الأربعاء، 9 مارس 2016

قصة . ق .. مريم / ج 1 و 2 / بقلم كاظم مجبل الخطيب / العراق

قصة قصيرة 
[مريم]-------------الجزء الثاني 
بعدما اضطرت مريم للعيش مع امها كانت غريبة بين افراد هذه العائلة وحتى عن امها التي فارقتها وهي بعمر خمس سنين بعد طلاقها من ابيها وما صبّرها على هذه الحال عدم تعرّض زميلاتها في المدرسة لها بالاساءة بعد اتهام المجتمع لها بأنها ابنة قاتل وانْ برّأتهُ المحكمة .هي تتذكْر تفاصيل حياتها ببيت ابيها وجدّتها،لم تستطع محو طفولتها من ذاكرتها .ما جعلها متماسكة وقويّة هوما لقيتهُ من معاملة طيبة ومتفهمة من زوج امها وفي احيان كثيرة كان يبدي اهتماماً ورعاية خاصة ربما لانّهُ ولد يتيماً وعاش ظروف مشابهة ،صار يتابعها ويسأل عن اخبارها الدراسية وفي احد المساءات بعد مرور ثلاث سنين في بيتهِ يطمئنُّ عليها سائلاً:
-ماذا تنوين بابا مريم ؟
-الطب ان شاء الله عمو 
-اجتهدتِ وتحملتِ فتستحقّين ،لكني اوصيكِ عند التقديم بتثبيت كليات طب المحافظات القريبة واتركي العاصمة 
-لماذا عمو انت تقلقني ،ماذا هناك؟هل تخفي امراً ما ؟
-لا تسأليني الان وساتركُ لك مبلغا يكفيكِ لسنوات الكلية 
لم يجبها الرجل على تساؤلاتها وحين شاهدت اولادهُ الثلاثة من زوجتهِ الاولى وسلوكهم المشين معهُ ادركت ابعاد مخاوفهِ حتى لو تدعوهم امها للحسنى معهُ تقابل بالشتائم ونعتها بأقبح الالقاب.
تقبلُ مريم في كلية الطب تاركة ً العاصمة لتعيش حياة الاقسام الداخلية التي وفّرت لها الوقت وخلّصتها من زحمة المواصلات واختناقاتها كما وجدت معاملة خاصة من المشرفات لطالبات الطب .
انقضى العام الدراسي بنجاحها بتقدير جيد لتتمتّع الان بأجازتها،حاولت ان تستفهم من امها ما يخفيهِ الرجل الطيب وراعيهافلم تجد منها جواباً،هواجسها باتت تشغلها ولم تحسم ظنونها قبل دعوتهِ لسماعهِ قائلاً:
-اعذروني ،كنت اخفي عنكم سوء حالتي الصحية،لكني الان وصلتُ الى وضعٍ لايمكن ان اكتمهُ.
باعصاب مرتجفة يتداخل معها الخوف والترقب قالت مريم:
-سلامتكَ عمو
-سافارقكم عما قريب،فاصبروا وتحملوا ،هي اللوكيميا التي تفاقمت
-ماذا سرطان الدم ؟
لا وقت لان يجيب احدا من سائليهِ هم يحيطون بهِ واكثر من كان يبكيهِ مريم محاولاً ان يمدَّ يدهُ ليمسحَ دموعها الغاليات مجتهداً لان يبتسمَ لعينيها الجميلتين لكنما الاقدار لم تمهلهُ طويلاً لتعلن َمشيئتها برحيلهِ.
لم يمضِ العام على وفاتهِ ليطالب اولادهُ من زوجتهِ الاولى بتوزيع تركتهِ بعد شجارات ونزاعات كثيرة على اثرها تتعرّض ام مريم الى جلطة دماغية تؤدي الى وفاتها لتبقى البنت وحيدةً بلا اهل ولا سكن ولا مأوى لها سوى سكن الطالبات .
سنوات الكلية لم تكن ثقيلة على مريم وهي المتفوقة بين زملائها سوى احمد المنافس الوحيد لها والفادم ُ من العاصمة وكثيراً ما أشادَ بهما الاساتذة .الرغبة في التفوق لكليهما تحوّلتْالى اعجاب متبادل خالٍ من الانانية والنرجسية فهما يتحادثان ويجلسان ويقضيان وقتاً طويلاً في البحث والمطالعة في المكتبة وعند راحتهما القصيرة يكونان في النادي او حدائق الكلية ،هما اصبحا قدوة ونموذجاً لمن همّهُ التحصيل العلمي .مرةً قال احد زملائهم لزميل لهُ:
-ايّ حبٍّ كبيرٍيجمع بين مريم واحمد ؟
-لا اعتقد هو الحب ،ربما الصداقة الكبيرة ،الزمالة الحقيقية ،الطموح،الاعجاب
-ما بكَ انتَ؟ستة اعوام وهما لم يفترقا 
-كيف لنا ان نحبَّ في كلية دراستها صعبة ومعقدة ،لم تتحْ لنا وقتاً للتفكير بشيءسوى النجاح حتى لو بأقلّ المستويات 
-نعم كانت سنوات عصيبة مرّت علينا،انستنا انفسنا 
-لا تنسَ هي كانت جميلة ومرت سريعاً على المترفين 
-من يصدّق ان في كلية الطب الانسانية تزدهر الطبقية والفوارق الاجتماعية والاقتصادية 
-المهم يا صديقي هي محطة خطيرة ومهمة في حياتنا ولا ندري الى اين ستوصلنا.
احمد ومريم وبعد تخرجهما بتقدير جيد لم يبقَ امامهما غير المكاشفة و المصارحة ببقاء علاقتهما وكأنَّ ما يجمعهما اكبر من الحب واكثر عمقاً ووعياً منهُ ،فيبادراحمدبالقول :
-ما رايكِ مريم؟
-بماذا احمد؟
-نعلنُ خطوبتنا
-انتَ لم تفاجئني ولكن لننتظر الى حين مباشرتنا بسنة الاقامة الدورية في المستشفيات .
استطاعا ان يجعلا عملهما في نفس المستشفى ،وهي منشغلة بكيفية توفير سكن ومبيت لها وهذا تطلّب تفهّماً لوضعها الاجتماعي من قبل مديرها ،لم يتعرض لها احمد ذو النفس الكبيرة لان يسالها يوماً خوف احراجها او جرح مشاعرها فهي امامهُ سامية لايفتّشُ عن خفاياها ما دامت اسراراً تخصّها ،وهذه المرة مريم تسبقُ احمد في قولها:
-مازلتُ على وعدي معكَ احمد
-اذن اخبرُ والدي للتحضير والتهيئة للخطوبة 
-انا هنا احمد متى ما قرّرتَ
والد احمديستغرب جداً وهويستمع لما يطرحهُ ولدهُ الطبيب ،فكيف يقبلُ بزواجهِ من امراة لا اهل لها وهو في مجتمع شرقي وقبلي ؟ماذا سيقول لمن يسالهُ عنها ؟اما يكفي كلام الناس زماناً ولغطهم حول هروب اختهِ سلمى عمّة احمد واختفائها وموتها وماتركتهُ من آلامٍ في حياتهم .
الدكتور احمد لم يخبر الدكتورة مريم عن اسباب تباطؤهِ في خطبتها خوفاً على مشاعرها،فابوهُ ما زال رافضاً فكرة تزويج ابنهِ بامراةٍ مجهول أصلها سوى انها طبيبة،فضّل احمد ترك الامور للظروف رغم تمسّكهِ بمريم ،فربما تحدث مستجدّات ما مع يقينهِ بأنها مدركةٌ يذكائها لما أسرّهُ عنها .
في ليلة وهما خافران تدخل الى صالة الطوارىْ حالة دهسٍ بسيارة لرجل تجاوز الستين محمولاً على نقّالة يدفعها احد العاملين ،يتبنى الحالة دكتور احمد ،المصاب جراحاتهِ عميقة على راسهِ والكدمات قوية على اطرافهِ،حاول الدكتور ان يستنطق الرجل ويسألهُ عن هويتهِ لتثبيت بياناتهِ وهويدقّق فيها ظنَّ بتشابه الاسماء ولكن ان يصل الى تطابق اللقب فالامر لا يصدّق،وبرغم اسفهِ على الرجل ينتابهُ شعور بالفرح وعليهِ ان يسرع باخبار مريم وان كانت مشغولة بحالة مرضية اخرى ولكنها ليست ببعيدة عنهُ
صار الدكتور يستدرج زميلتهُ لتقف عند راس الرجل وهي تطيل النظر في ملامحهِ التي غيّرتها السنين الى حدٍّ كبيرٍبعد خمس عشرة سنة من فراقهما،ما استطاعت حبس دموعها فرحاً ووجعاًوكأنّما الارض توقفت ساعتها،عمر من الاسى والحرمان من حنان الابوة ،بأيّة لغة ستبثُّ عتبها وشكواها ام تستقبل فرحاً لم تكن تحلم بهِ ،وحين يفتحُ ابوها عينيهِ ترمي بنفسها في احضانهِ وهي تهدرُ عالياً:
-ابي نور عيني 
-مريم ابنتي
دكتوراحمد يشاهد ما يجري وهو في دهشةٍغير مصدّقٍ.في صباح اليوم التالي يوصى المقيم الاقدم برقود المريض في ردهة الرجال الى حين التئام جراحاتهِ وشفائهِ من الكدمات .
بعد ان تعرّفَ احمد على والد مريم وفي غمرة فرحتهما يحاول ان يلطّف الاجواء مع اقداح الشاي:
-مازال الوالد وسيماً ولقد أخذتِ الكثير من ملامحهِ
-هل كنت متلهّفاً لرؤيتهِ
-كأنما من اجلي جاءت بهِ الاقدار 
-او من اجلنا وان كنت لم تصارحني 
-على اية حال ما كنّا ننتظرهُ صار بيننا 
قبل اكمال شايهِ كان رنين اتصال من نقّال ابيهِ وبصوت غريب يخبرهُ بتعرّضهِ الى نوبة قلبية كالعادة وهو جالسٌ في المقهى الذي اعتاد على ارتيادهِ منذ تقاعدهِ والحزن الكبير لايفارقهُ وما استطاعت الايام ازالتهِ وكأنّهُ يحمل اعباء ذنبٍ قديمٍ لم يتخلص من شعورهِ بانّهُ كان سبباً في ظلم أختهِ الراحلة حين امتنع عن تزويجها بمن أحبّتهُ،وها هو حالتهُ الصحية تزداد سوءاً لتوالي السكتات القلبية عليهِ بين فترة واخرى .
هو الان راقدٌ في المستشفى وليس بعيداً عنهُ يرقدُ من تسبّبَ في آلامهِ ،بينما الآخرُ يعتقد بهِ ظالماً ومدمّراً لحياتهِ وبينهما تقف نفسان كبيرتان احداهما تحتجُّ على ابيها:
-ابي لم يبقَ عذرٌ لتخطب لي مريم من ابيها 
-واين ابوها ؟ساعدني في النهوض لنذهب اليهِ
قام الابُ مسنداً على ولدهِ ،مقترباً من مكان الرجل ومريم تراقب مجيئهَ عند ابيها ،التقت العيون ،تسمّرت المفاصل ،انحبست الانفاس ،ذهول شديد يرافقهُ صمت رهيب وكأنّها ساعة الحساب المؤجل من سنين ولكلٍّ منهما شكواهُ ودعواهُ وحجّتهُ،هما لايقويان على الانقضاض كلٌّ على خصمهِ،ولا على دحضهِ لبرهانهِ،كلاهما على مشارف الخامس والستين عاماً،هذا الوجوم والهدوء المخيف لابدَّ من كسرهِ لأيقاد الحياة في مشهد ٍ محتضرٍ بالموت فما كان غير احمد لهدم حاجز الدهشة والانتظار :
-السلام عليكم ابو مريم 
-عليكم السلام ابني احمد 
-هذا والدي عمو
-نعم اهلاً بهِ تشرّفتُ بمعرفتهِ
والد الدكتور ظلَّ ساكتاً وراح يحرّكُ راسهُ بالموافقة على ان تكون مريم زوجة ً لاحمد .
عند المساء تعلنُ خطوبتهما امام الآخرين ودون ان يعلما شيئاً عمّا بين ابويهما ليبقى سرّاً داخل صدريهما من اجل سعادة الزوجين الطبيبين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق