الأسطورة الواقعية رؤية مختصرة في:
(محرقة العمائم) لصالح هشام.. المغرب.
قراءة نقدية بقلم الناقد سيد عفيفي /مصر
.........................................
هذه القراءة :وأعو بعد تنقيح مجموعتي القصصية إن شاء ، ومن حين لآخر أنشر نصا من هذه النصوص التي أعدت قراءتها زيادة ونقصانا لأخرجها في أبهى حلة إرضاء للقارئ الكريم الذي يظل ملك الساحة الإبداعية، لكن الأجمل في هذه العودة هو أن هذه النصوص من حين لآخر تحظى برعاية أقلام نقاد متميزين من طينة الناقد الرائع سي سيد عفيفي الذي خبر طبيعة نصوصي السردية وحتى ما أكتبه من خواطر ، إذ يضفي حضور قلم هذا الناقد بريقا وجمالا للنصوص التي يقوم استكناه أسرارها وكشف سترها ومستورها تحليلا وتفكيكا للتشفيرات التي في أغلب الاحيان أوظفها دونما قصد ، لكن عندما يتناولها الأستاذ سيد عفيفي بالتحليل تتعزز مكانتها في النص وبالتالي تتعزز مكانتي في مجال السرد القصير ، لأني أكسب الثقة في نفسي ، وأحفز لأكتب الأجمل، ومن خلال هذه الدراسات الوافية التي يعالج من خلالها الأستاذ سيد عفيفي كل ما يتعلق بالنص من مقومات فنية، أستفيد عندما أكتب نصوصا جديدة أو أنقح وأهذب القديمة ، فالناقد يوجه الكاتب من خلال ما يقدمه من ملاحظات قد لا يراها أو يكون أغفلها عن غير قصد ، لذلك عليه أن يحسن الإصغاء ، والحقيقة أني جد مسرور لأن تلك الأنشطة السردية التي قام بها أبطال قصتي لم تضع هباء وإنما كافأها الناقد الكريم سي عفيفي بهذه الدراسة القيمة.
ولا يسعني إلا أن أتقدم للناقد الكريم بانحناءة احترام وتقدير وشكر لما بدله من مجهودات لإخراج هذا النص (محرقة العمائم) من العدم، كيف لا والنقد يوقظ النصوص من سباتها حسب جان بول سارتر.
القراءة النقدية **-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
أولا؛ العتبة : عندما نتصدى لكتابات الأستاذ هشام برؤية نقدية على استحياء إنما نهدف لإبراز العمق الذي يضمنه كتاباته، بالرغم من تشعب التيمة إلى ثيمات في غالب نصوصه، وبالرغم من الإسقاط الفكري المتعدد الذي تتميز به موضوعاته، لذلك عندما يطرح هذا الكاتب الجاد نصا جديدا للقراءة يستفز أقلام النقد التي على غرار جديته، وكلما قدمت في إنتاجه نقدا استقللته ورأيت من نفسي إجحافا لحق الحرف والحرفية، ولأن هذا النص – محرقة العمائم- يمتد مع جذور الفلكلور العربي أجمع، ومن زاوية الأسطورة والتخييل والربط بين المرئي واللامرئي، فرأيته حقا واجبا أن أقدم فيه هذه الأطروحة، جامعا فيها بين النقد الأدبي والنقد الاجتماعي سواء بسواء.
لدينا في مقدمة النص عتبة اعتيادية هي العنوان المتصدر (محرقة العمائم) وهو يرتبط بشكل مباشر مع تيمة النص بل جزء منها حرفا وفكرا، محملة بالانزياح من فعل الحرق الظاهر إلى ما هو أبعد، ومن صورة العمائم إلى رمزيتها، فحرق العمائم وهي زينة الرؤوس تعني نارا تأكل العقول الفكر، ثم تنطفئ ليعم الظلام المادي والمعنوي في هذه البيئات المعدمة المهمشة.
ثم لدينا عتبة استثنائية أخذها الكاتب بحرفيتها من أقوال الفيلسوف والمفكر الفرنسي (سارتر) ووضعها كتقدمة للمتن الطويل، وعلى القارئ أن يختزن هذه المقولة لسارتر في هامش عقله طوال عملية القراءة حتى يدرك ماهية الرابط بينها وبين النص، ليخلص بآخرةٍ أن مقولة سارتر متشظية فى التيمة الأساسية وهى أسطورة عشق أنثى من الجن لبشري، وفي التيمة الختامية وهي استغلال مضمر من كبير القوم لمصائب المستضعفين، لولا أن مقولة سارتر هذه هي أول ما يجب التشكيك فيه، فهو يوجب التشكيك في كل، وليس من حقه التوجيه والمصادرة على كل ما كتبه الرجال عن النساء، ولو كان منصفا لأوجب التشكيك فيما كتبته النساء عن الرجال بالمثل ولنفس السبب، أن كل منهما خصم وحكم، وأهم ما يسقط قول سارتر أن من الرجال حكم عدل، ومن النساء كذلك.
وإذا كان سارتر بمقولته يحاول إزاحة تهمة الغواية الأولى عن حواء فهي مزاحة بالفعل في قوله تعالى من سورة طه (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) وإذا كان يزيحها بوجه العموم فهي كذلك مزاحة بالعقل السوي، ففعل الغواية مشترك لا يتحمل تبعته جنس واحد، فهذا يوسف الصديق يرد في حقه (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) وبناء عليه فكل من أراد العصمة بحزم عصمه ربه سواء كان رجلا أو امرأة.
ثانيا؛ أسلوبية السرد لدى صالح هشام
بخلاف السرد العنقودي الذي يتسم به أدب المغرب العربي.. ينتهج الكاتب أسلوب الفقرات المنفصلة المتصلة، كل فقرة تشبه قصة قصيرة جدا تنتج عن سابقتها وتفرز تاليتها، وأقول تشبه الققج لأنه يحرص على تكثيف الفقرة بالاستغناء عن الروابط الزائدة من حروف عطف وتوكيد واستدراك ونفي قدر المستطاع، فيزيد بذلك من قوة المتن وصلابته، ويجفف منابع الترهل والتكرار ليقدم محاضرة لغوية جنبا إلى جنب مع التيمة، ومع هذه القوة يضمن بعض المجازات والصور الشعرية العميقة ليدعم جانب التوصيف مثل (فينطق الخواء، تلتهم النيران العمائم، يقضم من برنوس الليل الأسود، ستذبل زهرته، فتسيل شعابها بأضواء القناديل الباهتة...إلخ)
بالإضافة إلى ذلك يظهر في بعض مراحل النص لسانا مغربيا دارجا من كلام العامة يعرض ببساطة تطور وتحور اللغة العربية كما في كل أصقاع الوطن الكبير مثل (آ عيشة، آ عويشة) وهاهنا اختزال لحرف النداء من (يا) إلى (آ) وتحريف للاسم العربي (عائشة) بتحريك الهمز المكسور نحو الياء (عيشة) وكل ذلك من قبيل تسهيل ما يثقل لفظه.
يلاحظ كذلك في أسلوبية كاتبنا ميله للتزمين في المضارع مع ترصيص الجمل المتلاحق والسريع بما يخدم الحركية والوصف والتصوير مع فصل الجمل فقط بالفارزة لتفعيل دور عدسة القارئ التي يجب عليها التقاط المشاهد المصورة بالكلمات في كل جملة، وهذه المشهدية سوف تغني القارئ عن البحث في معاني الكلمات بوجه عام حتى إذا استغلق عليه بعض المفردات فيستطيع إدراك معناها الجزئي من المشهد الكلي.
فضلا عن ذلك ينوع كاتبنا في الاسترسال بالسرد، بين القص عن الغائب بعين السارد، وبين القص بضمير المتكلم الحاضر، وكذلك بنمط الحوار المزدوج (دايالوج) أو الحوار الجماعي، فيفسح للقارئ مجال التنوع والانتقال والارسال والاستقبال بما يضمن متعة اضافية للسرد.
ضف إلى ما تقدم عناصر التشويق والفضول ولهث القارئ خلف السارد لملاحقة تصاعد الحدث من التمهيد إلى العقدة ثم إلى حلحلة الموقف مع التعقيب الختامي.
ثالثا؛ الأسطورة الواقعية
قد يكون غريبا أن نطلق على الأسطورة أنها واقعية، وتلك حالة خاصة من الماورائيات تنتشر في المجتمعات المسلمة بخاصة، وهى تلك التداخلات المستمرة بين العالم المرئي ونظيره الغير مرئي، وليس المقام مقام إثبات وجود هذا التعالق بين الإنس والجن من عدمه، فقد حسمت القضية سلفا بنصوص دامغة في الشريعة، والمقام هنا للتذكرة فقط، فلننظر إلى توصيف القرآن لأحد جوانب هذه العلاقة (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون..الأنعام) ودل ذلك على أن الوحى بينهما عملية تبادلية وليست من طرف الجن بالوسوسة فقط.
وقد ورد في شأن القرين كثير من الأدلة الدامغة من القرآن (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم.. وقال قرينه ربنا ما أطغيته، وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) ثم قال عن نوع آخر من التداخلات (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)، ولا ننسى تسخير الله جيوش الجن للنبي سليمان، وبنايتهم له محاريب وتماثيل وجفان، ومنهم من عمل بين يديه بالبناء والغوص، وتسخيرهم يستوجب تعاملا مباشرا وماديا.
أما من السنة النبوية فلنقرأ حديث أبي هريرة عن الجن الذي كان يسرق تمر الصدقات وكيف كان يتحدث لأبي هريرة وجها لوجه حتى قبض عليه الصحابي غير مرة، مما دل على إمكانية التواصل والرؤية والاستماع بين العالمين في أضيق الحدود، ثم لنقرأ حديث الصحابي (يعلى بن مرة) الذي كان رديف النبي في سفرة فاعترضتهم امرأة تشتكي حال ابنها الممسوس إلى النبي وكيف عالجه صلى الله عليه وسلم، فالتعالق بين العالمين مجزوم به نقلا وعقلا.
وهذه الحكايات التى تفترش مساحة من أذهان الناس ليست دخاناً بلا نار، يزكي نارها الجهل بالشريعة والتقصير في جنب الله، وسوف نجد في كل وسط اجتماعي ما يشابه هذه القصص لكن تجليها الأكبر يكون في الأوساط التي تتسم بظلام الجهل وعقم الفكر، لذلك هي أساطير عند الذين لا يصدقون بها ويرفضون وقوعها حتى لو كانوا في درجات علمية عليا، وهي واقع مصدق به عند الذين عايشوها عن كثب وتأثروا بها بشكل مباشر أو غير مباشر حتى لو كانوا أميين.
ومثل هذه القصص تتناقلها الشعوب بمسميات مختلفة لكنها جميعا تصب في اتجاه واحد، والحقيقة أنها تشكل جزء من وجدان الطفولة أيضا، ويستخدمها الأهل لقمع أهواء الطفل وتقويم مشاغبته، فينشأ على الخوف من المجهول، ويظل هذا جانبا مظلما في وجدانه ويخشى الحديث فيه، ولو أن من هؤلاء القوم أولوا بقية من علم وخوف من الله لخافهم الجن أنفسهم.
رابعا. التبئير Focalization
في قصتنا هذه نرى بؤرة عامة يتقاسمها البطل والشخوص في طول النص وهي بؤرة الخوف، ذلك الشعور المسيطر على الجميع، فالبطل يعود ليلا في ظلام دامس وهو خائف، فيتحقق الذي يخافه وربما أكثر مما كان يظن، ثم يعود لبيته فترتد أمه مذعورة لهول ما رأت عليه، ثم تنخرط الزوجة في الخوف ذاته، وبعد قليل يعم الخوف كل الحاضرين، إلا واحدا وهو كبير القوم، واختار له كاتبنا القدير بؤرة أخرى تصدر عنها كلماته وتصرفاته، تلك هي بؤرة المنفعة الخاصة، وفي ذلك إسقاط رائع من مجتمع قروي إلى مجتمع الدولة، ومنه إلى المجتمع الدولي كله، يريد الكاتب أن يقول ضمن ما يقول؛ إن عصا الحكم التي يستخدمها الحاكم هي التخويف، والمحكومون في عماية تامة ويفعلون ما يؤمرون، أما الحاكم نفسه فيستغل خوفهم لتحصيل منافع خاصة تسمها الدناءة والاستحواذ على حق الغير.
الخوف من المجهول يذهب بحلم الحليم، وعلم العالم، ورزانة الفاهم، نخاف من مجهول الفقر فيفتعلون لنا الفقر، نخاف من مجهول الحرب فيخططون لإحداثها، نخاف من مجهول المرض فيهملون في صنع الدواء، نخاف من مجهول الذنوب فيرسلون علينا جماعات التكفير، نخاف من مجهول التهميش فيعتنقون مبدأ الوساطة والرشوة والعمالة. هذا التلاعب بنفوس السواد الأعظم من الشعوب العربية هو ضمانة لبقاء سدة الحكم في أيدي ثلة المنتفعين إلى ما لا نهاية، وبيئة الجهل والفقر والمرض هي الحاضنة لتكاثر هذه الثلة وامتدادها عبر الزمان والمكان.
بقلم الناقد سيد عفيفي
(محرقة العمائم) لصالح هشام.. المغرب.
قراءة نقدية بقلم الناقد سيد عفيفي /مصر
.........................................
هذه القراءة :وأعو بعد تنقيح مجموعتي القصصية إن شاء ، ومن حين لآخر أنشر نصا من هذه النصوص التي أعدت قراءتها زيادة ونقصانا لأخرجها في أبهى حلة إرضاء للقارئ الكريم الذي يظل ملك الساحة الإبداعية، لكن الأجمل في هذه العودة هو أن هذه النصوص من حين لآخر تحظى برعاية أقلام نقاد متميزين من طينة الناقد الرائع سي سيد عفيفي الذي خبر طبيعة نصوصي السردية وحتى ما أكتبه من خواطر ، إذ يضفي حضور قلم هذا الناقد بريقا وجمالا للنصوص التي يقوم استكناه أسرارها وكشف سترها ومستورها تحليلا وتفكيكا للتشفيرات التي في أغلب الاحيان أوظفها دونما قصد ، لكن عندما يتناولها الأستاذ سيد عفيفي بالتحليل تتعزز مكانتها في النص وبالتالي تتعزز مكانتي في مجال السرد القصير ، لأني أكسب الثقة في نفسي ، وأحفز لأكتب الأجمل، ومن خلال هذه الدراسات الوافية التي يعالج من خلالها الأستاذ سيد عفيفي كل ما يتعلق بالنص من مقومات فنية، أستفيد عندما أكتب نصوصا جديدة أو أنقح وأهذب القديمة ، فالناقد يوجه الكاتب من خلال ما يقدمه من ملاحظات قد لا يراها أو يكون أغفلها عن غير قصد ، لذلك عليه أن يحسن الإصغاء ، والحقيقة أني جد مسرور لأن تلك الأنشطة السردية التي قام بها أبطال قصتي لم تضع هباء وإنما كافأها الناقد الكريم سي عفيفي بهذه الدراسة القيمة.
ولا يسعني إلا أن أتقدم للناقد الكريم بانحناءة احترام وتقدير وشكر لما بدله من مجهودات لإخراج هذا النص (محرقة العمائم) من العدم، كيف لا والنقد يوقظ النصوص من سباتها حسب جان بول سارتر.
القراءة النقدية **-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
أولا؛ العتبة : عندما نتصدى لكتابات الأستاذ هشام برؤية نقدية على استحياء إنما نهدف لإبراز العمق الذي يضمنه كتاباته، بالرغم من تشعب التيمة إلى ثيمات في غالب نصوصه، وبالرغم من الإسقاط الفكري المتعدد الذي تتميز به موضوعاته، لذلك عندما يطرح هذا الكاتب الجاد نصا جديدا للقراءة يستفز أقلام النقد التي على غرار جديته، وكلما قدمت في إنتاجه نقدا استقللته ورأيت من نفسي إجحافا لحق الحرف والحرفية، ولأن هذا النص – محرقة العمائم- يمتد مع جذور الفلكلور العربي أجمع، ومن زاوية الأسطورة والتخييل والربط بين المرئي واللامرئي، فرأيته حقا واجبا أن أقدم فيه هذه الأطروحة، جامعا فيها بين النقد الأدبي والنقد الاجتماعي سواء بسواء.
لدينا في مقدمة النص عتبة اعتيادية هي العنوان المتصدر (محرقة العمائم) وهو يرتبط بشكل مباشر مع تيمة النص بل جزء منها حرفا وفكرا، محملة بالانزياح من فعل الحرق الظاهر إلى ما هو أبعد، ومن صورة العمائم إلى رمزيتها، فحرق العمائم وهي زينة الرؤوس تعني نارا تأكل العقول الفكر، ثم تنطفئ ليعم الظلام المادي والمعنوي في هذه البيئات المعدمة المهمشة.
ثم لدينا عتبة استثنائية أخذها الكاتب بحرفيتها من أقوال الفيلسوف والمفكر الفرنسي (سارتر) ووضعها كتقدمة للمتن الطويل، وعلى القارئ أن يختزن هذه المقولة لسارتر في هامش عقله طوال عملية القراءة حتى يدرك ماهية الرابط بينها وبين النص، ليخلص بآخرةٍ أن مقولة سارتر متشظية فى التيمة الأساسية وهى أسطورة عشق أنثى من الجن لبشري، وفي التيمة الختامية وهي استغلال مضمر من كبير القوم لمصائب المستضعفين، لولا أن مقولة سارتر هذه هي أول ما يجب التشكيك فيه، فهو يوجب التشكيك في كل، وليس من حقه التوجيه والمصادرة على كل ما كتبه الرجال عن النساء، ولو كان منصفا لأوجب التشكيك فيما كتبته النساء عن الرجال بالمثل ولنفس السبب، أن كل منهما خصم وحكم، وأهم ما يسقط قول سارتر أن من الرجال حكم عدل، ومن النساء كذلك.
وإذا كان سارتر بمقولته يحاول إزاحة تهمة الغواية الأولى عن حواء فهي مزاحة بالفعل في قوله تعالى من سورة طه (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) وإذا كان يزيحها بوجه العموم فهي كذلك مزاحة بالعقل السوي، ففعل الغواية مشترك لا يتحمل تبعته جنس واحد، فهذا يوسف الصديق يرد في حقه (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) وبناء عليه فكل من أراد العصمة بحزم عصمه ربه سواء كان رجلا أو امرأة.
ثانيا؛ أسلوبية السرد لدى صالح هشام
بخلاف السرد العنقودي الذي يتسم به أدب المغرب العربي.. ينتهج الكاتب أسلوب الفقرات المنفصلة المتصلة، كل فقرة تشبه قصة قصيرة جدا تنتج عن سابقتها وتفرز تاليتها، وأقول تشبه الققج لأنه يحرص على تكثيف الفقرة بالاستغناء عن الروابط الزائدة من حروف عطف وتوكيد واستدراك ونفي قدر المستطاع، فيزيد بذلك من قوة المتن وصلابته، ويجفف منابع الترهل والتكرار ليقدم محاضرة لغوية جنبا إلى جنب مع التيمة، ومع هذه القوة يضمن بعض المجازات والصور الشعرية العميقة ليدعم جانب التوصيف مثل (فينطق الخواء، تلتهم النيران العمائم، يقضم من برنوس الليل الأسود، ستذبل زهرته، فتسيل شعابها بأضواء القناديل الباهتة...إلخ)
بالإضافة إلى ذلك يظهر في بعض مراحل النص لسانا مغربيا دارجا من كلام العامة يعرض ببساطة تطور وتحور اللغة العربية كما في كل أصقاع الوطن الكبير مثل (آ عيشة، آ عويشة) وهاهنا اختزال لحرف النداء من (يا) إلى (آ) وتحريف للاسم العربي (عائشة) بتحريك الهمز المكسور نحو الياء (عيشة) وكل ذلك من قبيل تسهيل ما يثقل لفظه.
يلاحظ كذلك في أسلوبية كاتبنا ميله للتزمين في المضارع مع ترصيص الجمل المتلاحق والسريع بما يخدم الحركية والوصف والتصوير مع فصل الجمل فقط بالفارزة لتفعيل دور عدسة القارئ التي يجب عليها التقاط المشاهد المصورة بالكلمات في كل جملة، وهذه المشهدية سوف تغني القارئ عن البحث في معاني الكلمات بوجه عام حتى إذا استغلق عليه بعض المفردات فيستطيع إدراك معناها الجزئي من المشهد الكلي.
فضلا عن ذلك ينوع كاتبنا في الاسترسال بالسرد، بين القص عن الغائب بعين السارد، وبين القص بضمير المتكلم الحاضر، وكذلك بنمط الحوار المزدوج (دايالوج) أو الحوار الجماعي، فيفسح للقارئ مجال التنوع والانتقال والارسال والاستقبال بما يضمن متعة اضافية للسرد.
ضف إلى ما تقدم عناصر التشويق والفضول ولهث القارئ خلف السارد لملاحقة تصاعد الحدث من التمهيد إلى العقدة ثم إلى حلحلة الموقف مع التعقيب الختامي.
ثالثا؛ الأسطورة الواقعية
قد يكون غريبا أن نطلق على الأسطورة أنها واقعية، وتلك حالة خاصة من الماورائيات تنتشر في المجتمعات المسلمة بخاصة، وهى تلك التداخلات المستمرة بين العالم المرئي ونظيره الغير مرئي، وليس المقام مقام إثبات وجود هذا التعالق بين الإنس والجن من عدمه، فقد حسمت القضية سلفا بنصوص دامغة في الشريعة، والمقام هنا للتذكرة فقط، فلننظر إلى توصيف القرآن لأحد جوانب هذه العلاقة (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون..الأنعام) ودل ذلك على أن الوحى بينهما عملية تبادلية وليست من طرف الجن بالوسوسة فقط.
وقد ورد في شأن القرين كثير من الأدلة الدامغة من القرآن (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم.. وقال قرينه ربنا ما أطغيته، وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) ثم قال عن نوع آخر من التداخلات (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)، ولا ننسى تسخير الله جيوش الجن للنبي سليمان، وبنايتهم له محاريب وتماثيل وجفان، ومنهم من عمل بين يديه بالبناء والغوص، وتسخيرهم يستوجب تعاملا مباشرا وماديا.
أما من السنة النبوية فلنقرأ حديث أبي هريرة عن الجن الذي كان يسرق تمر الصدقات وكيف كان يتحدث لأبي هريرة وجها لوجه حتى قبض عليه الصحابي غير مرة، مما دل على إمكانية التواصل والرؤية والاستماع بين العالمين في أضيق الحدود، ثم لنقرأ حديث الصحابي (يعلى بن مرة) الذي كان رديف النبي في سفرة فاعترضتهم امرأة تشتكي حال ابنها الممسوس إلى النبي وكيف عالجه صلى الله عليه وسلم، فالتعالق بين العالمين مجزوم به نقلا وعقلا.
وهذه الحكايات التى تفترش مساحة من أذهان الناس ليست دخاناً بلا نار، يزكي نارها الجهل بالشريعة والتقصير في جنب الله، وسوف نجد في كل وسط اجتماعي ما يشابه هذه القصص لكن تجليها الأكبر يكون في الأوساط التي تتسم بظلام الجهل وعقم الفكر، لذلك هي أساطير عند الذين لا يصدقون بها ويرفضون وقوعها حتى لو كانوا في درجات علمية عليا، وهي واقع مصدق به عند الذين عايشوها عن كثب وتأثروا بها بشكل مباشر أو غير مباشر حتى لو كانوا أميين.
ومثل هذه القصص تتناقلها الشعوب بمسميات مختلفة لكنها جميعا تصب في اتجاه واحد، والحقيقة أنها تشكل جزء من وجدان الطفولة أيضا، ويستخدمها الأهل لقمع أهواء الطفل وتقويم مشاغبته، فينشأ على الخوف من المجهول، ويظل هذا جانبا مظلما في وجدانه ويخشى الحديث فيه، ولو أن من هؤلاء القوم أولوا بقية من علم وخوف من الله لخافهم الجن أنفسهم.
رابعا. التبئير Focalization
في قصتنا هذه نرى بؤرة عامة يتقاسمها البطل والشخوص في طول النص وهي بؤرة الخوف، ذلك الشعور المسيطر على الجميع، فالبطل يعود ليلا في ظلام دامس وهو خائف، فيتحقق الذي يخافه وربما أكثر مما كان يظن، ثم يعود لبيته فترتد أمه مذعورة لهول ما رأت عليه، ثم تنخرط الزوجة في الخوف ذاته، وبعد قليل يعم الخوف كل الحاضرين، إلا واحدا وهو كبير القوم، واختار له كاتبنا القدير بؤرة أخرى تصدر عنها كلماته وتصرفاته، تلك هي بؤرة المنفعة الخاصة، وفي ذلك إسقاط رائع من مجتمع قروي إلى مجتمع الدولة، ومنه إلى المجتمع الدولي كله، يريد الكاتب أن يقول ضمن ما يقول؛ إن عصا الحكم التي يستخدمها الحاكم هي التخويف، والمحكومون في عماية تامة ويفعلون ما يؤمرون، أما الحاكم نفسه فيستغل خوفهم لتحصيل منافع خاصة تسمها الدناءة والاستحواذ على حق الغير.
الخوف من المجهول يذهب بحلم الحليم، وعلم العالم، ورزانة الفاهم، نخاف من مجهول الفقر فيفتعلون لنا الفقر، نخاف من مجهول الحرب فيخططون لإحداثها، نخاف من مجهول المرض فيهملون في صنع الدواء، نخاف من مجهول الذنوب فيرسلون علينا جماعات التكفير، نخاف من مجهول التهميش فيعتنقون مبدأ الوساطة والرشوة والعمالة. هذا التلاعب بنفوس السواد الأعظم من الشعوب العربية هو ضمانة لبقاء سدة الحكم في أيدي ثلة المنتفعين إلى ما لا نهاية، وبيئة الجهل والفقر والمرض هي الحاضنة لتكاثر هذه الثلة وامتدادها عبر الزمان والمكان.
بقلم الناقد سيد عفيفي
النص المقروء: قصة قصيرة
محرقة العــــــــــــــــمائم
محرقة العــــــــــــــــمائم
يجب التشكيك في كل ما كتبه الرجال حول النساء
لأنهم خصم وحكم في الوقت نفسه - جان بول سارتر -
لأنهم خصم وحكم في الوقت نفسه - جان بول سارتر -
يحزم أسماله على خاصرته، يأكل هرولة جنبات مسارب وعرة المسالك، يسابق سقوط كويرات البرد، فقد تكون بحجم بيضة دجاجة، وهي بهذا الحجم لا محالة تفرقع الرؤوس، فيمعن في الهرولة، تتحول خطواته الكبيرة ركضا، يجتاحه خوف شديد، تثقل قدماه وتشده الأرض، تحكم قبضتها عليه، فيقتلع قدميه اقتلاعا من كتل إسمنتية يابسة.
شيء ما غريب يمسك بأطراف جلبابه، يعوق سيره، يمنعه من الحركة، يكبر هذا الشيء، يتضخم ويشعر به ينتفخ كبالون، فيرتعب ويجر نفسه جرا كأنه صخرة ثقيلة... أنفاس حارة معطرة برائحة قرنفل تجتاح قفاه، تغمر جسده كله، يغرز عينيه في الفراغ، ثمة أنامل ناعمة، ملساء بدون أظافر، باردة برودة الموت تدغدغ حبيبة أذنه، ثم انتفاخ في القلب، وتورم في الأطراف، تعقبه قشعريرة تنفش أشواك رأسه.
قبضتان قويتان تعصران فوديه، فيحس بدوار شديد، وبرغبة قوية في القيء حتى الإغماء، تثقل خشبته، تتقطع أنفاسه، صوت لا صوت يشبهه، يسمع واضحا، رخيما رحيما، غريبا عجيبا، يقع همسات عذبة في أذنيه:
- حبيبي أتلبسني أم ألبسك؟ أتسكن إلي أم أسكن إليك؟ أ تحملني أم أحملك؟
يلملم ما تبقى فيه من قوة، يجمع أطراف لسانه المترهل، ويصرخ في فراغ مميت:
- من أنت يا امرأة؟ وماذا تريدين مني؟
همس أشبه بحفيف زهرات أشجار الدفلى يجيبه:
- أنا عروسك، أنا عروس البحر، أنا عروس البر، أنا عروس النهر، أنا ناقة الصحراء، بي هيفاء فرعاء تغنى الشعراء، ألا ترى أظلافي جميلة، كأظلاف سفينة الصحراء؟ أنا متقلبة المزاح، أنا كالحرباء كل الألوان ألواني، أوجد في كل زمان، وفي كل مكان منذ غابر الزمن.
تجتاح جسده رعشة باردة كالصقيع، يفقد اتزانه وتوازنه، تضيع منه مكابح الروح والجسد، تتشقق مصا رينه، فيفعلها ساخنة، وتستقر في قاع مداسه.
قضيب فولاذي مغروز في رقبته، يشل أطرافه تماما، يتمتم حروفا وجملا غير مكتملة المعاني، يحاول جمع شتاتها وترتيبها، لكنها تنفلت من لسانه المتخشب، فتركل أعلى سقف حنكه، يلفظها بصعوبة بالغة، ثم تندلق رخوة من شفتيه مترهلة، وتضيع في متاهات خيشومه، فينطق الخواء: نهنهة وحمحمة، حروفا متقطعة وأصواتا غريبة، وتتلاشى الهمسات في أغوار فراغ سحيق، فيتردد صداها في أذنيه كرنين مطرقة حديدية ترج سندانا.
يتخلص بمشقة من حبال مشدودة بأوتاد كبيرة، مغروزة في قلب الأرض، وكقذيفة طائشة يخترق العدم، يركب ريح الريح، يركض في كل الاتجاهات كحصان مجنح.
هسيس الكلاب، بصبصتها، نباحها المكتوم، حفيف الريح، خشخشة الأعشاب، تكتكة قدميه شبه حافيتين فوق التراب الناعم، أصوات نشاز، ممزوجة برنين الهمس، لم يكن ليميز منها شيئا.
يندفع في قعر بيته الطيني، مرتجفا مرعوبا، ثقيل الخطو، منهوك القوة، يتهاوى كتلة لحم باردة، لا أثر للحياة فيها، وبسرعة تتلقفه أمه بين ذراعيها، تسنده إلى ركبتيها، تصرخ.. تولول.. تحوقل.. تتف، وتردد تعويذات مبهمة، وتتلو آيات قرآنية، لا تحفظ منها شيئا:
- آ عيشة، آ عويشة، آ مولات المرجة أحجارك يشدوك: بس، بس، بس، ابني هذا العبد الفقير، لا هو من ثوبك ولا أنت من ثوبه، هو منا وأنت منهم.
تدس أصابعها بحذر في جسده، تبحث عن آثار تلك القبلة الدموية المسعورة، فيستفيق من نوبة صرعه وصراعه:
- هي إنها هي، مولات المرجة عيشة، لمستني وداعبت شعيرات قفاي، ها هي حرارة جسدها الناعم ما زالت تسد مسام جسدي، وأنفاسها تعطرني كلي، ها هي تهمس في أذني أنشودة عشق الجن للإنس، وتتلذذ بملوحة لحمي، وتعض حبة أذني، وتبوح لي بسرها، تعترف لي بعشقها وهيامها:
– حبيبي، ألبسني، فأنت لباسي، أسكن إلي، فأنت سكن لي.
تتكور حبيبات بلورية زجاجية على جبينه ككويرات البرد، تتدحرج ماسحة جغرافية وجهه الأصفر، وتندلق على صدره، فيهذي ويهلوس، وجبينه يعرق بغزارة، يشتعل جسده نارا كصفحة حديد ساخن.
تصرخ أمه العجوز، تولول وتعول:
- مس الرجل، سيضيع مني ولدي، سيضيع منك ومن أولاده يا امرأة.
تدخل زوجته الشابة الغرفة الكئيبة، تجر جسدها المنهوك، خائرة القوة، وتستند على ردفيها، وهي ترتجف كورقة توت ميتة صفراء، تفوح منها رائحة حليب قديم مندلق على صدرها، تحمل طستا نحاسيا، وخرقة قماش أبيض وقليلا من البخور، تضع شمعة في فانوس يتدلى من دعامة السقف كإجاصة مشنوقة، ويتوسط فناء الغرفة، تدغدغ فتيلتها بعود ثقاب، فتذرف دموعها ساخنة، تبكي الممسوس بحرقة، وتعدد مناقبه كعاشقة ولهانة.
تقعي المسكينة ككلب أمامه، تغمس الخرقة في ماء بارد في الطست، وتمررها على جبينه، تمسح عرق الحمى المتصبب من جسده، فينتفض كالمذبوح ويصرخ في وجهها:
- افتحي نوافذ هذه الخربة يا امرأة، أفسحي الطريق أمام الضيفة القادمة يا غجرية!
يتحجر سؤال حائر على شفتي أمه، وتضيع حروفه في الفراغ:
- من هي القادمة يا ولدي؟
وقبل أن تلملم أطراف سؤالها ينهرها بعصبية:
- اسكتي يا أماه، اسكتي ... ومن سيكون غيرها؟
تدحرج بطنها أمامها، تتعثر، وتتمسك بالحائط، تشرع النوافذ، وتفتح الباب فيحدث صريرا موحشا، تتسرب منه نسمات باردة، تراقص الستائر البالية، ويطرد نور كبريق البرق ظلمة الغرفة، ويمتص ضوء الشمعة الباهت. وتسري في أوصال أمه وزوجته رجفة رعب، يخبو ذلك النور شيئا فشيئا، وتهدأ النسمات المتسربة، وتستأنف الشمعة نشاطها، تسكب دموعها نائحة باكية.
يتسلل بهدوء من باب الغرفة المفتوح، بخطى ثقيلة نائما...صاحيا، وكمومياء متحركة يسير نحو المجهول، يلفه الظلام المسدول. ويطرق سمعه الهمس من جديد:
- أركض ...أركض ... ارحم نفسك ... هي لك وأنت لها، فدمك الأحمر امتزج بدمها الأخضر، فأنتما جسدان في جسد واحد، فلا إنس ولا جن بعد اليوم، فقط عبدة عشق قاتل ممنوع، جمال اتحاد وروعة حلول، اركض، فالركض خلاصك من إنسانيتك المعذبة.
كظبي يمتطي صهوة الريح، يحضنه جنح ليل على صدر الكون جثوم. وتضيع في الحلكة خطاه، وبصراخ مؤلم تفتض أمه بكارة الصمت المطبق:
- ولدي اختطف يا ناس، آه يا ولدي آه منك يا كافرة!
وتفقد وعيها، يهول زوجته الشابة حال الأم، فتصرخ وتستغيث، لكن كان صوتها رخوا متقطعا، أشبه بصياح دجاجة في مخاض. لكنه سرعان ما يجتاح تخوم القرية، فتسيل شعابها بأضواء القناديل الباهتة، ويمتزج نباح الكلاب بحفيف النسيم، بتكتكة النعال فوق التراب والهشيم في سيمفونية ليلية موحشة.
يتلاعب كبير القرية بعكازه، وبنبرة فيها شيء من الدفء:
- يا قوم، عيشة تضعف أمام شعلة النار، ففيها حكمة.
- من أين لنا بشعلة الحكمة هذه، يا سيد القوم؟
يستفسره القرويون، ويصيح فيهم بأعلى صوته:
- عدو ا معي... خطوة... خطوتان... ثلاثة... أحرقوا العمائم.
يتساءل أحدهم من بين الحشود، وبسؤال لا يخلو من تشكيك ومآخذ على كبير القرية:
-لكن ما علاقة ما يقع بإحراق عمائمنا يا سيدنا؟
يمسح الكبير على الرؤوس بنظرات شاردة لكنها واثقة:
- يا قوم اعلموا رعاكم الله أن العمامة غطاء الرأس، والرأس رأس الحكمة والقديسة، عيشة تتهيب من الحكمة، وتخاف شعلة النار، ألم تسمعوا بأنها أضاءت كهوف الجهل في زمن مضى؟ القديسة تكره شعلة بروميثيوس لأنها نور فيك، نور في، نور فينا جميعا، والنور سلاح ضد هوام الليل منذ الزمن الغابر، أليست هذه العفريتة هامة ليلية؟
تلتهم النيران العمائم، يومض ضوؤها كنور الشمس في عز النهار، ويقضم من برنوس الليل الأسود، في كل خطوة قضمة، في شعلة كل عمامة تحرق، كسر لصمت المرجة القاتل، وهتك لسر من أسرار العفريتة عيشة. هم يدركون مغزى حكاية المسكين وملكة هذه المرجة من طفلهم إلى شيخهم:
- صريع حب مستحيل، عاشق مجنون، والمعشوقة وهم لا خلاص منه، عاشق لا وجهة له غير هذه المرجة الزرقاء، هو يجهل تماما أن عيشة تنصب فيها فخاخ إغراءاتها، فتصطاد ضحاياها كالأرملة السوداء، شراكها ضوء مميت، دوما يجلب حشرات معتوهة.
تحت ضوء القمر الباهت، وأنوار العمائم المحروقة، يلوح شبحه مركوزا كالرمح مغروزا في الأرض، يدور في اتجاه عقارب الساعة بسرعة لولبية، ويشخر شخيرا غير عاد، بشخير الميت أشبه.
يقترب منه الأهالي بحذر، كتلة رغوة بيضاء، تغطي وجهه تماما، وعيناه جاحظتان شاخصتان إلى السماء، يقترب منه كبير القرية بتوجس:
- ههه يا ناس، هذه عيشة الجنية مجنونة بعشقه، تمتص منه رحيق نشوتها، وتتلذذ بجسده الغض وتمارس عليه شذوذها، وكرهها الأبدي للرجال، وبعد لحظات ستذبل زهرته، وسترميه عظما بلا لحم، فمن زوجته؟
تتقدم فتاة في مقتبل العمر، جميلة هيفاء يربت على كتفيها، ويطبطب على رأسها وبنبرة متقطعة حزينة:
- هذه ضرتك، هذه غريمك يا بنيتي، اقبليها... ستشاركك عشك، فمعركتك غير متكافئة، فماذا تودين قوله لها يا بنيتي؟
تنزلق دمعتان كبيرتان على خديها، ترفع عينيها إلى السماء وتتضرع:
- أختاه في العشق، والعشق جنون، خذيه روحا وقلبا، واتركيه لي عظما ولحما، يعز على غيابه.
تربت حمحمة حصان جامح على رؤوس أشجار الدفلى، وتتلاشى عبر شعاب المرجة الملعونة المتخمة بصمت الصمت، تهدأ حركة الرجل، يسكن جسده، ترتخي قبضتاه، وينام نومة ربما لا قومة بعدها. يتلاعب كبير القوم بضفيرتها السوداء المنسدلة على خصرها، يقترب منها ويهمس في أذنيها بصوت خافت:
- على سلامته، على سلامتك، وعلى سلامة أمه وأبنائه، هو الآن غائب / حاضر، لكنه سيعود إليكم سليما بإذن الله قبيل طلائع الفجر الأولى، لقد نالت منه وطرها حتى ارتوت، وهي منذ الأزل حال وأحوال، عشاقة ملالة.
الأربعاء / الخميس ٣~٤|٨~٢٠١٦
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق