تمظهرات الجوع .. في سرديات الشاعر "عامر الساعدي" (الخامسة... جوعاً)
بقلم/ حسين عجيل الساعدي
بقلم/ حسين عجيل الساعدي
((للذين لا يعرفون عن الإيديولوجيا غير
رغيف الخبز))
الشاعر "عيسى حسن الياسري"
رغيف الخبز))
الشاعر "عيسى حسن الياسري"
الأدب بكل تلاوينه يتخذ اللغة أداة ومادة أبداع، وهو عموماً إنعكاس للهم الإنساني، كاشفاً عن قضايا الإنسان ومشكلاته وقلقه الوجودي، والسرد جنس أدبي دُرج ضمن المفاهيم الحديثة في الساحة النقدية، لـه سماته الخاصة به، كنمط تعبيري عن الذات والواقع، فكثر تداوله في الدراسات النقدية العربية المعاصرة، في إطار حركة الحداثة الشعرية، التي خرقت البنية الشعرية التقليدية وشكلانيتها وأقصاء مقوماتها الشعرية، بمستحدث شعري جديد كواقع تميزت به معظم النصوص الشعرية العربية، فأحدثت تداخل بين النص الشعري والخطاب السردي.
والسرد لايمكن حصره في جنس أدبي معين، وإنما هو سمة (الخطاب اللغوي) بشكله العام، وأداة من أدوات التعبير، فمفهومه اللغوي (هو تقدمة شيء إلى شيء تأتى به متسقاً بعضه فى إثر بعض)، وبما أن السرد نتاج إنساني، فهو يأتي مركباً من عناصر لغوية ودلالية متأثر بالمحيط البيئي للسارد.
المرتكز المحوري في سرديات الشاعر "عامر الساعدي" يكمن في ثيمة سردية بارزة ألا وهي (الجوع)، ك(قضية) ومركز دلالي أختزالي في الخطاب السردي لمجموعته الشعرية. وموضوعة الجوع لا تتحدث عن مجتمع دون أخر، ولا فترة تاريخية دون أخرى، بل هي مشكلة تأخذ جوانب ومظاهر مختلفة، تبلور مأساة الإنسانية في بنيتها الأجتماعية والفكرية، وأدانة صريحة لبؤس الحضارة المادية بمظاهرها المختلفة، ليس من خلال فكرة (الجوع) بحد ذاتها فحسب، بل الأثر الذي تتركه توابع الجوع على الحياة الانسان المعاصر، الذي تجاوز الأثر الفسيولوجي الذي يوهن الجسد، إلى الأثر السايكولوجي وما يعكسه من فهم يرتقي إلى مستوى (القضية الإنسانية)، وما يعانيه الإنسان من قلق وجودي، وحرمان، وألم، وأنحرافات سلوكية.
الجوع في لغة العرب له مراتب مختلفة المعاني والدلالات، كأنما هو (محض تغير بيولوجي في صيرورة الكائن الحي). فعرفوه بأسماء ومراتب عدة، (الجُوعُ، ثُمَّ السَّغَبُ، ثُمَّ الغَرَث،ُ ثمَّ الطَوَى، ثُمَّ المَخْمَصَة،ُ ثُمَّ الضَّرَم،ُ ثُمًّ السُّعَار). والجوع من المراتب الذي وردت في القرآن الكريم (5 مرات)، كما وردت كلمة (المخمصة) مرتين، ووردت كلمة (المسغبة) مرة واحدة. نجد في هذه المسميات الثلاث بلاغة، رغم ما بينها من تقارب دلالي لأنها تشترك في معنى الإحساس بالجوع. كذلك هناك تمظهرات للجوع ليس بمعناه المعجمي المباشر الذي أراده الشاعر، وإنما معنى أخر يذهب بفكرة الجوع إلى شكل فني إبداعي معرفي فلسفي، أي البحث في الذات وخفاياها.
أن موضوعة الجوع عُولجت في الكثير من الروايات والمجاميع الشعرية كـ(آفة أجتماعية)، وجُعلت ثيمة مُنحت لأعمال روائية وشعرية، مثل رواية (الجوع) للروائي النرويجي "كنوت هامسون"، ورواية (لازمة الجوع) للروائي الفرنسي "جان ماري لوكلوزيو"، ورواية (بيوغرافيا الجوع) للروائية البلجيكية "آميلي نوثومب"، ورواية (دروب الجوع) للروائي البرازيلي "خورخي امادو"، ورواية (الجوع) للروائي المصري "محمد البساطي". كذلك نرى تجليات الجوع عند الشعراء "بدر شاكر السياب"، و"عبد الوهاب البياتي"، و"نزار قباني"، و"محمود درويش"، و"أحمد مطر"، و"أمل دنقل"، و" عبد الله البردوني" وغيرهم الكثير، الذين صاغوا قضية الجوع في قالب شعري، ورسموا صورة تعبيرية عن حالته، تقمصوا بها صوت الجياع، فكان له المساحة الكبيرة في نصوصهم. فأن أي مقاربة للجوع في هذه الروايات والنصوص الشعرية المختلفة لها دلالة مهمة وهي أن الجوع (ليس إلا موقفاً أيديولوجياً) في أذلال الإنسان وتغيير قناعاته.
السياق الحكائى مهيمن على ذاكرة الشاعر "عامر الساعدي" بما يتناسب مع الذات والواقع ليقدم رؤيته السردية التي تتموضع حولها الكثير من الحمولات الفنية والرمزية المعبرة عن قدرته في تجسيد الأبعاد الفلسفية والنفسية للجوع وتمظهراته المتعددة (لغوية، روائية، شعرية، رمزية، مجازية، فكرية)، هذه التمظهرات جسدت الرؤية الفلسفية للشاعر في أن هناك أزمة حضارية إنسانية، وخلل أخلاقي في البنية المجتمعية لها.
العنوان كما يرى "رولان بارت" حقل دلالي عن قصدية النص، و (الخامسةُ .. جوعاً) عنواناً تجريدياً، ذو أنزياح أبداعي له دلالته وفق منظور سيميولوجي وجمالي ودلالي، وإشارة أولية للمتلقي، فهو غني بالدلالة الرمزية، الذي أتخذ شكلاً توظيفياً وقدرة تأثيرية على مجمل البنية النصية للمجموعة. والجوع في سردية الشاعر "عامر الساعدي" الشعرية أيقونة لها بعدها السيميولوجي الذي يتعدى به حدود الدلالة المعجمية، ووجودها اللغوي، وتوظيفه فنياً كثيمة شعرية بارزة ترتكز عليها المجموعة السردية.
ظاهرة التكرار تعد من الظواهر البارزة في المجموعة، التي شكلت رؤية لتجربة الشاعر، وأداة فنية وأسلوبية وظفها الشاعر لتحقيق الغرض الفكري والتعبيري من خلالها. نرى (الجوع) ثيمة تكررت في عتبات النصوص وفي البناء النصي في المجموعة، وشكلت وحدة دلالية تكثيفية وأختزالية للمعنى (أمنيات الجياع/مدينة الجوع/جلباب الجُوع /صاحب الجلالة ( الجوع )/لون الجوع)، كذلك وردت ضمن النصوص أكثر من عشرين مرة، وهنا (التكرار له دلالات فنيَّة ونفسيَّة، يدلُّ على الاهتمام بموضوعٍ ما)، الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، "عبد الحميد جيدة"، ص67.
هذا الظهور المتعدد لمفردة الجوع، أختزل رمزية الجوع ودلالته الأجتماعية والسياسية، ورؤية الشاعر الفلسفية، المعبرة عن شاعريته وإنسانيته التي أوردها بحرفية منفتحة على وعي المتلقي.
أن للشاعر في مجموعته رؤيا سردية موحدة، وإن أحتوت على مضامين متنوعة، وعناصر متشعبة ومتباينة. فالوحدة الفنية لديه غنية في تنوعها، وفي لغتها الإبداعية والأسلوبية والتركيبية والدلالية، يستفز بها القارىء في حد ذاته. وقد أظهر في نصوصه السردية أنسجاماً وتوافقاً لغوياً وبنائياً في الدلالة والتشكيل.
فالشاعر "الساعدي" نسج على شطآن الجوع نصوصه السردية المفعمة بالمشاعر والأنفعالات، فأثارت قريحته وكأنه يسمع أنين الجياع، فجاءت نصوصه لوحة تنبض بألم الجوع، وأظهره كائناً خرافياً، يفترس ضحاياه.
في نظرة فاحصة الى نصوص المجموعة (الخامسة .. جوعاً) وجمالياتها الفنية، يظهر الشاعر كـ(ناقد أجتماعي)، يتناول مفاهيم أبعد من أن يوصف الجوع وصفاً مادياً فسيولوجياً، بل يطرحه كـ(قضية محورية) بصورته الرمزية المعبرة عن أزمة حضارة. تأخذ مستوى البناء الفني والأسلوب الخطابي المتعدد الرؤى، والأسئلة الوجودية التي تطلق في فضاء النص للوصل إلى القارئ، الذي يستنطق النص ويستنتج ببصيرته حقائق تلك المأساة وملامحها. فالشاعر "عامر الساعدي" يتبنى خطاباً سردياً متكاملاً، يمازج به بين الذاتية والموضوعية، وبين الرمز والصورة السردية المباشرة، ذات البناء السردي الحكائي الذي يعتمد رؤية لغوية في أساس تشكيل الصورة التى تحكم حالة الإبداع في النص، ويساهم في ترسيخ الخطاب السردي في ذهن القارئ وأستقطاب وعيه.
ومن الجوع إلى (رغيف الخبز) الذي شكل معادل موضوعي للجوع، وثنائية جدلية (الجوع/العبودية)، (الخبز/الحرية ) كونه سلعة قاهرة له، يتميز برمزية تكثيفية متعددة الصور والابعاد، ذات ثراء دلالي، يمكن توظيفه فنياً في النص، كذلك الخبز له بعده السيميولوجي، واللغوي الدلالي، والأبداعي الاسلوبي، حيث أستطاع الشاعر أن يستخدام أدوات شعرية متعددة من أجل تجسيد رؤيته الشعرية. حيث تمظهر الخبز في ديباجة الشاعر(الاهداء) كتطلع رمزي نحو الحرية، ((الى أصدقائي الجياع، الى من لم يصله الخبز، أقول: لم أكن يوماً جيفارا، أو أملك سلاحا كي أقارب البرجوازية، اكني مجرد كاتب يعيش تخمة البساطة، لكي أكتب معاناة تلك الأفواه التي تبحث عن الخبز، الخبز وما أعنيه(الحرية)، تأكدوا بأنني مواطن عراقي أحمل رسالة الجوع، كي ألقيها على مسامع الطغاة، الذين سلبوا خبز بلادي))، فقد ورد لفظ الخبز في عتبات النصوص أربع مرات (حزن الخبز/ خبز برائحة الدخان / الخبز نعش الحرية / مدن ينقصها الخبز)، أضافة الى وروده ثمانية مرات في نصوص المجموعة.
فالخبز رمز لكثير من الحضارات الإنسانية، ومادة رمزية دينية ذُكرت في الأديان السماوية وفي قصص الأنبياء. فقد جاء ذكره في ملحمة كلكامش الشعرية، في إشارة لأهمية رغيف الخبز وقدسيته في حضارة وادي الرافدين:(كل الخبز يا أنكيدو فهو عماد الحياة)، (وضعت خبز أمه أمامه فارتبك)، (أكل أنكيدو الخبز حتى امتلأ).
فـ(الرغيف أو الخبز) لفظة كُررت عنواناً لكثير من الأعمال العالمية والعربية الأدبية والروائية التي أخذت الاسم كرمز، كرواية (الخبز الحافي) للروائي "محمد شكري"، ورواية (بائعة الخبز) للروائي "كازافينيه دومونتبان"، ورواية (حزننا خبزنا) للروائي "مازن معروف"، ورواية (الرغيف ينبض كالقلب) للاديبة "غادة السمان"، ورواية (الرغيف) للروائي "يوسف عواد"، ورواية (خبز العائلة) للروائي "جون كلود رونار"، ورواية (الخبز القاسي) للروائي "بول كلوديل"، ورواية (كاسباً لقمة عيشي) للروائي "مكسيم غوركي"، وغيرها من الأعمال الأدبية.
إن صورة " الخبز " تجسد كل شيء، وتحمل أبعاداً ودلالات متنوعة، ربما يكون رمزاً لإبداع الشاعر الشعري، أو توظيفاً دلالياً وبلاغياً وأسلوبياً.
مجموعة الشاعر "عامر الساعدي"(الخامسة... جوعاً)، تميزت بعمق الرؤية، وسلاسة اللغة، وكثافة النص، فجاءت المجموعة معبرة عن تجربته الإنسانية، المتسمة بالنبرة الخطابية والقدرة على التأثير في المتلقي.
والسرد لايمكن حصره في جنس أدبي معين، وإنما هو سمة (الخطاب اللغوي) بشكله العام، وأداة من أدوات التعبير، فمفهومه اللغوي (هو تقدمة شيء إلى شيء تأتى به متسقاً بعضه فى إثر بعض)، وبما أن السرد نتاج إنساني، فهو يأتي مركباً من عناصر لغوية ودلالية متأثر بالمحيط البيئي للسارد.
المرتكز المحوري في سرديات الشاعر "عامر الساعدي" يكمن في ثيمة سردية بارزة ألا وهي (الجوع)، ك(قضية) ومركز دلالي أختزالي في الخطاب السردي لمجموعته الشعرية. وموضوعة الجوع لا تتحدث عن مجتمع دون أخر، ولا فترة تاريخية دون أخرى، بل هي مشكلة تأخذ جوانب ومظاهر مختلفة، تبلور مأساة الإنسانية في بنيتها الأجتماعية والفكرية، وأدانة صريحة لبؤس الحضارة المادية بمظاهرها المختلفة، ليس من خلال فكرة (الجوع) بحد ذاتها فحسب، بل الأثر الذي تتركه توابع الجوع على الحياة الانسان المعاصر، الذي تجاوز الأثر الفسيولوجي الذي يوهن الجسد، إلى الأثر السايكولوجي وما يعكسه من فهم يرتقي إلى مستوى (القضية الإنسانية)، وما يعانيه الإنسان من قلق وجودي، وحرمان، وألم، وأنحرافات سلوكية.
الجوع في لغة العرب له مراتب مختلفة المعاني والدلالات، كأنما هو (محض تغير بيولوجي في صيرورة الكائن الحي). فعرفوه بأسماء ومراتب عدة، (الجُوعُ، ثُمَّ السَّغَبُ، ثُمَّ الغَرَث،ُ ثمَّ الطَوَى، ثُمَّ المَخْمَصَة،ُ ثُمَّ الضَّرَم،ُ ثُمًّ السُّعَار). والجوع من المراتب الذي وردت في القرآن الكريم (5 مرات)، كما وردت كلمة (المخمصة) مرتين، ووردت كلمة (المسغبة) مرة واحدة. نجد في هذه المسميات الثلاث بلاغة، رغم ما بينها من تقارب دلالي لأنها تشترك في معنى الإحساس بالجوع. كذلك هناك تمظهرات للجوع ليس بمعناه المعجمي المباشر الذي أراده الشاعر، وإنما معنى أخر يذهب بفكرة الجوع إلى شكل فني إبداعي معرفي فلسفي، أي البحث في الذات وخفاياها.
أن موضوعة الجوع عُولجت في الكثير من الروايات والمجاميع الشعرية كـ(آفة أجتماعية)، وجُعلت ثيمة مُنحت لأعمال روائية وشعرية، مثل رواية (الجوع) للروائي النرويجي "كنوت هامسون"، ورواية (لازمة الجوع) للروائي الفرنسي "جان ماري لوكلوزيو"، ورواية (بيوغرافيا الجوع) للروائية البلجيكية "آميلي نوثومب"، ورواية (دروب الجوع) للروائي البرازيلي "خورخي امادو"، ورواية (الجوع) للروائي المصري "محمد البساطي". كذلك نرى تجليات الجوع عند الشعراء "بدر شاكر السياب"، و"عبد الوهاب البياتي"، و"نزار قباني"، و"محمود درويش"، و"أحمد مطر"، و"أمل دنقل"، و" عبد الله البردوني" وغيرهم الكثير، الذين صاغوا قضية الجوع في قالب شعري، ورسموا صورة تعبيرية عن حالته، تقمصوا بها صوت الجياع، فكان له المساحة الكبيرة في نصوصهم. فأن أي مقاربة للجوع في هذه الروايات والنصوص الشعرية المختلفة لها دلالة مهمة وهي أن الجوع (ليس إلا موقفاً أيديولوجياً) في أذلال الإنسان وتغيير قناعاته.
السياق الحكائى مهيمن على ذاكرة الشاعر "عامر الساعدي" بما يتناسب مع الذات والواقع ليقدم رؤيته السردية التي تتموضع حولها الكثير من الحمولات الفنية والرمزية المعبرة عن قدرته في تجسيد الأبعاد الفلسفية والنفسية للجوع وتمظهراته المتعددة (لغوية، روائية، شعرية، رمزية، مجازية، فكرية)، هذه التمظهرات جسدت الرؤية الفلسفية للشاعر في أن هناك أزمة حضارية إنسانية، وخلل أخلاقي في البنية المجتمعية لها.
العنوان كما يرى "رولان بارت" حقل دلالي عن قصدية النص، و (الخامسةُ .. جوعاً) عنواناً تجريدياً، ذو أنزياح أبداعي له دلالته وفق منظور سيميولوجي وجمالي ودلالي، وإشارة أولية للمتلقي، فهو غني بالدلالة الرمزية، الذي أتخذ شكلاً توظيفياً وقدرة تأثيرية على مجمل البنية النصية للمجموعة. والجوع في سردية الشاعر "عامر الساعدي" الشعرية أيقونة لها بعدها السيميولوجي الذي يتعدى به حدود الدلالة المعجمية، ووجودها اللغوي، وتوظيفه فنياً كثيمة شعرية بارزة ترتكز عليها المجموعة السردية.
ظاهرة التكرار تعد من الظواهر البارزة في المجموعة، التي شكلت رؤية لتجربة الشاعر، وأداة فنية وأسلوبية وظفها الشاعر لتحقيق الغرض الفكري والتعبيري من خلالها. نرى (الجوع) ثيمة تكررت في عتبات النصوص وفي البناء النصي في المجموعة، وشكلت وحدة دلالية تكثيفية وأختزالية للمعنى (أمنيات الجياع/مدينة الجوع/جلباب الجُوع /صاحب الجلالة ( الجوع )/لون الجوع)، كذلك وردت ضمن النصوص أكثر من عشرين مرة، وهنا (التكرار له دلالات فنيَّة ونفسيَّة، يدلُّ على الاهتمام بموضوعٍ ما)، الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، "عبد الحميد جيدة"، ص67.
هذا الظهور المتعدد لمفردة الجوع، أختزل رمزية الجوع ودلالته الأجتماعية والسياسية، ورؤية الشاعر الفلسفية، المعبرة عن شاعريته وإنسانيته التي أوردها بحرفية منفتحة على وعي المتلقي.
أن للشاعر في مجموعته رؤيا سردية موحدة، وإن أحتوت على مضامين متنوعة، وعناصر متشعبة ومتباينة. فالوحدة الفنية لديه غنية في تنوعها، وفي لغتها الإبداعية والأسلوبية والتركيبية والدلالية، يستفز بها القارىء في حد ذاته. وقد أظهر في نصوصه السردية أنسجاماً وتوافقاً لغوياً وبنائياً في الدلالة والتشكيل.
فالشاعر "الساعدي" نسج على شطآن الجوع نصوصه السردية المفعمة بالمشاعر والأنفعالات، فأثارت قريحته وكأنه يسمع أنين الجياع، فجاءت نصوصه لوحة تنبض بألم الجوع، وأظهره كائناً خرافياً، يفترس ضحاياه.
في نظرة فاحصة الى نصوص المجموعة (الخامسة .. جوعاً) وجمالياتها الفنية، يظهر الشاعر كـ(ناقد أجتماعي)، يتناول مفاهيم أبعد من أن يوصف الجوع وصفاً مادياً فسيولوجياً، بل يطرحه كـ(قضية محورية) بصورته الرمزية المعبرة عن أزمة حضارة. تأخذ مستوى البناء الفني والأسلوب الخطابي المتعدد الرؤى، والأسئلة الوجودية التي تطلق في فضاء النص للوصل إلى القارئ، الذي يستنطق النص ويستنتج ببصيرته حقائق تلك المأساة وملامحها. فالشاعر "عامر الساعدي" يتبنى خطاباً سردياً متكاملاً، يمازج به بين الذاتية والموضوعية، وبين الرمز والصورة السردية المباشرة، ذات البناء السردي الحكائي الذي يعتمد رؤية لغوية في أساس تشكيل الصورة التى تحكم حالة الإبداع في النص، ويساهم في ترسيخ الخطاب السردي في ذهن القارئ وأستقطاب وعيه.
ومن الجوع إلى (رغيف الخبز) الذي شكل معادل موضوعي للجوع، وثنائية جدلية (الجوع/العبودية)، (الخبز/الحرية ) كونه سلعة قاهرة له، يتميز برمزية تكثيفية متعددة الصور والابعاد، ذات ثراء دلالي، يمكن توظيفه فنياً في النص، كذلك الخبز له بعده السيميولوجي، واللغوي الدلالي، والأبداعي الاسلوبي، حيث أستطاع الشاعر أن يستخدام أدوات شعرية متعددة من أجل تجسيد رؤيته الشعرية. حيث تمظهر الخبز في ديباجة الشاعر(الاهداء) كتطلع رمزي نحو الحرية، ((الى أصدقائي الجياع، الى من لم يصله الخبز، أقول: لم أكن يوماً جيفارا، أو أملك سلاحا كي أقارب البرجوازية، اكني مجرد كاتب يعيش تخمة البساطة، لكي أكتب معاناة تلك الأفواه التي تبحث عن الخبز، الخبز وما أعنيه(الحرية)، تأكدوا بأنني مواطن عراقي أحمل رسالة الجوع، كي ألقيها على مسامع الطغاة، الذين سلبوا خبز بلادي))، فقد ورد لفظ الخبز في عتبات النصوص أربع مرات (حزن الخبز/ خبز برائحة الدخان / الخبز نعش الحرية / مدن ينقصها الخبز)، أضافة الى وروده ثمانية مرات في نصوص المجموعة.
فالخبز رمز لكثير من الحضارات الإنسانية، ومادة رمزية دينية ذُكرت في الأديان السماوية وفي قصص الأنبياء. فقد جاء ذكره في ملحمة كلكامش الشعرية، في إشارة لأهمية رغيف الخبز وقدسيته في حضارة وادي الرافدين:(كل الخبز يا أنكيدو فهو عماد الحياة)، (وضعت خبز أمه أمامه فارتبك)، (أكل أنكيدو الخبز حتى امتلأ).
فـ(الرغيف أو الخبز) لفظة كُررت عنواناً لكثير من الأعمال العالمية والعربية الأدبية والروائية التي أخذت الاسم كرمز، كرواية (الخبز الحافي) للروائي "محمد شكري"، ورواية (بائعة الخبز) للروائي "كازافينيه دومونتبان"، ورواية (حزننا خبزنا) للروائي "مازن معروف"، ورواية (الرغيف ينبض كالقلب) للاديبة "غادة السمان"، ورواية (الرغيف) للروائي "يوسف عواد"، ورواية (خبز العائلة) للروائي "جون كلود رونار"، ورواية (الخبز القاسي) للروائي "بول كلوديل"، ورواية (كاسباً لقمة عيشي) للروائي "مكسيم غوركي"، وغيرها من الأعمال الأدبية.
إن صورة " الخبز " تجسد كل شيء، وتحمل أبعاداً ودلالات متنوعة، ربما يكون رمزاً لإبداع الشاعر الشعري، أو توظيفاً دلالياً وبلاغياً وأسلوبياً.
مجموعة الشاعر "عامر الساعدي"(الخامسة... جوعاً)، تميزت بعمق الرؤية، وسلاسة اللغة، وكثافة النص، فجاءت المجموعة معبرة عن تجربته الإنسانية، المتسمة بالنبرة الخطابية والقدرة على التأثير في المتلقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق