السبت، 16 أبريل 2016

قصة قصيرة / بقلم الاستاذ كامل الجباري / رسالة من المعتقل / العراق

قصة قصيرة/ رسالة من المعتقل
حبيبتي :
وحيد مع الذكريات ، أيام الفرح الأول ، لكن قلبي التعب ما يزال يرقد في حضنك الدافئ، يا صلاتي اليومية . إن روحي تسافر عبر الطريق اللامتناهي إلى أعماقك الدافئة فأنا في اغترابي عنك كما طير يهاجر عبر المحيطات بأجنحة أثقلها الحزن السرمدي .)
تاه في بحر متلاطم من الذكريات ، بعد أن أكمل عبارته وامتدت ذاكرته إلى ذلك الزمن الجميل ، زمن الصبا . كانت صبية عندما التقاها في بيت قريبة له .
•- من هذه الحورية ؟
ابتسمت قريبته وإجابته إجابة ماكرة
•- إنها ابنة عمتي الصغيرة .. ألا تذكر جميلة ؟
دهش كثيرا ، فقد تركها ، لسنوات قلائل خلت طفلة تلعب مع تريباتها في الشارع لعبة البنات المفضلة (التوكي) أو (المحلقوه) كما تسمى في بعض الأماكن . تقفز على المربعات بقدم واحدة قائلة : (كبي) فتاتي الإجابة (نو) . نظر بشغف إلى وجهها المستدير وقد ارتسم تحت انفها الدقيق فم منفرج تخيله حبة تين قد انفرجت لفرط حلاوتها .. ياله من سحر يجمع ما بين براءة الطفولة وعبق الأنوثة في آن واحد همس لنفسه ، يبدوا أنها قد نضجت قبل أوانها . اكتسى وجهها بحمرة خجل اختبأت باستحياء تحت بشرة وجنتيها الحنطيتين غادر بيت قريبته وهو يغني
عيني يبو خد وخد شوكك أبكلبي ورد
ياعيني العشق لولاح ...
مرت سنة واحدة عندما التقاها مرة أخرى . لقد اختفت الصبية لتحل محلها أنثى طاغية الأنوثة وقد اختلط عطر أنوثتها مع عطر وردة ألجوري الحمراء المعلقة على الجانب الأيسر من صدرها الممتلئ . امسك بيديها بجرأة وبدون مقدمات .
•- جملية ، احبك أيتها الفاتنة .
لم يفهم سر القسوة والهمجية التي يتعامل بها الجلادون مع المعتقلين . نظر إلى وجوههم الواحد تلو الآخر ولم يتعرف على احد منهم . لا شك إنهم لا يعرفوني أيضا ولكن لماذا يتصرفون معنا بشكل ثأري كأننا قتلنا أمهاتهم ؟
(في عينيك يكمن سر روحي ، لذا ازرعيني في حقلك شجيرة ورد احمر أو شجرة سيسبان وارفة لتظلك في صيف قائض ... )
توالت صفعات المحققين وركلاتهم فيما استخدم بعضهم عصى كهربائية فأجتاح جسده الم لا يطاق . شرع بحالة ماسة لاحتضانها لم يعرفها من قبل . تذكر عندما احتضنها لأؤل مرة حجم ألأحاسيس اللذيذة التي اكتنفته فسمت روحه على الآلام التي سببها التعذيب .
(عندما نسير في طريق ساطع كالنور ، في زمن رمادي ، قد نزرعه بأشلائنا المتناثرة ، فأنا من دونك كما رصيف قد هجرته السفن ، أو كعيون فقدت القها لذا لا تنئين . )
أمسك بشعره الغزير المنسدل على جبهته ، وقد تلطخ بالدماء ، ليبعده عن عينيه المتورمتين . صرخ بوجه مسئول المفرزة ، رأس العرفاء ( هتلر )
•- لا يحق لكم ذلك . إنكم تقمعون حريتي .
رد عليه هتلر ، كما لقبه الشباب وصلعته الشوهاء تتصبب عرقا
•- اتراددني ولك ... خذوه .
لم ينسى ثأره بعد سخرية الشباب منه أثناء محاصرتهم له مع أفراد مفرزته
•- ماذا نفعل لنتخلص منه ؟
•- فلندخل إلى محل الحلاقة هذا .
وقف هتلر شاهرا مقصه بوجوههم بعد أن سد عليهم باب المحل
•- أين تذهبون الآن ؟ لماذا تطيلون شعركم وتعصون أوامر الدولة رد عليه ساخرا
•- وهل نحن هنا لشراء المرطبات ؟ ما يفعل الناس في محل للحلاقة ؟
نظر إليه طويلا في حيرة من أمره .
•- والله إذا ما حلقتم ... ثم اخذ يطقطق بمقصه في إشارة ذات مغزى .
•- صار عريفي .
•- ولك أنت أعمى .. ما أتشوف أربع خيوط ؟
أشار إلى رتبته بعد أن انتفخ كديك رومي .
اعتذروا من الحلاق ، بعد أن شرحوا له المأزق الذي اضطرهم لاقتحام محله ضحك ملئ شدقيه لحيلتهم الطريفة المبتكرة .
•- ولا يهمكم شباب . ما أحسن ما فعلتم .
********
•- إنهم يحاولون ترويضنا وإذا ما سمحنا لهم بالتدخل في خصوصيتنا فإنهم سينمطون عقولنا ويحولننا إلى قطيع . قال ذلك لمنتقديه الذين طلبوا منه الابتعاد عن نزوات الشباب .
•- إذا ما أهدرت كرامتنا واستبيحت خصوصيتنا فيستبيحون كل شيء .
(أتذكرين عندما كنا عصفورين بريين كم كسرنا من الأقفاص . وطننا وطن الأقفاص ولكنه وطن العشاق أيضا . أتذكرين عندما امسكونا بالجرم المشهود ونحن نغني
عراقي هواي وميزة فينا الهوى خبل
فقلنا لهم أنه النشيد الاممي للعصافير البرية فتركناهم لنظراتهم البلهاء وانطلقنا ! )
كثيرا ما حاول ثنيها عن الارتباط به ، وإنها لن تجد معه الحياة المستقرة .
•- أنا رجل اكره الصمت ، في بلد يكره الصوت الآخر ويخرسه بكل الوسائل .
•- لهذا أحببتك ، فلا تتراجع عن شيء تؤمن به تحت أي ظرف .
ليس بمقدور إنسان تحمل هذا الكم الهائل من الوحشية والتعذيب ولكنهم لم يدركوا
سر ابتسامته فنال اكبر قسط من التعذيب .
(عانقيني كيما استرجع أنفاسي الملتهبة متندية برضابك . اذرفي دموعك الساخنة لاطهر بها جراحاتي فأولد من جديد بروح ملئوها الصفاء . )
لم يكن نومه مستقرا فقد اجتاحت جسده الآم لا تطاق . أفاق من نومه فلم يجد سوى الجدران المعتمة الملطخة بالدماء ورفاقه يئنون من فرط الألم وهم نيام . أخرج أوراقه المخبئة بعناية واسترسل في كتابة رسالته .
(حبيبتي
أتذكرين شجرة السيسبان المعمرة التي كنا نجلس تحت ظلها وزقزقة العصافير تشنف أسماعنا ؟ هنا في المعتقل الأمر يختلف تماما فقد ظللتنا جدران المعتقل العفنة ، وعوضا عن زقزقة العصافير لم نسمع سوى أصوات السياط والشتائم . إنهم يكرهون الأشجار والعصافير ... )
تناهى إلى سمعه وقع أقدام ثقليه في الرواق تقترب تدريجيا من الزنزانة . ختم رسالته بعجالة (قد لا أتمكن من إرسال رسالتي إليك فنحن في بلد فيه الحب خيانة عظمى . وداعا) سارع إلى إخفاء رسالته ، كما يخفي منشورا سريا ، فيما اقتاده السجان إلى جلسة تحقيق جديدة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق