الخميس، 26 مايو 2016

جبروت الرموز / قصة قصيرة / بقلم مهدية اماني / المغرب

جبــــــروت الرمـــــــــــوز

.
ــــ الطبق المبتكر الألوان يتوسط حوش الدار ، يثير إعجاب النسوة ، يتهامسن ويشرن بأصابعهن صوبه ، وسؤال كبير يرتسم في أعينهن المكحلة بعناية تحت أهِلّة حواجبهن المرسومة بالحركَوس..انتابني فخر كبير صعد حاميا من أحشائي فتورّد خداي..لقد شاركت الصبايا في قطف الحلفاء المادة الأولية ، ليست أية حلفاء ، بل لبُها ذو اللون الأخضر الفاتح استمتعت بمصمصة جذره الحلو المنعش وبترديد الأغاني المصاحبة لقطفه... " يا الحلفا ..أنا حالفة ..حتى تكوني هاد المرة شريط الوَلْفة ..الولفة..ما نعمل منك..لا شْوال ولا قفّة .. ولا قفة" وذهبت متسللة لسوق أربعاء سيدي أحمد بن إدريس مع "المزوارات".. النساء المسنات اللواتي لم يتزوجن إلا مرة واحدة وهن عذراوات وبشبان بتولين ، لشراء الصبغات بألوان لم تكن سوى الأحمر والأخضر وأسقطن الأسود من الحسبة لأنه لا يتماشى والمناسبة ..أكلت "الشفنج" ، و"الحمص-كامون" والفول "طايب وهاري"..صديق الدراري كما يشدو البائع في ميكروفون صنع يدوي عبارة عن قصديرة أعاد تدويرها على شكل قمع لتأخذ صوته بعيدا..وعدنا ..ليباشرن صبغ جريد الحلفاء وهن مطمئنات فالعمل شبه منته ...إلا أنا ، فعلى صغر سني بقيت أشياء كثيرة تعتمل في رأسي ولا شيء مسلم به لدي..لقد دعكْت يوما بين أصابعي نُعمانة حمراء وورقة خضراء فتخضب أصبعيّ بلون أصفر جميل..فماذا لو ابتكرت ألوانا جديدة لطبق هذا العُرف على سبيل التغيير ؟ أعرفني ، لما تسْتعِر فكرة ما بدواخلي ، فإنني لا محالة مقدمة على اختراع شيء رائع ، أو اختلاق مصيبة ، كما حدث يوم أدخلت دبابير إلى قفير النحل لتحسين طعم ونوعية العسل ، فأقفَر وحظيت بلقب "السّاحقة المدمّرة" من طرف عمي ، ظل ملازما لي ولم أعتبره معرّة في حقي بل وسام إقدام ..وأن حذاري من هذه "الصباة"...ولو دَرتِ النّسوة بما أنا معوّلة عليه وأنا أحوم بالقدور ،وأتصيد فرصة ذهابهن لاحتساء الشاي ، لربطنني إلى شجرة لا شك في ذلك وطلين وجهي الصبوح بالسخام.. تفاجأت المزوارات بما أسفرت عليه مغامرتي غير محسوبة العواقب ، فقد تعددت ألوان الجريد ، أحمر وأخضر وأصفر وبرتقالي وبعضهما مزيج من كل ..وأنا أراقب من فوق سطح "نصرية" جدي منبطحة على بطني أرى ولا أُرى..خبطن على أفخاذهن السمينة منها والهزيلة ..الثخينة اللحيمة تصدر صوتا كطبْطبة على عجين مختمر أو عجيزة بقرة سمينة، أما الشّخِتة العجفاء فكأنما تضرب صاحبتها على قصبتين تُصفِران..ضحكت كثيرا وتمرغت كجحش سعيد على طول السطح ، واكْتمنْت ُهناك إلى حين انتهائهن من صنع الطبق ، اقتتْتُ من التين المجفف واللوز المنشور ليجف..ونزلت ليلا لأبات في حضن جدي، وحصنه الحصين فلا أحد يجرؤ على تخطي عتبة باب العلية دون إذنه سواي وتعشيت معه عشاء شهيا يُختص به..أسمعهن يسقطن اللوم على البائع الغشّاش، ويكِلن له كل أنواع الشتائم يدعين عليه ويتوعّدنه بالويل والتبور ، ويقسمن أن بتحطمن أسنانه بالشباشب السوق المقبل..ثم انبرت أحداهن معروفة بسلاطة لسانها ، فلامت من طبخت الألوان، ورمتها بالخرف والفالج والشلل والكسح ، ونتفت شعر فودها وهي تبصق حيث أسقطته قائلة.. هذه شعثتني إن أنت أفلحت يوما في خلط أي لون ثانية يا مُخلّعة..وأردفت أخرى أقطع يدي وأصبح كثعاء ، وأحلق شعري وأبقى صلعاء إن لم تكن تلك " السلفعاء" التي ظلت تحتك بالقدور.. نط قلبي من مكانه وأيقنت أني في ورطة ، ثم عاد وانتظمت دقاته لما ردت عليها أخرى..اِتقي الله في الصبية يا أفعى أنتِ...واصمتي. 
بقيت الألسنة لا تكل والأيادي تعمل..ليخرج ذاك الطبق من أجمل ما صنعن ، ولما انطلقت زغرودة "حادة الرّبْلة" المدوية ، تحرّرت من سجني ونزلت من السّماء أدبّ على الأرض، وأشارك في تزيينه على وجل وخوف ، بالحناء والتمر والبيض المسلوق والحلوى التي عانقت ألوانها المختلفة ، ألوانه المتمايزة في مزيج بديع ساحر استقطب كل ذلك الاهتمام الذي أسلفت ذكره.. يتوسط الكل قالب من السكر يرمز لشيء معين فلن يتواجد هناك اعتباطا.. زين بياضه الناصع بفاقع الزعفران ، وسلطانية بها ألياف صوف على شكل ضفيرة منقوعة بالحناء ، وقطعة من مصران حيوان ما مملوءة قطرانا في جحم نقْنوقة..أمسكت يدي عنها بصعوبة فقد راقني ملمسها ومرونتها حتى لا أحيل كل شيء إلى سواد..أصوات الرجال الغليظة القوية أو المبحوحة بفعل التبغ الأسود ، وأصوات الصبيان الرنانة الصداحة بأمداح نبوية تأتي من ناحية المسجد ، مُنبئة بأن سلطان الحفل تتم زفّته..نصطف بسرعة نحن البنات في أجمل ما لدينا من قفاطين وجدائلنا الإثنتا عشر تزين جانبي وجوهنا ككيلوبترات من تحت "قطيب" منديل بألوان قشيبة تتدلى من خيوطه عملات معدنية وترتر..ونقبض على ربطات النعناع والحَبق في سرور وبهجة ، يقبل الحشد الذكوري ، فنستقبله بالانحناء في تحية ملكية، ملوحات بالخضرة ومتقهقرات ، نخطو ، ننحني ونخطو إلى الوراء غير مستدبرات ،واضعات بين كل انحناءة وخطوة أيدينا المخضبة بالحناء مكان القلب ،نرتفع وننحني إلى أن أوصلنا الصبي الجيلالي إلى حيث وضعت قلة مقلوبة على فمها..نجلسه عليها ونقول ونحن نكرر التحية ..."إجلس على القلة..يا القادم على الرّجلة...وتكلم كيف تتكلم النحلة "...تزعرد النسوة ويختم الرجال بالدعاء ، وينتظر الجميع أن يهل الحجّام بجلال قدره.. يمسد لحيته البيضاء وقد تمددت تحتها دائرة سبحة حباتها بحجم بيض الحجلة... يبسلم ويحوقل ، يتمتم بعض الأدعية ويباشر عمله..لم يصرخ الطفل ، فهذا الطقس يمارس احتفاء بالمختونين ، التطهير يدمي الذكورة ويَستثْبِت أن عرقا دساسا لم يتسلل للدم ويخنثه ،أما وقد قارب الصبي سن إجبارية الصلاة فذلك شيء مغاير..الموسى تمر في الشعر الذي ترك بدون حلاقة لمدة غير قصيرة، فلا تبقي فيه غير عُرف في الوسط يمتد من الناصية إلى مقتبل الجبهة ، وعلى يمين الرأس وشماله...كتلتان مدورتان.. يعمد الشيخ لطلاء المحلوق بالقطران ، وما عفا عنه بالحناء والزعفران ، يقلِّد الصبي خرْجا من الكتان به دليل الخيرات ، وجنجرا من الفضة بحمالة من الحرير المزركش ، يتأبط قالب السكر وينصرف ، تحت وابل من النعناع والحبق والريحان والورد البلدي الجاف، يفترس الحضور الحلوى والمكسرات والفطائر، يتسايق الصبيان على الفوز بنُدَف الصوف والحناء استدرارا للبركة، وينهض سلطان الحفل ، تكسر تحت قدميه القلة لتذهب عنه كل محنة وعِلة ويحظى في حياته بأجمل..عَلَّة ، وقد صعدت ذكورته من تحت إلى فوق ، وخرجت من الخفاء إلى العلن ، وسيحملها حتى سن البلوغ على رأسه كتاج ، ويتم فعل التظهير..بفضل "كيرياكيديس" " طْبِيعْ القَرْن"..
---------
ملحوظة......
-الشفنج...فطائر مقلية بالزيت ومثقوبة من الوسط
- حمص كامون......حمص مطبوخ في ماء ومرشوش عليه كامون وملح
- طايب وهاري .....فول مطبوخ ايضا بماء وملح
- الصباة......مزيج كلمة صبي وفتاة....
- طبيع القرن ...تنطق القاف كما الجيم بلهجة مصر الشقيقة ..وهو.طقس حلاقة الصبيان الذين سبقوا وختنوا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق