الثلاثاء، 19 يوليو 2016

مقاربة نقدية / بين زمن الحدث وزمن السرد / عنوان القصة . دمع الأراجيح / للاساذ عبد الكريم الساعدي / > المصطفى بلعوام / المغرب

مقاربة نقدية :
بين زمن الحدث وزمن السرد
عنوان القصة : دمع الأراجيح
للأستاذ عبد الكريم الساعدي
/-
مصطفى بلعوام
/-
كيف أفكك تراجيديا الحياة بلغة رمادية باردة تتقد من نياح أراجيح معلقة بين الأرض والسماء وبين مطلعي يوم العيد ويوم القيامة؟ الأستاذ عبد الكريم الساعدي يقايض هنا في نصه على لغة السرد كي تقول ولا تحكي ما لا تستطيع اللغة أن تحكيه. أين هو الحدث ؟ وأين هي القصة ؟ وآية تقنية يستعملها الأستاذ في لغة القول من وراء القص؟ الحدث رماد والرماد طلسم الموت الغادر الذي حصد كل شيء في ليلة مقمرة بالامل بما فيها ابتسامات أطفال وزغاريد وطن كانت تتراقص في عيونهم. فلا قصة تقص ولا حكاية تحكى في النص. لأن الحدث صدمة والصدمة لا تفك طلاسمها بحكي أو بقَص بعد حين. وتلك هي قصة " دمع الأراجيح" التي تعتمد على تقنية سردية لا زمن لها غير زمن فجاعة الصدمة ذاتها.
١- تقنية السرد بلغة الرماد
يبدأ النص بسوْال يحتوي على غرابتين تتعلقان أولا بملفوظه اللغوي وثانيا بطبيعة علاقته بالسارد له : "- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك؟ ". السؤال يبدو كأنه استهلال لحوار ما بملفوظ لغوي ينفي عنه في ذات الوقت صفة المخاطبة لمرسل إليه. فالسارد له يسأل أو يتساءل من موقع ضمير المتكلم مستعملا ملفوظا لغويا تحمله لغة غير عادية من حيت بلاغية الكلمات التي تتضمنها في إيصال المعلومة، مما قد يوحي بأنه صادر من جوانية حوار أو على الأقل من حوار داخلي. هل هو بالفعل ملفوظ صوتي لسارد له داخل حوار داخلي ؟ وهل الاستهلال به في النص له وظيفة معينة في تقنية السرد ؟
فرضيتنا أن هذ السؤال أو التساؤل الاستهلالي يبنين النص من أوله إلى آخره ، إذ يعتمد عليه القاص في تثبيت الحدث أكثر من الاعتماد عليه في البحث له عن جواب. لنقل إنه إعادة صياغة لموجود مرعب لا جواب على ما يتضمنه من أسئلة غير النص ذاته. 
"- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك ؟". إنه سوْال أو تساؤل يبدو حينيا للحدت من حيث زمنية ملفوظه اللغوي غير أن أسلوب صياغته البلاغية يخلق تشويشا على مستوى علاقة السارد له بظرفيته الزمنية. فيدفعنا إلى القول بأنه يكتب زمنين في زمن واحد :
١- الزمن الأول :
- زمن الحدث/ الصدمة : رماد الجثت.
٢- الزمن الثاني: 
- زمن ما بعد الحدث/ الصدمة : فك طلاسم لغة الرماد. 
يتوزع النص إذن على هذا النحو :
١- الزمن الأول :
يبدأ بزمن الحدث :
" - كيف أفك طلاسم الرماد وأستدل عليك؟
أعزف لحن الدعاء صامتا، مرعوبا حد الثمالة، أسير بخطى حثيثة نحو الموت، نحو الفجيعة، أحرم لمناسك العويل في حضرة الجحيم ورائحة شواء أشلاء الموتى ، في جثت مفحمة، بلا ملامح، وأخرى متشابهة، تشكلت من لحم متناثر، فكان لها طعم واحد، طعم الموت لا غيره.
- أيهم أنت ياولدي ؟ من يدلني عليك ؟ ". 
زمن الحدث هنا هو مشهدية الفجيعة/الصدمة بلغة إنزياحية متاخمة للشعري وللإنشائي حيث الكلمات تبدو مبنية على إيقاع وصور موسيقية: أعزف/لحن، دعاء / صمت ، الثمالة / طعم الموت، شواء / أشلاء، فجيعة / جحيم. من أين تجد شرعيتها في ملامسة حدث تراجيدي ؟ ولماذا اختارها الأستاذ عبد الكريم الساعدي ، سواء أكان ذلك هو أسلوبه في كتابة القصة أم لا ؟ الجواب نجده في النص ذاته حيث السارد له يقول : " مرعوبا حد الثمالة ".
إنه أمام رعب/ صدمة، له مخرجان لا ثالت لهما : حالة توحد أو حالة جنون . الرعب هنا تدمير مباشر لقدرات العقل على تصوره : رائحة شواء / أشلاء الموتى/ جثت مفحمة / لحم متناثر.. لكنه عِوَض أن يتحول إلى حالة توحد أو شيء آخر ويشتغل في الصمت ينقلب إلى ضدّه فيتحول إلى ثمالة تسكر العقل ولغته. إن لغة الأستاذ عبد الكريم الساعدي في القصة هي لغة ما بعد الحدث، لغة جنون كوسيلة وحيدة لفك طلاسم لغة الرماد القابضة على الروح. الرعب لا لغة محايثة له، إنه شحنة تقوض اللغة والفكر وما يأتي بعده ليس إلا محاولة بائسة لتفريغه في لغة ثانية وزمن ثاني له.
٢- الزمن الثاني :
وهو زمن استرجاعي يحاول إعادة حيثيات ما قبل الحدث وسياقه " في تلك الليلة الغاصة بالمسرات الباذخة بالطيب والصفاء، كانت الأضواء تتراقص في حلة من الألوان البراقة، ممزوجة بفرح الطفولة.(..) الأطفال تحدق في مرايا الأراجيح ، تلوح لهم بذراع من سرور عند طرف الزقاق، مصفوفة بين جذوع النخيل واحدة قرب الأخرى، يغرد الأمل على حبال وصلها كبلبل فتان :
- بابا، متى تأخذني لتلك الأراجيح ؟
- عند مطلع العيد.. سنكون هناك ."
الزمن الاستراجعي يحاول التمسك ببهجة ما قبل الحدث في لغة حالمة ليضعها في علاقة تباينية مع هول الحدث ولغته الرمادية ، وينتهي بحوار غريب في موقعته داخله، بدون مقدمة أو إشارة . يسقط هكذا كما سقط الحدث:
"- بابا ، متى تأخذني لتلك الأراجيح ؟
- عند مطلع العيد .. سنكون هناك . " 
هو حوار يتيم في النص يؤجج مفعولات الصدمة التي تجد نفسها على شقين : شق صدمة الحدث وشق صدمة ما بعد الحدث الذي يسترجع ما قبله. الحدث ذاته كان رعبا وما يزيد من حدة الصدمة هو فظاعة الأشياء الجميلة التي لن تعود أبدا وفي نفس الوقت نسترجعها كأنها لم تغب أو تمت أبدا : فرح الطفولة. إنها طريقة أخرى في كتابة القصة التي لا تعتمد على منطق الزمن الكرونولوجي أو الموضوعي بل على زمن الحدث وما قبله وما بعده كعناصر متداخلة فيما بينها تعطينا نصا سريالي الزمن في فجيعته. وهذا ما سيتأكد في بقية السرد إلى حدود :
-" أيهم أنت، ياولدي ؟، هذا..لا، هذا، بل هذا..من يدلني عليه.
يهزه صوت خفي :
- للجثت المتفحمة رائحة واحدة، لا يعرفها إلا الأمهات . "
من هنا يتحول السرد والسارد له في علاقتهما بالحدث وينفتح على صوت آخر غريب الصياغة : " يهزه صوت خفي". صوت لا نعرف ضميره ولا نعرف علاقته بضمير المخاطب، إنه صوت الفاجعة الذي يحيل إلى الأمهات ، إلى الآخر ، إلى تراجيديا حياة مجتمع ، إلى أحلام تسرق من عيون الأطفال وإلى الأراجيح اليتيمة التي تنشد النواح حتى مطلع القيامة.
وهو الصوت ذاته الذي يعطي للنص قيمته من حيث لغة القص التي لا زمن لها غير زمن الكتابة؛ كتابة تتأرجح في تحايل تقني بين الزمن الأول والزمن الثاني ، نفقد معها بوصلتها السردية..
انتهت..
/-
عنوان القصة : دمع الأراجيح
القاص: عبد الكريم الساعدي
- كيف أفك طلاسم لغة الرماد وأستدل عليك ؟
أعزف لحن الدعاء صامتا، مرعوبا حد الثمالة، أسير بخطى حثيثة نحو الموت، نحو الفجيعة ، أحرم لمناسك العويل في حضرة الجحيم ورائحة شواء أشلاء الموتى، في حضرة جثت متفحمة، بلا ملامح، وأخرى متشابهة، تشكلت من لحم متناثر ؛ فكان لها طعم واحد، طعم الموت لا غيره :
- أيهم أنت ، ياولدي ؟، من يدلني عليك.
في تلك الليلة الغاصة بالمسرات ، الباذخة بالطيب والصفاء، كانت الأضواء تتراقص في حلة من الألوان البراقة، ممزوجة بفرح الطفولة، محفوفة بنجوم حالمة، وصبايا مجدولات بالغنج، الأشياء تنساب في فرح، الناس تمتطي أهازيج العيد، ثملة بالأماني ، الأطفال تحدق في مرايا الاراجيح ، تلوح لهم بذراع من سرور عند طرف الزقاق، مصفوفة بين جذوع النخيل، واحدة قرب الأخرى، يغرد الأمل على حبال وصلها كبلبل فتان :
- بابا، متى تأخذني لتلك الاراجيح ؟
- عند مطلع العيد، سنكون هناك
أمرر أصابعي على وجه الكون ، أتذكر وجهك، عينيك المفعمتين بالنور، يالهما من عينين ! حين تبسمان في وجه السماء، تزهر الأقمار في السماء ، وتضيء كنجمة بعيدة في ليالينا الموحشة: فجأة يغيب مشهد بهجتنا على أعتاب صوت الناعي؛ فنصحو على عزف جنائزي مترع بالوحشية، يخفق قلبي لمطلع تلك الليلة، لم يكن فجرا، كان فجيعة معتقة بالجحيم، منذرا بقيامة جديدة؛ تكشف لنا عتمتها، وغزل جاكته عناكب حمالة الحطب، ليلة مزينة بالخداع، تحتطب عريها، تضرم النار في وجه الجمال، تشوه معالم البراءة والنقاء ؛ يبدو هذا الليل مخادعا، يتحايل علينا، كي يوسمنا بالحزن الأبدي؛ يحاصرني الذهول من كل صوب، يرتديني الجنون معطفا باليا، بريق دماءنا على دكة التكبير؛ لماذا نموت، وتسرق الأحلام من عيون الأطفال ؟
- أيهم أنت ، ياولدي؟، هذا.. لا، هذا، بل هذا.. من يدلني عليه.
يهزه صوت خفي :
- للجثت المتفحمة رائحة واحدة، لا يعرفها إلا الأمهات .
الأمهات يفترشن عباءة الذهول، يتوضأن ببقايا رماد، يرهفن السمع لصدى صرخة مشروخة، ترددها حيطان متشحة بالسخام، لأنين طويل، لزفرة قتيل، ينزل بوح خفي من نافذة السماء ، النسوة يحدقن في الجثت المتفحمة دون أن يطرف لهن رمش، يأخذن قبضة من أديم الرفات، تخفق القلوب، تشهق برائحة القماط وعبق الكركرات، الأمهات يحتمين بصوت المسحراتي، يتدثرن بالسواد؛ فتراني مجنونا يلوك شفاه الخيبة، أغرق في بحر الغياب، أحمل ما تبقى من روحي المتفحمة، أركض حافيا في الشوارع، أتشكل طقسا ملتاعا بكامل الفجيعة ؛ فتتوارى الضحكات ، التهاني ، الحلوى ،الدمى ، الملابس الجديدة ، العيديات، خلف ظلال موت شاخص على رصيف العيد ، بينما الاراجيح وحدها ظلت باكية ، تهرق دمعها ، تنشد النواح حتى مطلع القيامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق