الجمعة، 8 يوليو 2016

قصة قصيرة / سلاح بارد / بقلم الاستاذة منى الصراف / العراق

قصة قصيرة
سلاح بارد
حين نريد أن نحفر قبراً لعدو ستحفر حربنا عشرين قبراً بظلاله من الناس الأبرياء . 
ان بين العدو وحربنا شيئاً مشتركاً هو القتل . وحين يقتل المدنيين عن غير قصد نوصفهم بالخسائر المحاذية لتصبح الخسائر المحاذية تلك رقماً أضخم بكثير من قوائم موتى العدو ، وتصبح عندها لا عدالة بتلك القضية وهذه الحرب . 
حين هطلت القنابل على مقربة من بيتي وصراخ اولادي لم يكن لي الخيار سوى الفرار . 
الحرب بغيضة وهناك من يتغنى بها دون أن يخوضها حتى ... 
رجل طموح ونزاع مسلح وأعادة تنظيم جغرافية سياسية ، حربا بالوكالة اتسعت لتشمل البر والجو والبحر . 
قائد مغرور بيده المال والنار . 
أمتلأت أرض البلاد بالعسكر وزادت وتيرة الاعتقالات والاغتيالات وأبادة جماعية للبشر في حدودها الشمالية . 
محطتان للتلفزيون تتغنى بالقائد واغنيات اخرى فجة بحب الوطن والدفاع عنه .. 
العرب داخل البلد يعملون بكافة المهن وبأمتيازات مغريه جعلتهم يتوافدون اليه بشغف كبير عملوا بالوكالة عن رجالاته الذين ذهبوا للدفاع عن حدوده الشرقية .
شباب وشيب وحتى الغير مؤهلين لحمل السلاح زحفوا بأمر الأب القائد نحو الموت ، لا يثنيهم الخوف وحتى الجوع من الدفاع عنه . 
كيف يكون الانسان مخلصا لوطن عاش به جائعا !؟ . 
كانوا حتى لا يمتلكون أجور التحاقهم الى جبهات القتال ، وحين عودتهم من الموت بأجازة مؤقتة لبضع ايام يستجدون أجور العودة . 
أما موتي الحقيقي كان هو فقداني القدرة على الصراخ ، هربت مع اولادي الى بيت أهلي ليكون موتنا جماعيا بقبور توحدنا معا .. وزوجي وضع أكليل البارود فوق رأسه وذهب للدفاع عن الوطن . 
كانت تتوسله أن تغادر هذا البلد الذي لم يشموا منه سوى رائحة الموت وطعم الدخان ورغيف خبز اسود ملطخ بالذل . 
قالت له مرة : 
- أنت تريد الموت ، تهرول وراءه ، ألا تشبع هذه الأرض الشحيحة من الدماء !؟ 
اجابها ببعض كلمات وهو كان عند باب الدار يهم بالخروج مودعا لها واولاده 
- لو متُ نزفاً كان خيراً لي من أن اعيش الحياة بدم فاسد ! 
أن الشجاعة يا زوجتي الحبيبة أن أموت مرة واحدة ليس كما هو الجبان يموت ألاف المرات . ردت عليه والدموع تنهمر بحرقة لوداعه 
- والله يا حبيبي جبان وتعيش معنا أفضل من شجاع تحت الثرى ! 
أن الموت قبيح وقاس وعتيق سلبَ مني الابتسامة حين قتل أخي وأبي بيد هذا القائد لا لشيء سوى قولهم لا ، حتى رغباتي أصبحت أثم امامه . ألا ترى امامك كل يوم تزف محلتنا الموت بأكاليل الغار ! الموت موجع صدقني 
رد عليها بكلمات اخيرة له 
- حبيبتي الموت لا يوجع هو فقط يؤلم الاحياء . 
زادت وتيرة الحرب واصبحت اكثر شراسة . 
قطعت جميع الاخبار من جبهات القتال ، مضت اشهر ولم يعد ذلك الزوج الشجاع ، اصابها اليأس والخوف والأرق ، وأولاد صغار ما انفكوا يسألون عن عودة والدهم ليل نهار . 
كانت تحب الحياة وتخاف الموت ، لكنها لاتنسى كلمات زوجها حين كان يرى هذا الخوف بعينيها مع كل صفارة لأنذار في المدينة 
- حبيبتي كلنا ننهزم امام الموت لكن لا شيء افضع من الهزيمة امام الحياة ولكي نعيش هذه الحياة علينا أن نمتلك الكرامة ولكي نعيش هذه الكرامة فلا طريق غير الموت ! . 
الموت والكرامة كلمتان سببت لها الأسى الكبير والأرق الدائم في الربط بينهما ! 
في ظهيرة يوم حار من الصيف لشمس بلاد لا ترحم حتى الفقراء منهم .. سمعت صوت نساء ورجال المحلة وهنْ يصرخن وجعاً لم يكن هذا العويل جديداً على مسامعها ، قالت لعله شهيد أخر حل ضيفاً في داره لأخر مرة مودعاً لاهله لقبور ما عادت تكفي ابناءها . 
طرقت باب دارها ، فتحت الباب مسرعة رأت زوجها مغطى بالدماء من شعر رأسه الى أخمص قدمه وبدلته العسكريه المهترئة قد امتلأت بالدماء ، والرجال ونساء المحلة التفوا حوله وهم بحالة صدمة كيف لميت يسبر على قدميه . 
نظرت اليه وقلبها خرج من جوفه بدقات متسارعة وقدم ترتجف اصابها الوهن ، دخل الزوج الى البيت وهو في حالة شرود لم ينطق بكلمة واحده او يرد على استفساراتها المتسارعة وهي تتلمس جسده قطعة قطعة لتكتشف اماكن الجراح ، خلعت عن جسده كل ملابسه وهي تفتش بدقة ، لم تجد اي اثر لجرح واحد . اصابها الذهول وهي تسأله من اين اذن كل هذه الدماء ، توسلته كي يتحدث لكنه آثر الصمت . 
كان يمتلك قلباً حساساً لم يجد له نافذة للتعبير سوى الانسحاب والصمت . 
حاولت لأيام طويلة ان تتحدث اليه لتجعله ينطق ولو بكلمة واحده ، لكنه فقد حتى تلك الروابط والمشاعر وعلاقته مع الاولاد والاسرة لم يستطع النوم ساعة واحدة ، أرق دائم وعدم القدرة على التركيز حتى أن حركة عينيه كانت تتسارع بين لحظة واخرى تعطلت حالته الأدراكية في الزمان والمكان . 
لم يمنحه الطبيب النفسي سوى بضع عقاقير مسكنه ومخدرة لم تساعده في عودة الوعي اليه ولو للحظات . كان الصمت هو سيد هذا الجسد المنهك . 
واعلن اليوم انتهاء الحرب بعد سنوات طويلة حرباً لم نكسب منها متراً من الأرض المتنازع عليها والعوده الى مربعها الأول وخسائرنا فاقت الاحزان . 
امتلأت سماء البلاد باصوات العيارات النارية ابتهاجا لوقف الحرب كانت تلك الفرحة كأنها جبهة جديدة فتحت لها النار في الداخل . ووطن لم يبقَ فيه سوى الأرمل والثكالى والشيوخ والاطفال اليتامى . 
اصاب زوجها هزة نفسية عنيفة واخذ يصرخ باعلى صوته ويسحب أثاث الدار وجعلها له ساتراً اختبىء وراءه وهو يردد : 
- هيا أرمِ اطلق النار على العدو مالي أراكَ قد ذهلت .. كأنه كان يحدث شخص أخر بجواره يردد كلمات ليشد من عزيمة الجنود 
- أن أشرف موت هو موت الشهداء وأن الخوف من الموت هو موت مدى الحياة، كلنا سنواجه الموت وحدنا سيكون لنا الموت طريقاً الى الحياة ، هيا اطلق النار على العدو .. 
اطلق .. دموعه تنهمر كأنها حمم بركانية ، ركضت زوجته اليه احتضنته بقوة وهي تبلغه ان الحرب قد وضعت أوزارها وهذه مجرد أطلاقات نارية فرحاً لوقفها ، زاد صراخه وعويله ، قالت له اخبرني ارجوك مابك تحدث فقط الي ما الذي حدث بالله عليك ، احتضنها وهو يضع رأسه بين قدميها قالا لها
- قتل اصحابي بين احضاني وقطعت من بعضهم الرؤوس امام عيني وهم يطلقون النار بشدة وبشكل مكثف على العدو ، والعدو لم يكن سوى اطفال صغار هجموا علينا بالمئات ونحن خلف الساتر ، اصابني الذهول والصدمة من هول المنظر واصدقاء خلف الساتر يصرخون عليّ اطلق النار .. اطلق النار .. هيا ارمٍ ٍِ ... حرقت أناملهم حرارة سلاحهم وقتلوا واحدا تلو الأخر وغطت دماءهم جسدي ، أغمى علي ونقلت مع جثث القتلى الى المستشفى منحني الطبيب أجازة وأرسل أحد الجنود معي لوضعي مع أول مركبة تعود بي الى مدينتي ، لم استطيع أن اطلق النار على الاطفال ، كان سلاح اصدقائي نار وحرق اناملهم وهم يدافعون عني وعن الوطن وسلاحي ظل بارداً .. بارداً
منى الصراف / العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق