النبش في الذاكرة :عام البون / الجوع / بوهيوف
بقلم الاستاذ : صالح هشام / الرباط / المغرب **
قال لي والدي رحمه الله :
- من أين تريدني أن أبدأ الحكاية يا ولدي ؟
قلت بلهفة وكعطشان ينتظر جرعة ماء :
- من عام بوهيوف ، عام البون ، عام النتافة ، عام الجوع ، تعددت الأسماء والمسمى كارثة واحدة ! ولماذا سمي كذلك ؟
قهقه رحمه الله عاليا حتى كاد يستلقي على قفاه وقال :
-إذن سألخص لك عام بوهيوف في جملتين أو ثلاث !
-ماذا تعني يا أبي ؟
مرر يده على لحيته الثلجية البيضاء وتأفف وقال :
-أتعرف أين يبني العنكبوت بيته يا ولدي ؟
-وأنا أستغرب سؤاله قلت :
-في الأماكن المهجورة والأكثر أمنا ؟
قال وقد جعلني أكثر قلقا :
- عام 1945 بنى بيته في مؤخرات المغاربة واستقر آمنا هناك ؟ فاستغربت هذا الجواب المثير للضحك حد البكاء والمثير للبكاء حد الضحك وقال :
- يا ولدي إسمع جيدا في أربعينات القرن الماضي ، تعطلت أمعاء المغاربة ولم تعد قادرة على القيام ،بوظيفتها البيولوجية وأصاب الصدأ معداتهم ، ،فاضطروا إلى حزم مصارينهم بالحبال ، لتقليص ألم الجوع ولإسكات هذه الأمعاء المعطلة التي هجرتها (مطحونة الرحى )منذ مدة طويلة !
تأفف رحمه الله وقال بنبرة مخنوقة :
-يا ولدي لا توقظ مواجع الماضي في دواخلي . عد إلى كتب التاريخ واقرأ تاريخ بلادك وستعرف قصة العنكبوت هذه ، و ستقف على حقيقة المؤخرات المهجورة والأمعاء المعطلة !
لم أرد تأليب مواجعه ،فقد عاش المرحلة وعانى منها كما عانى جل المغاربة من هذه الكارثة الخطيرة . أتت آفة المجاعة على الأخضر والأصفر والأحمر ، السنوات العجاف التي امتدت لما يزيد عن ثمان سنوات ، حيث أتى فيها الجفاف على كل أسباب الحياة في مغرب الحماية الفرنسية ،إذ كان المواطن المغربي يعيش بين كفي كماشة : فمن جهة كان المغرب يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي الذي عاث في الأرض والعرض والبلاد والعباد فسادا ، كان يستنزف الثروات المغربية باسم التضامن مع فرنسا التي كانت تخوض الحرب العالمية الثانية و التي لعب فيها المغاربة الدور الأكبر على مستوى الاقتصاد والموارد البشرية للتجنيد ،وقد كان هذا الاحتلال ، يضمن الرفاهية للخونة الذين باعوا الأرض ولم يأبهوا للعرض ، فهذا قائد الرحامنة يمنح فرنسا أموالا باهضة لمساعدتها على تكاليف الحرب في حين يموت أبناء جلدته جوعا وأمراضا وعطشا !
لا أريد أن اكون مؤرخا لهذه المرحلة بقدر ما أريد أن أستفز ذاكرة المغاربة بصفة عامة للإبحار في تاريخ بلادهم ،اخذ العبرة والموعظة مما عاشه آباؤهم ،فالاحتلال الفرنسي و باسم االتضامن الحربي ، استنزف من المغرب الزرع والضرع إلى آخر قنطار، وآخر رأس من الماشية ، سادت الفوضى وخيم الموت على جميع المداشر والقرى ، جفت الغدران ونضبت مياه الأنهار وغاضت مياه الآبار ، وساد احتكار السلع ، وانتشر القمل ، وأصبح أكثر شراسة ، فكانت ترش الأدوية بالطائرات على الجموع الغفيرة من المغاربة الذين أصبحوا عاجزين تماما عن الحركة ، استفحلت ظاهرة الهجرة إلى المدن ، رغم الإجراءات الزجرية التي كانت تقوم بها سلطات الحماية ، للحد من هذه الظاهرة إلى المدن !
كانت رصاصة الرحمة في هجوم الجراد البشري القادم من البحر والطبيعي القادم من البر ،الذي أتى على آخر حبة في الحقول وآخر قطرة في الأنهار والآبار . إنه الموت الأحمر لا محالة !
تكورت الغصة في حلقي وأصبحت غير قادر على ابتلاع ريقي لفضاعة ما قرأت عن هذه المرحلة التي لم أتطرق لها بشكل تاريخي ، وإنما فقط من أجل الإثارة للابحار في كتب التاريخ !
أفضع ما قرأت أن أحد المغاربة شاهد أخاه تقضم الكلاب أذنيه فعجز عن حمايته ،لأنه هو أيضا كان في حاجة إلى الحماية من هذه الكلاب التي أدمنت على أكل لحم البشر ، تنهش الجثث في كل مكان في شوارع المدن كما في القرى والمداشر ، تخلى الآباء عن أبنائهم وبناتهم و تنازلوا عن أراضيهم مقابل مد قمح أو شعير !
إنه الموت الأصفر تفوح رائحته في كل مكان ،لم ينج من سطوته إلا عيون فرنسا وبصاصوها ، الخونة الذين باعوا الأرض والعرض مقابل رضى الاحتلال وبعض الامتيازات ! حلقت النساء رؤوسهن اتقاء شراسة القمل الذي وجد المرتع خصبا ، فامتص منهم الماء والدم ، و انتشرت الأمراض الفتاكة على اختلاف أنواعها من ( تيفوس ) و( حمى صفراء ) و( أمراض الأمعاء الخاوية ) و ( والرمد والحصبة ) وكل ما ينتج عن انعدام النظافة ،فرغم تلك الإجراءات الخجولة التي قامت بها سلطات الحماية للتقليص من هذه الكوارث التي راح ضحيتها أعداد لا تحصى من الطبقات الهشة ،التي استنفد منها الجوع آخر ماتملك ، حيث أصبح التلقيح ضد التيفوس إجباريا ،وفرض قانون الحجر الصحي ،خصوصا الهجرة إلى المدن إذ كان الذي يريد دخول المدينة يخضع للتلقيح الإجباري لكن هذا لم يكن ليقف أمام عمليات الغش ،إذ كان العشرات من غير الملقحين يعبرون بإذن واحد بالمرور لشخص واحد !
ضيق الجوع والعطش الخناق على المغاربة ، ونحن نعرف أن الصراع من أجل البقاء غريزة في جميع الكائنات الحية ، فقد سارع المغاربة إلى البحث عن البديل الذي يمكن أن يعوض الحبوب التي نفدت من الأسواق ،وأصبح القنطار من الشعير يعادل عشرات الفدادين من الأرض ، وإذا لم يكن ذلك يقدم الأحبة قربانا للموت وللكلاب التي أصبحت تنهش البشر وهم أحياء ،بحث المغاربة عن البديل ،فكانت مطاردة القنافد واللقالق ، وعوضوا النقص الحاصل في الحبوب بالأعشاب بمختلف أنواعها : ( الترفاس : أشبه بالبطاطس /وكتارة / وإيرني تطحن وتخلط بشيء قليل من الدقيق ، إضافة إلى البقوليات والحميضة ، ومختلف الأعشاب التي يمكن أن تحرك المعدة مهما كانت النتائج ) إلا أن استهلاك هذه النباتات كانت لها عواقب وخيمة جدا إذ كان أغلب الناس يموتون بالإسهال خصوصا الأطفال الصغار وضعاف المناعة ، و كانت الماشية تنفق ، بشكل مخيف مما جعل سلطات الحماية تفكر في الاستفادة من هذه الحيوانات ،فلتذبح ما دامت ستموت جوعا وعطشا لا محالة ، لكن هل اللحم الجاف أصلا يعوض الخبز ؟؟
لا شيء يعوض الخبز الذي يستهلكه المغاربة إلا الخبز ، وهيهات !!! هيهات الخبز الذي أصبحت الكسرة منه تستعبد العشرات من الناس !!! في منازل الخونة والانتهازين وعيون فرنسا واللصوص من شيوخ ومقدمين الذين كانوا يحتكرون حتى البون bon المشؤوم للحصول على بعض الكلغرامات من الدقيق ،اوالملابس ،فيوزعون هذا الوصل على ا.لأعيان ولا يصل للمعوزين إلا ما قل وندر ، هذا جزء من بحربلا شطآن ونهربلا ضفاف من محن المغاربة مع الجوع إبان الحرب العالمية الثانية ! هذه المعاناة التي استمرت لسنوات طويلة نتيجة انحباس الأمطار ، وتفاقم الأوضاع العالمية نتيجة هذه الحرب اللعينة!
بقلم الاستاذ صالح هشام
الاثنين 4ابريل 2016
بقلم الاستاذ : صالح هشام / الرباط / المغرب **
قال لي والدي رحمه الله :
- من أين تريدني أن أبدأ الحكاية يا ولدي ؟
قلت بلهفة وكعطشان ينتظر جرعة ماء :
- من عام بوهيوف ، عام البون ، عام النتافة ، عام الجوع ، تعددت الأسماء والمسمى كارثة واحدة ! ولماذا سمي كذلك ؟
قهقه رحمه الله عاليا حتى كاد يستلقي على قفاه وقال :
-إذن سألخص لك عام بوهيوف في جملتين أو ثلاث !
-ماذا تعني يا أبي ؟
مرر يده على لحيته الثلجية البيضاء وتأفف وقال :
-أتعرف أين يبني العنكبوت بيته يا ولدي ؟
-وأنا أستغرب سؤاله قلت :
-في الأماكن المهجورة والأكثر أمنا ؟
قال وقد جعلني أكثر قلقا :
- عام 1945 بنى بيته في مؤخرات المغاربة واستقر آمنا هناك ؟ فاستغربت هذا الجواب المثير للضحك حد البكاء والمثير للبكاء حد الضحك وقال :
- يا ولدي إسمع جيدا في أربعينات القرن الماضي ، تعطلت أمعاء المغاربة ولم تعد قادرة على القيام ،بوظيفتها البيولوجية وأصاب الصدأ معداتهم ، ،فاضطروا إلى حزم مصارينهم بالحبال ، لتقليص ألم الجوع ولإسكات هذه الأمعاء المعطلة التي هجرتها (مطحونة الرحى )منذ مدة طويلة !
تأفف رحمه الله وقال بنبرة مخنوقة :
-يا ولدي لا توقظ مواجع الماضي في دواخلي . عد إلى كتب التاريخ واقرأ تاريخ بلادك وستعرف قصة العنكبوت هذه ، و ستقف على حقيقة المؤخرات المهجورة والأمعاء المعطلة !
لم أرد تأليب مواجعه ،فقد عاش المرحلة وعانى منها كما عانى جل المغاربة من هذه الكارثة الخطيرة . أتت آفة المجاعة على الأخضر والأصفر والأحمر ، السنوات العجاف التي امتدت لما يزيد عن ثمان سنوات ، حيث أتى فيها الجفاف على كل أسباب الحياة في مغرب الحماية الفرنسية ،إذ كان المواطن المغربي يعيش بين كفي كماشة : فمن جهة كان المغرب يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي الذي عاث في الأرض والعرض والبلاد والعباد فسادا ، كان يستنزف الثروات المغربية باسم التضامن مع فرنسا التي كانت تخوض الحرب العالمية الثانية و التي لعب فيها المغاربة الدور الأكبر على مستوى الاقتصاد والموارد البشرية للتجنيد ،وقد كان هذا الاحتلال ، يضمن الرفاهية للخونة الذين باعوا الأرض ولم يأبهوا للعرض ، فهذا قائد الرحامنة يمنح فرنسا أموالا باهضة لمساعدتها على تكاليف الحرب في حين يموت أبناء جلدته جوعا وأمراضا وعطشا !
لا أريد أن اكون مؤرخا لهذه المرحلة بقدر ما أريد أن أستفز ذاكرة المغاربة بصفة عامة للإبحار في تاريخ بلادهم ،اخذ العبرة والموعظة مما عاشه آباؤهم ،فالاحتلال الفرنسي و باسم االتضامن الحربي ، استنزف من المغرب الزرع والضرع إلى آخر قنطار، وآخر رأس من الماشية ، سادت الفوضى وخيم الموت على جميع المداشر والقرى ، جفت الغدران ونضبت مياه الأنهار وغاضت مياه الآبار ، وساد احتكار السلع ، وانتشر القمل ، وأصبح أكثر شراسة ، فكانت ترش الأدوية بالطائرات على الجموع الغفيرة من المغاربة الذين أصبحوا عاجزين تماما عن الحركة ، استفحلت ظاهرة الهجرة إلى المدن ، رغم الإجراءات الزجرية التي كانت تقوم بها سلطات الحماية ، للحد من هذه الظاهرة إلى المدن !
كانت رصاصة الرحمة في هجوم الجراد البشري القادم من البحر والطبيعي القادم من البر ،الذي أتى على آخر حبة في الحقول وآخر قطرة في الأنهار والآبار . إنه الموت الأحمر لا محالة !
تكورت الغصة في حلقي وأصبحت غير قادر على ابتلاع ريقي لفضاعة ما قرأت عن هذه المرحلة التي لم أتطرق لها بشكل تاريخي ، وإنما فقط من أجل الإثارة للابحار في كتب التاريخ !
أفضع ما قرأت أن أحد المغاربة شاهد أخاه تقضم الكلاب أذنيه فعجز عن حمايته ،لأنه هو أيضا كان في حاجة إلى الحماية من هذه الكلاب التي أدمنت على أكل لحم البشر ، تنهش الجثث في كل مكان في شوارع المدن كما في القرى والمداشر ، تخلى الآباء عن أبنائهم وبناتهم و تنازلوا عن أراضيهم مقابل مد قمح أو شعير !
إنه الموت الأصفر تفوح رائحته في كل مكان ،لم ينج من سطوته إلا عيون فرنسا وبصاصوها ، الخونة الذين باعوا الأرض والعرض مقابل رضى الاحتلال وبعض الامتيازات ! حلقت النساء رؤوسهن اتقاء شراسة القمل الذي وجد المرتع خصبا ، فامتص منهم الماء والدم ، و انتشرت الأمراض الفتاكة على اختلاف أنواعها من ( تيفوس ) و( حمى صفراء ) و( أمراض الأمعاء الخاوية ) و ( والرمد والحصبة ) وكل ما ينتج عن انعدام النظافة ،فرغم تلك الإجراءات الخجولة التي قامت بها سلطات الحماية للتقليص من هذه الكوارث التي راح ضحيتها أعداد لا تحصى من الطبقات الهشة ،التي استنفد منها الجوع آخر ماتملك ، حيث أصبح التلقيح ضد التيفوس إجباريا ،وفرض قانون الحجر الصحي ،خصوصا الهجرة إلى المدن إذ كان الذي يريد دخول المدينة يخضع للتلقيح الإجباري لكن هذا لم يكن ليقف أمام عمليات الغش ،إذ كان العشرات من غير الملقحين يعبرون بإذن واحد بالمرور لشخص واحد !
ضيق الجوع والعطش الخناق على المغاربة ، ونحن نعرف أن الصراع من أجل البقاء غريزة في جميع الكائنات الحية ، فقد سارع المغاربة إلى البحث عن البديل الذي يمكن أن يعوض الحبوب التي نفدت من الأسواق ،وأصبح القنطار من الشعير يعادل عشرات الفدادين من الأرض ، وإذا لم يكن ذلك يقدم الأحبة قربانا للموت وللكلاب التي أصبحت تنهش البشر وهم أحياء ،بحث المغاربة عن البديل ،فكانت مطاردة القنافد واللقالق ، وعوضوا النقص الحاصل في الحبوب بالأعشاب بمختلف أنواعها : ( الترفاس : أشبه بالبطاطس /وكتارة / وإيرني تطحن وتخلط بشيء قليل من الدقيق ، إضافة إلى البقوليات والحميضة ، ومختلف الأعشاب التي يمكن أن تحرك المعدة مهما كانت النتائج ) إلا أن استهلاك هذه النباتات كانت لها عواقب وخيمة جدا إذ كان أغلب الناس يموتون بالإسهال خصوصا الأطفال الصغار وضعاف المناعة ، و كانت الماشية تنفق ، بشكل مخيف مما جعل سلطات الحماية تفكر في الاستفادة من هذه الحيوانات ،فلتذبح ما دامت ستموت جوعا وعطشا لا محالة ، لكن هل اللحم الجاف أصلا يعوض الخبز ؟؟
لا شيء يعوض الخبز الذي يستهلكه المغاربة إلا الخبز ، وهيهات !!! هيهات الخبز الذي أصبحت الكسرة منه تستعبد العشرات من الناس !!! في منازل الخونة والانتهازين وعيون فرنسا واللصوص من شيوخ ومقدمين الذين كانوا يحتكرون حتى البون bon المشؤوم للحصول على بعض الكلغرامات من الدقيق ،اوالملابس ،فيوزعون هذا الوصل على ا.لأعيان ولا يصل للمعوزين إلا ما قل وندر ، هذا جزء من بحربلا شطآن ونهربلا ضفاف من محن المغاربة مع الجوع إبان الحرب العالمية الثانية ! هذه المعاناة التي استمرت لسنوات طويلة نتيجة انحباس الأمطار ، وتفاقم الأوضاع العالمية نتيجة هذه الحرب اللعينة!
بقلم الاستاذ صالح هشام
الاثنين 4ابريل 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق