قرائتين نقدينين / للناقد الاستاذ مصطفى بلعوام / لنص ظل/ كما الحلم / المغرب / للشاعر جاسم ال حمد الجياشي / العراق /
قراءة تيبوغرافية
في قصيدة
" ظل / كما الحلم "
للشاعر جاسم آل حمد الجياشي
----
مصطفى بلعوام
---
توطئة :
النص صغير جدا يطرح إشكالية كبيرة على اللغة وعلى الشعر من حيث هو لغة سيميائية على اللغة.
هل الكلمة ظل للفكر أم أن الفكر حلم لا لغة له غير تلك التي تبحث عنه ويبحث عَنْها دائماً وأبدا ؟
--
خير الكلام ما قل ودل، وخير الشعر مادل فيما قل. فالعملية مسألة خوارزمية بين عدد الكلمات التي تدل لما هي منوطة بقوله في قلتها وعدد الدلالات التي تبحث عن إفصاحها من خلال الاقتصاد في الكلمات. نص الأستاذ جاسم يقذف بِنَا من تو قراءته إلى مساءلة قدرة الكلمات على الاستحواذ الكامل للشيء أو الموضوع التي تقوله، وبالتالي إلى علاقة اللغة بالفكر وبما تسمحه اللّغة من إمكانية الإفصاح للفكر..
ماذا يعني خير الشعر مادل فيما قل وعلاقة اللغة بالفكر التي يطرحها نص الأستاذ جاسم؟
يعني أن االشعر لايتكون فقط من كلمات مقننة مسبقا في دلالتها وإن قوضناها من أجل انزياحات لغوية ، من جهة؛ وأن علاقة الأشياء بالكلمات مجرد ضرورة وجودية ( بمعني هيدغر) للموجود في الوجود من حيث هو محكوم بتدليل (دلالة ) ما هو موجود، من جهة أخرى. علاقة الأشياء بالكلمات علاقة ديمومة متوترة تخضع لحالات الفكر الآنية وقدراتها التعبيرية. الكلمات لا تستطيع قول كل الأشياء والفكر لايستطيع قول كل حالاته التعبيرية من خلال الكلمات.
وعليه، فإن قراءة نص الأستاذ جاسم " الظل / كما الحلم" تقوض مفهوم الشعر القديم لصالح مفهوم الكتابة من حيث هي اشتغال على وفي النص وليس فقط على وبالكلمات . لا يحتاج نصه إلى إعادة إنتاجه فهو أصلا إنتاج يفرض قراءته انطلاقا مما يوجبه هو من إمكانات للقراءة على أساس الترميزات التيبوغرافية التي تحكم هندسته.
يعتمد النص على ترميزات تيبوغرافية من بداية العنوان " ظل / كما الحلم". وهي تتوزع على الشكل التالي :
- 6 مرات عارضة مائلة : /
- 3 مرات نقط الحذف الثلاتية : ...
- 1 نقط الحذف الثنائية : ..
- 2 مرات نقط حذف طويلة : ..........
- 1 مرة علامات انفعال مكررة : !!
علاوة على هذه الترميزات التيبوغرافية، يضم النص 14 كلمة، و10 أدوات الوصل والفصل ومتفرعاتها.
النص قصير جدا يبحث عما دل فيما قل ويتلمس من أجل ذلك طرقا تعبيرية تكسر اللغة ذاتها داخل فضاء، لا سلطان له غير جعل الكتابة حقلا تجريبيا
لكل الطرق الممكنة في قول ما يمكن أن تحتضنه الكلمات وفي قول ما لا تسمح بقوله.
تلك هي المعادلة المبنينة له والتي تجعل من الكتابة مغامرة سيميائية لا تخضع فقط إلى سلطة الكلمات ولكن تخضع أيضا إلى كل ما قد يقوم بوظيفتها خارجا عن مجال قانونها. لكن هل هذا يخدم الكتابة الشعرية ؟ أليس ذلك قمين بأن يغرقنا في متاهات شكلية على حساب المعنى ؟ مشروعية طرح هذان السؤالان تأتي من نص الأستاذ جاسم باعتباره مكتوب في إطار لغة لها تاريخها ومرجعيتها الثقافية، وبالأخص فيما أثارته من سجالات حول جدلية علاقة الشكل بالمضمون. وقد تمحورت غالبية القراءات للشعر حول ما يقوله النص وكيفية قوله لما يقوله، مغلبة تارة الشكل على المعنى، وتارة أخرى المعنى على الشكل، أو في أحسن المعادلة باحثة عن علاقة متساوية بينهما. والمقصود بالشكل في كل الحالات، الكلمة من حيث هي وعاء للمعنى ووسيلة له في تمظهره. فللمعنى الواحد تعددية التمظهر من خلال الكلمات وللكلمات قابلية الترويض الذرائعي لقوله. ونص الأستاذ جاسم يعرض علينا مسألة معقدة في بساطتها : النص لغة لاتنهض فقط على الكلمة، فهي ليست الوعاء الوحيد لخلق المعنى المتعدد فيه؛ إنه لسان وحواس، جسد له خاصيته التعبيرية ومنطق اشتغاله على ما قد يقوله من معنى. مما يعني أن نص الأستاذ يحولنا من قاريء يقرأ بالكلمة إلى قاريء يقرأ بالعين هندسته كعلاقة مباشرة بين ما تراه فيه والفكر. فالكلمات وإن كانت ترجمة للأشياء فهي لا توفيها حقها أبدا ؛ وما وجود المرادفات والاشتقاقات إلا دليل على استحالة مطابقة مطلقة بين الكلمات والاشياء. بينما العين هي قبض مباشر للشيء في وجوده البصري. ماذا تقبض العين في نص الأستاذ ؟ نقط حذف متفاوتة العدد، آليات تيبوغرافية موزعة الاستعمال، شبه هندسة طبولوجية الخفي منها والمتجلي.. إنها تقبض على كل هذا بدون أن يكون لها مرجعية لغوية مادامت نقط الحذف المتعددة وتكرار بعض علامات الترقيم على سبيل المثال تعتبر غير صحيحة لسنيا.
نستطيع أن نقسم النص حسب سهمين محوريين:
- حين / هممت : سهم أول في اتجاه هدفه
- وإذا / بي ...أنا : سهم ثاني يكسر غائية السهم الأول لهدف آخر مغاير .
السهم الثاني نهاية غير متوقعة بينما السهم الأول تكرار لحركتين : حركة أولى تنتهي بالفشل وحركة ثانية متولدة عن الأولى مع الإسراع فيها للقبض على الهدف. السهم الأول يتجه للإمساك بالظل فإذا به يمسك بالعطر. والمسافة التي تفرقه عن هدفه تتخللها " لحظة إدراك" : " حتي خيل إلي". إدراك في الخيال، يجعل من القبض على الظل عملية ممكنة وفي نفس الوقت يعطينا إيماءات لشرح هذه " الأنا " الثاوية وراءها : " وإذا بي/... أنا". إنها ليست الأنا الكاتبة للنص (الذات- sujet ) بل الأنا النصية فيه (moi) الحاملة والمحمولة بخيالات الأنا الكاتبة. وهنا تكمن دلالة بعض العارضات المائلة "/" التي يسخدمها الأستاذ جاسم في النص:
"- ظل / كما الحلم
-----
- حين / هممت بالإمساك
بظلك / ...فشلت
فعدوت / بخطى أسرع
- حتي خيل
لي / .. أني
- وإذا بي /... أنا"
للعارضة المائلة وظائف متعددة وفق النظام المعرفي الذي يشغلها ويشتغل بها: تضمينية، تحويلية ، تدليلية خطية، تبديلية، تزينية... وعلى ما يبدو أن العرب - الأندلس كانوا أول من استعملها كتحويلة رمزية داخل نظام تجريدي بغية تسهيل العمليات الذهنية في مقاربة المفهوم بعيدا عن معوقات اللغة / الكلمات. ووظيفتها لا تتحدد من ذاتها وَلَكِن في علاقتها مع الترميزات الأخرى ومرجعية الحقل المعرفي الذي يؤسسها ؛ وظيفتها مثلا في الرياضيات تختلف عن وظيفتها في الطوبولوجيا أو في المعلوماتية . كما هو الحال بالنسبة لنص " ظل / كما الحلم". فهي تتراوح بين استعمالين :
- منفرد : " /"
- مرفق : " / ...".
قد نعطي دلالة أو دلالات للاستعمال المنفرد في المقطع ، لكنها ستبقى حتما سجينة له وغير وافية إذا لم تربط بأفق النص بصفة عامة وبأفق الاستعمالات الأخرى بصفة خاصة : ما علاقتها بالكلمة، بنقط الحذف، بعلامة الانفعال...؟ هل هذه العلاقة تغير من دلالتها في النص ؟
نص الأستاذ جاسم يدلنا على مفتاح قفل القراءة في المقطع التالي :
" فدنووووت ...
د
...ن
.......و
..........ت "
ما فائدة نقط الحذف هنا؟ لماذا يختلف عددها من سطر إلى آخر باستثناء السطر الأول التي تغيب فيه تماما ؟
لغويا، وحدها النقط التلاث المتتالية يجوز استعمالها، لا أقل ولا أكثر. تعوض النقطة لتدل على حذف جزء من جملة طويلة أو فقرة. وإبداعيا ، وحده خرق مألوف اللغة وتكسير علاقة الدال بالمدلول يميز النص الشعري. لكن هل هذا يعني أن طول عدد نقط الحذف يقارب طول عدد الكلمات المحذوفة ؟ لنفرض أن ذلك ممكنا، فكيف نفسر انعدام نقط الحذف من الحرف الأول " د" ؟
حرف الدال يشكل هنا نقطة البداية، بصمة حضور وغياب لحركة فشل السهم الأول في " حين/ هممت-- فشلت"، ويأتي بعد :" فدنووووت ...". أما الحروف الأخرى التي تليها في كل سطر على حدة مع نقط حذف متباينة العدد " ...ن- ......و- ......ت"، فهي تساهم في تحقيق عملية ذات منحى بصري وفق ما يوحي به عنوان النص ، وذلك انطلاقا من تحويل المقطع :
" فدنووووت ...
د
...ن
........و
...........ت"
نرى أن " فدنووووت " ممدة الواو وكأنها في حالة انتشاء تشي بالاقتراب من الهدف " الإمساك بالظل"، وفي نفس الوقت تليها نقط حذف تزيد من تعقيد دلالتها ؛ فهل يعني أنها تعبر عن أقصى حالات الانتشاء وبالتالي تتلاشى معها الكلمة ذاتها إلى حروف ؟ وماذا يعني تلاشي حروف الكلمة مع وجود نقط حذف تسبقها؟ من الممكن أن نفترض أنه ليس تلاشيا مطلقا ولا انتشاء مطلقا إلى درجة الغياب الأبيض الذي لا ذاكرة له ولا لغة مثل الموتة الصغيرة لدى الصوفيين ، لأنه لو كان الامر كذلك لأصيبت الحروف نفسها بالغياب الأبيض أو بما نسميه الموات. ووجودها يعني أنه لامناص من استحضار أفق النص لمعرفة دلالة نقط الحذف وذلك بدءا من عتبته : " ظل / كما الحلم".
إنه ظل مع عارضة مائلة تتقدمه، وكما الحلم ..الحلم في تعريفه العام سلسلة من التخيلات والظل في تعريفه الاصطلاحي ظلام ناتج عما يعترض الضوء من الوصول إلى سطح ما ( جسم ما ). عتبة النص تفصل دفعة واحدة بينهما بعارضة مائلة وبكاف التشبيه وما المصدرية أي أن هناك مشابهة في بعض صفاتهما وأوصافهما مع عارضة مائلة. والنص يفضي بِنَا وبدون مواربة لغوية إلى وجه الشبه بينهما : استحالة تحقيق حلم الإمساك بالظل واستحالة تحقيق حلم الحلم. ويبني بدء الحركة قبل مفاد هذه النتيجة على فكرة واحدة تتفرع عنها كل حركات النص : الإمساك بالظل. إنه مدفوع بحركات متتاليات للقبض على ظلها أي على حلم من حيث هو سلسلة تخيلات. ويحاول أن يوهمنا أو يوهم نفسه بأن ذلك ممكنا. فتأتي العارضة المائلة بين "الظل " و "كما الحلم " للتأكيد على واقعية المشروع قبل أن يتحول إلى تحصيل حاصل كما الحلم. وهي واقعية كمبدأ ينهض النص على إثرها وليست واقعية في وجودها المادي. وهذا ما نسميه ب " مبدأ واقعية التخييل".
فما هي العملية ذات المنحى البصري التي تحققها كلمة " دنوت" المتلاشية في النص ؟ هنا لا بد من الرجوع إلى المقطع لإيضاح ذلك :
" فدنووووت ...
د
....ن
.........و
.............ت"
العملية تتجلى في تراتبية الحروف المتلاشية بطريقة قطرية " د، ....ن ، .....و ، ......ت " ، وهي تشكل في نفس الوقت عارضة مائلة ومثلثا مستطيلا، يخضعان هما كذلك لمبدأ واقعية التخييل. فالظل ظلام هندسي الشكل ناتج عن جسم يعترض الضوء من الوصول إلى السطح. لكنه في النص ظل بلا جسد أو جسم أخذ معه الضوء وظل يظلل بظلامه الأنا المكتوبة في النص التي تحاول الإمساك به. مما يعني أننا هنا أمام ظلان متوزعان بين هندستين بدون لغة ولا جسد : المثلث الأول المستطيل جلي بنقط حذف ليس للغة ولكن للأضلاع الرابطة له، فهو " ظل" من يسعى بالتوحد وبالإمساك بعد أن فتث الإنتشاء اللغة بينما المثلث الثاني المستطيل خفي يشكل مع الأول وحدة مربع متناسقة لكنه مستحيل الإمساك به. وبين هذا وذاك تبقى العارضة المائلة تلعب دور المنبه لمبدأ واقعية التخييل حتى لا تغرق الأنا النصية في الإنهيار الكامل. وإذا كانت للغة لا تكفي هنا للأنا النصية وتلتجيء إلى شكل هندسي في بعديه الجلي والخفي وبشكل مبطن ، فلربما تعبر عن فكرة يونانية قديمة كانت تفاضل بين الكائنات الحسية والكائنات الذهنية، بين ماهية التابث وماهية المتحول : " إن العلاقة بين الشكل الهندسي كما هو في الذهن، وبين الشكل نفسه كما يرسم على الورق، كالعلاقة بين الفكرة والكلمة، فكما أن الكلمة لا تعبر عن الفكرة تعبيرا كاملا تاما، فكذلك الأشكال الهندسية الحسية، فهي لا تعبر تمام التعبير عن الكائنات الهندسية ، كما هي موجودة في عالم الذهن" ( محمد عابد الجابري). الأنا النصية في "ظل / كما الحلم"، محكومة إذن بهاجس الهروب من الحسي إلي التجريدي ووازع البحث عن الظل في غياب الأصل مع فارق شفاف يتمثل في العارضة المائلة التي تمنعها من الموات، موات الحلم بموات اللغة . كيف تتوزع هذه العارضة المائلة في النص ؟
١-
"حين / هممت بالإمساك
بظلك / ...فشلت "
حين، ظرف للزمان المبهم غير محدد في قدره. وتدل على وجود شيء لوجود آخر بمعنى أن شرط الثاني يتوقف على ذكر الأول : "حين / هممت". هنا العارضة المائلة تفرض توقفا لتدل على حركة زمنية دائرية لا تتوفر على شرط ثاني بل تكتفي بذاتها لذاتها، تدور حول ذاتها. وما يدل على ذلك هو فعل هم الذي يدل على : " عزم على - مهموم" . حركة الإمساك لم يكن لها وجود إلا بالقوة الراغبة وليس بالفعل الحقيقي، ولهذا جاء الاستعمال المنفرد للعارضة. أما تلك التي جاءت مرفقة في " بظلك / ...فشلت" ، فإنها لحظة بياض كانت تبحث عن وسيلة لفتح الحركة الزمنية الدائرية التي لم تفلح فيها وللخروج من العزم إلى الفعل المقيد بالهم...
٢-
"فعدوت / بخطى أسرع"
فعل عدا يعني جرى، ركض. وهو مصحوب بعارضة مائلة و جملة " بخطى أسرع " تدل على نفس حركة الفعل. ولكأن هذه الحركة متقمصة عند الأنا النصية لا ترمي إلى شيء سوى أن تتاكد من وجودها وخروجها من الحركة الزمنية الدائرية .
٣-
"حتى خيل
لي / ... أني تناولته"
تتخلص الأنا النصية من الحركة الزمنية الدائرية بالخيال : " حتى خيل "، وتتنفس من خلال العارضة المائلة كمبدأ يثبت واقعية خيالها. تدل " حتى " العاطفة على بلوغ الهدف لكنه هدف وهمي ، كما هو الحلم وكما هو الظل.
٤-
"وإذا / بي... أنا
ممسك بعطرك !! "
نجد هنا استعمال حرف " وإذا " و علامة انفعال مكررة ( !! ) بشكل ازدواجي المعنى : "إذا " من حيث هي حرف مفاجأة وجواب، وعلامة الانفعال المكررة من كونها حالة نفسية للتعجب والمفاجأة. وينتهي استعمال العارضة المائلة في النص باستعمال واحد وحيد فيه : عارضة مائلة مرفوقة بحرف ونقط حذف...استعمال يستحضر في النهاية الأنا النصية التي تخرج من بصرية الشكل الهندسي المنقسم بين مثلثين مستطيلين ، بين ظلين يعيشان على خلفيات النص الغائب، ذلك النص الهارب من اللغة أو الذي يحاول الشكل الهندسي أن يخفيه في عالم تخييليي له مبدأ واقعيته ، إنه الجسد الباحث عن الآخر الغائب .. وتلك زاوية أخرى لإعادة قراءة النص من خلال النص الغائب فيه، أي الجسد. لماذا يبدأ ببلاغة العين لينتهي ببلاغة الشم ؟
-----
مصطفى بلعوام
-/-----
نص الشاعر جاسم آل حمد الجياشي
عنوان النص : ظل / كما الحلم
-----
حين / هممت بالإمساك
بظلك / ...فشلت
فعدوت / بخطى أسرع
فدنووووت ...
د
...ن
........و
............ت
حتي خيل
لي / ..أني تناولته
بأطراف أناملي
وإذا / بي ... أنا
ممسك بعطرك !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجسد، ذلك النص الغائب في قصيدة الأستاذ
جاسم ال حمد الجياشي " ظل / كما الحلم"
--
مصطفى بلعوام
/-
تناولنا سابقا نص الأستاذ جاسم حسبما أعطاه للقراءة الأولية من نقط حذف متباينة العدد هنا وهناك، ومن عوارض مائلة موزعة الاستعمال بين المقاطع ( استعمال منفرد/ استعمال مرفق) ، ومن ترقيمات متباينة ...
لم يكن هدفنا نقاش مدى نجاعة استعمال هذه الأدوات التيبوغرافية في الإبداع الشعري ولا إلى إعادة وجههي مكبوث تاريخي يعود بِنَا تارة إلى أحضان الشكل وتارة أخرى إلى سديميات المعنى. كان هدفنا الوحيد هو محاولة قراءة هذه الأدوات التيبوغرافية من حيث وظيفتها الدلالية وما تقوله داخل ما يسمح به النص من تخريجات ممكنة . وقادنا ذلك إلى استخلاص ما يلي:
أولا : إن وظيفتها الدلالية تستقيها من النص بأكمله حيث تتوزع فيه على خلفية رابط خفي في كل مقطع.
ثانيا : إنه رابط توشي به عتبة النص " ظل / كما الحلم " التي تقذف بِنَا في الفضاء التخييلي ومتتالياته. وهذا الرابط يشكل بما أسميناه "مبدأ واقعية التخييلي" كي لا تفقد الأنا النصية وجودها وتتلاشى نهائيا ( مصطفى صفوان : المبدأ بين اللذة والواقع ). فمحاولة الإمساك بالظل تخييل في ذاته والشعور بتحقيق فعل الإمساك - " حتى خيل لي" - تخييل في التخييل يشده مبدأ واقعيته في عالم الأنا النصية حتى لا يصبح كل شيء مجرد وهم وتنتهي هي الأخرى كظل بلا واقعية يكسرها هذا " اللاممكن " غير القابل للترميز وغير الممكن الوصول إليه عبر أية وسيلة ، أي الواقعي من حيث هو " المطلق الوجودي، الوجود الحقيقي في ذاته" ( إميل مايرسوت). وهكذا عِوَض الإمساك بالظل يمسك بالعطر.
ثالتا : إن النص مبني على ازدواجية بصرية تتمثل في التزحلق بين مثلث مستطيل جلي في تشرذمه من خلال نقط الحذف ومثلث مستطيل خفي يشكل له النصف الثاني ويكونان معا مربعا متكاملا.
رابعا : إن الأدوات التيبوغرافية المستعملة تحتوي على قيمة دلالية مثلها مثل الكلمات التي تقرأ أيضا كأدوات تشكيلية للحروف. المتن اللغوي والمتن التيبوغرافي يكونان وحدة عضوية في النص حيث لا مفاضلة ولا تمييز بينهما.
وانطلاقا من هذه الاستخلاصات ، يمكن القول بأن نص الأستاذ جاسم هندسة تتوسل جميع الأدوات التعبيرية لمقاربة هذا الواقعي المستحيل قبضه كما هو الظل وفي نفس الوقت تشكل العرضية ( لوي التوسير) التي من خلالها تكشف عن محفزاتها ومحفزات الأنا النصية فيه. إنه هندسة بمعناها الطبولوجي، تهدف إلى إيجاد حل تتخبط فيه الأنا النصية التي فقدت " مسكنها الأولي " اللغة والجسد ( هيدغر). فنراها حبيسة حروف الوصل ومتفرعاته أو متصدعة في كلمات تتفجر حروفا باحثة عن تصاميم هندسية. وتحاول في انشطارها بين الكلمات والهندسة أن تخرج بأقل خسارة ، الكلمات لم يعد لها جسد يحميها من التصدع، والهندسة لاتستطيع هي الأخرى أن تعطيها ضمانة الاستقرار. تتلهف على لحظة الإمساك بالظل، ظل الآخر الغائب في حضوره في ثناياها ، فلا تمسك سوى بعطره ( وإذا بي)، مع أن العمليتين معا ضرب من العبثية التي تفضي إلي بلاغة الموات في علاقة الأنا النصية بما لا تستطيع القبض عليه والذي في ذات الآن ينخرها. فالظل نقطة مظلمة ترتبط عضويا بالجسد الغائب والعطر رائحة غير عضوية ترتبط أساسا بحاسة الشم ودرجة حساسيتها. بمعنى أن الظل كان يعكس في وحدة متكاملة هذا الجسد الحاضر في غيابه وإذا به يتبخر تماما كما الحلم ولا يترك وراءه سوى عطر قد لا يدوم طويلا. الظل/الجسد يتحول إلى العطر/ حاسة الشم ؛ الكلية الجسدية الغائبة تنتهي بتخريجة عضو واحد لا يحيل عليها بالضرورة.
تلك هي مأزقية نص صغير يجعل من الجسد مسرحا لتأزمية الأنا المتشرذمة في عالم يعيش على الظل وتحث الظل، لا لغة لها غير الموات الذي يلوي عنق الكلمات ويتركها مع أشياء الواقعي تجترحها بدون وساطة، عارية في التعبير ومعبرة عن الاستحالة في التعبير. وهنا المعادلة الخوارزمية في نص الأستاذ جاسم، إذ كلما ازدادت فظاعة الأشياء ، كلما قلت دلالة الكلمات وأصبحت تعادلها في فظاعتها. الأنا النصية هنا تخنقها الكلمات التي أضحت وعاء مجترا لا ذاكرة له ولا تاريخ له، كلمات لا تستطيع الإفراج عن هذا القول العنيف الذي يسكن الأنا النصية، فيأتينا على شكل هندسة تحول الكلمات مشهدا لجسد عرضي غائب في تشرذمه وحاضر في مغازلته لهذا القول العنيف الذي لا يريد أن يخرج بكل زخمه وشدته. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل أساسا على أن الأستاذ جاسم يكتبه النص قبل أن يفكر فيه، لا يشتغل عليه بالكلمة بل يترك جسده المتشرذم هائما في " فيزياء الروح" يبحث عن زهرة أو عطر مادامت فظاعة الواقعي غير قابلة للترويض بلغة أمارة بالضحالة في عالم لا جسد له. ونجد هذه الإشكالية النصية في أغلب قصائده مثل قصيدة : " تشظي / جدار / الروح...!!" أو قصيدة " رغبات/ -----مجنونة !!" ( خط متصل).
كل قصائد الأستاذ جاسم تضعنا أمام خيارين لا تالث لهما :
إما أن نقرأ نصوصه كما تفرض نفسها من خلال ما تعطيه للقراءة ومن خلال هندستها والأدوات التيبوغرافية التي تستعملها. وهذا ما فعله الدكتور حامد حاجي في قراءته لنص الأستاذ جاسم : " رغبات/---مجنونة". وعنوان قراءته يحمل أكثر من دلالة : " التميمة والطلاسم وفن التجريب/ العتبة والاستهلال نموذجا). ويقول الدكتور حامد حاجي ، إنها " كتابة التمزق والاستناد إلى معيارية نموذجية علمية تشتغل في هيئة المعادلة الرياضية. إنها وصفة للخروج من طائلة التشرذم والانقسام ". وبطريقة ذكية، يتناول نص الأستاذ من موقع التجريبية بدون الحكم عليها.
إما أن نقرأ نص الأستاذ جاسم ولا نعطي أية أهمية لما يفرضه النص من أدوات وهندسة تبوغرافية كما فعل أستاذنا الجميل علي حمّاد الناموس في قراءته لقصيدة " تشظي / جدار / الروح"، وعنونها ب " تداعيات ذاتية والتباس اليقين بين المألوف والإبداع ". فجاب وصال في رحاب النص تحث ذريعة تعددية القراءات الممكنة فيه وحوله في آخر المطاف إلى لعبة لغوية لا قيمة لها في ذاتها ولا جدوى منها سوى إبراز قدرات القاري على الاحتفال بما تمليه عليه مخيلته أو تداعياته الذاتية التي لا علاقة لها بالنص . ( أحببت أستاذي الجميل أن أشاكسك وليس ذلك رغبة مني ولكن نصك يدعو إلى ذللك، ومهم لإثراء النقاش .. اللهم إذا كان السؤال النقدي لا يطبق إلا على الغير كما هو الحال مع بعض الشعراء/ النقاد ، إذ بمجرد ما تعطي رأيا بسيطا جدا وفي مقطع واحد من قصائدهم يشطب عليك تماما من منتداهم الداعي للحوار والمساءلة - صالون مي زيادة الأدبي - وها أنذا أكرر نفس الخطأ أو الخطيئة ولا يهمني وما همني أبدا أن أحاصر من هنا وهناك ). كيف تعامل أستاذنا علي حمّاد الناموس مع نص الأستاذ جاسم ؟
يشدد في البداية على أن الاغتراب طاريء لا جذور له في موروثتا ، ويحب أن نبتعد عن " مجارات صرعات التغريب المعهود واللهاث خلف المدارس الأعجمية". ثم يضيف " : فهناك من يكتب كي يتفرد حتى وإن كان مجافيا للذائقة الأدبية فيولد النص ميتا أويحتضر ك ( القصيدة الكونكريتية) التى تناولها البعض بعد تكفينها في المغرب العربي وعدم تقبلها من قبل المتلقي". هل يعني هذا أن نص الأستاذ جاسم ميت في ولادته ولا يستحق الاهتمام بما يحمله من أدوات تبوغرافية وهندسة تعبيرية غريبة؟ الأستاذ علي حمّاد الناموس واضح في مبتغاه: لا بد أن تكون للأدب أهداف. ولكي يحدد أهدافه يتوسم صرعات العجم ،وبالتحديد جان بول سارتر فيقسمه بين الأدب الفكري ( المؤدلج ) و الأدب الاستهلاكي المترف. تقسيم يضرب عرض الحائط باستهلاله المبني على رأي الأستاذ صالح هشام حول تعددية القراءات التي تصبح كما هو النص إما للترف والاستهلاك أو للفكر والأدلجة. والأدهى أن الأستاذ يقحمنا ويقحم كلمات غريبة عن النص فيقول: " ندور بدوامة رمزية الفكرة (الفكرة الرامزة) التي أطلقنا عليها كلمة ثيمة خطأ كون كلمة ( ثيمة) ليست عربية فصيحة بل إنجليزية الأصل ( thema ومرادفتها في اللغة الأم كثير تعطي عدة معاني، لذلك لا نستطيع أن نجعلها ( مصطلح تشخيصي)؛ أحرص على أن أغذي أفكاري دون أن أجثت جذوري فأقع في مهالك الاغتراب وهناك من يحبذ المصطلحات الأجنبية تشدقا. هل لجماليتها في النطق أو الكتابة ؟ ولكني أقول لغتنا أجمل وأوفر معنى وأوسع فضاء" . إذا كانت تغذية الفكر تقتضي تعويض كلمة بكلمة ، فهذا يدل على جهلنا التام بما يعنيه المصطلح أو المفهوم ويدل أيضا على أن " التيمة الرمزية" مجرد فبركة لغوية لا أس لها حسب ما توجبه الشروط العلمية في خلق المفهوم . مجالنا هنا ليس مناقشة فكرة مبتذلة منذ قرون عديدة ، ولكن نطرح كل هذا فقط وفقط من أجل تبيان خلفيات ما يطرحه علينا نص الأستاذ جاسم..
تشظي / جدار / الروح ،
كما يقول.
-----
مصطفى بلعوام
قراءة تيبوغرافية
في قصيدة
" ظل / كما الحلم "
للشاعر جاسم آل حمد الجياشي
----
مصطفى بلعوام
---
توطئة :
النص صغير جدا يطرح إشكالية كبيرة على اللغة وعلى الشعر من حيث هو لغة سيميائية على اللغة.
هل الكلمة ظل للفكر أم أن الفكر حلم لا لغة له غير تلك التي تبحث عنه ويبحث عَنْها دائماً وأبدا ؟
--
خير الكلام ما قل ودل، وخير الشعر مادل فيما قل. فالعملية مسألة خوارزمية بين عدد الكلمات التي تدل لما هي منوطة بقوله في قلتها وعدد الدلالات التي تبحث عن إفصاحها من خلال الاقتصاد في الكلمات. نص الأستاذ جاسم يقذف بِنَا من تو قراءته إلى مساءلة قدرة الكلمات على الاستحواذ الكامل للشيء أو الموضوع التي تقوله، وبالتالي إلى علاقة اللغة بالفكر وبما تسمحه اللّغة من إمكانية الإفصاح للفكر..
ماذا يعني خير الشعر مادل فيما قل وعلاقة اللغة بالفكر التي يطرحها نص الأستاذ جاسم؟
يعني أن االشعر لايتكون فقط من كلمات مقننة مسبقا في دلالتها وإن قوضناها من أجل انزياحات لغوية ، من جهة؛ وأن علاقة الأشياء بالكلمات مجرد ضرورة وجودية ( بمعني هيدغر) للموجود في الوجود من حيث هو محكوم بتدليل (دلالة ) ما هو موجود، من جهة أخرى. علاقة الأشياء بالكلمات علاقة ديمومة متوترة تخضع لحالات الفكر الآنية وقدراتها التعبيرية. الكلمات لا تستطيع قول كل الأشياء والفكر لايستطيع قول كل حالاته التعبيرية من خلال الكلمات.
وعليه، فإن قراءة نص الأستاذ جاسم " الظل / كما الحلم" تقوض مفهوم الشعر القديم لصالح مفهوم الكتابة من حيث هي اشتغال على وفي النص وليس فقط على وبالكلمات . لا يحتاج نصه إلى إعادة إنتاجه فهو أصلا إنتاج يفرض قراءته انطلاقا مما يوجبه هو من إمكانات للقراءة على أساس الترميزات التيبوغرافية التي تحكم هندسته.
يعتمد النص على ترميزات تيبوغرافية من بداية العنوان " ظل / كما الحلم". وهي تتوزع على الشكل التالي :
- 6 مرات عارضة مائلة : /
- 3 مرات نقط الحذف الثلاتية : ...
- 1 نقط الحذف الثنائية : ..
- 2 مرات نقط حذف طويلة : ..........
- 1 مرة علامات انفعال مكررة : !!
علاوة على هذه الترميزات التيبوغرافية، يضم النص 14 كلمة، و10 أدوات الوصل والفصل ومتفرعاتها.
النص قصير جدا يبحث عما دل فيما قل ويتلمس من أجل ذلك طرقا تعبيرية تكسر اللغة ذاتها داخل فضاء، لا سلطان له غير جعل الكتابة حقلا تجريبيا
لكل الطرق الممكنة في قول ما يمكن أن تحتضنه الكلمات وفي قول ما لا تسمح بقوله.
تلك هي المعادلة المبنينة له والتي تجعل من الكتابة مغامرة سيميائية لا تخضع فقط إلى سلطة الكلمات ولكن تخضع أيضا إلى كل ما قد يقوم بوظيفتها خارجا عن مجال قانونها. لكن هل هذا يخدم الكتابة الشعرية ؟ أليس ذلك قمين بأن يغرقنا في متاهات شكلية على حساب المعنى ؟ مشروعية طرح هذان السؤالان تأتي من نص الأستاذ جاسم باعتباره مكتوب في إطار لغة لها تاريخها ومرجعيتها الثقافية، وبالأخص فيما أثارته من سجالات حول جدلية علاقة الشكل بالمضمون. وقد تمحورت غالبية القراءات للشعر حول ما يقوله النص وكيفية قوله لما يقوله، مغلبة تارة الشكل على المعنى، وتارة أخرى المعنى على الشكل، أو في أحسن المعادلة باحثة عن علاقة متساوية بينهما. والمقصود بالشكل في كل الحالات، الكلمة من حيث هي وعاء للمعنى ووسيلة له في تمظهره. فللمعنى الواحد تعددية التمظهر من خلال الكلمات وللكلمات قابلية الترويض الذرائعي لقوله. ونص الأستاذ جاسم يعرض علينا مسألة معقدة في بساطتها : النص لغة لاتنهض فقط على الكلمة، فهي ليست الوعاء الوحيد لخلق المعنى المتعدد فيه؛ إنه لسان وحواس، جسد له خاصيته التعبيرية ومنطق اشتغاله على ما قد يقوله من معنى. مما يعني أن نص الأستاذ يحولنا من قاريء يقرأ بالكلمة إلى قاريء يقرأ بالعين هندسته كعلاقة مباشرة بين ما تراه فيه والفكر. فالكلمات وإن كانت ترجمة للأشياء فهي لا توفيها حقها أبدا ؛ وما وجود المرادفات والاشتقاقات إلا دليل على استحالة مطابقة مطلقة بين الكلمات والاشياء. بينما العين هي قبض مباشر للشيء في وجوده البصري. ماذا تقبض العين في نص الأستاذ ؟ نقط حذف متفاوتة العدد، آليات تيبوغرافية موزعة الاستعمال، شبه هندسة طبولوجية الخفي منها والمتجلي.. إنها تقبض على كل هذا بدون أن يكون لها مرجعية لغوية مادامت نقط الحذف المتعددة وتكرار بعض علامات الترقيم على سبيل المثال تعتبر غير صحيحة لسنيا.
نستطيع أن نقسم النص حسب سهمين محوريين:
- حين / هممت : سهم أول في اتجاه هدفه
- وإذا / بي ...أنا : سهم ثاني يكسر غائية السهم الأول لهدف آخر مغاير .
السهم الثاني نهاية غير متوقعة بينما السهم الأول تكرار لحركتين : حركة أولى تنتهي بالفشل وحركة ثانية متولدة عن الأولى مع الإسراع فيها للقبض على الهدف. السهم الأول يتجه للإمساك بالظل فإذا به يمسك بالعطر. والمسافة التي تفرقه عن هدفه تتخللها " لحظة إدراك" : " حتي خيل إلي". إدراك في الخيال، يجعل من القبض على الظل عملية ممكنة وفي نفس الوقت يعطينا إيماءات لشرح هذه " الأنا " الثاوية وراءها : " وإذا بي/... أنا". إنها ليست الأنا الكاتبة للنص (الذات- sujet ) بل الأنا النصية فيه (moi) الحاملة والمحمولة بخيالات الأنا الكاتبة. وهنا تكمن دلالة بعض العارضات المائلة "/" التي يسخدمها الأستاذ جاسم في النص:
"- ظل / كما الحلم
-----
- حين / هممت بالإمساك
بظلك / ...فشلت
فعدوت / بخطى أسرع
- حتي خيل
لي / .. أني
- وإذا بي /... أنا"
للعارضة المائلة وظائف متعددة وفق النظام المعرفي الذي يشغلها ويشتغل بها: تضمينية، تحويلية ، تدليلية خطية، تبديلية، تزينية... وعلى ما يبدو أن العرب - الأندلس كانوا أول من استعملها كتحويلة رمزية داخل نظام تجريدي بغية تسهيل العمليات الذهنية في مقاربة المفهوم بعيدا عن معوقات اللغة / الكلمات. ووظيفتها لا تتحدد من ذاتها وَلَكِن في علاقتها مع الترميزات الأخرى ومرجعية الحقل المعرفي الذي يؤسسها ؛ وظيفتها مثلا في الرياضيات تختلف عن وظيفتها في الطوبولوجيا أو في المعلوماتية . كما هو الحال بالنسبة لنص " ظل / كما الحلم". فهي تتراوح بين استعمالين :
- منفرد : " /"
- مرفق : " / ...".
قد نعطي دلالة أو دلالات للاستعمال المنفرد في المقطع ، لكنها ستبقى حتما سجينة له وغير وافية إذا لم تربط بأفق النص بصفة عامة وبأفق الاستعمالات الأخرى بصفة خاصة : ما علاقتها بالكلمة، بنقط الحذف، بعلامة الانفعال...؟ هل هذه العلاقة تغير من دلالتها في النص ؟
نص الأستاذ جاسم يدلنا على مفتاح قفل القراءة في المقطع التالي :
" فدنووووت ...
د
...ن
.......و
..........ت "
ما فائدة نقط الحذف هنا؟ لماذا يختلف عددها من سطر إلى آخر باستثناء السطر الأول التي تغيب فيه تماما ؟
لغويا، وحدها النقط التلاث المتتالية يجوز استعمالها، لا أقل ولا أكثر. تعوض النقطة لتدل على حذف جزء من جملة طويلة أو فقرة. وإبداعيا ، وحده خرق مألوف اللغة وتكسير علاقة الدال بالمدلول يميز النص الشعري. لكن هل هذا يعني أن طول عدد نقط الحذف يقارب طول عدد الكلمات المحذوفة ؟ لنفرض أن ذلك ممكنا، فكيف نفسر انعدام نقط الحذف من الحرف الأول " د" ؟
حرف الدال يشكل هنا نقطة البداية، بصمة حضور وغياب لحركة فشل السهم الأول في " حين/ هممت-- فشلت"، ويأتي بعد :" فدنووووت ...". أما الحروف الأخرى التي تليها في كل سطر على حدة مع نقط حذف متباينة العدد " ...ن- ......و- ......ت"، فهي تساهم في تحقيق عملية ذات منحى بصري وفق ما يوحي به عنوان النص ، وذلك انطلاقا من تحويل المقطع :
" فدنووووت ...
د
...ن
........و
...........ت"
نرى أن " فدنووووت " ممدة الواو وكأنها في حالة انتشاء تشي بالاقتراب من الهدف " الإمساك بالظل"، وفي نفس الوقت تليها نقط حذف تزيد من تعقيد دلالتها ؛ فهل يعني أنها تعبر عن أقصى حالات الانتشاء وبالتالي تتلاشى معها الكلمة ذاتها إلى حروف ؟ وماذا يعني تلاشي حروف الكلمة مع وجود نقط حذف تسبقها؟ من الممكن أن نفترض أنه ليس تلاشيا مطلقا ولا انتشاء مطلقا إلى درجة الغياب الأبيض الذي لا ذاكرة له ولا لغة مثل الموتة الصغيرة لدى الصوفيين ، لأنه لو كان الامر كذلك لأصيبت الحروف نفسها بالغياب الأبيض أو بما نسميه الموات. ووجودها يعني أنه لامناص من استحضار أفق النص لمعرفة دلالة نقط الحذف وذلك بدءا من عتبته : " ظل / كما الحلم".
إنه ظل مع عارضة مائلة تتقدمه، وكما الحلم ..الحلم في تعريفه العام سلسلة من التخيلات والظل في تعريفه الاصطلاحي ظلام ناتج عما يعترض الضوء من الوصول إلى سطح ما ( جسم ما ). عتبة النص تفصل دفعة واحدة بينهما بعارضة مائلة وبكاف التشبيه وما المصدرية أي أن هناك مشابهة في بعض صفاتهما وأوصافهما مع عارضة مائلة. والنص يفضي بِنَا وبدون مواربة لغوية إلى وجه الشبه بينهما : استحالة تحقيق حلم الإمساك بالظل واستحالة تحقيق حلم الحلم. ويبني بدء الحركة قبل مفاد هذه النتيجة على فكرة واحدة تتفرع عنها كل حركات النص : الإمساك بالظل. إنه مدفوع بحركات متتاليات للقبض على ظلها أي على حلم من حيث هو سلسلة تخيلات. ويحاول أن يوهمنا أو يوهم نفسه بأن ذلك ممكنا. فتأتي العارضة المائلة بين "الظل " و "كما الحلم " للتأكيد على واقعية المشروع قبل أن يتحول إلى تحصيل حاصل كما الحلم. وهي واقعية كمبدأ ينهض النص على إثرها وليست واقعية في وجودها المادي. وهذا ما نسميه ب " مبدأ واقعية التخييل".
فما هي العملية ذات المنحى البصري التي تحققها كلمة " دنوت" المتلاشية في النص ؟ هنا لا بد من الرجوع إلى المقطع لإيضاح ذلك :
" فدنووووت ...
د
....ن
.........و
.............ت"
العملية تتجلى في تراتبية الحروف المتلاشية بطريقة قطرية " د، ....ن ، .....و ، ......ت " ، وهي تشكل في نفس الوقت عارضة مائلة ومثلثا مستطيلا، يخضعان هما كذلك لمبدأ واقعية التخييل. فالظل ظلام هندسي الشكل ناتج عن جسم يعترض الضوء من الوصول إلى السطح. لكنه في النص ظل بلا جسد أو جسم أخذ معه الضوء وظل يظلل بظلامه الأنا المكتوبة في النص التي تحاول الإمساك به. مما يعني أننا هنا أمام ظلان متوزعان بين هندستين بدون لغة ولا جسد : المثلث الأول المستطيل جلي بنقط حذف ليس للغة ولكن للأضلاع الرابطة له، فهو " ظل" من يسعى بالتوحد وبالإمساك بعد أن فتث الإنتشاء اللغة بينما المثلث الثاني المستطيل خفي يشكل مع الأول وحدة مربع متناسقة لكنه مستحيل الإمساك به. وبين هذا وذاك تبقى العارضة المائلة تلعب دور المنبه لمبدأ واقعية التخييل حتى لا تغرق الأنا النصية في الإنهيار الكامل. وإذا كانت للغة لا تكفي هنا للأنا النصية وتلتجيء إلى شكل هندسي في بعديه الجلي والخفي وبشكل مبطن ، فلربما تعبر عن فكرة يونانية قديمة كانت تفاضل بين الكائنات الحسية والكائنات الذهنية، بين ماهية التابث وماهية المتحول : " إن العلاقة بين الشكل الهندسي كما هو في الذهن، وبين الشكل نفسه كما يرسم على الورق، كالعلاقة بين الفكرة والكلمة، فكما أن الكلمة لا تعبر عن الفكرة تعبيرا كاملا تاما، فكذلك الأشكال الهندسية الحسية، فهي لا تعبر تمام التعبير عن الكائنات الهندسية ، كما هي موجودة في عالم الذهن" ( محمد عابد الجابري). الأنا النصية في "ظل / كما الحلم"، محكومة إذن بهاجس الهروب من الحسي إلي التجريدي ووازع البحث عن الظل في غياب الأصل مع فارق شفاف يتمثل في العارضة المائلة التي تمنعها من الموات، موات الحلم بموات اللغة . كيف تتوزع هذه العارضة المائلة في النص ؟
١-
"حين / هممت بالإمساك
بظلك / ...فشلت "
حين، ظرف للزمان المبهم غير محدد في قدره. وتدل على وجود شيء لوجود آخر بمعنى أن شرط الثاني يتوقف على ذكر الأول : "حين / هممت". هنا العارضة المائلة تفرض توقفا لتدل على حركة زمنية دائرية لا تتوفر على شرط ثاني بل تكتفي بذاتها لذاتها، تدور حول ذاتها. وما يدل على ذلك هو فعل هم الذي يدل على : " عزم على - مهموم" . حركة الإمساك لم يكن لها وجود إلا بالقوة الراغبة وليس بالفعل الحقيقي، ولهذا جاء الاستعمال المنفرد للعارضة. أما تلك التي جاءت مرفقة في " بظلك / ...فشلت" ، فإنها لحظة بياض كانت تبحث عن وسيلة لفتح الحركة الزمنية الدائرية التي لم تفلح فيها وللخروج من العزم إلى الفعل المقيد بالهم...
٢-
"فعدوت / بخطى أسرع"
فعل عدا يعني جرى، ركض. وهو مصحوب بعارضة مائلة و جملة " بخطى أسرع " تدل على نفس حركة الفعل. ولكأن هذه الحركة متقمصة عند الأنا النصية لا ترمي إلى شيء سوى أن تتاكد من وجودها وخروجها من الحركة الزمنية الدائرية .
٣-
"حتى خيل
لي / ... أني تناولته"
تتخلص الأنا النصية من الحركة الزمنية الدائرية بالخيال : " حتى خيل "، وتتنفس من خلال العارضة المائلة كمبدأ يثبت واقعية خيالها. تدل " حتى " العاطفة على بلوغ الهدف لكنه هدف وهمي ، كما هو الحلم وكما هو الظل.
٤-
"وإذا / بي... أنا
ممسك بعطرك !! "
نجد هنا استعمال حرف " وإذا " و علامة انفعال مكررة ( !! ) بشكل ازدواجي المعنى : "إذا " من حيث هي حرف مفاجأة وجواب، وعلامة الانفعال المكررة من كونها حالة نفسية للتعجب والمفاجأة. وينتهي استعمال العارضة المائلة في النص باستعمال واحد وحيد فيه : عارضة مائلة مرفوقة بحرف ونقط حذف...استعمال يستحضر في النهاية الأنا النصية التي تخرج من بصرية الشكل الهندسي المنقسم بين مثلثين مستطيلين ، بين ظلين يعيشان على خلفيات النص الغائب، ذلك النص الهارب من اللغة أو الذي يحاول الشكل الهندسي أن يخفيه في عالم تخييليي له مبدأ واقعيته ، إنه الجسد الباحث عن الآخر الغائب .. وتلك زاوية أخرى لإعادة قراءة النص من خلال النص الغائب فيه، أي الجسد. لماذا يبدأ ببلاغة العين لينتهي ببلاغة الشم ؟
-----
مصطفى بلعوام
-/-----
نص الشاعر جاسم آل حمد الجياشي
عنوان النص : ظل / كما الحلم
-----
حين / هممت بالإمساك
بظلك / ...فشلت
فعدوت / بخطى أسرع
فدنووووت ...
د
...ن
........و
............ت
حتي خيل
لي / ..أني تناولته
بأطراف أناملي
وإذا / بي ... أنا
ممسك بعطرك !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجسد، ذلك النص الغائب في قصيدة الأستاذ
جاسم ال حمد الجياشي " ظل / كما الحلم"
--
مصطفى بلعوام
/-
تناولنا سابقا نص الأستاذ جاسم حسبما أعطاه للقراءة الأولية من نقط حذف متباينة العدد هنا وهناك، ومن عوارض مائلة موزعة الاستعمال بين المقاطع ( استعمال منفرد/ استعمال مرفق) ، ومن ترقيمات متباينة ...
لم يكن هدفنا نقاش مدى نجاعة استعمال هذه الأدوات التيبوغرافية في الإبداع الشعري ولا إلى إعادة وجههي مكبوث تاريخي يعود بِنَا تارة إلى أحضان الشكل وتارة أخرى إلى سديميات المعنى. كان هدفنا الوحيد هو محاولة قراءة هذه الأدوات التيبوغرافية من حيث وظيفتها الدلالية وما تقوله داخل ما يسمح به النص من تخريجات ممكنة . وقادنا ذلك إلى استخلاص ما يلي:
أولا : إن وظيفتها الدلالية تستقيها من النص بأكمله حيث تتوزع فيه على خلفية رابط خفي في كل مقطع.
ثانيا : إنه رابط توشي به عتبة النص " ظل / كما الحلم " التي تقذف بِنَا في الفضاء التخييلي ومتتالياته. وهذا الرابط يشكل بما أسميناه "مبدأ واقعية التخييلي" كي لا تفقد الأنا النصية وجودها وتتلاشى نهائيا ( مصطفى صفوان : المبدأ بين اللذة والواقع ). فمحاولة الإمساك بالظل تخييل في ذاته والشعور بتحقيق فعل الإمساك - " حتى خيل لي" - تخييل في التخييل يشده مبدأ واقعيته في عالم الأنا النصية حتى لا يصبح كل شيء مجرد وهم وتنتهي هي الأخرى كظل بلا واقعية يكسرها هذا " اللاممكن " غير القابل للترميز وغير الممكن الوصول إليه عبر أية وسيلة ، أي الواقعي من حيث هو " المطلق الوجودي، الوجود الحقيقي في ذاته" ( إميل مايرسوت). وهكذا عِوَض الإمساك بالظل يمسك بالعطر.
ثالتا : إن النص مبني على ازدواجية بصرية تتمثل في التزحلق بين مثلث مستطيل جلي في تشرذمه من خلال نقط الحذف ومثلث مستطيل خفي يشكل له النصف الثاني ويكونان معا مربعا متكاملا.
رابعا : إن الأدوات التيبوغرافية المستعملة تحتوي على قيمة دلالية مثلها مثل الكلمات التي تقرأ أيضا كأدوات تشكيلية للحروف. المتن اللغوي والمتن التيبوغرافي يكونان وحدة عضوية في النص حيث لا مفاضلة ولا تمييز بينهما.
وانطلاقا من هذه الاستخلاصات ، يمكن القول بأن نص الأستاذ جاسم هندسة تتوسل جميع الأدوات التعبيرية لمقاربة هذا الواقعي المستحيل قبضه كما هو الظل وفي نفس الوقت تشكل العرضية ( لوي التوسير) التي من خلالها تكشف عن محفزاتها ومحفزات الأنا النصية فيه. إنه هندسة بمعناها الطبولوجي، تهدف إلى إيجاد حل تتخبط فيه الأنا النصية التي فقدت " مسكنها الأولي " اللغة والجسد ( هيدغر). فنراها حبيسة حروف الوصل ومتفرعاته أو متصدعة في كلمات تتفجر حروفا باحثة عن تصاميم هندسية. وتحاول في انشطارها بين الكلمات والهندسة أن تخرج بأقل خسارة ، الكلمات لم يعد لها جسد يحميها من التصدع، والهندسة لاتستطيع هي الأخرى أن تعطيها ضمانة الاستقرار. تتلهف على لحظة الإمساك بالظل، ظل الآخر الغائب في حضوره في ثناياها ، فلا تمسك سوى بعطره ( وإذا بي)، مع أن العمليتين معا ضرب من العبثية التي تفضي إلي بلاغة الموات في علاقة الأنا النصية بما لا تستطيع القبض عليه والذي في ذات الآن ينخرها. فالظل نقطة مظلمة ترتبط عضويا بالجسد الغائب والعطر رائحة غير عضوية ترتبط أساسا بحاسة الشم ودرجة حساسيتها. بمعنى أن الظل كان يعكس في وحدة متكاملة هذا الجسد الحاضر في غيابه وإذا به يتبخر تماما كما الحلم ولا يترك وراءه سوى عطر قد لا يدوم طويلا. الظل/الجسد يتحول إلى العطر/ حاسة الشم ؛ الكلية الجسدية الغائبة تنتهي بتخريجة عضو واحد لا يحيل عليها بالضرورة.
تلك هي مأزقية نص صغير يجعل من الجسد مسرحا لتأزمية الأنا المتشرذمة في عالم يعيش على الظل وتحث الظل، لا لغة لها غير الموات الذي يلوي عنق الكلمات ويتركها مع أشياء الواقعي تجترحها بدون وساطة، عارية في التعبير ومعبرة عن الاستحالة في التعبير. وهنا المعادلة الخوارزمية في نص الأستاذ جاسم، إذ كلما ازدادت فظاعة الأشياء ، كلما قلت دلالة الكلمات وأصبحت تعادلها في فظاعتها. الأنا النصية هنا تخنقها الكلمات التي أضحت وعاء مجترا لا ذاكرة له ولا تاريخ له، كلمات لا تستطيع الإفراج عن هذا القول العنيف الذي يسكن الأنا النصية، فيأتينا على شكل هندسة تحول الكلمات مشهدا لجسد عرضي غائب في تشرذمه وحاضر في مغازلته لهذا القول العنيف الذي لا يريد أن يخرج بكل زخمه وشدته. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل أساسا على أن الأستاذ جاسم يكتبه النص قبل أن يفكر فيه، لا يشتغل عليه بالكلمة بل يترك جسده المتشرذم هائما في " فيزياء الروح" يبحث عن زهرة أو عطر مادامت فظاعة الواقعي غير قابلة للترويض بلغة أمارة بالضحالة في عالم لا جسد له. ونجد هذه الإشكالية النصية في أغلب قصائده مثل قصيدة : " تشظي / جدار / الروح...!!" أو قصيدة " رغبات/ -----مجنونة !!" ( خط متصل).
كل قصائد الأستاذ جاسم تضعنا أمام خيارين لا تالث لهما :
إما أن نقرأ نصوصه كما تفرض نفسها من خلال ما تعطيه للقراءة ومن خلال هندستها والأدوات التيبوغرافية التي تستعملها. وهذا ما فعله الدكتور حامد حاجي في قراءته لنص الأستاذ جاسم : " رغبات/---مجنونة". وعنوان قراءته يحمل أكثر من دلالة : " التميمة والطلاسم وفن التجريب/ العتبة والاستهلال نموذجا). ويقول الدكتور حامد حاجي ، إنها " كتابة التمزق والاستناد إلى معيارية نموذجية علمية تشتغل في هيئة المعادلة الرياضية. إنها وصفة للخروج من طائلة التشرذم والانقسام ". وبطريقة ذكية، يتناول نص الأستاذ من موقع التجريبية بدون الحكم عليها.
إما أن نقرأ نص الأستاذ جاسم ولا نعطي أية أهمية لما يفرضه النص من أدوات وهندسة تبوغرافية كما فعل أستاذنا الجميل علي حمّاد الناموس في قراءته لقصيدة " تشظي / جدار / الروح"، وعنونها ب " تداعيات ذاتية والتباس اليقين بين المألوف والإبداع ". فجاب وصال في رحاب النص تحث ذريعة تعددية القراءات الممكنة فيه وحوله في آخر المطاف إلى لعبة لغوية لا قيمة لها في ذاتها ولا جدوى منها سوى إبراز قدرات القاري على الاحتفال بما تمليه عليه مخيلته أو تداعياته الذاتية التي لا علاقة لها بالنص . ( أحببت أستاذي الجميل أن أشاكسك وليس ذلك رغبة مني ولكن نصك يدعو إلى ذللك، ومهم لإثراء النقاش .. اللهم إذا كان السؤال النقدي لا يطبق إلا على الغير كما هو الحال مع بعض الشعراء/ النقاد ، إذ بمجرد ما تعطي رأيا بسيطا جدا وفي مقطع واحد من قصائدهم يشطب عليك تماما من منتداهم الداعي للحوار والمساءلة - صالون مي زيادة الأدبي - وها أنذا أكرر نفس الخطأ أو الخطيئة ولا يهمني وما همني أبدا أن أحاصر من هنا وهناك ). كيف تعامل أستاذنا علي حمّاد الناموس مع نص الأستاذ جاسم ؟
يشدد في البداية على أن الاغتراب طاريء لا جذور له في موروثتا ، ويحب أن نبتعد عن " مجارات صرعات التغريب المعهود واللهاث خلف المدارس الأعجمية". ثم يضيف " : فهناك من يكتب كي يتفرد حتى وإن كان مجافيا للذائقة الأدبية فيولد النص ميتا أويحتضر ك ( القصيدة الكونكريتية) التى تناولها البعض بعد تكفينها في المغرب العربي وعدم تقبلها من قبل المتلقي". هل يعني هذا أن نص الأستاذ جاسم ميت في ولادته ولا يستحق الاهتمام بما يحمله من أدوات تبوغرافية وهندسة تعبيرية غريبة؟ الأستاذ علي حمّاد الناموس واضح في مبتغاه: لا بد أن تكون للأدب أهداف. ولكي يحدد أهدافه يتوسم صرعات العجم ،وبالتحديد جان بول سارتر فيقسمه بين الأدب الفكري ( المؤدلج ) و الأدب الاستهلاكي المترف. تقسيم يضرب عرض الحائط باستهلاله المبني على رأي الأستاذ صالح هشام حول تعددية القراءات التي تصبح كما هو النص إما للترف والاستهلاك أو للفكر والأدلجة. والأدهى أن الأستاذ يقحمنا ويقحم كلمات غريبة عن النص فيقول: " ندور بدوامة رمزية الفكرة (الفكرة الرامزة) التي أطلقنا عليها كلمة ثيمة خطأ كون كلمة ( ثيمة) ليست عربية فصيحة بل إنجليزية الأصل ( thema ومرادفتها في اللغة الأم كثير تعطي عدة معاني، لذلك لا نستطيع أن نجعلها ( مصطلح تشخيصي)؛ أحرص على أن أغذي أفكاري دون أن أجثت جذوري فأقع في مهالك الاغتراب وهناك من يحبذ المصطلحات الأجنبية تشدقا. هل لجماليتها في النطق أو الكتابة ؟ ولكني أقول لغتنا أجمل وأوفر معنى وأوسع فضاء" . إذا كانت تغذية الفكر تقتضي تعويض كلمة بكلمة ، فهذا يدل على جهلنا التام بما يعنيه المصطلح أو المفهوم ويدل أيضا على أن " التيمة الرمزية" مجرد فبركة لغوية لا أس لها حسب ما توجبه الشروط العلمية في خلق المفهوم . مجالنا هنا ليس مناقشة فكرة مبتذلة منذ قرون عديدة ، ولكن نطرح كل هذا فقط وفقط من أجل تبيان خلفيات ما يطرحه علينا نص الأستاذ جاسم..
تشظي / جدار / الروح ،
كما يقول.
-----
مصطفى بلعوام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق