الثلاثاء، 12 يوليو 2016

الكأس / قصة قصيرة / للقاص الاستاذ هادي المياح / العراق

الكأس
لم يكن عصير الليمون بارداً كما توقعت..ومذاقه غير مألوف..لكنه كان يتلألأ أمامي في الكأس ، وقد إمتلأ به حتى حافته العليا . شكل الكأس اسطواني تزينه عدة ألوان تداخلت مع بعضها فأنتجت مزيجاً لونياً ، أكسبه جمالية وبريق ، أما حجمه فكبير ، وقاعدته السفلى عريضة جذابة ، لكن العصير الذي بداخله ، ليس بارداً .. نعم .. ليس بارداً! 
"لماذا العصير.. ليس .. بارداً؟"
بقيت أردد هذه العبارة عدة مرات ، ألوكها بفمي مثل قطعة لبّان ، انتبهت الى نفسي، خفت ان يحسبني الآخرون أهذي لوحدي كالمخبول.. حدقت بمن حولي فوجدتهم ينظرون لي باستغراب .. وكأنهم سمعوا ترديدي .. كيف ... وأنا لم أسرّ لأحد سواي، ولم يخرج صوتي حتى من مقص شفتيّ..!
ساورتني شكوك كثيرة ، فتوقفت عند حالة الترديد اللاشعورية .. توقفت كمن أكون أنا .. أظهر هذه المرة بجرأتي وعنفواني .. أسوّى عدة هفوات في إحساسي المتعب.. وأصلح ما أصابه من عطل .. توقفت ، وهدأ كل شيئ .. وكفّ الجميع عن التحديق .. ومرَّرت بلحظة صمت ثقيلة جداً.. ظننت انني في حلم .. وأنّ لا وجود للكأس ولا العصير الذي تذوقته ، ولا حتى من رماني بنظراته وانا اتمتم وأردد كالببغاء .. وكذلك… فلربما كان ترديدي ليس سوى وهماً من الاوهام..! من يدري ربما انا ألآخر لست موجوداً هنا في هذا المكان ، وفي تلك اللحظة .. مابين نفسي وذلك الاخر القابع داخلي..أيمكنني ان أتأكد من كل ذلك؟ و..الآن بالتحديد..! 
ومثل حفيف رياح خفيفة سمعته يقول : ردِّد .. ردِّد من جديد .. لديك ما يكفي من الوقت للترديد الحقيقي .. الكل يرددون مع أنفسهم ، لكنك لا تسمع ترديدهم..!
قلتُ لا..لا .. دعني أنت وشأني..! لا تتدخل بكل تفاصيلي.. وإلا فالامر سيُصبِح اكثر تعقيداً .. سيُصبِح تافهاً كما لو انك نهضت من فراشك وتأكدت بعد ذلك أنك في حلم .. وعندها سيكون كل شيئ مثيراً للضحك..
وشغلتني فكرة أُخرى .. أنستني قضية العصير الحار.. فقد إرتجّت المنضدة أمامي رجّة خفيفة ، أحسستُ بها واضحة جلية.. وتدحرج الكأس بعيدا عني .. فمددت يدي نحوه.. وشعرت كأنني أتحرك ، أتحرك وانا جالس في مكاني..! ومن بين جفنين هاجمهما النعاس ، تراءى لي سقف القاعة يهبط ببطء .. وكادت اجهزة التكييف أن تلامس رأسي .. فشعرت بالخطر يتهددني .. وظننت انني قد مرضت .. او أصابني عارض..
لم يعد المكان مناسباً لوجودي بالمرّة.. وبدأت الوجوه تخيفني أكثر، ثم تجمعت كلها في وجه واحد ، طغى عليه تعبير مثير للقلق.. كنت أرى الوجه معلقاً في الهواء أينما ابصرت .. وفكرت ان اخرج من القاعة.. لكن نصف جسمي كان عالقاً تحت الطاولة .. اتكأت بيدي على سطحها الأملس .. كان لإنعكاس الضوء تأثير على رؤيتي للاشياء .. ولكن رغم ذلك وجدت نفسي فجأة اجتاز عدة طاولات شملها الحجز الشرعي.. رقم ١ محجوز.. رقم٢محجوز.. رقم ٣ محجوز….ويستمر الحجز ليشمل عددا كبير..! مالذي جيئ بي الى هنا ؟ 
تلمّستُ ملابسي، فبدتْ لي ناعمة أكثر من ذي قبل، كنت أرتدي بدلة بربطة عنق خالية من اي لون الا من ثلاث او اربع نقاط صفراء شكلت مع قوس صغير و نقطتين ملونتين بالأحمر ، علامة نمر قافز في الهواء....عند كل مقعد زجاجة مع كأس فارغة أو مملوءة .. 
وكان بعض المسلحين قد انتشروا في اركان القاعة..
كنت أترنح في سيري.. وهناك قوة ترافقني خطوة بخطوة ، وتدفعني للأمام او الى الخلف ، لست ادري..! هل اني متجهٌ نحو الباب الأمامي للقاعة أم الى جهتها الخلفية؟..تكاد اجفاني تنغلق تماماً عندما سألني احدهم: 
-من حضر معك؟
لم اذكر له أحداً .. مدَّ يده في جيبي وتأكد من بطاقة الدعوة..ثم عاد يسألني من جديد:
-هل تناولت شيئاً هذا المساء؟
"لا لم أتناول سوى رشفة العصير تلك..!" 
-هل قابلت أحداً وانت في الطريق؟
"نعم ..لا... لا..نعم..!؟
كنت متردداً، سيارتي معطلة وسط الشارع الذي يغصُّ بالسيارات .. واجهني شخص متنفذ يرتدي بدلة وربطة عنق صفراء .. وكانت درجة حرارة الجو لا تطاق .. أحسست بالإثارة بسبب الحر و..سخونة كلماته اضافة الى ربطة عنقه..
أسندت ظهري على الكرسي ، كنت انوي ان اجيب على كل الأسئلة الموجهة لي بكل دقة وصدق ، فلقد كنت مهتماً بما يحدث أكثر من أي شخص آخر.. ولكن جفنيَّ لا يستجيبان لشيئ.. ومازلت أعاني من صعوبة فتحهما، وبرخاوة في عضلاتهما وعضلات جسمي ، وبعض الارتعاشات الخفيفة تزورني من وقت لآخر في الأماكن الاشد رقة ونعومة..
مازال الوجه المكفر يتعقبني، يتنقل بين جدران الغرفة، وكانت الأسئلة قد أصبحت غريبة وصعبة الفهم، كأن الشخص الذي يسأل قد ارتدى هذا الوجه..!
عندما أتممت بصعوبة كلمات ومفردات إستعصى عليّ نطقها ، سمعت ضجة ، وأصوات اقدام تتجه بعيداً.. فتحت عيني بقوة نصف فتحة .. فوجدت نفسي بمفردي.. كانت الغرفة أشبه بدهليز ، نهضت ببطء محاولاً التسلل من الباب الجانبي . 
على رصيف الشارع ، تجمع عدد من المدعوين حول سيارة إسعاف واقفة عند باب القاعة .. ورأيت ذلك الشخص المتنفذ ممداً على نقالة خاصة وقد خلعوا بدلته وربطة عنقه ، وفكّوا أزرار قميصه.. كانت عيون الواقفين تحوم حوله، بعضها تغشاها الدموع، وتتصاعد أصوات وهمهمات من البعض الاخر .. " يقولون انه شرب من كأس العصير"
ذعرت.. وهربت بعيداً، وبدت ساقاي تتعثران ببعضهما.. وفي ذهني كثير من الأفكار تزدحم وتتصارع لكي تنفذ خارج رأسي .. كنت أرغب في البوح بها .. ولكن دون جدوى..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق