السبت، 28 مايو 2016

قصدية الانفتاح على الانساق الميثولوجية / قراءة لديوان الشاعر عبد الجبار الفياض / بقلم سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد

قصدية الانفتـاح على الأنساق الميثولوجية
والنهل من المقدس في ديوان ( طقوس ممنوعة )
للشاعر العراقي عبد الجبار فياض
سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد
* دراسة نقدية *
* المقدمة *
إن الأنساق الميثولوجية Mythological patterns)) التي تعتمد في انفتاحها على قصيدة النثر الحديثة، تعتبر من المعطيات التي اهتم بها شعراء مجددين كبار، لأنها من الدلالات التي تغني ملاحق التناص في النص الشعريّ، وتثريه من حيث استلهام سمات البطل الأسطوري، أو البطل الرمز، أو الدلالة، أو الإشارة الى الآلهة المانحة للعطاء الإنساني، من خلال حيثيات تلك المناخية الملحمية، والوظائفية الطقسية، التي تفضي بطبيعتها الى مكامن ذات شفاعات سيميائية داخل المعنى، وبالتالي فهي تتجلى بأوقات قصدية داخل بنية النص، من حيث الاشتغال على مخاصب الاستثمارات الحثيثة من خلال الأيقونة، والرمز، والعلامة، والدلالة، فجميعها تصب في مصب الانحياز الى تقويم القصد الاستثماري لتلك الضرورات التي تتوالد من رحم مخيال الشاعر لأغناء نصه الشعري، وإحاطته بتلك الأجواء الميثولوجية التي تحقق له قدراً فاعلاً ومتفاعلاً مع انساق، وتكوينات قصيدة النثر الحداثوية . 
وفي رأينا النقدي .. أن قصيدة النثر لا تصطدم بحقيقة ما قدمته الحداثة أمام اختفاء تدريجي للشعر العمودي القديم، وظهور الصورة الشعرية كبديل للوزن، والقافية، والالتزام العروضي، والموسيقي في البيت الشعري، باعتبارها إي (الحداثة) لا تعني أن تلغي القديم أو أن تلغي ما قبلها، ولا تعني أن كل ما هو مطروح يستحق أن ينافس من اجل ديمومة البقاء، لان اللّغة وفق نظرتنا النقدية هي المعيار الحقيقي لكشف ما ورائية النص، وقصدية معطياته المستثمرة داخل المعنى القصدي لفاعلية الانسجام المنجديّ بين النص، وبين تلك الاستثمارات المعيارية، وتبقى مهمة النقد، الولوج الى نبض النص لاكتشاف معالمه المخبوءة في بواتق ملامحه التدوينية، باعتباره أي (النقد) العين المبصرة الثاقبة، لبيان مناطق القبح، والجمال داخل النص، والتصاقه الحيوي بالبيئة الحاضنة له، وتاريخه، ونمطية اشتغاله على عينة مجتمعية ذات أبعاد فكرية متجانسة، أو العكس، من اجل تحريرها، وجعلها متوافقة من نسق الحياة، وعلى ضوء ما يري (بول إيلوار) حين يقول :-
(( أن تحرير اللّغة، شكل من أشكال تغيير نمط الحياة ))
.. وهذا القول يقودنا الى معرفة تضمين اللّغة لواقع غير ثابت، واقع متغاير، ونسبي، وغير مطلق، بل هو توقع عميق لمدى نجاح مخيال الشاعر في إثراء مشروعه الشعريّ، وبيان عبقرية ملكته الفنية، ومدى نجاحه في استثمار أدواته المهارية، وفي استخدام اللّفظة، أو المفردة في سياق الجملة، ليحيلها الى ايقونة شعرية ذات خصائص انتقائية، وتحريرات حاضرة في أزمنة اللّغة، ويتأتى ذلك عبر منظومة التجليات الشعريّة، من اجل ضرورة إحداث ذلك التغيير في الحياة ودائرتها الشمولية، التي يزمع الشاعر من خلالها الحصول على منافع الدهشة، والحضور المشع، داخل بوتقة التلقي .
إن توظيف الرموز، والدلالات السيميائية العلاماتية، والشخصيات الأسطورية، والبطولية، والطقس الديني، والمقدس، في النص الشعري هي عملية جدية، يتوخى الشاعر الحذر فيها، يستثمرها بوعي عالي، ودراية ذات خصائص مرجعية ناهضة، رغم أنها ذات منافع مخيالية عالية، وملهمة من الملهمات الشافعة في استحضار تلك الدلالات في سياقاتها المتعددة الرؤى، ليؤدي الى شيوع المعاني التي من شأنها الموائمة النافعة للنص بين الحاضرة الشعرية المتدفقة الخيال من جهة، وبين ( الرمز ) أي المعنى المستتر في خبايا انسجاماته الفكرية من جهة أخرى، للارتقاء بالجانب الفني للنص الشعري بقصدية نفعية فاعلة للاتكاء على الرمز في الأسطورة، وبطولات الشخصيات التاريخية، والمعطيات الميثولوجية، واستثمار المقدس، والإفادة من مغزى لما تقدم، لإحداث ذلك التجانس الفطن مع أطروحاته الفكرية الحاضرة، ودوافعه السياسية، ولكل شاعر قناعاته في منح الطاقة المشفرة للتعبير، أو الإفصاح عن نواياه الغير معلنة، المخبوءة في ثنايا النص، والمعبرة عن تشظياته الإنسانية، ليلعب دوراً معرفياً ريادياً للتعبير عن قلقه المجتمعي، واللحاق بركب التغيير، لاستبدال ملاحقه الفنية، بوظائف استبدالية يقتفي أثرها داخل مناخاتها التعبيرية والثيمية الأسطورة، ليفرج عن بواعثه الداخلية، وتأثيراته الخارجية، وانشطاراته اللّحظية، في مزج الأسطورة بواقعة، ليخلق ذلك التوائم والتواشج الواضح بينهما، للعبور الى منطقة أشتغالية ملحمية محاذية جمالية ثانية من مناطق التعبير عن تلك الرؤى الشعرية المستفحلة في ذاكرة الشاعر التاريخية، أو الآنية، أو الأستشرافية .
ومن الناحية التعريفية لموسوم الدراسة النقدية، نجد من الضرورة ان نقدم وبإيجاز المعنى العلمي لمفردة (ميثولوجي) ((mythology ففي الشق الأول من الكلمة (ميثو) (mytho) مأخوذة من الكلمة اليونانية (mytho) وتعنى حكاية تقليدية عن الآلهة والأبطال، والشق الثاني (logy) وتعنى علم .
وبما ان الميثولوجيا تختص بسبر أغوار الحكايات القديمة، والتعلم منها، والاستقصاء منها، بل وإسقاطها على أي عصر من العصور التالية لعصر حدوث الحكاية، حيث يرى الدكتور سيد القمنى في كتاب (الأسطورة والتراث) أن الأساطير في الفهم الكلاسيكي هي مجموعة خرافات وأقاصيص عن الأبطال في غابر الزمان، بحسب تخيلات وثقافة العصر الذي صيغت فيه حيث يقول :- 
(( وعادة ما نجد في الأساطير مشاعر إنسانية جياشة أو أحاسيس، وتصوُّرات ومواقف، تطلعنا على فلسفة الإنسان في الوجود، وعلى محاولات الفكرية الأولى، والتي تتضمن خلاصة تجاربه وماضيه.. وعليه فنحن نرى الأسطورة تسجيلًا للوعي الإنساني واللاوعي في آن واحد.. يمكننا المجازفة بالقول أن الأسطورة وإن اشتملت على أحلام وانفعالات وتصوُّرات وأخيلة، فإنها اشتملت أيضًا على حقائق يمكن أن تنكشف بوضوح إذا عرفنا كيف نفسرها.. (تعتبر) الأسطورة السجل الأمثل للفكر وواقعة في مراحله الابتدائية.. الأسطورة لا يمكن لأحد أن يدَّعى حق تأليفها، فهي مجهولة الأصل والمؤلف بل وأحيانًا المنشأ والتاريخ )) .
ومن اجل تحليل مداخل هذه المقدمة الموجزة، بأدوات فنية وعلمية واعية، وبرؤى ومعايير نقدية أكاديمية، وضمن منظومة موسومة الدراسة النقدية .. اخترنا ان يكون ديوان الشاعر العراقي ( عبد الجبار الفياض ) الموسوم ( طقوس ممنوعة ) أنموذجا لدراستنا النقدية هذه .
فلقد وجدنا أن الشاعر العراقيّ البصريّ ( عبد الجبار الفياض ) في ديوانه الذي بين أيدينا ( طقوس ممنوعة ) قد اجتهد أيما اجتهاد في استثماراته الانفتاحية على الأنساق الميثولوجية والنهل من المقدس عبر جدارة شعرية فائقة التنوع، والتي تنم عن فحولة شعرية لافتة، ومخيالية شعرية ناهضة، ولغة راكزة، والتي استطاع استثمارها في نصوص ديوانه بشكل راقٍ ، وبطرائزية فنية رائعة، ومهارات نوعية متدفقة، واجتمعت تلك المحفزات والمعطيات التي يمتلكها (الفياض) في ان تمكنه من ان يعبر بنا الى مدارك استقبالية استثنائية، واستقراءات راصدة لتتابعاته اللّفظية المعبرة، وتداولاته الفطنة في استثمار مخيالاته المحلقة في مديات شعرية فاتنة ورائعة، والتي استطاع من خلالها في الربط بين الأسطورة، والواقع، للحاق بذلك الانفتاح على نسقه الشعريّ، ليحقق ذلك الكم الهائل من التنوع في مضامين الدهشة، والإيعاز لمناصات التلقي، لتكون متهيئة لاستقبال هيبته الشعرية الأنيقة، والرصينة، والرامزة، من حيث رهافة لغته الشعرية، ومباهج صوره الشعرية، ومخياله الناشط في استحضار ملهماته الفنية، ومهاراته التقنية، وملاحقه الإبداعية الشعرية الناهضة، والمنفتحة بجمالية باهرة على الأنساق الميثولوجية، لاستثمارها في حيز الدلالات الرمزية للحدث التاريخي، لإخضاعها الى زمكانية الشاعر، وإسقاطها بالتالي الى مناطق اشتغالاته الحاضرة .
لقد أسبغ الشاعر العراقي (عبد الجبار فياض) على نصوصه الشعرية في ديوانه الموسوم (طقوس ممنوعة) ألوان متعددة من استحكاماته الفكرية واللّغوية المتوازنة بين توظيف الثيمة المتنوعة، وبين توطيد أركان مشروعة في جملة استثماراته المثلوجية والطقسية والبطولية والإفادة القصوى في النهل من المقدس لتشفيراته ودلالاته الرمزية، ليخلص بنتائج مرضية لنزعته الشعرية المحملة باتقاد ممزوج بإتقان لغويّ، وفني، ومخيالي باذخ الجمال، ليرتقي به صوب منصات البوح، وحين نقف على موسوم الديوان (طقوس ممنوعة) الذي حاول الشاعر ان يلجأ إليه، ليؤكد لنا عكس ما ذهب إليه، فهو يشيد معمارية فاخرة لملحمة شعرية غير ممنوعة، وقد يصل صوتها الى الضفة الأخرى للصمت، فعندما نقف عند أعتاب أول قصيدة في ديوانه ( وطني أيها الصدّيق) نكتشف ودون شك، وبوضح تام، انه اشتغل على مهمته الشعرية بقصدية واعية، حيث يقول فيها :-
ما برومثيوس ان يتفرد بآلامه
ولا فارتر يمسحها بمنديل عاشقته
ولا يسوع النبي يفرقها على حواريه
وهل اوديب ان ينسى مضاجعة قدره
ويكون قيدا في رقبة انتيكونا
او تندمل في كربلاء جراح
مذ قاد غراب قابيل
ليوم ينحني فيه الاثنين
لربه
ولحجر لا زال يدخره بعض بينه ؟
لقد تجول بنا (الفياض ) بقصيدته (وطني ايها الصديق) داخل أجواءه المخملية المشحونة بقدر عميق من الحزن، والدلالات الرمزية التي أفصحت عن تشفيراتها الخفية في مكتنزات القصيدة اللّغوية، والصورية، واللونية، والانفتاح على الأنساق الميثولوجية، والطقس البطولي، والنهل من المقدس، فهو يعترض على ان يتحمل البطل الأسطوري، أو البطل التاريخي، أو ثيمات القصص التي وردت في النص المقدس، ليجعلها جميعاً أمام حصانة شاعريته الفائقة التصوير، ويعتبرها من خلال نظرته المثالية المدعومة بمرجعية حججه المتاخمة لتلك التساؤلات الأزلية التي أثارها في متن قصيدته، فقد جاء (برومثيوس) في المشهد الاستهلالي، ليقف الشاعر إزاءه، موقف المدافع عنه وهو متفرد بآلامه، حيث تُعدُ قصة (بروميثيوس) واحدة من أهم القصص في الميثولوجيا الغربية، وهذه القصة ترمز لمضامين ودلالات هائلة في الفكر والتاريخ الغربي، حيث كان بروميثيوس واحداً من حكماء التايتن، وكان أسمه يعنى (بعيد النظر) وكان يملك المقدرة على التنبؤ بالمستقبل، وهو ابن لابيتس، وكليمينه، وأخو أطلس، وعندما قامت الحرب بين كرونوس والتايتن من جهة، وزيوس و أخوته من جهة أخرى ، انضم بروميثيوس إلى جبهة زيوس، و لذلك عندما أرسل زيوس المنتصر التايتن إلى تارتاروس لعقابهم، عفا عن بروميثيوس والتايتن الموالين له، و جعل زيوس من بروميثيوس مستشاراً له لحكمته، لقد هام بروميثوس حباً بالبشر أكثر مما توقع زيوس الذي لم يشاركه في حبه للبشر، بل كان يريدهم أن يكونوا ضعفاء خائفين حتى لا يمتلكوا القوة التي تمكنهم من تحديه، بعدها غضب زيوس من بروميثيوس غضباً شديداً ورأي انه بالغ في شأن دفاعه عن البشر فعاقبه، وفي ختام الأسطورة، ارتأى زيوس أن يمنح بروميثيوس حريته، ولكنه أراد أن يحمل بروميثيوس دائماً ذكرى عقابه، فأمره بصنع خاتم حديدي من السلاسل التى كان مقيداً بها، هكذا تحمل بروميثيوس أوزار مواقفه في الدفاع عن البشر المستضعفين في الأرض إزاء آلهة مستبدة .
وفي رأينا .. بان هذا الإسقاط التي تولى مهمته الشاعر (عبد الجبار الفياض) ليرتقي بذاته الشعرية الملهمة، ويقف على منصة الدفاع عن تلك الشريحة المستضعفة المعدمة، لكي لا يتفرد بروميثيوس لوحده بآلامه .
وبعدها يجيء دور العاشق (فارتر) في انفتاح انساق القصيدة على البطل أو العاشق التاريخي ليمسحها بمنديل عاشقته، وتحضرني هنا قول (يوهان فولفغانغ فون غوته) في مقدمة روايته (آلام فارتر) حيث يقول :-
(( عانيتُ بجمع ما تيسر لي جمعه من نبأ البائس فارتر، وإني أقدمه إليك وأعلم أنكَ ستحمد ما صنعت، وتشكر لي ما جمعت، إنكَ لن تستطيع وأنت تقرأه أن تحبس نفسكَ عن الإعجاب بفكره وقوة حسه، ولا قلبك عن الولوع بخلقه وشرف نفسه، ولا عينك عن البكاء لعثار جده وبؤسه )) .
و(يسوع) (المسيح) المستثمر من المنهل المقدس، يكون له دور في ان لا يوزع آلامه على حوارية، لأنه النبي الذي قاسى أبشع أنواع الظلم، والتعذيب، ولا ينسى اوديب آلامه ومضاجعه قدره، وكيف له الخلاص من قدره، وهو الذي ارتكب جريمته النكراء بالزواج من أمه، أو أن يكون قيداً برقبة انيكونا ذلك الامير الذي أراد أن يمسك القمر بيده ليكون قدره المُخلص، والقدر المضيء لحياته المعتمة، أو أن تندمل جراح كربلاء التي ما زالت تنزف على رمضاء حياتنا أسى وحزناً، مذ قاد غراب قابيل، الكشف عن أول جريمة سفك دم عرفتها البشرية جمعاء، وليقوم بدفن جثة أول مقتول على وجه الأرض .
وينهي الشاعر قصيدته (وطني أيها الصدّيق) بمشهد اليوم الذي ينحني فيه الاثنين لربهم، ولحجرٍ لا زال يدخره بعض أبناءه.
وهنا علينا الوقوف ملياً أمام هذا الإسقاط الذي استلهم (الفياض) أنساقه القصدية لينهل من المقدس، ليرسمه بامتياز على الواقع اليومي الحاضر، حيث يتربص بنوّ قابيل في جحورهم الى الآن، وهم يدخرون الحجارة ذاتها التي قتل بها هابيل، ليشيعوا منهجيتهم الخرائبية الدموية، واعتقادهم الساديّ بمبدأ القتل، والعنف، والتكفير، وسفك الدم، والسبي، وإشاعة الفتن، وإعلان الحرب على الجمال، ليوجهون نيران أحقادهم السالفة، وغلهم السوداوي على أبناء جلدتهم .
وفي مقطع آخر مهم من قصيدة (وطني أيها الصدّيق) يُشيّد الشاعر (عبد الجبار الفياض) أركان مملكته الشعريّة، فهو الذي امتاز بسحر البوح المعلن الذي ملأ فضاء لغته العالية، وبرهافة حسه الإيقاعي، وموسيقاه الجميلة، وصوره الشعرية المبهرة، وهو يتكئ على الانفتاح على الأنساق الميثولوجية، والنهل من المقدس بذلك الإبهار الجمالي الاستثنائي الأنيق، حيث يقول :-
( جاؤا أباهم عشاء يبكون )
يوسف أحيط به
بيع ...
ساد ...
عفا ...
فهل تكون يا وطني يوسف ؟
وفي هذا المقطع الذي يشي بهذا الكم التراكمي المؤلم، الذي يحاصر (الشاعر) لينهل من المقدس، لاستثماره بجدية رامزة مشفرة المعنى، وقصدية تعبيرية ملهمة، للارتقاء بعملية رصده الحثي لمحاكاة ثيمة قصيدته وتدوريها في محطة المعنى المتوخى من ذلك النهل من المقدس، حيث يستثمر في بداية المقطع نص من المقدس (القران) دون حذف، او تشويه، ودون مواربة، لأنه منشغل تماما بالإفصاح عن قصديته الفاعلة في جسد القصيدة، ويدور في فلكها التحريضي، وهو بذات الفحوى يخاطب وطنه الذي يطالبه بان لا يكون كـ(يوسف) ليُرمى في الجب من قبل إخوته الذين ( جاؤا أباهم عشاء يبكون ) بعد ان ارتكبوا جريمتهم الكونية، حيث أحاط بيوسف سيارة من الراحلة ثم يحدث له ذلك المتغير الإنساني الحاد في حيثياته الحياتية العالية الترميز حيث يقرر الشاعر بان يوسف مرَّ بثلاث مراحل متنوعة الأبعاد بعد تلك الجريمة حين يصنفها :-
بيع ...
ساد ...
عفا ...
وهذه المراحل الثلاثية الأبعاد، والبعيدة عن التوائم فيما بينها، من حيث المطاف النهائي في النتائج، فقد (اغتيل) يوسف من قبل إخوته، ومن ثم (بيع) وبعدها (ساد) في ارض مصر باعتباره عظيماً من عظماء مصر، والمرحلة الأخيرة الأكثر وقعاً في ذاكرة الشاعر والمأساة التراجيدية الإنسانية التي مر بها يوسف، وإسقاطها على واقع الشاعر اليومي، او الواقع الجمعي، نرى بأنه وفق تماما باستحضار مخبوءاته في النهل من المقدس بامتياز متفرد، حيث لم يشأ التغيير في المستلهم من النص المقدس، وبالتالي فقد اخضع هذا النهل الجريء الى حاضناته التدوينية الشعرية، ليُحليها الى مراتع خصبة لتفسير رؤيته الإنسانية، وتطويعها للقطاته الصورية الشعرية الرائعة .
وفي تقديرنا النقدي .. ان الشاعر (عبد الجبار الفياض) نجح أيما نجاح، في هذه التوأمة المبهرة بين الواقع المعاش، وتجلياته المؤلمة إزاء ذلك الوهن المخاضي للوطن، وماسي أبناءه، وبين النهل من المقدس، فقد حقق معادلته هذه، عبر أدواته الفنية التي إخضاعها الى ملامح ذلك التصوير الشعري البهيّ .
ويمكن لنا القول بان (الشاعر) استطاع بمهارة أن يوزع جهده الشعري، بين الاستلهام من الميثولوجيا، والنهل من المقدس في قصيدته (وطني أيها الصدّيق) التي قارن فيها بين نبض وطنه المأساوي اليومي النازف، وبين قصة النبي يوسف الصديق، فخرج بنتيجة مثمرة، ورائعة الفحوى، حيث قادته لصياغة قصيدة لامعة المعنى، وفائقة التصوير، وعالية الفهم، وجميلة التناول .
وحين الانتقال الى القصيدة الثانية التي اخترناها لكي تكون العينة الثانية لإخضاعها لموسومة الدراسة النقدية .. رغم إننا نجد أنفسنا أمام خضم متنوع من القصائد التي احتواها الديوان، لكنا ارتأينا ووفق نظرتنا النقدية الوقوف إزاء القصائد الأكثر مثولاً أمام خصوبة الجدوى من فحوى الدراسة، فهناك عديد القصائد التي استمالت تلك الحواضن المثالية في قصدية الانفتاح على الأنساق الميثولوجية والنهل من المقدس، ومن هذه القصائد المنتقاة قصيدة (تحت فوق) حيث يطل علينا الشاعر (الفياض) في قصيدة قائلاً :-
التاريخُ يدفنُ أسماءً مِنْ غيرِ قبور 
لو بُعثَ نيرونُ
لأحرقَ روما ثانيةً 
ولم يتوانَ الحجاجُ عن صلبِ ابنِ جُبير
أن الرؤية الفنية الأستنطاقية التي أراد لها (الفياض) ان تتجلى في هذه القصيدة لكي يصل بها الى بَر الأمان، لتأكيد نظرته الفائقة الجدوى في انجاز مهمته النبيلة في إيقاد ملهمه الشعريّ المرتكز على جملة من المخصبات الفنية، ومن أهمها اللّغة، ذلك المعيار الأصيل والملهم الذي نحج الشاعر في استمالته لتحقيق قدر مهم من التوازن الحقيقي في تشييد أركان معادلته التي تتوزع أطرافها الحيثية ما بين ما هو ميثولوجي، وبين ما هو واقعي، وبين ما هو بيئي مجتمعي معاش يومي، وبين ما هو رمزي مشفر، وبين النهل من المقدس، وبين ظرفية استلهامه وتبني قصصه، وإخضاعها لمستوى الواقع .
أن هذه المعادلة القائمة على منطق علّة الأشياء، ومعللاتها، والمعنى، ومعنى المعنى في شكلنة الفحوى المتناغم مع أيقونة المنجز الشعريّ، الذي يحاكي أطراف تلك المعادلة الصعبة، على اعتبار أن الجنس البشري يحاول وعلى مدى العصور أن ينتج له قيمة فعلية لوجوده، لا يستطيع بأي حال من الأحوال الانفكاك منها، باعتبارها الملزم المحصن لوجوده الإنساني، وبالتالي فهو يسعى على إيجاد مقومات تبادلية بين نتائجه الوظائفية، وبين اشتغالاته الأسطورية والتي نسج أبجديتها من مخياله الطقسي الميثولوجي لكي تكون وازعاً ذاتياً، وجمعياً على ضرورة وجوده الفيزيكي الحاضر على مدى وضوح حضارته المتتالية الحقب .
وقد أشار (الفياض) الى جزء من حقيقة علاقة الإنسان بالوجود، فقال :-
التاريخُ يدفنُ أسماءً مِنْ غيرِ قبور ...
ولعل هذه الحقيقة المُرة التي قادت الشاعر الى وضوح الرؤية لتأشير هذه الفاجعة في حياة البشر، حينما يختار التاريخ أحياناً أن يدفن (أسماء من غير قبور) أمثال (نيرون) الذي حرق روما لإصابته بجنون العظمة، وهو لا يتوانى البتة أن يحرقها مرة ثانية لو بُعث من جديد حسب نظرية (الفياض) الحاذقة المعنى، التي تحمل بطياتها دلالات مشفرة دقيقة، وعالية ليسقطها على واقعه اليومي المر، فهو يفترض أيضا، لو انه بُعث (الحجاج بن يوسف الثقفي) ذلك السفاح الكبير، فلن يتوانى أيضاً في أن يصلب (سعيد بن جبير) ذلك المعارض الكبير لحكم معاوية الأموي، والذي قتله الحجاج أبشع قتله، بل أعدمه، ومثل بجثته، أبشع تمثيل، لا لشيء إلا لأنه ناصر إمامه بكلمة حق نصفته، لأن بن جبير يمثل الحقيقة الناصعة، الساطعة، الصادقة، لقد كان لهذا التأثيث الشعريّ الجريء وقعه الحتمي الأخاذ، على قيادة دفة الانفتاح على الأنساق الميثولوجية، لأنه ساق لنا مثالين من الحكايات القديمة العظمية، نيرون ذلك القائد العسكري الظالم والمستبد، الذي قادته نزواته النزقة لحرق روما، والحجاج ذلك القاتل المذعن لساديته التي لا تشبع من منظر الدم، فهما رمزان للظلم، والاستبداد، والتفرد بالرأي، وإحاطة الحقائق اللامعة، بظلمة مدلهمة، وليؤكد على حقيقة فرضية الشاعر القائلة أن (التاريخ سيظل يدفن أسماء من غير قبور) ربما يبعثون من جديد، لكن بثوب آخر، وهيئة أخرى، وبشهيات أخرى، لبث الرعب، وإقامة دُوّل الظلم، والاستبداد، وتعميم الجهل، وإشاعة بوهمية القتل المجاني اليومي .
وحينما نقف على أعتاب قصيدة (العنكبوت) إحدى قصائد الديوان الجميلة، التي سرقت منا دائرة الإنصات بروية خلابة، لنختارها عينة ثالثة لطرحها أمام أصالة ذلك التلاقي، والتوائم مع نظرتنا النقدية التي من شأنها أن تفيد موسومة الدراسة، وفي هذه القصيدة يقول (الفياض) :-
حجرٌ 
طبختْهُ شمسٌ لم تزاورْ عنه خطوةَ سجين . . .
يمتصُّ نُخاعَ زمنٍ مسروق . . . 
من أينَ بعصا موسى النّبيّ . . . ؟
بجناجِ هُدهُد بلقيس . . . ؟
بمصباحِ علاءِ الدّين . . . ؟
نحن نعتقد بان (الفياض) استطاع بمهارة ان يزيح النقاب عن ثيمات قصائده التي هي بالأصل حكايات واقعية آنية حاضرة في ذاكرة الشاعر اليومية، رغم انه اصبغ عليها صبغته الخيالية المرهفة، ومهارته اللغوية العالية، وإيقاعه الداخلي الساحر ، وموسيقاه الشعرية المدهشة، ليأخذنا صوب خيارات أخرى للدهشة، التي يمكن معها إثارة نوازع التفكير من خلالها، لاستنباط خبايا الحقائق الجديدة التي من شانها تحقيق المبتغى الفردي، أو الجمعي، للارتقاء صوب منصات التغيير، لتحرير ذواتنا على الأقل من أدرانها العالقة بها، ففي قصيدته هذه يشير الشاعر إشارة لامعة الى الاشتهاءات الإنسانية في الرجوع الى حقب المعجزات الإلهية، التي منحها الله لأنبيائه، والتي يمكن معها تحقيق أحلامه الآدمية، والتي تجيء متأخرة وسط هذه الخرائبية التي تحيط بالبشرية جمعاء، فهو يطبخ الحجر على شمس لم تزاور عنه خطوة سجين، وهنا يعلن (الفياض) عن حالة إنسانية متفردة، ربما عاشها، لأنه يصف بطء خطوة السجين داخل سجنه بعناية ودقة عالية، باعتباره شبه مقعد، أو معاق، أو طفل يحبوّ، فكيف لهذه الشمس ان تطبخ حجراً وهي تخطو ببطء خطوة السجين، وهو يمتص نخاع زمن مسروق، أي سجين هذا الذي يمتص نخاع زمنه الذي سرقه عنوة منه طغاة الأرض، وجلاديها، وكل القتلة، انه تصوير شعري بالغ الجودة، وجميل البلاغة، ورائع الإتيان، لقد صور لنا الشاعر (الفياض) هذه الإشارة الهامة، والناصعة الوضوح، بمخيال صوري عالٍ، ونتائج باهرة الوقوع على السائد اليومي، وها هو يقودنا صوب حافته الأعمق، ليقذفنا في جودة نهله من المقدس، حيث يستجدي أزمنة المعجزات من حيثيات (النص المقدس) بسؤاله الأزلي المتجدد بقوله :-
من أينَ بعصا موسى النّبيّ . . . ؟
بجناجِ هُدهُد بلقيس . . . ؟
ولينتقل بذات اللحظة الى تخزيناته الميثولوجية، ليستحضر حكاية (علاء الدين) ليستقي منها أيضا (المصباح السحري) ليستحضر المارد من فوهة القمقم، ليحقق له رغباته الإنسية، وليكون له الخلاص من جملة حالاته المتشظية اليومية، وبالتالي ليكون المخلص والمنقذ له، ولوطنه، وللكون برمته، من هول سيل ذلك الخراب اليومي المدمر .
وهنا علينا الوقوف إزاء أسئلة مستلهمة من النص المقدس ومن الميثولوجيا، في آنٍ واحد، فهو تارة يحط رحالة حيث المعجزات الإلهية، لينتحل منها صفة (عصا موسى) التي يستطيع معها شق البحر، ليعبر صوب الضفة الثانية الآمنة، ليكون داخل بوتقة الخلاص من حالاته المأزومة، والتي يعبر بها عن حالات مجتمعه البشري بالكلية، او أزمة وطنه الذي يعيش فيه، أو الإفصاح عن أزماته الفردية كانسان، وهو تحت وطأة محطاته الخرائبية المدمرة، وتارة أخرى يزمع ان يتمثل شخصية (الهدهد) الذي أرسله النبي سليمان الى مملكة بلقيس ليأتي له بعرشها، قبل ان يرتد إليه طرفه، وهذه الإشارات الإعجازية التي أراد الفياض الاستعانة بها للخلاص من آلامه، وأحباطاته، ونفروه الواعي من ذلك الكم الهائل من الإحباط، بل من الخراب الذي يحيط به، وبوطنه، ربما لا تتوافر في أزمنتنا الراهنة، لأنها من صنع السماء، ولأنها ليست بشرية، وتارة يستعين بالحكاية الميثولوجية لإنقاذه من ذلك النفور العائم في دواخله، وبالتالي ستكون هذه الإستعانات المجازية، غير قابلة للتحقق، لذا لجأ إليها الشاعر، لإنقاذه من محنه اليومية المعاشة التي سحقته، بل سحقت آدميته، لقد صور لنا الشاعر (عبد الجبار الفياض) هذا المشهد، ببراعة شاعر يمتلك أدواته الفنية والتقنية الراقية، التي يمكن له معها أن يُنتج لنا مشهداً صورياً بباذخة شعرية باهرة .
وفي ذات السياق الاستلهامي يتناول الشاعر قصيدته الرابعة المختارة للتحليل والدراسة والموسومة (الحيتان) والتي يقول فيها :-
وخيرُ أمّةٍ أُخرجَتْ للنّاس . . .
خرجَ منها أقذرُ ما رآهُ النّاس . . .
أسلمَ ما للنّاس لبعضِ النّاس . . .
سلبَ كُلَّ سنواتِ النّاس . . .
لم يَدعْ ما للنّاس للنّاس . . .
وفي هذه القصيدة بالذات يتجلى النهل من المقدس واضحا وجلياً، وقصدياً وفاعلاً ومتفاعلاً مع ثيمة النص، ومع دلالاته التشفيرية، حيث ينقل لنا (الفياض) نصاً قرآنياً، ليكون رصداً مباشراً لما ستؤول إليه ناصية ملهمه الشعري، حيث يقول (خيرُ أمّةٍ أُخرجَتْ للنّاس) المستقاة من قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وهذا البيان في الاستثمار القصدي كان واضحاً، وهو يخاطب امة بعينها، أي (امة العرب) لكنه يحاول الوقوف أمام أسباب نزول النص وقدسيته، ولما آلت إليه أوضاع هذه الأمة في حاضرتنا الآنية، من الشتات، والتباعد، والتناحر، والضياع، حيث يقول :-
خرجَ منها أقذرُ ما رآهُ النّاس . . .
أسلمَ ما للنّاس لبعضِ النّاس . . .
سلبَ كُلَّ سنواتِ النّاس . . .
لم يَدعْ ما للنّاس للنّاس ...
وهذه الإشارة القصدية الواضحة، هي ذات الإشارات التي تدور في ذهن (الشاعر) أبان لحظات تدوينها، فهو يحاول المثول أمام الآية الكريمة، لينسج من خلالها خطاباً شعرياً ملهماً، عبر خلجات نبضه الشعريّ المُحتدم، ليطلق تلك الصرخة القابعة في لواعجه، والتي جلجلت مدوية لتعلن عن غضبه، وسخطه على انتكاسة الإنسان العربي، وليواجه بها حال الأمة المزري، وفي الحديث الشريف عن الرسول الكريم صل الله عليه وآله وسلم (وجُعلت أمتي خير الأمم) رواه الإمام أحمد في مسنده، عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن هنا ينطلق الشاعر ليتسع بتتابعاته للموروث المقدس، ليصل الى مرحلة الاستقصاء، والحصر، ليلج الى نافذة الدهشة المفضية لحال هذه الأمة، التي كانت (خير امة) وها هي تزخر تحت وطأة التناحر، والفرقة، حتى أخرجت من جلبابها (أقذر ما رآه الناس) من خلال ما نلاحظه من شيوع ثقافة القتل، والتكفير، والهمجية، ونزف الحروب اليومي، وممارسة أبشع أنواع العنف من جراء اختلاف أبناء هذه الأمة في الرأي مع ذواتهم، ومع الآخر .
لقد تجلت قدرة الشاعر (عبد الجبار الفياض) في إمكانياته الناجعة في توظيف مهارته الفائقة على النهل من المقدس، وإسقاطه على الآنية الحاضرة، لتستقيم لديه استثمارات هذه النزعة التمردية المنحازة بالكلية صوب مناجع التغيير، عبر المواجهة مع الذات أولاً، ومع العقل الجمعي ثانياً، فالفياض يمتلك من القدرات الاستثنائية، والمهارات العالية، التي تؤهله لولوج هذه المهمة الصعبة، عبر جملة من الأدوات الفنية والتقنية الرادفة، ليصوغ عبرها لفظته الشعرية الحادة، وأحباك جملته اللّغوية الرصينة، ذات الجرسية الموسيقية الحالمة، وأناقة إيقاعه الشعريّ الفاتن، فلقد ساق لنا روافد جديدة، وملهمات متقدة، ومضامين تداولية فطنة، وسمترية منضبطة، والشاعر برأينا .. استطاع أن يعتلي ناصية الرصانة الشعرية، ولن يسمح البتة برجوع صدى صوته إليه، بل ليتعدى صوته المديات الحسية، والعقلية في الجانب الآخر، وصولا لمناطق التحريض، وامتداداً لحيازات التغيير الملزم للعقل العربي، والعقل الإنساني الكوني برمته، ليمنح صوته الشعري تلك القوة الصادمة، من اجل الوصول الى ملاحق الاستقبال، ومباهر التلقي الجمعي، الذي يحمل السمات الجينية لملامح التغيير الكلي .
وحين نستقي من الديوان قصيدة (ألوان) باعتبارها عينية منتخبة خامسة للتحليل ضمن دراستنا النقدية نقف على أعتاب قول الشاعر فيها :-
أيُّها الحزنُ العراقيُّ المتشرينُ 
في غرينِ نهريك . . . 
كربلاءٌ أنتَ ؟
أُورثتَ طفاً عن طفٍّ عن طفّ ؟
تمتدُّ وآلامَ طلقِ لياليك 
المنغلقة بيوتاً للندبة . . . 
أيةُ لوحةٍ تلمُّك ؟
تقوستْ عظام بنيك . . . 
وتناثرتْ نُدبُ الحلقِ المُبعدِ عن شفةِ الماعون . . . 
دمعاً
لا يكفي الآتي . . .
في هذا المقطع يولجنا الشاعر (الفياض) داخل بواتق أبهاراته الاستثمارية القصدية لينشأ من خلالها مملكة شعرية من الخطاب الموجه الى الوطن، الذي وائمه الحزن (المتشرين) في نهريه، ليترحل بنا من هذا الحزن العراقي الحاضر، الى ذلك الحزن المقيم في الذاكرة الجمعية، على مآسي كربلاء، تلك الرمضاء التي شهدت اكبر مجزرة في التاريخ، ثم ليعود بنا ثانية الى خيبة تلك الأمة التي قتلت ابن نبيها، حتى أورثتنا تلك المقتلة (طفاً عن طفٍ، عن طفْ) أنها رؤية شعرية ملهمة استطاعت بجدية اختراق خاصرة الأزمنة، لتوكيد ذلك الإثم البشري تجاه تلك المأساة التاريخية، ليكون امتداد تلك المجزرة على مدى التاريخ، لاستدعاء خطيئتنا البشعة التي أرتكبناها من إلف عام ونيف، لتمتد براثن تلك الخطيئة لحاضرتنا، ولتتحول الى آلام طلق ليالينا، حتى تقوس عظام الأبناء، وتناثر الندب في الحلق البعيد عن الماعون، أنها صورة شعرية فاخرة، يبث فيها الشاعر أحاسيسه الشفيفة، ليؤشر بها خطايانا التي استترت تحت أفكارنا السادية، ونكبتنا، التي استحالت الى دمع (لا يكفي الآتي) .
ولقد كانت قصدية الإفادة في النهل من المقدس، في قصيدة (ألوان) حضورها الجليّ، في يستحضر الشاعر مأساة كربلاء، وثورة الحسين، التي أطلقت من خلالها تلك (اللا) في وجوه الطغاة، لتهز عروشهم الخاوية، وتعتم عليهم لياليهم المغلفة بظلمهم المقيت، ان تلك (اللا) التي أسست الى انطلاق تلك (اللا آت) التي تلتها، لتُحال الى ثورة فكرية، ووعيوية، وسياسية لامست ملامح واقعنا المزري الحالي، من اجل الارتقاء به صوب منصات التغيير الجذري .
وفي نهاية عملية استلال القصائد من الديوان، لإخضاعها كعينة للتحليل، وإحالتها الى مناطق التأويل، وفق موسومة دراستنا النقدية، لنختم بآخر قصيدة في الديوان الموسومة (رجما بالرصاص) والتي يقول الشاعر في مقطعها الأخير :-
ولا يعتذر عن موعده 
فجر ....
وهذه الجملة الشعرية، تأتي في سياقها الانتهائي المشفر، بكونها بشارة، يزفها (الفياض) لدائرة الإنصات، وذاكرة التلقي، لتكون شافعة له من جمهرة الإيغالات الشعرية الرمزية التي قادنا إليها بقدرة فائقة، ومهارة عالية، ولغة رصينة، وإيقاع سلسل، وموسيقى شفيفة، وجرسية باهرة، وبدراية شاعر يعرف كيف يؤثث مشهده الشعريّ المهيب، فقد آثر على نفسه إلا ان يختم ديوانه بهذه الجملة الشعرية الناطقة، والمعبرة عن ذاته، والعقل الجمعي المحيط به، ليؤكد لنا تماماً حقيقية ساطعة بأنه لا .. ولم .. ولن (يعتذر فجر عن موعده) وهذه إشارة ختامية بالغة الانتقاء، لان الفجر يأتي دائما، وبان الشمس لن تخلف موعد شروقها البتة، على على عيون الأوطان، وعلى وجوه الأكوان .
لقد استطاع الشاعر العراقي (عبد الجبار الفياض) ان يؤثث مشهده الشعري بمهارة فنية عالية، على ضوء تلك السوانح المخيالية الباهرة، التي غذت المنابع الأصلية في توزيع جهده الحافل بالاستثمارات اللّغوية المتقدة، والإنشاءات البنائية والإيقاعية الفاخرة، وتناغم الموسيقى الداخلية المتشحة بذلك الانسياب المهيب، ليخلق من خلال تلك المحافل الإبداعية، نوافذ مشرعة لإشتغالاته الشعرية في قصدية الانفتاح بين الأنساق الميثولوجية، والنهل من المقدس، في قصيدة النثر الحديثة، وهي بالتالي صياغة متجددة ومتنوعة الطرائز، ومختلفة الأساليب، لاستنهاض مبطنات النص، وهذه المعطيات الاستثمارية الفاعلة في سياقات الارتقاء بالنص صوب مظاهر التجلي الشعريّ، الذي يمكن معه إظهار المعالم الخفية، والمخبوءة في الذات الإنسانية المبدعة، فالخيال الخصب في تقدرينا النقدي .. هو الصيرورة الملهمة، المتكئة على عناصر (تكثيف+إزاحة+تشفير) وهذه الموسومات الفنية النوعية من شأنها ان تؤثث للأدوار الأرتكازية اللاحقة لإنعاش الملامح الجمالية قي إبهار النص الشعريّ، وتأسيس منصة التقاء ناهضة بين الذات المبدعة، وبين الذاكرة الاستقبالية الجمعية، وهذا ما سعى إليه الشاعر بجدية واعية، بل وأسس له، وبامتياز ملهم، وطرائزية راقية .
فقد كانت لغة الشاعر ممارسة طقسية ذات مناخات تعبيرية في أداءه، والتعبير عن تجلياته المنفتحة والمأزومة في ذات اللحظة الانفجارية، والتثورية المتمحورة على توهج النص الشعري، على اعتبار ان الشعر نظام لغويّ شامل وقائم أبان لحظة الدهشة التدوينية، لتفسير الظاهرة، وابتكار معالجات فنية وتغيرية لها، لتشكيل ملامح الاستنباط الملحمي لذلك النسق الشعري في قصدية استثمارات الشاعر الحاضرة في الزمكانية الآنية لملامح الاستثارة، والتأثير .
وفي رأينا النقدي .. إن من أهم مميزات الشعر، هي قدرته العالية في الانفتاح على تلك الأنساق، لإخضاعها لحيثيات الواقع، على اعتباره المكون الفاعل لديناميكية الحياة، فكان من الملزم النوعي لبقاء الصيرورة الانتقائية، الاتكاء على السياقات اللغوية وندى تعلقها بالمعطيات الأخرى، ونعنى بها، المعايير الفنية، والتقنية، بدءً من توازن الإيقاع التراتبي، ومروراً بالموسيقى الداخلية، وانتهاءً بقصدية شكلنة الفحوى، واستنهاض الهيكلية لملازمة للضرورات الشعرية كــ(الاقتضاب-التكثيف-الترميز-الدلالات-الإيحاء-الانزياح-اختيار اللفظة) وكل هذه المعطيات في العملية التكوينية للنص، هي ضمانات أولية للارتقاء بالنص الشعريّ صوب ملاحق التلقي الأمثل، والاستجابة المثلى .
وفي الختام .. لقد تمكن الشاعر (عبد الجبار الفياض) من الحصول وبنجاح على ذلك النفوذ المتعلق بتحدياته الشعرية لتكون رهاناً صعباً في ان يشيد له منطقة لعب حر لغويّ داخل بوتقة توازناته الشعرية، والتي أفضت بالانتهاء الى عبوره الى الناحية الأخرى الآمنة لأزمنة التلقي، ولكي يحقق تلك المعادلة النبيلة التي تلح على ذاتيته، وعلى واقعه اليومي، وعلى محن وطنه، وعلى المتغير الإنساني بالكلية، والتي حددنا سلفاً طرفي تلك المعادلة بشرطين أساسيين هما (التحريض-التغيير) اللتان تحرك صوبهما الشاعر ليلعب دوراً مهماً في إيجاد علاقة مثلى بين نصه الشعريّ، وبين المتلقي، الذي يشكل المهماز التواصلي الخصب في دائرة اهتمامه، ومحيط الجذب الأول من معادلته تلك، والتي كان حريصاً كل الحرص على عدم انفلات خيوطها، وعدم فك ترابطها الوثيق بين النص من جهة، وبين المتلقي من جهة ثانية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق