إغتيال طفولة ( 2 )
قصة : مصطفى الحاج حسين .
استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن
أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما
، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن
أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً ،
نهضت مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم
أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟!.
ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن الكلب !.
أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة
وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير
المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني
وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم
تكن تسلم من ضربه وشتائمه .
ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا عمل ..
ولا صنعة ؟!.
شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت
عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار
الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي
تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :
ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر
سنوات .
وكدّت أصرخ :
ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ
صنعة العمارة .
غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت ،
فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .
قال أبي بقسوة :
ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول
لقمة قبل أن نذهب .
خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو
أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ،
عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ،
الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .
تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع
خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :
ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .
فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع
إصبعها على فمها :
ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..
الآن لم يعد يسمع كلامي .
ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة
الطّين .
قلتُ بحنق شديد . قالت أمّي :
ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .
وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً ،
من الغرفة :
ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا ..
صار الظّهر .
أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال
دقائق ، ازدردتُ عدٌة لقيمات .
ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة
للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)
المهترئ ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ
( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك
اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ
كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من
والدي ، والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتد ( شروالاً ) ،
ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن
ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله و ( سميرة )
المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما
بمحبّةٍ ودلالٍ .
كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى
التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً
عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول
الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق
الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا
يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .
أفكّر في ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،
إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعد
قليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني ،
سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه
الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ،
بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه
اللعب .
لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول
النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ،
وألعب قليلاً مع ( سامح ) .
اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على
الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من
شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن
أستحمّ فور عودتي .
هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن
العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي
تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به
صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري ، رقبتي ،
أكتافي ، عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ،
تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن
أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو
قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ ..
وتغفو . وتساءلت :
ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من
حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!..
ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن
تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق ،
وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد .
ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا
تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى
على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب
القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً
بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ،
هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.
ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل
إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان
ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير
أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ،
سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي
أمّي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من
هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى
عمّي ( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع
أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في
أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه
الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من
الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني
أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار
والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .
لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني
إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ
أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل
وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب
يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده
خرطوم ، صارخاً في هياج :
ـ هربت يا ابن الكلبة !.
يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث
صوتي ضعيفاً باكياً :
ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على
الشّغل .
انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ،
عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ، ودونَ أدنى شفقة ، أو
رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ،
حادّة عالية :
ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك ..
أبوس ( صرمايتك ) .
وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ،
وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ
قوّة :
ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .
تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :
ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل
الولد ؟؟؟.
ـ ابن الكلب ...هرب من الشّغل .
تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت
سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما
وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ،
مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من
فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ،
تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ ، وبحرقةٍ
وألمٍ :
ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد
انتهى .
هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى
بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ
صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت
( مريم ) بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج ، ممرّغاً
بدمائي ، شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور
نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات
قويّة على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج
ليفتح .
انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى
صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :
ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) ... أسفي عليك يا
ولدي .
دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :
ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .
زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل
إلى صوته :
ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري
صدرك .
لكنّها لم تأبه بكلامه :
ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا ( قدّور ) *
مصطفى الحاج حسين .
حلب .
حلب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق