ثرثرة في قطار
أنا لا أحب الثرثرة إطلاقاً خاصة حين تصدر من الرجال، والى حدٍ ما من النساء. قد لا استبعد التحديق في بعض الوجوه، او التعليق ببعض الكلمات ،ولكن نظراتي وهمهماتي دائماً بريئة من أي سوء. كنت جالسا في المقعد رقم اثنين واربعين ، هذا الرقم جعلني اتشائم كلما وقع نظري صدفة عليه، وهو الان بيدي وانا اتطلع في بطاقة الحجز. فاسرح بعيداً الى الوراء ،قبل سنين.لأعود فأجد نفسي في نفس المقعد وأمنّيها بلقاء رفيق سفر يخفف عني وينسيني بعض همومي،على مدى الرحلة الطويلة. وحضر هذا الرفيق واحتل المقعد، امامي . كان هادئاً ودوداً. وطيباً، مما شجعني كثيراً على الحديث معه.
لم أنسَ ما حصل لي وانا طالب في المرحلة المتوسطة، وقد أقلقتني وقتذاك نتيجة الامتحان لأحد المواد، وكانت درجة التقييم مفاجئة كبيرة لي. هي نفسها امامي الان، أراها مطبوعة في بطاقة الحجز، وأسفل حذائي، وعلى رقعة صغيرة في الجزء العلوي من قميصي وفانيلتي، وحتى باطن نعلي وملابسي(...)، كنت اشعر بالضيق كلما رغبت بتغيير تجهيزاتي تلك ، فقد كان هذا الرقم يتكرر علي كأنه يلتصق بي مثل جنّي!
عليَّ ان أبادر بالحديث معه قبل ان يكتشف امري وان ابتعد كثيرا عن الثرثرة،لأنني على الأقل لست حلّاقاً! الحلّاقون هم وحدهم الثرثارون . سئلته، رغم ان بداية الحديث مع شخص غريب أمر يحتاج في الغالب الى جرأة :
-هل شعرت بمزاجك قد تعكر وانت في صالون حلاقة؟
"اكتفى بالنظر نحوي"
- هذا لأنّ الحلاقَ ثرثاراً !، الحلاق دائماً يبحث عن حكاية، قديمة حديثة لا يهم. لانه يريد ان يثرثر لا غير.
"أومأ لي برأسه إيماءة خفيفة"
واعتدلَ قليلاً في جلسته، وهويختلس النظر عبر زجاج النافذة.
الأشجار الندية القريبه تمر بسرعة تخطف البصر. كما هو حال الأفكار في ذهني، فهي تتوالى بسرعة عليّ، سئلته:
-هل ترى حديثي مملاً؟
"ابتسامة تظهر على طرف شفتيه"
كذلك لم يجب، وهذا ما زاد فضولي. على أي حال سأواصل.
لمحت قاطع التذاكر مع اثنان من الانضباط العسكري، قد وصلوا الى منتصف الممر، ثلاث دقائق أخرى ويطلبون مني بطاقة الحجز الكارتونية، التي أخفيها. أخرجتها من جيبي، دون ان أكلف نفسي بالنظر فيها، كما يفعل اغلب المسافرون. انها مازالت تثيرني وسوف أتخلص منها بأقرب وقت.
قال وهو يستلمها مني :
-هل انت متأكداً من رقم بطاقتك؟
" نعم أنا متأكد، وهذا رقمي مذ كنت طالباً في المرحّلة المتوسطة. ومنحني إياه مدرس الرياضيات آنذاك، لم أنس ذلك حتى الان..
سمعت صوت الثاقبة وهي تقطع بطاقتي، ورأيته يمر مبتعداً وهو يهز بيده!
أبقيت عيناي مصوبتان نحوه ،وأذناى تستمعان الى الأصوات المنبعثة من القاطرة وصرير احتكاك عجلاتها المتواصل. سوى ذلك ، لا شيئ غير الصمت، وثمة من يتحدث بصمت، مع نفسه، وضميره، حوار طويل لا ينتهي الا بالحلم. الكثير من الحلاقين، اليوم، يتحدثون بصمت. الكثير يثرثر بصمت. لقد منعوا بالقوة من الثرثرة ، حتى لا تطال ثرثرتهم أحداً!
(يبتسم فقط)
- أرجوك لا تكن بخيلا،،ابتسامة واحدة لا تكفي!
أنا ساقول لك ان كبار السن دائما يدفعون الثمن غاليا في زمننا لأنهم مغرمون بالتحديق في شاشة التلفاز، التي تبّث ثرثرة يوميه مثيرة .مؤكد انك ستقول بأنها ظاهرة جديدة،وأصبحت تشكل خطورة أكثر من السابق!
هذا جيد ومنطقي!
غالبتني رغبة ملحّه في متابعة خط الأشجار بجانب السكّه...الا أني فوجئت بكفِ يده اليمنى قد امتدت مطوحا بها في الهواء كأنه يريد ان يقول لي :إستمرْ !
كيف استمر وأمامي غريم للان لم اسمع نبرة صوته! وجدت نفسي وكأنني لست بحاجة الى سماع صوته. انشغلت بتفسير ابتسامه عريضه أشرقت على وجهه، فأظهرت لمعان عينيه.بدأت أظن انه يكتم أمراً ما بداخله. لا يريد ان يببوح به.
ناولته قطعة من الكيك المحشي بالكريمة كنت قد جلبتها معي ، استلمها مني مبدياً تعابير شكر على وجهه! لاجل هذه التعابير سأواصل. ولكن كيف استمر في المواصلة وأمامي شخص ثقيل لم يتفوه معي حتى بكلمة واحدة!
وجدت نفسي، لست بحاجة الى سماع صوته،وشغلتني آخر ابتسامه عريضه أشرقت على وجهه، فالتمعت عيناه المحاطتان بخطوط متعرجة، ظننت انه يضمر لي شيئاً ..وكانت قطعة الكيك قد اختفت في جوفه.
اصبح هذا الرجل اكثر اثارة لي، وأصبح صمته يثيرني بما يعادل درجة اثارة الرقم(٤٢)،ويثير بنفسي عدة تساؤلات زادت من قلقي. وخشيت ان يكون هذا الرجل رغم بساطته من رجال الامن او المخابرات او ما شابه! فأنا اسمع كثيرا في هذه الايام عن وجود افراد يمارسون مهنة التجسس ومراقبة الناس..ولكنه قد لا يكون من بين هؤلاء ..ثم انني لم اتحدث عن شئ يتعلق بالنظام السياسي للبلد ..
ما أكثر رفقاء السفر ممن تجالسهم ساعات طويلة تتحدث اليهم دون ان يبادلونك الحديث الا لماماً ، حتى اذا شارفت الرحلة على الوصول، تفجّرت قريحتهم وبدأوا يخرجون الكلمات كالسيل الجارف.
اغلب الظن انه من هذا النوع، شعرت بالاحباط من كثرة تطفلي عليه، وربما بتجسيدي دور الثرثار اكثر من الحلاق! . التفت يميناً وشمالا ، وحاولت ان اداري بعض الارتباك الذي المّ بي، التقطت مذياعاصغيرا،
فتحته، خرج صوت لأغنية ما (...) أعرضَ عني واستدار مثل طفل لم تعجبه وجبة غداءه ! فسارعت بأطفاء المذياع . وقلتُ في نفسي ربما لا يحب سماع الأغاني. لفتتْت انتباهي حركة المسافرين، وهم يجمعون اغراضهم، نَحْنُ على وشَك الوصول لمحطةٍ قريبة، أصوات فرامل القاطرات أخذت تتصاعد محدثة جلبة شديدة ، وطغى بَعْض الهرج نتيجة تهيؤ المغادرين. ظلّ هو واجماً في مكانه. قدِم اثنان من الرجال رأيتهم يدققان في وجوه المسافرين. توقفا قريباً منّه.. حدّقا في وجهه..تحدثا اليه .. لم اسمع حديثهما بسبب جلبة جديدة أثارها الشخص الواقف خلفي. ولكنه يبدو ولكثرة حركة يديه، قد فهم كلامهم جيداً.. فانطلق يتحدث معهم، وان كنت لم افهم شيئاً مما قال !
يا .... لغفلتي؟
كيف لم اعرف كل هذه المدة ، بانه عديم النطق، أخرس؟؟؟
أنا لا أحب الثرثرة إطلاقاً خاصة حين تصدر من الرجال، والى حدٍ ما من النساء. قد لا استبعد التحديق في بعض الوجوه، او التعليق ببعض الكلمات ،ولكن نظراتي وهمهماتي دائماً بريئة من أي سوء. كنت جالسا في المقعد رقم اثنين واربعين ، هذا الرقم جعلني اتشائم كلما وقع نظري صدفة عليه، وهو الان بيدي وانا اتطلع في بطاقة الحجز. فاسرح بعيداً الى الوراء ،قبل سنين.لأعود فأجد نفسي في نفس المقعد وأمنّيها بلقاء رفيق سفر يخفف عني وينسيني بعض همومي،على مدى الرحلة الطويلة. وحضر هذا الرفيق واحتل المقعد، امامي . كان هادئاً ودوداً. وطيباً، مما شجعني كثيراً على الحديث معه.
لم أنسَ ما حصل لي وانا طالب في المرحلة المتوسطة، وقد أقلقتني وقتذاك نتيجة الامتحان لأحد المواد، وكانت درجة التقييم مفاجئة كبيرة لي. هي نفسها امامي الان، أراها مطبوعة في بطاقة الحجز، وأسفل حذائي، وعلى رقعة صغيرة في الجزء العلوي من قميصي وفانيلتي، وحتى باطن نعلي وملابسي(...)، كنت اشعر بالضيق كلما رغبت بتغيير تجهيزاتي تلك ، فقد كان هذا الرقم يتكرر علي كأنه يلتصق بي مثل جنّي!
عليَّ ان أبادر بالحديث معه قبل ان يكتشف امري وان ابتعد كثيرا عن الثرثرة،لأنني على الأقل لست حلّاقاً! الحلّاقون هم وحدهم الثرثارون . سئلته، رغم ان بداية الحديث مع شخص غريب أمر يحتاج في الغالب الى جرأة :
-هل شعرت بمزاجك قد تعكر وانت في صالون حلاقة؟
"اكتفى بالنظر نحوي"
- هذا لأنّ الحلاقَ ثرثاراً !، الحلاق دائماً يبحث عن حكاية، قديمة حديثة لا يهم. لانه يريد ان يثرثر لا غير.
"أومأ لي برأسه إيماءة خفيفة"
واعتدلَ قليلاً في جلسته، وهويختلس النظر عبر زجاج النافذة.
الأشجار الندية القريبه تمر بسرعة تخطف البصر. كما هو حال الأفكار في ذهني، فهي تتوالى بسرعة عليّ، سئلته:
-هل ترى حديثي مملاً؟
"ابتسامة تظهر على طرف شفتيه"
كذلك لم يجب، وهذا ما زاد فضولي. على أي حال سأواصل.
لمحت قاطع التذاكر مع اثنان من الانضباط العسكري، قد وصلوا الى منتصف الممر، ثلاث دقائق أخرى ويطلبون مني بطاقة الحجز الكارتونية، التي أخفيها. أخرجتها من جيبي، دون ان أكلف نفسي بالنظر فيها، كما يفعل اغلب المسافرون. انها مازالت تثيرني وسوف أتخلص منها بأقرب وقت.
قال وهو يستلمها مني :
-هل انت متأكداً من رقم بطاقتك؟
" نعم أنا متأكد، وهذا رقمي مذ كنت طالباً في المرحّلة المتوسطة. ومنحني إياه مدرس الرياضيات آنذاك، لم أنس ذلك حتى الان..
سمعت صوت الثاقبة وهي تقطع بطاقتي، ورأيته يمر مبتعداً وهو يهز بيده!
أبقيت عيناي مصوبتان نحوه ،وأذناى تستمعان الى الأصوات المنبعثة من القاطرة وصرير احتكاك عجلاتها المتواصل. سوى ذلك ، لا شيئ غير الصمت، وثمة من يتحدث بصمت، مع نفسه، وضميره، حوار طويل لا ينتهي الا بالحلم. الكثير من الحلاقين، اليوم، يتحدثون بصمت. الكثير يثرثر بصمت. لقد منعوا بالقوة من الثرثرة ، حتى لا تطال ثرثرتهم أحداً!
(يبتسم فقط)
- أرجوك لا تكن بخيلا،،ابتسامة واحدة لا تكفي!
أنا ساقول لك ان كبار السن دائما يدفعون الثمن غاليا في زمننا لأنهم مغرمون بالتحديق في شاشة التلفاز، التي تبّث ثرثرة يوميه مثيرة .مؤكد انك ستقول بأنها ظاهرة جديدة،وأصبحت تشكل خطورة أكثر من السابق!
هذا جيد ومنطقي!
غالبتني رغبة ملحّه في متابعة خط الأشجار بجانب السكّه...الا أني فوجئت بكفِ يده اليمنى قد امتدت مطوحا بها في الهواء كأنه يريد ان يقول لي :إستمرْ !
كيف استمر وأمامي غريم للان لم اسمع نبرة صوته! وجدت نفسي وكأنني لست بحاجة الى سماع صوته. انشغلت بتفسير ابتسامه عريضه أشرقت على وجهه، فأظهرت لمعان عينيه.بدأت أظن انه يكتم أمراً ما بداخله. لا يريد ان يببوح به.
ناولته قطعة من الكيك المحشي بالكريمة كنت قد جلبتها معي ، استلمها مني مبدياً تعابير شكر على وجهه! لاجل هذه التعابير سأواصل. ولكن كيف استمر في المواصلة وأمامي شخص ثقيل لم يتفوه معي حتى بكلمة واحدة!
وجدت نفسي، لست بحاجة الى سماع صوته،وشغلتني آخر ابتسامه عريضه أشرقت على وجهه، فالتمعت عيناه المحاطتان بخطوط متعرجة، ظننت انه يضمر لي شيئاً ..وكانت قطعة الكيك قد اختفت في جوفه.
اصبح هذا الرجل اكثر اثارة لي، وأصبح صمته يثيرني بما يعادل درجة اثارة الرقم(٤٢)،ويثير بنفسي عدة تساؤلات زادت من قلقي. وخشيت ان يكون هذا الرجل رغم بساطته من رجال الامن او المخابرات او ما شابه! فأنا اسمع كثيرا في هذه الايام عن وجود افراد يمارسون مهنة التجسس ومراقبة الناس..ولكنه قد لا يكون من بين هؤلاء ..ثم انني لم اتحدث عن شئ يتعلق بالنظام السياسي للبلد ..
ما أكثر رفقاء السفر ممن تجالسهم ساعات طويلة تتحدث اليهم دون ان يبادلونك الحديث الا لماماً ، حتى اذا شارفت الرحلة على الوصول، تفجّرت قريحتهم وبدأوا يخرجون الكلمات كالسيل الجارف.
اغلب الظن انه من هذا النوع، شعرت بالاحباط من كثرة تطفلي عليه، وربما بتجسيدي دور الثرثار اكثر من الحلاق! . التفت يميناً وشمالا ، وحاولت ان اداري بعض الارتباك الذي المّ بي، التقطت مذياعاصغيرا،
فتحته، خرج صوت لأغنية ما (...) أعرضَ عني واستدار مثل طفل لم تعجبه وجبة غداءه ! فسارعت بأطفاء المذياع . وقلتُ في نفسي ربما لا يحب سماع الأغاني. لفتتْت انتباهي حركة المسافرين، وهم يجمعون اغراضهم، نَحْنُ على وشَك الوصول لمحطةٍ قريبة، أصوات فرامل القاطرات أخذت تتصاعد محدثة جلبة شديدة ، وطغى بَعْض الهرج نتيجة تهيؤ المغادرين. ظلّ هو واجماً في مكانه. قدِم اثنان من الرجال رأيتهم يدققان في وجوه المسافرين. توقفا قريباً منّه.. حدّقا في وجهه..تحدثا اليه .. لم اسمع حديثهما بسبب جلبة جديدة أثارها الشخص الواقف خلفي. ولكنه يبدو ولكثرة حركة يديه، قد فهم كلامهم جيداً.. فانطلق يتحدث معهم، وان كنت لم افهم شيئاً مما قال !
يا .... لغفلتي؟
كيف لم اعرف كل هذه المدة ، بانه عديم النطق، أخرس؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق