شمعة واحدة لا تكفي
إليه...
إلى: مَن أنتظرُ،
"كلّما حدّقتُ في مرايا الشيب،
تفترسني ملامحي العاطلة".
15- شعبان
مضى دهر، وأنا لازلت أحدّق في عتمة تقرض ما تبقّى من خطى قلقي، أتسلّق جرحاً ثملاً بالوجد، الليل الممتدّ بين أطياف الأمس وبين زمن التيه يمضغ الضوء المندلق من نافذة الحلم، بقايا شمعة ترقد طرف الزاوية، تتسلّق عينيّ، تسوقني رغبة لإشعالها،
"يا ترى هل تكفي كي أدرك الفجر الأبيض؟"
النداء يمتدّ من خلف النافذة، مفعم بالبوح، يلامس أعماق الوجع، محاطاً بالوحدة، يحمل سحراً عجيباً، هو ذات النداء الراقد في عيني مذْ كنت طفلاً، أحبو فوق خاصرة الأيام المشوّهة بخداع تقاويم التاريخ، قطّعت أرصفةَ الدروب عابثاً، عارياً، كنت محمولاً على كفّ السراب، أبعثر عقارب الساعات غير مبالٍ بشيء سوى أن أعيش يومي، بيد أنّي أسير حيث السحاب، كلّما لمعت السماء عند حافة الوجع، تنثال مني الأمنيات بشوق اللقاء واحتراق الانتظار. كان قطعة أطياف وخدر شوق عابراً الشكوى والألم وغربة السنين:
- بني، اصغِ جيداً، سأقول لك ما قاله أبي،
"عندما تورق أشجارك، ويخضرّ بستان الروح، سيلامس جراحك ثغر النداء، ستلقاه عندما ترتصف الطرقات بالهجر والصدود، وتورق الأرض بأشواك الصبار، ويعتلي وجهها الملح والسبخ".
كان لغزاً، مذْ كنت حانقاً متمرداً، أهفو في خشوع لفكّ طلاسم الفناء والتلاشي في حضرة النداء، وحين لاذ القمر بالمحاق، والشمس خجلى تتوارى خلف السحب الراقصة على أكتاف الريح، مضيت وحيداً، لا أدري أين تأخذني المسافات. - أ موحشة تلك الدروب، يا أبي؟
- الدرب شائك، طويل، كلّما قطعت قرناً من الزمان سلخ صفحة من روايتي بالرزايا، والقلب يلملم ذكريات الجراح بحذر وتورية فيوضات الروح. دارت بي الأرض سكرى وأنا أرقب الطريق في حيرة من أمري، لعلّي أرى الحبيب، تولج خطاي أمكنة موشاة بخيالات كاذبة، تعربد في جنب أقبية، تورق بين جدرانها الدماء والصريخ، استرق السمع، أقف مذهولاً أمام الأنين، أمام أجساد ذاوية ترقص السياط فرحاً فوق ظهورها، أزهار، باقات ورد، معطّرة بالندى تقطفها أبواق الحرب، يلفّها الخراب، أتنفس رمادها، رائحة دخان القذائف تغشيني، أتقيأ ملامح الموتى، أستنشق براءة الأحبة، قوافي شعرهم، نكاتهم، كانوا أمواتاً، لذتُ بالفرار؛ لأني الشاهد الحي. لهب الشمعة يراقص ريح خفيفة، مندلقة من نافذة الوجع، أحوّطه بكفّي، أحرص على الضوء الخافت ألّا ينطفئ.
- وبعد يا أبي، ما الذي جرى؟
- قبل أن أرتقي شواهق التيه كنت أهرول صوب حانات منتشية برحيق اللذّة، عبير يشدو به الهوى، ينزّ ألماً حين تثور نفس غير مطمئنة، ألتحف أغاني السيدة فرحاً، وحين يدركنا الفجر يصحو الكأس باكياً، راثياً ثمالة النديم، مشيّعاً مفاتنَ الغواني ورعشة العيون. منعطفات كثيرة مرّت بها الخطى، الملاهي الغافية في حضن المدن، ترقص هياماً، يسربلها شذا النهد، همس الشفة، ارتجاف الأرداف، وغفوة النشوة، حتى إطلالة يوم جديد، أفواج من السكارى تتقاطع مع حركة الباعة المتجولين عند الثالثة أو الرابعة فجراً، جنود يهرولون نحو المجهول، عوالم غريبة لم تذق طعم النوم، كان سقوطاً حرّاً في أمكنة غادرت أزمنتها، ليس للصدى فيها محلّ، متاهات عبث وضياع، وعند مفترق الشيب بكيت كثيراً بدموع ندم موجع، أقترب أكثر نحو قناديل تطوف حولها فراشات ملوّنة، أتطهّر بماء الورد، أمسح معطف الروح بثنايا الوجد، انطلقَ مسحوراً نحو غابات الهتاف، يثيرني الصوت من بعيد بعد ترقب شاب فيه الحلم، ترانيم سحر الليل النشوان بِطَلّة الفجر تمحو مرّ اليأس، تخضّب جراح الوجع بعطر الأماني، ألوذ بظلّه غريباً أبحث عن بعضي. بعضي يرجع محترقاً بمصرعه، تلهو سياط البغاة بمحمله؛ فأظلّ شريداً زاغ الطريق عن أقدامي، وكلّما رأيت وهجاً أهفو إليه مغرداً بمدى المقصد، أتوهم أنّي رأيت ساحرات الدرب؛ فأسقط صريع البصر منسيّاً عند مربد صومعة الأمس. - أبي أراك تتصبّب عرقاً، هل تشعر بالغثيان؟ ثمة حكيم في آخر الزقاق. - لا عليك، لا شيء هنا سوى غاويين يتناسلون موتهم.
- أبي، أراك ترثي نفسك!
كان هاجساً يدفعه بأنّي فقدت عقلي.
ومضيت حائراً أتلمّس عتمة السفر أحمل عذابات الكون، مضني بشجو السمر وآثام الغفلة. ترنّحت من بين الجمر إيماءة كفّ مقطوعة، تشير إلى مهد ثراه، ما كان من سنواتي الخمسين إلّا أن تبكيه صلاة تطوف سبعاً على محيا الوجود، حتى ترجّلت من صهوة التيه حافي القدمين، أيمّم وجهي شطر حقول القرنفل الغافية بحضن نداه، أترك روحي الغافية تحت ظلال الوهج، تصغي لنداء يحمل ركن السماء، لعلّها تعانق مقام الفناء والتجلي، إلا أنّ صخب الصحراء الممتدّة ما بين حقول القرنفل وبين ضوء الشمس تتأهب دوماً للعصيان، تنفجر بغرائز عطشى للخراب، تفوح برائحة الدم، تتنزه في بستان الشيطان، تطلق ضباعَ عروشها وخفافيش الظلام:
- حيّ على الموت.
فينسكب الأسى على وجه الأرض حمماً من بركان حقدٍ يفورُ بشهوة القتل، تطلقُ بنادق الغزاة غرائزها على السماء، تغرز مخالبَها في رحم الأرض، ترتدي رائحة الدخان والبارود؛ لتبحث عن موطئ قدم للمنايا. أينما تدور بك الأرض لا ترى سوى أشباح الغربة والوحشة، وهي تلّوث خطوط المدى بالخرافة والوهم، وبين قلاع الغواية وبلاط القرف تأتي صحراء التيه بكامل وبائها، تتحسّس فروجَ العهر، منتشية بغزل العناكب:
- الظلمة وأفيالي حمالة الحطبِ أوفى جنودي.
النجوم تحتمي بالغيم، أنا وذاكرتي أتبعثر وراء خطى الصمت، تحدّق بي العتمة؛ فأتراجع خلف الهزيمة، أتحدّث بنصر مضى قبل أن أغتسل بنهر السكينة، بينما الآخرون فرّوا إلى ما كانوا عليه، يلوكون انتصارات أكلتها العثّة، أكفكف حسراتي بعدما هدّني الضنى، ألوذَ بظلّ غصن لا يتسع للجسد، ينغلق الأفق عند أوّل منطقة للقتل، وما من بوصلة تشير إلى أوّل انبلاج لفجري الأبيض؛ بيد أن الهتاف مازال حلماً معطراً بالحبّ والعفة وسحر المطر، يزرع الفجر نخلة في كفّ الندى، ويرحلُ، منتظراً هجرة القلوب من أجسادها ظامئة للثأر من آثامها، مخلصة لقوافل النور. وما زالت روحي بقايا أجفان مدجّجة بمصابيح الانتظار، أعدّ جراح الأمس، ألعن عقارب الزمن السحيق، عقارب معقوفة للخلف، معلّقة بساعة جدار طيني، يسقيني الانتظار كأس البقاء، أقطع طرف المسير لاهثاً، وبي لهفة لطيف شهي يرفرف فوق مقلَتَي الآه.
- أبي، كيف تميّز صداه؟
- للصدى آيتان، خفق القلوب وارتعاش الخطى.
- ماذا لو جاء غداً والشمس مشرقة، ولم يُوصَد باب أمام عينيك؟
- هل تصدّق لو قلت لك "سأغمض عينيّ عشقاً؛ لأحلم به مرة أخرى، وأنا غارق بسالف الذكرى وسحر النجوى، ولسكبت الكون في أحشاء الحناجر هتافاً مدوّياً:
( آمنتُ أنّ هواكَ وهو مَحجّتي . . .أحلى هوى غنّى بهِ قيثّارُ )؟"*
الشمعة تحتضر، يحتويني الظلام مرة أخرى، يهدّني الإعياء، يربكني انعدام الرؤية أحدّق في وجه القمر منتظراً:
- بني، أ تسمعني؟
- نعم، أسمعك.
- أشعل شمعة أخرى، واحدة لا تكفي.
أحلّق في ضباب أبيض، يغمرني الضوء/الصدى، وقبل أن يتنفّسني الفجر سررته بالوديعة:
- يا بُني، حين يغادر هذا العجوز الراقد على دكّة الوجع مرغماً، العجوز المتكئ على ثرثرةٍ قديمة، المنفي في غرفته الضيّقة، المنسي، إلى عوالمه السفلى، أنشده سيرة الضجيج والجنون، ارسمه فوق عينيك دمعاً، احمله على عربة من ياسمين، لي الاحتضار ولك الحلم، بني، (كنْ رجلاً ولا تتبع خطواتي).
-----------------------------------------------------------------------------------
*البيت للشاعر: عبدالخالق فريد.
إليه...
إلى: مَن أنتظرُ،
"كلّما حدّقتُ في مرايا الشيب،
تفترسني ملامحي العاطلة".
15- شعبان
مضى دهر، وأنا لازلت أحدّق في عتمة تقرض ما تبقّى من خطى قلقي، أتسلّق جرحاً ثملاً بالوجد، الليل الممتدّ بين أطياف الأمس وبين زمن التيه يمضغ الضوء المندلق من نافذة الحلم، بقايا شمعة ترقد طرف الزاوية، تتسلّق عينيّ، تسوقني رغبة لإشعالها،
"يا ترى هل تكفي كي أدرك الفجر الأبيض؟"
النداء يمتدّ من خلف النافذة، مفعم بالبوح، يلامس أعماق الوجع، محاطاً بالوحدة، يحمل سحراً عجيباً، هو ذات النداء الراقد في عيني مذْ كنت طفلاً، أحبو فوق خاصرة الأيام المشوّهة بخداع تقاويم التاريخ، قطّعت أرصفةَ الدروب عابثاً، عارياً، كنت محمولاً على كفّ السراب، أبعثر عقارب الساعات غير مبالٍ بشيء سوى أن أعيش يومي، بيد أنّي أسير حيث السحاب، كلّما لمعت السماء عند حافة الوجع، تنثال مني الأمنيات بشوق اللقاء واحتراق الانتظار. كان قطعة أطياف وخدر شوق عابراً الشكوى والألم وغربة السنين:
- بني، اصغِ جيداً، سأقول لك ما قاله أبي،
"عندما تورق أشجارك، ويخضرّ بستان الروح، سيلامس جراحك ثغر النداء، ستلقاه عندما ترتصف الطرقات بالهجر والصدود، وتورق الأرض بأشواك الصبار، ويعتلي وجهها الملح والسبخ".
كان لغزاً، مذْ كنت حانقاً متمرداً، أهفو في خشوع لفكّ طلاسم الفناء والتلاشي في حضرة النداء، وحين لاذ القمر بالمحاق، والشمس خجلى تتوارى خلف السحب الراقصة على أكتاف الريح، مضيت وحيداً، لا أدري أين تأخذني المسافات. - أ موحشة تلك الدروب، يا أبي؟
- الدرب شائك، طويل، كلّما قطعت قرناً من الزمان سلخ صفحة من روايتي بالرزايا، والقلب يلملم ذكريات الجراح بحذر وتورية فيوضات الروح. دارت بي الأرض سكرى وأنا أرقب الطريق في حيرة من أمري، لعلّي أرى الحبيب، تولج خطاي أمكنة موشاة بخيالات كاذبة، تعربد في جنب أقبية، تورق بين جدرانها الدماء والصريخ، استرق السمع، أقف مذهولاً أمام الأنين، أمام أجساد ذاوية ترقص السياط فرحاً فوق ظهورها، أزهار، باقات ورد، معطّرة بالندى تقطفها أبواق الحرب، يلفّها الخراب، أتنفس رمادها، رائحة دخان القذائف تغشيني، أتقيأ ملامح الموتى، أستنشق براءة الأحبة، قوافي شعرهم، نكاتهم، كانوا أمواتاً، لذتُ بالفرار؛ لأني الشاهد الحي. لهب الشمعة يراقص ريح خفيفة، مندلقة من نافذة الوجع، أحوّطه بكفّي، أحرص على الضوء الخافت ألّا ينطفئ.
- وبعد يا أبي، ما الذي جرى؟
- قبل أن أرتقي شواهق التيه كنت أهرول صوب حانات منتشية برحيق اللذّة، عبير يشدو به الهوى، ينزّ ألماً حين تثور نفس غير مطمئنة، ألتحف أغاني السيدة فرحاً، وحين يدركنا الفجر يصحو الكأس باكياً، راثياً ثمالة النديم، مشيّعاً مفاتنَ الغواني ورعشة العيون. منعطفات كثيرة مرّت بها الخطى، الملاهي الغافية في حضن المدن، ترقص هياماً، يسربلها شذا النهد، همس الشفة، ارتجاف الأرداف، وغفوة النشوة، حتى إطلالة يوم جديد، أفواج من السكارى تتقاطع مع حركة الباعة المتجولين عند الثالثة أو الرابعة فجراً، جنود يهرولون نحو المجهول، عوالم غريبة لم تذق طعم النوم، كان سقوطاً حرّاً في أمكنة غادرت أزمنتها، ليس للصدى فيها محلّ، متاهات عبث وضياع، وعند مفترق الشيب بكيت كثيراً بدموع ندم موجع، أقترب أكثر نحو قناديل تطوف حولها فراشات ملوّنة، أتطهّر بماء الورد، أمسح معطف الروح بثنايا الوجد، انطلقَ مسحوراً نحو غابات الهتاف، يثيرني الصوت من بعيد بعد ترقب شاب فيه الحلم، ترانيم سحر الليل النشوان بِطَلّة الفجر تمحو مرّ اليأس، تخضّب جراح الوجع بعطر الأماني، ألوذ بظلّه غريباً أبحث عن بعضي. بعضي يرجع محترقاً بمصرعه، تلهو سياط البغاة بمحمله؛ فأظلّ شريداً زاغ الطريق عن أقدامي، وكلّما رأيت وهجاً أهفو إليه مغرداً بمدى المقصد، أتوهم أنّي رأيت ساحرات الدرب؛ فأسقط صريع البصر منسيّاً عند مربد صومعة الأمس. - أبي أراك تتصبّب عرقاً، هل تشعر بالغثيان؟ ثمة حكيم في آخر الزقاق. - لا عليك، لا شيء هنا سوى غاويين يتناسلون موتهم.
- أبي، أراك ترثي نفسك!
كان هاجساً يدفعه بأنّي فقدت عقلي.
ومضيت حائراً أتلمّس عتمة السفر أحمل عذابات الكون، مضني بشجو السمر وآثام الغفلة. ترنّحت من بين الجمر إيماءة كفّ مقطوعة، تشير إلى مهد ثراه، ما كان من سنواتي الخمسين إلّا أن تبكيه صلاة تطوف سبعاً على محيا الوجود، حتى ترجّلت من صهوة التيه حافي القدمين، أيمّم وجهي شطر حقول القرنفل الغافية بحضن نداه، أترك روحي الغافية تحت ظلال الوهج، تصغي لنداء يحمل ركن السماء، لعلّها تعانق مقام الفناء والتجلي، إلا أنّ صخب الصحراء الممتدّة ما بين حقول القرنفل وبين ضوء الشمس تتأهب دوماً للعصيان، تنفجر بغرائز عطشى للخراب، تفوح برائحة الدم، تتنزه في بستان الشيطان، تطلق ضباعَ عروشها وخفافيش الظلام:
- حيّ على الموت.
فينسكب الأسى على وجه الأرض حمماً من بركان حقدٍ يفورُ بشهوة القتل، تطلقُ بنادق الغزاة غرائزها على السماء، تغرز مخالبَها في رحم الأرض، ترتدي رائحة الدخان والبارود؛ لتبحث عن موطئ قدم للمنايا. أينما تدور بك الأرض لا ترى سوى أشباح الغربة والوحشة، وهي تلّوث خطوط المدى بالخرافة والوهم، وبين قلاع الغواية وبلاط القرف تأتي صحراء التيه بكامل وبائها، تتحسّس فروجَ العهر، منتشية بغزل العناكب:
- الظلمة وأفيالي حمالة الحطبِ أوفى جنودي.
النجوم تحتمي بالغيم، أنا وذاكرتي أتبعثر وراء خطى الصمت، تحدّق بي العتمة؛ فأتراجع خلف الهزيمة، أتحدّث بنصر مضى قبل أن أغتسل بنهر السكينة، بينما الآخرون فرّوا إلى ما كانوا عليه، يلوكون انتصارات أكلتها العثّة، أكفكف حسراتي بعدما هدّني الضنى، ألوذَ بظلّ غصن لا يتسع للجسد، ينغلق الأفق عند أوّل منطقة للقتل، وما من بوصلة تشير إلى أوّل انبلاج لفجري الأبيض؛ بيد أن الهتاف مازال حلماً معطراً بالحبّ والعفة وسحر المطر، يزرع الفجر نخلة في كفّ الندى، ويرحلُ، منتظراً هجرة القلوب من أجسادها ظامئة للثأر من آثامها، مخلصة لقوافل النور. وما زالت روحي بقايا أجفان مدجّجة بمصابيح الانتظار، أعدّ جراح الأمس، ألعن عقارب الزمن السحيق، عقارب معقوفة للخلف، معلّقة بساعة جدار طيني، يسقيني الانتظار كأس البقاء، أقطع طرف المسير لاهثاً، وبي لهفة لطيف شهي يرفرف فوق مقلَتَي الآه.
- أبي، كيف تميّز صداه؟
- للصدى آيتان، خفق القلوب وارتعاش الخطى.
- ماذا لو جاء غداً والشمس مشرقة، ولم يُوصَد باب أمام عينيك؟
- هل تصدّق لو قلت لك "سأغمض عينيّ عشقاً؛ لأحلم به مرة أخرى، وأنا غارق بسالف الذكرى وسحر النجوى، ولسكبت الكون في أحشاء الحناجر هتافاً مدوّياً:
( آمنتُ أنّ هواكَ وهو مَحجّتي . . .أحلى هوى غنّى بهِ قيثّارُ )؟"*
الشمعة تحتضر، يحتويني الظلام مرة أخرى، يهدّني الإعياء، يربكني انعدام الرؤية أحدّق في وجه القمر منتظراً:
- بني، أ تسمعني؟
- نعم، أسمعك.
- أشعل شمعة أخرى، واحدة لا تكفي.
أحلّق في ضباب أبيض، يغمرني الضوء/الصدى، وقبل أن يتنفّسني الفجر سررته بالوديعة:
- يا بُني، حين يغادر هذا العجوز الراقد على دكّة الوجع مرغماً، العجوز المتكئ على ثرثرةٍ قديمة، المنفي في غرفته الضيّقة، المنسي، إلى عوالمه السفلى، أنشده سيرة الضجيج والجنون، ارسمه فوق عينيك دمعاً، احمله على عربة من ياسمين، لي الاحتضار ولك الحلم، بني، (كنْ رجلاً ولا تتبع خطواتي).
-----------------------------------------------------------------------------------
*البيت للشاعر: عبدالخالق فريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق