.التي ادرس فيها.
بعد ثلاثة ايام حين كنّا نسير معاً على رصيف الشارع ، المحاذي للكراج، سمعت أحداً يناديني من الخلف:
-ست! ست!
إلتفتُّ اليه، عرفته، كانت لا تزال بقع دهون وآثار كدمات على وجهه..احدى ذراعيه ملفوفة بمادة الجبس ومربوطة الى عنقه، عرفته سائق سيارة الكيّا الصاروخ، فحاذرت إقترابه مني ، لكنه فاجئني بابتسامة وهو يقول:
لو كنت أخذت بنصيحتك يا ست، لما أصبحت على هذا الحال ! 
قالها وعاد من حيث أتى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق