قراءة نقدية : بقلم الأستاذ صالح هشام /المغرب !
[سفر الليل ] للشاعرة حسيبة صنديد القنوني !!
وأنا أتصفح بعض المقالات النقدية ، أثارت انتباهي فكرة مفادها أن الشاعر ( كذاب ) وأن الشعر ما هو إلا كذب عذب ،والشاعر طبعا لن يكون إلا كما ذكر ، تهمته تأتيه من هذا الأسلوب الذي ينهجه ليربط عالمه الداخلي بعالم القاريء وإشراكه في كل ما تنوء به نفسه من آمال وآلام وأحلام ، وما إلى ذلك ، وأعتقد أن هذا الكذب يفند فكرة طالما التزم بها القدماء في التعريف بالشعر ( الشعر كلام موزون مقفى ) لكن هل الوزن والتقفية كافيان لإبداع الشعر ؟ أليس كل قريض مخبول بهذا المعنى نعتبره شعرا ؟
فندرج النظم في مجال الشعر ، ويتحول ابن مالك وابن عاشر من نظام قواعد نحوية إلى شعراء ، أظن أن الشعر أكبر من النظم بكثير ، من حيث طريقة التعبير عن المشاعر والأحاسيس من جهة ، ومن حيث الإبداع في المجال اللغوي من جهة أخرى !
ويمكن أن نناقش بعض هذه الأمور من خلال هذا النص الرائع ،الذي تجعلنا مبدعته نتوه في متاهاته بدء من عنوانه (سفر الليل ) ، الذي يطرح أكثر من سؤال ، أهو السفر سفر الليل أم سفر إنسان آخر في هذا الليل ، فعلى مستوى التركيب النحوي ، يتضح أن المصدر أضيف إلى فاعله ، لكن هل الليل هو الفاعل الفعلي لهذا المصدر ؟ أم أن شخصا ما لا يعدو أن يكون غير المبدعة - سواء كان ذلك على مستوى الافتراض أو الحقيقة هو الذي يقوم بعملية السفر في الليل ،من هذا المنطلق ،تتناسل الأسئلة والتساؤلات في نفس القاريء الذي قد يخلص إلى نتيجة تهديء من روع الدبابير في دواخله أو تظل هكذا ، تمارس في أعماق ذاكرته شغبها ، أعتقد أن تمة سبب موضوعي لاعتبار الشاعر كذابا ،فهو يسحل الوحدات اللفظية من معجمها سحلا ويجردها مما وضعت من أجله لتوظيفها في غير موضعها الطبيعي (مستوى البنية السطحة ) فيحدث الانزياح اللغوي ، وتحدث بلاغة الغموض ،ومن ثم يتحقق الكذب ، وإن كانت هذه الفكرة من وجهة نظري الشخصية تحتمل الصحة كما تحتمل الخطأ ، ومن تم يبدأ طائر السنونو في بناء عشه بكل دقة وإتقان ، والبناء في وضع الآجرة تلو الآجرة في حائط النص ، اعتمادا على الاختلاف والتضاد الحاصل في الوحدات اللغوية المسندة إلى بعضها البعض في جغرافية كلامية تستسيغها الذائقة القارئة المتذوقة لهذا البناء الرائع ، فالحديث موصوف بكلمتين متضادتين ( القصر / الطول) ، فكيف يمكن الجمع بين كلمتين متضادتين من هذا النوع ولموصوف واحد ، إلا في سياق خارج عن المألوف على مستوى الدلالات اللفظية أقصد المعجمية ، بطبيعة الحال هذا الجمع بين الكلمات ، يوحي بتوظيف يخرج عن طوع المعجم الذي تخلخله المجازات والاستعارات وما إلى ذلك من المسائل البلاغية ، هذا التوظيف الذي يجرد الكلمتين مما وضعتا له ، وقد أعتبر ذلك من جماليات اللغة من حيث الانزياح وبلاغة الغموض ، الذي يحافظ على التركيب النحوي من حيث المواقع الصحيحة للكلمات من الاعراب ، لكنه يدمر كل ماهو منطقي ، ولا تقتصر المبدعة في هذا النص على هذا النوع من التوظيف ،وإنما تتجاوزه ، معتمد ة كذلك على إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي ناسجة مستويات من الاستعارات والمجازات ، فتسند مثلا (تفوح الدالة على ما هو مرتبط بالحواس إلى المدرك بواسطة العقل فقط ، أي الحكمة ، فنستعير من هذا ونسند لذاك وهكذا دواليك في تناغم تام لإكمال بناء النص ) فيكون الإسناد على مستوى الحقيقة نوعا من الكذب في التركيب وذلك بتغيير مواضع الكلمات ، وأيضا في الدلالة المعنوية ، لكن الشعر لا يعترف بهذه التراكيب المباشرة ،فالشعر يعتمد لغة الجنون العذب كما يحلو لنتشه أن يسميها ( اللغة نوع من الجنون العذب ، عند الحديث بها يرقص الإنسان فوق الأشياء) وما هدف الشاعرة إلا الرقص فوق الأشياء ، وعندما نقول الرقص فوق الأشياء قد نعني ضرب تلك البنيات اللغوية التي تخضع للمنطق ولوصاية العقل ، ربما من هذا المنطلق نعتبر الشاعر كذابا( أعذب الشعر أكذبه ) ، لأنه بشكل أو بآخر يخالف كل ما له علاقة بمستوى البنيات السطحية !
الشاعرة حسيبة أصلا لا تبحت عن توصيل معان معينة للقاريء ، فما يهمها هو ترتيب لغوي في نسيج نصي رائع كالصيرفي الذي يرتب الجواهر في العقود ، إلا أنها تترك مسافة معقولة بين هذا النص وقارئه من أجل استجلاء غموضه، والكشف عن أسرار تلك التراكيب الخاضعة لقدرة الشاعرة على الجمع بين ما لا يجمع ، ونقصد بهذا الجمع كل ماهو متضاد ، وخلقها تآلفا بين هذه الوحدات اللغوية وأيضا قدرتها على جمع المؤتلف والمختلف من الكلام وهذا ديدن الإبداع في اللغة الشعرية !
ولا يفوتني أن أشير إلى أني أعطي أمثلة على ما ذكر من خلال النص ككل باعتباره وحدة لا تقبل التجزيء ،ولأن عملية التجزيء قد تضر بالنص ، وسياقه العام باعتباره خليطا من السياقات والأنساق الجزئية والتراكيب التي تضفي مسحة جمالية على بناء القصيدة ، (فالرغوة التي ترتشف ، تتحول إلى فاعل يترشف الأحلام ) و ( تتحول السيجارة إلى فاعل يستل الأوجاع من رئة الزمن ) ( والجريدة تلملم بقايا كلمات متقاطعة ) فاشتغالها على جماليات التركيب إذن يحرك الجامد ويجمد المتحرك ، ويزرع الحركة في الساكن وذلك كله من أجل ، خلق تلك الصور الشعرية التي يهيم بها القاريء قبولا واستحسانا و التي يترتب عن استجلاء غموضها وتفكيك شفراتها نوع من اللذة ، ويشعل كشف مستورها إذكاء شهوة فضح المستور ، ونشوة أشبه بنشوة الخمرة أو طرب كطرب الألحان ، فيرتقي خيال القاريء صعودا وتحليقا إلى تلك العوالم التي يخلقها الشاعر !
ولئن اعتبر النقاد لغة الشعر لغة صامتة تفتقرإلى مخاطب معين ، أقول إن القاريء عندما يحقق الاتحاد والحلول بالنص ، ويستأنس بالإبحار اختراقا وعبورا واستغوارا في متاهاته ، يصبح قادرا على الكشف والاكتشاف وفتح المغاليق ، وتحضرني هنا قصة أبي تمام عندما سئل عن (قوله ما لا يفهم ، فكان جوابه ، ولماذا لا تفهمون ما يقال) هذا يعني أن الشاعرة ،تبدع نصها بعيدا عن أية ضغوطات خارجية بإمكانها إعاقة عملية الإبداع بما فيها المتلقي غير المفكر فيه أصلا ، لأن التفكير ينصب على إمتاع النفس المبدعة قبل التفكير في إمتاع الآخر ( القاريء ) أيضا لأنه حتما سيكون هناك قراء يخلخلون صمت لغة الشعر الصامتة ، بناء على ذائقتهم وذوقهم، فلا نآخذ الشاعرة أبدا على هذا التحليق في عالم الخيال (أقول عالم الجمال)، فحتما كل تركيب في النص ، تترتب عنه صور رائعة وجميلة تحفر حفرا يصعب ردمها على جدار ذاكرة القاريء الحذق ، الذي يحسن تفكيك الرموز وإبطال مفعول الشفرات وفتح مغاليق النص وما أكثرها في هذه اللوحة الفنية المتحركة !
ولا تفوتني الإشارة إلى أن هذا النص ، باذخ يعج بهذه التراكيب ، التي تدعو القاريء إلى الهدم والتجميع وإعادة بناء النص بطرقه الخاصة ووفق مخزونه الثقافي والمعرفي ، و من خلال إسقاطاته ،وتأويلاته وتفسيراته في تفكيك تشفير الرموز التي تتضمنها الصور الشعرية ، في النص ،أشيركذلك هنا إلى مسألة مهمة جدا وهي أن الشاعر كيفما كانت مشاربه يريد دائما أن يسمو بقارئه إلى المعالي المعرفية والفكرية ، كما نلاحظ في هذا النص ، أن القراءة تستوجب المعرفة قدر الإمكان بتلك الترسبات النصية ، التي تشكل أرشيف الذاكرة سواء ذاكرة الشاعرة أو ذاكرة القاريء ، فالشاعرة تحيل إلى توظيف نصوص متنوعة دينية وتاريخية وتراثية ، تشكل منها بنية نصها بشكل أو بآخر .،وتأتي هذه الإشارات والإحالات من خلال هذه الأعلام ( لقمان : الحكمة ......يوسف : الجمال الطاهر الفتان الذي أوقع زوجة العزيز في حباله .......داوود : المعروف بمزماره العجيب ،وبأنغامه ،السحرية ،،،،،،فكل إشارة / علم هنا إلا وتشير إلى نصوص لها مكانتها في التاريخ وفي المتخيل والمعتقد البشري ) سواء تم ذلك عن طريق التناص أو التداعي أو توارد الأفكار ، وإن اكتفت الشاعرة هنا بالإشارة فقط ) !
فكبار الشعراءأمثال( إليوت) الإنجليزي كان يعتز بمتحه من هذه الترسبات النصية التي تؤثت سراديب أرشيفات الذاكرة البشرية ، إذ يوظفها وبكثرة تناصا وتحويلا في نصوصه معتبرا أن ذلك يدل على مدى موسوعية الشاعر المعرفية التي حتما تستوجب موسوعية القاريء / الناقد ، وفي حالة عدم توفر هذا يقع التعسف على تحليل النص وبالتالي قتله ،وبما أن المعارف تختلف من حيث الكم والنوعية بين القراء والشعراء ، تبقى النصوص منفتحة على تعدد القراءات ، وكذلك على الاختلاف في طرق التوظيف والترميز ، بالنسبة للشعراء ، ويختلف تحليل الصور الشعرية والبحث عن المعاني والإسقاطات ، متوقفة على مدى قدرات القراء ، ومدى تسلحهم بالزاد المعرفي الذي يتيح لهم الفرصة للتحليل والتفسير والتأويل ، وهذه التفسيرات تختلف اختلاف بصمات اليد !
قد يلاحظ القاريء الكريم أني اكتفيت في تحليل النص على بعض الأمثلة التركيبية ،لمجموعة من الاعتبارات التي ذكرت بعضها في بداية هذه المقاربة ، ولعل أهمها ، أن أي تجزيء للنص هو نوع من التعسف عليه لأنه عبارة عن نسق عام يتكون من مجموعة من الأنساق الجزئية التي تتعاضد بينها وتستمد قوتها من قوة غيرها من أجل بناء النص في وحدة متكاملة ، أضف إلى ذلك أن أي تناول لماورد من صور في كل سطر على حدة قد يخل بالتلاحم والترابط القائم بين السطور ، وهذا لا يستقيم في نظري ،من جهة أخرى أن كل جملة في النص ، تشكل في حد ذاتها صورة شعرية رائعة لكنها لا تكتمل إلا بذلك الارتباط المنطقي بينها وبين باقي الجمل والسطور ، ولا يسعني في هذه المقاربة إلا أن أنوه بهذا النص الرائع الذي منحنا فرصة للإبحار بحثا عن الدرر والجواهر التي تكون بناءه ، وأتمنى أن أكون قد أبحرت وخرجت بأقل الخسائر من هذه المغامرة السندبادية في تخوم بحر هذا النص وأن لا يخذلني مركبي المتهالك !
__________________________________________
سفر الليل / نص معتمد للقراءة
للشاعرة حسيبة صنديد القنوني
حديث قصير طويل
تفوح منه حكمة لقمان
وجه كالصباح الوليد
يقطر منه جمال يوسف
صوت عبق الأنفاس
يلامس الروح كنغمة داوود
قنديل يرسل ضوءا خافتا
يضيء أجنحة الحمام
على الطاولة ......
قهوة تغري رغوتها بترشّف الأحلام
سيجارة تستلّ أوجاعها من رئة الزمن
ولّاعة و مطفأة تنتظران آخر حريق
جريدة الأمس تلملم بفايا كلمات متقاطعة
فجأة .......
يضطرب رقّاص الساعة
يتبعثر الوقت .....
يلغي المبتدأ و الخبر و العنوان و المرسى
عجبا......
كيف أخذني الليل الى أحضانه ؟
أسافر فيه وحيدة بلا حقائب
أسلك ربيع الأمس و أعبر التاريخ بلا جواز
هنا حيث لا مسافر و لا طارق ليل
حيث ترتعش قناديل الرصيف من برد السراب
هنا حيث لا نجوم و لا قمر
حيث لا شيء غير الغياب و الضباب
هناك .......
سأنتظرك مثل ملكة مشوّهة بلا تاج
تسترق صدى الأيام
تحلم بموائد الكلمات
سأنتظرك مثل النورس المهزوم
يحاول ان يردّ الملح و النسيان ...
هل جفّ الرجاء و تلاشت الذكرى ؟
هل تاه الجواد في الصحراء
وضلّ عن نجمة الشمال؟
ياااا انت
يا قصيدة البنفسج
يا طيفا آسرا في أضلعي
أخذ عطر كل الفصول
و حمل حقائب الذكريات
و كل الاشياء
ياااا انا .
..يا روحا تشبهك في كل التفاصيل
يا حروفا أسكبها في عالمي الورقي
بحزن يعقوب
و وحشة يونس
و حسرة الشعراء
...................حسيبة صنديد القنّوني /تونس
[سفر الليل ] للشاعرة حسيبة صنديد القنوني !!
وأنا أتصفح بعض المقالات النقدية ، أثارت انتباهي فكرة مفادها أن الشاعر ( كذاب ) وأن الشعر ما هو إلا كذب عذب ،والشاعر طبعا لن يكون إلا كما ذكر ، تهمته تأتيه من هذا الأسلوب الذي ينهجه ليربط عالمه الداخلي بعالم القاريء وإشراكه في كل ما تنوء به نفسه من آمال وآلام وأحلام ، وما إلى ذلك ، وأعتقد أن هذا الكذب يفند فكرة طالما التزم بها القدماء في التعريف بالشعر ( الشعر كلام موزون مقفى ) لكن هل الوزن والتقفية كافيان لإبداع الشعر ؟ أليس كل قريض مخبول بهذا المعنى نعتبره شعرا ؟
فندرج النظم في مجال الشعر ، ويتحول ابن مالك وابن عاشر من نظام قواعد نحوية إلى شعراء ، أظن أن الشعر أكبر من النظم بكثير ، من حيث طريقة التعبير عن المشاعر والأحاسيس من جهة ، ومن حيث الإبداع في المجال اللغوي من جهة أخرى !
ويمكن أن نناقش بعض هذه الأمور من خلال هذا النص الرائع ،الذي تجعلنا مبدعته نتوه في متاهاته بدء من عنوانه (سفر الليل ) ، الذي يطرح أكثر من سؤال ، أهو السفر سفر الليل أم سفر إنسان آخر في هذا الليل ، فعلى مستوى التركيب النحوي ، يتضح أن المصدر أضيف إلى فاعله ، لكن هل الليل هو الفاعل الفعلي لهذا المصدر ؟ أم أن شخصا ما لا يعدو أن يكون غير المبدعة - سواء كان ذلك على مستوى الافتراض أو الحقيقة هو الذي يقوم بعملية السفر في الليل ،من هذا المنطلق ،تتناسل الأسئلة والتساؤلات في نفس القاريء الذي قد يخلص إلى نتيجة تهديء من روع الدبابير في دواخله أو تظل هكذا ، تمارس في أعماق ذاكرته شغبها ، أعتقد أن تمة سبب موضوعي لاعتبار الشاعر كذابا ،فهو يسحل الوحدات اللفظية من معجمها سحلا ويجردها مما وضعت من أجله لتوظيفها في غير موضعها الطبيعي (مستوى البنية السطحة ) فيحدث الانزياح اللغوي ، وتحدث بلاغة الغموض ،ومن ثم يتحقق الكذب ، وإن كانت هذه الفكرة من وجهة نظري الشخصية تحتمل الصحة كما تحتمل الخطأ ، ومن تم يبدأ طائر السنونو في بناء عشه بكل دقة وإتقان ، والبناء في وضع الآجرة تلو الآجرة في حائط النص ، اعتمادا على الاختلاف والتضاد الحاصل في الوحدات اللغوية المسندة إلى بعضها البعض في جغرافية كلامية تستسيغها الذائقة القارئة المتذوقة لهذا البناء الرائع ، فالحديث موصوف بكلمتين متضادتين ( القصر / الطول) ، فكيف يمكن الجمع بين كلمتين متضادتين من هذا النوع ولموصوف واحد ، إلا في سياق خارج عن المألوف على مستوى الدلالات اللفظية أقصد المعجمية ، بطبيعة الحال هذا الجمع بين الكلمات ، يوحي بتوظيف يخرج عن طوع المعجم الذي تخلخله المجازات والاستعارات وما إلى ذلك من المسائل البلاغية ، هذا التوظيف الذي يجرد الكلمتين مما وضعتا له ، وقد أعتبر ذلك من جماليات اللغة من حيث الانزياح وبلاغة الغموض ، الذي يحافظ على التركيب النحوي من حيث المواقع الصحيحة للكلمات من الاعراب ، لكنه يدمر كل ماهو منطقي ، ولا تقتصر المبدعة في هذا النص على هذا النوع من التوظيف ،وإنما تتجاوزه ، معتمد ة كذلك على إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي ناسجة مستويات من الاستعارات والمجازات ، فتسند مثلا (تفوح الدالة على ما هو مرتبط بالحواس إلى المدرك بواسطة العقل فقط ، أي الحكمة ، فنستعير من هذا ونسند لذاك وهكذا دواليك في تناغم تام لإكمال بناء النص ) فيكون الإسناد على مستوى الحقيقة نوعا من الكذب في التركيب وذلك بتغيير مواضع الكلمات ، وأيضا في الدلالة المعنوية ، لكن الشعر لا يعترف بهذه التراكيب المباشرة ،فالشعر يعتمد لغة الجنون العذب كما يحلو لنتشه أن يسميها ( اللغة نوع من الجنون العذب ، عند الحديث بها يرقص الإنسان فوق الأشياء) وما هدف الشاعرة إلا الرقص فوق الأشياء ، وعندما نقول الرقص فوق الأشياء قد نعني ضرب تلك البنيات اللغوية التي تخضع للمنطق ولوصاية العقل ، ربما من هذا المنطلق نعتبر الشاعر كذابا( أعذب الشعر أكذبه ) ، لأنه بشكل أو بآخر يخالف كل ما له علاقة بمستوى البنيات السطحية !
الشاعرة حسيبة أصلا لا تبحت عن توصيل معان معينة للقاريء ، فما يهمها هو ترتيب لغوي في نسيج نصي رائع كالصيرفي الذي يرتب الجواهر في العقود ، إلا أنها تترك مسافة معقولة بين هذا النص وقارئه من أجل استجلاء غموضه، والكشف عن أسرار تلك التراكيب الخاضعة لقدرة الشاعرة على الجمع بين ما لا يجمع ، ونقصد بهذا الجمع كل ماهو متضاد ، وخلقها تآلفا بين هذه الوحدات اللغوية وأيضا قدرتها على جمع المؤتلف والمختلف من الكلام وهذا ديدن الإبداع في اللغة الشعرية !
ولا يفوتني أن أشير إلى أني أعطي أمثلة على ما ذكر من خلال النص ككل باعتباره وحدة لا تقبل التجزيء ،ولأن عملية التجزيء قد تضر بالنص ، وسياقه العام باعتباره خليطا من السياقات والأنساق الجزئية والتراكيب التي تضفي مسحة جمالية على بناء القصيدة ، (فالرغوة التي ترتشف ، تتحول إلى فاعل يترشف الأحلام ) و ( تتحول السيجارة إلى فاعل يستل الأوجاع من رئة الزمن ) ( والجريدة تلملم بقايا كلمات متقاطعة ) فاشتغالها على جماليات التركيب إذن يحرك الجامد ويجمد المتحرك ، ويزرع الحركة في الساكن وذلك كله من أجل ، خلق تلك الصور الشعرية التي يهيم بها القاريء قبولا واستحسانا و التي يترتب عن استجلاء غموضها وتفكيك شفراتها نوع من اللذة ، ويشعل كشف مستورها إذكاء شهوة فضح المستور ، ونشوة أشبه بنشوة الخمرة أو طرب كطرب الألحان ، فيرتقي خيال القاريء صعودا وتحليقا إلى تلك العوالم التي يخلقها الشاعر !
ولئن اعتبر النقاد لغة الشعر لغة صامتة تفتقرإلى مخاطب معين ، أقول إن القاريء عندما يحقق الاتحاد والحلول بالنص ، ويستأنس بالإبحار اختراقا وعبورا واستغوارا في متاهاته ، يصبح قادرا على الكشف والاكتشاف وفتح المغاليق ، وتحضرني هنا قصة أبي تمام عندما سئل عن (قوله ما لا يفهم ، فكان جوابه ، ولماذا لا تفهمون ما يقال) هذا يعني أن الشاعرة ،تبدع نصها بعيدا عن أية ضغوطات خارجية بإمكانها إعاقة عملية الإبداع بما فيها المتلقي غير المفكر فيه أصلا ، لأن التفكير ينصب على إمتاع النفس المبدعة قبل التفكير في إمتاع الآخر ( القاريء ) أيضا لأنه حتما سيكون هناك قراء يخلخلون صمت لغة الشعر الصامتة ، بناء على ذائقتهم وذوقهم، فلا نآخذ الشاعرة أبدا على هذا التحليق في عالم الخيال (أقول عالم الجمال)، فحتما كل تركيب في النص ، تترتب عنه صور رائعة وجميلة تحفر حفرا يصعب ردمها على جدار ذاكرة القاريء الحذق ، الذي يحسن تفكيك الرموز وإبطال مفعول الشفرات وفتح مغاليق النص وما أكثرها في هذه اللوحة الفنية المتحركة !
ولا تفوتني الإشارة إلى أن هذا النص ، باذخ يعج بهذه التراكيب ، التي تدعو القاريء إلى الهدم والتجميع وإعادة بناء النص بطرقه الخاصة ووفق مخزونه الثقافي والمعرفي ، و من خلال إسقاطاته ،وتأويلاته وتفسيراته في تفكيك تشفير الرموز التي تتضمنها الصور الشعرية ، في النص ،أشيركذلك هنا إلى مسألة مهمة جدا وهي أن الشاعر كيفما كانت مشاربه يريد دائما أن يسمو بقارئه إلى المعالي المعرفية والفكرية ، كما نلاحظ في هذا النص ، أن القراءة تستوجب المعرفة قدر الإمكان بتلك الترسبات النصية ، التي تشكل أرشيف الذاكرة سواء ذاكرة الشاعرة أو ذاكرة القاريء ، فالشاعرة تحيل إلى توظيف نصوص متنوعة دينية وتاريخية وتراثية ، تشكل منها بنية نصها بشكل أو بآخر .،وتأتي هذه الإشارات والإحالات من خلال هذه الأعلام ( لقمان : الحكمة ......يوسف : الجمال الطاهر الفتان الذي أوقع زوجة العزيز في حباله .......داوود : المعروف بمزماره العجيب ،وبأنغامه ،السحرية ،،،،،،فكل إشارة / علم هنا إلا وتشير إلى نصوص لها مكانتها في التاريخ وفي المتخيل والمعتقد البشري ) سواء تم ذلك عن طريق التناص أو التداعي أو توارد الأفكار ، وإن اكتفت الشاعرة هنا بالإشارة فقط ) !
فكبار الشعراءأمثال( إليوت) الإنجليزي كان يعتز بمتحه من هذه الترسبات النصية التي تؤثت سراديب أرشيفات الذاكرة البشرية ، إذ يوظفها وبكثرة تناصا وتحويلا في نصوصه معتبرا أن ذلك يدل على مدى موسوعية الشاعر المعرفية التي حتما تستوجب موسوعية القاريء / الناقد ، وفي حالة عدم توفر هذا يقع التعسف على تحليل النص وبالتالي قتله ،وبما أن المعارف تختلف من حيث الكم والنوعية بين القراء والشعراء ، تبقى النصوص منفتحة على تعدد القراءات ، وكذلك على الاختلاف في طرق التوظيف والترميز ، بالنسبة للشعراء ، ويختلف تحليل الصور الشعرية والبحث عن المعاني والإسقاطات ، متوقفة على مدى قدرات القراء ، ومدى تسلحهم بالزاد المعرفي الذي يتيح لهم الفرصة للتحليل والتفسير والتأويل ، وهذه التفسيرات تختلف اختلاف بصمات اليد !
قد يلاحظ القاريء الكريم أني اكتفيت في تحليل النص على بعض الأمثلة التركيبية ،لمجموعة من الاعتبارات التي ذكرت بعضها في بداية هذه المقاربة ، ولعل أهمها ، أن أي تجزيء للنص هو نوع من التعسف عليه لأنه عبارة عن نسق عام يتكون من مجموعة من الأنساق الجزئية التي تتعاضد بينها وتستمد قوتها من قوة غيرها من أجل بناء النص في وحدة متكاملة ، أضف إلى ذلك أن أي تناول لماورد من صور في كل سطر على حدة قد يخل بالتلاحم والترابط القائم بين السطور ، وهذا لا يستقيم في نظري ،من جهة أخرى أن كل جملة في النص ، تشكل في حد ذاتها صورة شعرية رائعة لكنها لا تكتمل إلا بذلك الارتباط المنطقي بينها وبين باقي الجمل والسطور ، ولا يسعني في هذه المقاربة إلا أن أنوه بهذا النص الرائع الذي منحنا فرصة للإبحار بحثا عن الدرر والجواهر التي تكون بناءه ، وأتمنى أن أكون قد أبحرت وخرجت بأقل الخسائر من هذه المغامرة السندبادية في تخوم بحر هذا النص وأن لا يخذلني مركبي المتهالك !
__________________________________________
سفر الليل / نص معتمد للقراءة
للشاعرة حسيبة صنديد القنوني
حديث قصير طويل
تفوح منه حكمة لقمان
وجه كالصباح الوليد
يقطر منه جمال يوسف
صوت عبق الأنفاس
يلامس الروح كنغمة داوود
قنديل يرسل ضوءا خافتا
يضيء أجنحة الحمام
على الطاولة ......
قهوة تغري رغوتها بترشّف الأحلام
سيجارة تستلّ أوجاعها من رئة الزمن
ولّاعة و مطفأة تنتظران آخر حريق
جريدة الأمس تلملم بفايا كلمات متقاطعة
فجأة .......
يضطرب رقّاص الساعة
يتبعثر الوقت .....
يلغي المبتدأ و الخبر و العنوان و المرسى
عجبا......
كيف أخذني الليل الى أحضانه ؟
أسافر فيه وحيدة بلا حقائب
أسلك ربيع الأمس و أعبر التاريخ بلا جواز
هنا حيث لا مسافر و لا طارق ليل
حيث ترتعش قناديل الرصيف من برد السراب
هنا حيث لا نجوم و لا قمر
حيث لا شيء غير الغياب و الضباب
هناك .......
سأنتظرك مثل ملكة مشوّهة بلا تاج
تسترق صدى الأيام
تحلم بموائد الكلمات
سأنتظرك مثل النورس المهزوم
يحاول ان يردّ الملح و النسيان ...
هل جفّ الرجاء و تلاشت الذكرى ؟
هل تاه الجواد في الصحراء
وضلّ عن نجمة الشمال؟
ياااا انت
يا قصيدة البنفسج
يا طيفا آسرا في أضلعي
أخذ عطر كل الفصول
و حمل حقائب الذكريات
و كل الاشياء
ياااا انا .
..يا روحا تشبهك في كل التفاصيل
يا حروفا أسكبها في عالمي الورقي
بحزن يعقوب
و وحشة يونس
و حسرة الشعراء
...................حسيبة صنديد القنّوني /تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق