خربشات عاشق للحرف حول علاقة الكتابة بالقراءة
/-
ورقة أولى...
-/
مصطفى بلعوام
------
كل نص أدبي له كاتبه، وكل كاتب يكتبه نصه بالضرورة. النص توقيع الذات من خلال اللغة التي تستعملها لإنتاج النص. اختيار قاموسها اللغوي، اشتغالها على تيميات معينة، تفضيلها لاستعمال تقنية كتابية عن أخرى ، كل هذا وذاك يدل على أن النص اختيار لذات كاتبة في عالم لغة لا حدود لها. بداهة ، النص الإبداعي لغة ، واللغة نظام إشاراتي ونسق رمزيات فى أدنى تعريفها الاصطلاحي. غير أن ما يجعلهما في علاقة ارتباك دائمة هو أكثر مما يوحدهما. لأن لغة النص الإبداعي لا تتماهى مع اللغة من حيث هي وحدة متعالية على الأشياء والكلمات. ليست لغة في المطلق ومنفتحة على المطلق بل هي على العكس من ذلك تماماً اقتطاع لغوي للذات الكاتبة في عالم اللغة غير المتناهي حسبما تشترطه هي في عملية الكتابة .
هناك مغالطتان في تناول علاقة النص الإبداعي بكاتبه:
أولا، تلازمية علاقة النص الإبداعي بكاتبه لا تعني أن هذا الأخير يملك وحده مفتاح الدخول إلى ما يكتبه. ولا تدل بالمقابل على أن ما يكتبه غريب عنه لا يمت له بأية صلة. قد نستنبط في أحسن التخريجة أن الكاتب غير وصي على نصه في إنتاج ما يتضمنه من معرفة على اعتبار أن انفتاح نصه على قراءات متعددة دليل على إستقلاليته وبالتالي على موقعه هو منه الذي ليس إلا موقع قاريء لا أقل ولا أكثر، يعطي وجهة نظر في ما خلقه واختلقه. والمغالطة تكمن في الخلط بين وجهين للكاتب وعلاقته بالنص. للنص كاتبه وللكاتب نصه الذي يتمظهر فيه بدون أن يحيل إليه ككاتب للنص ، اي أن النص يكتبه من خلال ما ينسجه من اقتطاع في اللغة ويجعله مشرعا لقراءات متعددة تتجاوز فهمه لما يكتبه. وعليه، فإن كل نص يكتب كاتبا ضمنيا في ما هو يكتبه متجاوزا الكاتب الموقع اسمه عليه من لحم ودم.
لكن مالذي قاد إلى هذا الانزلاق الايديولوجي في ترويج فكرة اغتيال الكاتب أو المؤلف وتأليه النص الذي يكتبه كأنه كائن لم يولد وقادر في نفس الوقت على ولادة القراءات المتعددة؟ تلك هي المغالطة الثانية وكأن اللسانيات كانت مبشرة بقدوم العولمة الحاملة معول اغتيال ما تبقى من فاعلية الانسان في علاقته بدلالة الأشياء والكلمات. وبالرغم من ضرورة تناول هذا البعد الأيدولوجي، فإننا لا نتطرق إليه وسنتركه ربما لورقة نقدية أخرى. لأن همنا الآن كما يقول باشلار هو تتبع مسار الحقل المعرفي المرتبط بما يخلقه من موضوعات معرفية. فكيف تم إذن ، حسب رأينا ، الانزلاق بالنص إلى متاهات تكتسي في ظاهرها جدية المقاربة والطرح "العلمي"؟
مع ظهور اللسانيات واجتياحها لأغلبية الحقول المعرفية تمركز كل شيء حول اللغة وإشكالاتها. وكان من البديهي أن يأخذ النص الأدبي نصيبه الوافر منها بما أنه أولا وأخيرا لغة أو بتعبير آخر ينهض على ما تتيحه له اللغة. النص لغة ومن كونه لغة يجب تحليل اللغة لقراءته وجعله حقلا تجريبيا لما تنتجه اللسانيات من معرفة حول اللغة. لم يعد أدبيا من حيت هو نص، فَقَط لغة تخترقه وتفرض عليه مستلزمات ما تقوله اللسانيات لإنتاج معرفة حوله . وهنا الإنزالق الأول ، النص الأدبي تحول إلى " مادة لسنية" شغلها الشاغل دراسته وفق تقعيدات اللسانيات ونظرياتها حول اللغة من حيث هي قابلة للاستيراد والتصدير المعرفين. ومن المنطقي وفق هذا التصور أن ينسحب كاتب النص بكل هدوء " وعلمية" لأن موضوع اللسانيات نصه كلغة وكمادة لسنية ليس إلا .
طرح مغري مما لا شك فيه، حاول توطيد فرضياته على محك اعتبار اللغة مادة لسنية تتوفر على شروط إنتاج معرفة " علمية". وبقدر ما كان مغريا نظريا بصفة عامة، بقدر ما انتهى به الأمر إلى مأزق نظري فيما يتعلق بالنص الأدبي ، والشعري بالخصوص. فلا أحد ينكر أن النص الأدبي لغة ولا أحد يجزم في نفس الوقت بأنه عبارة عن لغة فقط، مما يعني أن لا أحد يستطيع النفي بأنه أكثر من لغة بمفهومها اللسني، لغة من طينة خاصة يصعب تقنين مميزاتها الإبداعية وتضعنا دوما وأبدا
أمام السؤال التالي : مالذي يجعله ينهض على اللغة بدون أن تكون معياره الوحيد في تحديد خصوصيته؟
هذا ما حاولت الدراسات المتعلقة بأدبية أو شعرية النص الإجابة عنه، وعلى رأسهم رومان جاكبسون الذي أسهب في تحاليل مرتكزاته البنيوية باحثا عن قواعده وقوانينه الكفيلة وحدها بترسيم خاصياته، ومستعملا في ذلك، كباقي الشكلانين الروس، مواربة أسلوبية ذكية حولته من "مادة لسنية " إلى "مادة إنشائية " (poétique ) لاستقراء الوظيفة الجمالية أو الشعرية فيه، بمعنى أدبيته littérarité. على أي جهاز مفاهيمي تعتمد إذا هذه الدراسات للمادة الانشائية ؟ تنطلق قبل كل شيء من فرضية أساسية مختزلة في ترسيمة لسانية تربط اللغة بست وظائف : المرسل /الرسالة/المرسل إليه/المرجع/القناة/السنن. ولكل عنصر من هذه العناصر وظيفة. وما يحكم الوظائف الستة للغة هو الغاية التي من أجلها توظف ، ألا وهي تحقيق التواصل في وحدته الصغرى بين المرسل والمرسل إليه. المبدأ في التحليل يقوم إذا على اللغة ولا شيء غير اللغة ، تلك التي حددت ترسيماتها اللسانيات من خلال بنيتها ووظائفها. فيحلل النص الأدبي على ضوئها وفق مستوياته اللسانية : الصوتية والتركيبية والدلالية والبلاغية. من ناحية نحاول إبراز خصوصية النص الأدبي من حيث هو نسق منغلق على شبكة العلاقات البنيوية المتفاعلة فيه، ومن ناحية أخرى نخضعه لعلاقة المرسل بالمرسل إليه كرسالة مثل باقي الرسالات الإخبارية. ويكفينا للتدليل على ذلك تحليل ما قاله جاكبسون : " إن الشعر عنف منظم ضد الكلام العادي" . كلاهما أداة تعبيرية وكلاهما حسب الفرضية الثاوية وراءهما ينهضان على علاقة المرسل بالمرسل إليه وما تحمله الرسالة. وكأن الطريقة الناجعة تكمن في تقابلية النص الإبداعي بالكلام العادي لاكتشاف أدبية الأول في انزياحاته انطلاقا من ممارسته العنيفة على الثاني من حيث هو الأصل والمرجع. والمسكوت عنه في هذه التقابلية هو خلفيات الترسيمة ذاتها: هل النص الأدبي قابل للتحليل وفق علاقة المرسل بالمرسل إليه كما هو الشأن بالنسبة للكلام العادي؟ وهل للنص الأدبي مرسل إليه يحمل له رسالة من المرسل ؟ وهل يحق لنا اعتبار الشعر " كلام" آخر يعنّف الكلام العادي؟ وما علاقة الشعر بالكلام العادي؟
هنا نصل إلى غموض المقاربة ،لأن النص الشعري ليس له مرسلا إليه محدد المواصفات ولا رسالة غائبة ( téléologique ) تحتوي على أحادية المعنى كما هو الشأن للكلام العادي. وحتى لو افترضنا أن مرسل النص هو الكاتب ، فإن ذلك لا يعني بأية من الأحوال أن عملية الكتابة الإبداعية تتم في علاقة عنف مع الكلام العادي. فالشعر عنف منظم ضد اللغة التي من خلالها يبني فضاءه ليقرأ من خارج التنميطات اللسنية التي رسمتها لها. إنه دائماً لغة الغياب لما تقوله كلمات الحضور المفككة جنونيا داخله.
فما علاقة النص الإبداعي بالمرسل والمرسل اليه؟ الجواب على السؤال يتضمن تحديد الوظيفة التي يقوم بها النص بين المرسل والمرسل إليه. عكس الشكلانين الروس بما فيهم جاكبسون ، يري رولان بإرث أن الكتابة الأدبية ليست وسيلة اتصال ولا هي أداة تعبيرية عن ذات الكاتب. إنها استخدام خاص للغة يخرجها من خانة غائية الرسالة بين المرسل والمرسل إليه، ويطرحها على شكل معادلة تجمع طرفيها الكتابة والقراءة على اعتبار أنهما وجهان لمعادلة واحدة. فالكتابة الأدبية ذات لغة متفردة تعتمد على الإيحاء والغموض والخيال والتلذذ والهلوسة.. اللذة ولاشي غيرها هي اللذة التي تطارد الكاتب في عملية الكتابة والقاريء في عملية القراءة . وبالرغم من اعترافه بعدم صحة التمييز الذي قام به بين الكاتب écrivant والمؤلف écrivain ، فإن ذلك يعطينا على الأقل فكرة واضحة لما بعنيه بتفردية اللغة في الكتابة الإبداعية . الكاتب يستعمل اللغة لغاية غير لغوية يسعى من خلالها أن يكون ما يكتبه حاضن لمعنى واحد، ذلك الذي يريد أن ينقله للقاريء. والمؤلف مهووس بكتابة اللغة في ذاتها بعيدا عن غايتها أو المعني الذي تحمله، إنه مشغول بالكلمات لا بالعالم كما يقول بارث. وهذا يعني أن الإبداع في حد ذاته كتابة قبل أن يكون نصا على مختلف مستوياته. كتابة غير مشروطة بقبليات أو مقولات مسبقة، لها حوافز خارجة عن النص الذي يشكل لها نقطة نهاية عملها بالاشتغال على الكلمات ؛ لأن النص ما هو إلا اختزال حصيلة عملية الكتابة وقراءته تتضمن العودة إليها بما هي صيرورة لا كينونة لها سوى هدم ما قد يجعلها كذلك في فعل الإبداع، أي أن القراءة هي وجهها الآخر في عملية تفكيك النص. النص إذا كتابة لقراءة في عالم الكلمات. إنه ليس معطى منغلقا يخضع لمنطق أحادية معنى الرسالة في علاقة المرسل بالمرسل إليه. لا يقرأ بل يكتب في كل قراءة ويفرض على القاريء حسب هذه النظرية إعادة خلقه وخلق النصوص الممكنة فيه. فلافرق بين الكاتب والقاريء، بين الكتابة والقراءة مادام عالم الكلمات لا يتوفر من طبيعته على مركزية تضبط دلالته.
وهنا نصل إلى "المفهومين " اللذين يستخلصان هذه المقاربة في علاقة الكاتب بالقاريء:
- لذة النص
- لغة اللغة
طرحهما هنا يهدف فقط إلى إستحلاء مقوماتهما الايبستمولوجية على اعتبار أن اللذة/ المتعة واللغة شكلتا حجر الزاوية في العلوم الإنسانية وذلك حول إشكالية : علاقة الأشياء بالكلمات، علاقة الأشياء بالذات، علاقة الكلمات بالذات ، وعلاقة الذات بما يكون جوهرها. فالمتعة التي يتحدث عنها رولان بارث مفهوم له جذوره المعرفية، ابتداء على الأقل من هيغل ومرورا بجاك لاكان إلى جوليا كريستفا ، وبعبارة أخرى، لا تهمنا حياة رولان بارث وما قيل عنه من كونه كان أو لا ممزقا في إسقاطاته الذاتية بين لذته هو المعذبة اجتماعيا والبحث عنها من خلال النص .
١- لذة النص:
يربط بارث النص باللذة والمتعة ويحاورهما حسب فهمه الخاص به وكأنهما بداهة لغوية لا يحتاجان
إلى تحديد مفاهيمي. والغريب أن فكرته وجدت عرسها المفقود في الساحة الثقافية العربية وتسللت محمولة بلغة سحرية في كثير من المقاربات ، على سبيل المثال، " حالة عشق"، " غرام لذة"، " متعة"، " تلذذ الناقد بمتعة النص، " ، " متعة القاريء "، عشق " ، متعة التفاصيل"؛ علاوة على أن الفهم الخاطيء لمفهوم jouissance وترجمته الشقية بكلمة المتعة حول النص إلى موضوع للذة ولذة لموضوعها، على أساسها يمتح معيار قيمته الأدبية إذا ما حقق اللذة للكاتب والقاريء معا أي أن قيمة النص أضحت تتحدد حسب مقياس درجة اللذة التي يحققها؛ وكل ذلك تحث ذريعة إنفتاحه على تعددية القراءات. فماذا يقول لنا بارث حول النص وعلاقته باللذة ؟ لاشيء سوى استعماله الزئبقي لمفاهيم الرغبة، اللذة والمتعة حسبما تمليه شروط موضوع الكتابة ذاتها؛ تارة اللذة تمظهر للمتعة، وتارة أخرى المتعة تقويض للذة ؛ تارة اللذة مرتبطة بما هو ثقافي لاتستطيع تجاوزه والمتعة اشتغال على ما فوق اللذة تحث أنقاض الثقافي الذي تخترقه وتكسره، وتارة أخرى لافرق بينهما ماداما يحققان رغبة بارث في إنزال الهامة الإبستيمية عن مفهوم الرغبة وإحلال مكانه مفهوم اللذة . يقول بارث : " يحدثوننا دوما وبدون انقطاع عن الرغبة، وأبدا عن اللذة؛ الرغبة لها كرامة إبستيمية على ما يبدو ، واللذة لا." ماذا تعني كرامة اللذة الإبستيمية حسب تعبير رولان بارث ؟ وما علاقتها بالرغبة والمتعة داخل حقل ابيستمولوجيا المعرفة ؟ ولماذا يربط شرط تحقيق لذة النص ونص اللذة باقصاء الأيديولوجية ؟ وماذا يعني في هذا الإطار " أن كل عمل تعاد كتابته من طرف قاريء " كما يذهب إليه تودوروف ؟
/-
يتبع...
/-
ورقة أولى...
-/
مصطفى بلعوام
------
كل نص أدبي له كاتبه، وكل كاتب يكتبه نصه بالضرورة. النص توقيع الذات من خلال اللغة التي تستعملها لإنتاج النص. اختيار قاموسها اللغوي، اشتغالها على تيميات معينة، تفضيلها لاستعمال تقنية كتابية عن أخرى ، كل هذا وذاك يدل على أن النص اختيار لذات كاتبة في عالم لغة لا حدود لها. بداهة ، النص الإبداعي لغة ، واللغة نظام إشاراتي ونسق رمزيات فى أدنى تعريفها الاصطلاحي. غير أن ما يجعلهما في علاقة ارتباك دائمة هو أكثر مما يوحدهما. لأن لغة النص الإبداعي لا تتماهى مع اللغة من حيث هي وحدة متعالية على الأشياء والكلمات. ليست لغة في المطلق ومنفتحة على المطلق بل هي على العكس من ذلك تماماً اقتطاع لغوي للذات الكاتبة في عالم اللغة غير المتناهي حسبما تشترطه هي في عملية الكتابة .
هناك مغالطتان في تناول علاقة النص الإبداعي بكاتبه:
أولا، تلازمية علاقة النص الإبداعي بكاتبه لا تعني أن هذا الأخير يملك وحده مفتاح الدخول إلى ما يكتبه. ولا تدل بالمقابل على أن ما يكتبه غريب عنه لا يمت له بأية صلة. قد نستنبط في أحسن التخريجة أن الكاتب غير وصي على نصه في إنتاج ما يتضمنه من معرفة على اعتبار أن انفتاح نصه على قراءات متعددة دليل على إستقلاليته وبالتالي على موقعه هو منه الذي ليس إلا موقع قاريء لا أقل ولا أكثر، يعطي وجهة نظر في ما خلقه واختلقه. والمغالطة تكمن في الخلط بين وجهين للكاتب وعلاقته بالنص. للنص كاتبه وللكاتب نصه الذي يتمظهر فيه بدون أن يحيل إليه ككاتب للنص ، اي أن النص يكتبه من خلال ما ينسجه من اقتطاع في اللغة ويجعله مشرعا لقراءات متعددة تتجاوز فهمه لما يكتبه. وعليه، فإن كل نص يكتب كاتبا ضمنيا في ما هو يكتبه متجاوزا الكاتب الموقع اسمه عليه من لحم ودم.
لكن مالذي قاد إلى هذا الانزلاق الايديولوجي في ترويج فكرة اغتيال الكاتب أو المؤلف وتأليه النص الذي يكتبه كأنه كائن لم يولد وقادر في نفس الوقت على ولادة القراءات المتعددة؟ تلك هي المغالطة الثانية وكأن اللسانيات كانت مبشرة بقدوم العولمة الحاملة معول اغتيال ما تبقى من فاعلية الانسان في علاقته بدلالة الأشياء والكلمات. وبالرغم من ضرورة تناول هذا البعد الأيدولوجي، فإننا لا نتطرق إليه وسنتركه ربما لورقة نقدية أخرى. لأن همنا الآن كما يقول باشلار هو تتبع مسار الحقل المعرفي المرتبط بما يخلقه من موضوعات معرفية. فكيف تم إذن ، حسب رأينا ، الانزلاق بالنص إلى متاهات تكتسي في ظاهرها جدية المقاربة والطرح "العلمي"؟
مع ظهور اللسانيات واجتياحها لأغلبية الحقول المعرفية تمركز كل شيء حول اللغة وإشكالاتها. وكان من البديهي أن يأخذ النص الأدبي نصيبه الوافر منها بما أنه أولا وأخيرا لغة أو بتعبير آخر ينهض على ما تتيحه له اللغة. النص لغة ومن كونه لغة يجب تحليل اللغة لقراءته وجعله حقلا تجريبيا لما تنتجه اللسانيات من معرفة حول اللغة. لم يعد أدبيا من حيت هو نص، فَقَط لغة تخترقه وتفرض عليه مستلزمات ما تقوله اللسانيات لإنتاج معرفة حوله . وهنا الإنزالق الأول ، النص الأدبي تحول إلى " مادة لسنية" شغلها الشاغل دراسته وفق تقعيدات اللسانيات ونظرياتها حول اللغة من حيث هي قابلة للاستيراد والتصدير المعرفين. ومن المنطقي وفق هذا التصور أن ينسحب كاتب النص بكل هدوء " وعلمية" لأن موضوع اللسانيات نصه كلغة وكمادة لسنية ليس إلا .
طرح مغري مما لا شك فيه، حاول توطيد فرضياته على محك اعتبار اللغة مادة لسنية تتوفر على شروط إنتاج معرفة " علمية". وبقدر ما كان مغريا نظريا بصفة عامة، بقدر ما انتهى به الأمر إلى مأزق نظري فيما يتعلق بالنص الأدبي ، والشعري بالخصوص. فلا أحد ينكر أن النص الأدبي لغة ولا أحد يجزم في نفس الوقت بأنه عبارة عن لغة فقط، مما يعني أن لا أحد يستطيع النفي بأنه أكثر من لغة بمفهومها اللسني، لغة من طينة خاصة يصعب تقنين مميزاتها الإبداعية وتضعنا دوما وأبدا
أمام السؤال التالي : مالذي يجعله ينهض على اللغة بدون أن تكون معياره الوحيد في تحديد خصوصيته؟
هذا ما حاولت الدراسات المتعلقة بأدبية أو شعرية النص الإجابة عنه، وعلى رأسهم رومان جاكبسون الذي أسهب في تحاليل مرتكزاته البنيوية باحثا عن قواعده وقوانينه الكفيلة وحدها بترسيم خاصياته، ومستعملا في ذلك، كباقي الشكلانين الروس، مواربة أسلوبية ذكية حولته من "مادة لسنية " إلى "مادة إنشائية " (poétique ) لاستقراء الوظيفة الجمالية أو الشعرية فيه، بمعنى أدبيته littérarité. على أي جهاز مفاهيمي تعتمد إذا هذه الدراسات للمادة الانشائية ؟ تنطلق قبل كل شيء من فرضية أساسية مختزلة في ترسيمة لسانية تربط اللغة بست وظائف : المرسل /الرسالة/المرسل إليه/المرجع/القناة/السنن. ولكل عنصر من هذه العناصر وظيفة. وما يحكم الوظائف الستة للغة هو الغاية التي من أجلها توظف ، ألا وهي تحقيق التواصل في وحدته الصغرى بين المرسل والمرسل إليه. المبدأ في التحليل يقوم إذا على اللغة ولا شيء غير اللغة ، تلك التي حددت ترسيماتها اللسانيات من خلال بنيتها ووظائفها. فيحلل النص الأدبي على ضوئها وفق مستوياته اللسانية : الصوتية والتركيبية والدلالية والبلاغية. من ناحية نحاول إبراز خصوصية النص الأدبي من حيث هو نسق منغلق على شبكة العلاقات البنيوية المتفاعلة فيه، ومن ناحية أخرى نخضعه لعلاقة المرسل بالمرسل إليه كرسالة مثل باقي الرسالات الإخبارية. ويكفينا للتدليل على ذلك تحليل ما قاله جاكبسون : " إن الشعر عنف منظم ضد الكلام العادي" . كلاهما أداة تعبيرية وكلاهما حسب الفرضية الثاوية وراءهما ينهضان على علاقة المرسل بالمرسل إليه وما تحمله الرسالة. وكأن الطريقة الناجعة تكمن في تقابلية النص الإبداعي بالكلام العادي لاكتشاف أدبية الأول في انزياحاته انطلاقا من ممارسته العنيفة على الثاني من حيث هو الأصل والمرجع. والمسكوت عنه في هذه التقابلية هو خلفيات الترسيمة ذاتها: هل النص الأدبي قابل للتحليل وفق علاقة المرسل بالمرسل إليه كما هو الشأن بالنسبة للكلام العادي؟ وهل للنص الأدبي مرسل إليه يحمل له رسالة من المرسل ؟ وهل يحق لنا اعتبار الشعر " كلام" آخر يعنّف الكلام العادي؟ وما علاقة الشعر بالكلام العادي؟
هنا نصل إلى غموض المقاربة ،لأن النص الشعري ليس له مرسلا إليه محدد المواصفات ولا رسالة غائبة ( téléologique ) تحتوي على أحادية المعنى كما هو الشأن للكلام العادي. وحتى لو افترضنا أن مرسل النص هو الكاتب ، فإن ذلك لا يعني بأية من الأحوال أن عملية الكتابة الإبداعية تتم في علاقة عنف مع الكلام العادي. فالشعر عنف منظم ضد اللغة التي من خلالها يبني فضاءه ليقرأ من خارج التنميطات اللسنية التي رسمتها لها. إنه دائماً لغة الغياب لما تقوله كلمات الحضور المفككة جنونيا داخله.
فما علاقة النص الإبداعي بالمرسل والمرسل اليه؟ الجواب على السؤال يتضمن تحديد الوظيفة التي يقوم بها النص بين المرسل والمرسل إليه. عكس الشكلانين الروس بما فيهم جاكبسون ، يري رولان بإرث أن الكتابة الأدبية ليست وسيلة اتصال ولا هي أداة تعبيرية عن ذات الكاتب. إنها استخدام خاص للغة يخرجها من خانة غائية الرسالة بين المرسل والمرسل إليه، ويطرحها على شكل معادلة تجمع طرفيها الكتابة والقراءة على اعتبار أنهما وجهان لمعادلة واحدة. فالكتابة الأدبية ذات لغة متفردة تعتمد على الإيحاء والغموض والخيال والتلذذ والهلوسة.. اللذة ولاشي غيرها هي اللذة التي تطارد الكاتب في عملية الكتابة والقاريء في عملية القراءة . وبالرغم من اعترافه بعدم صحة التمييز الذي قام به بين الكاتب écrivant والمؤلف écrivain ، فإن ذلك يعطينا على الأقل فكرة واضحة لما بعنيه بتفردية اللغة في الكتابة الإبداعية . الكاتب يستعمل اللغة لغاية غير لغوية يسعى من خلالها أن يكون ما يكتبه حاضن لمعنى واحد، ذلك الذي يريد أن ينقله للقاريء. والمؤلف مهووس بكتابة اللغة في ذاتها بعيدا عن غايتها أو المعني الذي تحمله، إنه مشغول بالكلمات لا بالعالم كما يقول بارث. وهذا يعني أن الإبداع في حد ذاته كتابة قبل أن يكون نصا على مختلف مستوياته. كتابة غير مشروطة بقبليات أو مقولات مسبقة، لها حوافز خارجة عن النص الذي يشكل لها نقطة نهاية عملها بالاشتغال على الكلمات ؛ لأن النص ما هو إلا اختزال حصيلة عملية الكتابة وقراءته تتضمن العودة إليها بما هي صيرورة لا كينونة لها سوى هدم ما قد يجعلها كذلك في فعل الإبداع، أي أن القراءة هي وجهها الآخر في عملية تفكيك النص. النص إذا كتابة لقراءة في عالم الكلمات. إنه ليس معطى منغلقا يخضع لمنطق أحادية معنى الرسالة في علاقة المرسل بالمرسل إليه. لا يقرأ بل يكتب في كل قراءة ويفرض على القاريء حسب هذه النظرية إعادة خلقه وخلق النصوص الممكنة فيه. فلافرق بين الكاتب والقاريء، بين الكتابة والقراءة مادام عالم الكلمات لا يتوفر من طبيعته على مركزية تضبط دلالته.
وهنا نصل إلى "المفهومين " اللذين يستخلصان هذه المقاربة في علاقة الكاتب بالقاريء:
- لذة النص
- لغة اللغة
طرحهما هنا يهدف فقط إلى إستحلاء مقوماتهما الايبستمولوجية على اعتبار أن اللذة/ المتعة واللغة شكلتا حجر الزاوية في العلوم الإنسانية وذلك حول إشكالية : علاقة الأشياء بالكلمات، علاقة الأشياء بالذات، علاقة الكلمات بالذات ، وعلاقة الذات بما يكون جوهرها. فالمتعة التي يتحدث عنها رولان بارث مفهوم له جذوره المعرفية، ابتداء على الأقل من هيغل ومرورا بجاك لاكان إلى جوليا كريستفا ، وبعبارة أخرى، لا تهمنا حياة رولان بارث وما قيل عنه من كونه كان أو لا ممزقا في إسقاطاته الذاتية بين لذته هو المعذبة اجتماعيا والبحث عنها من خلال النص .
١- لذة النص:
يربط بارث النص باللذة والمتعة ويحاورهما حسب فهمه الخاص به وكأنهما بداهة لغوية لا يحتاجان
إلى تحديد مفاهيمي. والغريب أن فكرته وجدت عرسها المفقود في الساحة الثقافية العربية وتسللت محمولة بلغة سحرية في كثير من المقاربات ، على سبيل المثال، " حالة عشق"، " غرام لذة"، " متعة"، " تلذذ الناقد بمتعة النص، " ، " متعة القاريء "، عشق " ، متعة التفاصيل"؛ علاوة على أن الفهم الخاطيء لمفهوم jouissance وترجمته الشقية بكلمة المتعة حول النص إلى موضوع للذة ولذة لموضوعها، على أساسها يمتح معيار قيمته الأدبية إذا ما حقق اللذة للكاتب والقاريء معا أي أن قيمة النص أضحت تتحدد حسب مقياس درجة اللذة التي يحققها؛ وكل ذلك تحث ذريعة إنفتاحه على تعددية القراءات. فماذا يقول لنا بارث حول النص وعلاقته باللذة ؟ لاشيء سوى استعماله الزئبقي لمفاهيم الرغبة، اللذة والمتعة حسبما تمليه شروط موضوع الكتابة ذاتها؛ تارة اللذة تمظهر للمتعة، وتارة أخرى المتعة تقويض للذة ؛ تارة اللذة مرتبطة بما هو ثقافي لاتستطيع تجاوزه والمتعة اشتغال على ما فوق اللذة تحث أنقاض الثقافي الذي تخترقه وتكسره، وتارة أخرى لافرق بينهما ماداما يحققان رغبة بارث في إنزال الهامة الإبستيمية عن مفهوم الرغبة وإحلال مكانه مفهوم اللذة . يقول بارث : " يحدثوننا دوما وبدون انقطاع عن الرغبة، وأبدا عن اللذة؛ الرغبة لها كرامة إبستيمية على ما يبدو ، واللذة لا." ماذا تعني كرامة اللذة الإبستيمية حسب تعبير رولان بارث ؟ وما علاقتها بالرغبة والمتعة داخل حقل ابيستمولوجيا المعرفة ؟ ولماذا يربط شرط تحقيق لذة النص ونص اللذة باقصاء الأيديولوجية ؟ وماذا يعني في هذا الإطار " أن كل عمل تعاد كتابته من طرف قاريء " كما يذهب إليه تودوروف ؟
/-
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق