الجمعة، 5 أغسطس 2016

الكنتيسة وإحراق العمائم // قصة قصيرة // للاستاذ صالح هشام // الرباط المغرب

[الكنتيسة وإحراق العمائم / قصة قصيرة ]
[بقلم الأستاذ : صالح هشام /المغرب ]
يحزم أسمال عريه القرمزي على خاصرته ، يأكل هرولة جنبات طريق وعرة ،يسابق خيوط النار و سقوط أول بيضة دجاجة ، يمعن في الهرولة، و تتحول ركضا ، تجتاحه نوبة خوف شديد ، تتمسك به الأرض، شيء ما غريب يتمسك بتلابيبه ، يعوق سيره ، يكبر ، يتضخم ، ينتفخ كالبالون ،كحصان يجر عربة ثقيلة بدون عجلات ! يقتلع جسده اقتلاعا ، يدحرجه أمامه ، يسير في الوحل ، انفاس حارة ممزوجة برائحة قرنفل غريبة تجتاح قفاه ، تغمر جسده ، يغرز عينيه في الفراغ ، تمة أنامل بدون أظافر ، ناعمة ، باردة كالموت تدغدغ حبيبة أذنه ، يشعر برعشة لذيذة !
قبضتان قويتان تعتصران فوذيه ، يحس بدوار شديد ،برغبة قوية في القيء حتى الاغماء ، تثقل خشبته، تتقطع أنفاسه ، صوت لا صوت يشبهه : رخيم ، غريب ، رحيم ، عجيب ! يهمس في أذنيه بعذوبة وشبق خارق حد انهيار الإحساس : 
- حبيبي أتلبسني أم ألبسك ؟
٠٠٠ أتسكن لي و أسكن لك ؟
يجمع ما تبقى من بكمه ،يصرخ :
-من أنت ؟ ما اسمك ؟ وماذا تريدين مني ؟
-أنا عروس البحر في البحر!
٠٠٠وعروس البر في البر !
٠٠٠وعروس النهر في النهر! 
والناقة ،الهيفاء ،الفرعاء ، الحمراء في الصحراء ! 
ألا ترى أظلافي الجميلة، ألا أشبه حمراء الصحراء ؟
أنا متقلبة المزاح ، خارجة عن حدود الزمان و المكان !
تسري قشعريرة في أوصاله كالموت ، تكتسحه باردة حد الصقيع ،تضيع منه مكابح الروح والجسد ، و يفعلها ساخنة في قاع مداسه : 
- خلقنا لبعضنا وقدرنا أن نحل في بعضنا و أن يمتزج دمنا !
يشعر بقضيب فولاد ينغرز في رقبته ، يعوق حركته ، يشل أطرافه تماما : 
تلفظ ذاكرته حروفا قرآنية : يلملمها، يحاول جمع شتاتها وترتيبها، تنفلت من لسانه المتخشب ، تركل سقف حنكه ، يبتلعها بصعوبة بالغة كأسلاك شائكة ، ثم تندلق رخوة من شفتيه مترهلة ، تضيع في متاهات خيشومه ، ينطق الخواء : نهنهة وحمحمة وأصواتا غريبة : 
يمتص سمعه صدى فراغ سحيق غير مسموع، وتتلاشى الهمسات :
منها فقط في أذنيه رنين مطرقة كبيرة ترج سنديانا !
يخلص جسده بمشقة وعسر من حبال مشدودة بأوتاد مغروزة في قلب الأرض ، رويدا رويدا ، يحرر قدميه : 
أشبه بقذيفة طائشة يخترق العدم ، يركب ريح الريح ، يمتطي صهوة الضوء ، صهوة الصوت : حصان جامح ينبت جناحين !
هسيس الكلاب ، بصبصتها ، نباحها المكتوم ، حفيف الريح , خشخشة الأعشاب , تكتكة قدميه شبه حافيتين ، مكتومة : 
أصوات نشاز ،خليط ،ممزوج برنين همس شيء لم يميز منه شيئا !
يندفع مرتجفا مرعوبا ،ثقيل الخطو ، منهوك القوة، في قعر البيت :
يتهاوى كتلة لحم بارد ، لا أثر للحياة فيها ، بسرعة ،تتلقفه أمه بين دراعيها ، تسنده إلى ركبتيها ، تصرخ ، تولول، تحوقل ، تتف ، تردد تعويدات مبهمة ، تتلو آيات قرآنية ، لا تحفظ منها شيئا :
-آ عيشة ! آ مولات المرجة أحجارك يشدوك : 
بس ٠٠بس ٠٠بس ، لا هو من ثوبك ولا أنت من ثوبه !
تدس أصابعها بتوجس في جسده ، تبحث عن آثار (القبلة/ المصة) الدموية المسعورة القاتلة ، صلة الوصل بين الثقلين !
، يغوص في هستريا الهذيان، في نوبة صرع مجنون حد الجنون : 
- هي ،هي : مولات المرجة ، (الكونتيسة / قنديشة )، لمستني لازلت أشعر بحرارة جسدها الطري تغلق مسام جسدي، وأنفاسها العطرة تتلاعب بشعيرات قفاي ، تهمس، بتلذذ، تكاد تعض حبة أذني ،تبوح لي بسرها ، تعترف لي بحبها : 
- حبييي إلبسني :
٠٠فأنت لباسي !
٠٠٠ أسكن لي :
فأنا سكن لك ! 
تتكور حبيبات :بلورية ، براقة، زجاجية على جبينه ، تتدحرج ،مندلقة ، ماسحة جغرافية وجهه المتجعد ، و تستقر فائرة في حفيرة منحره :
يتعرق بغزارة ، تشتعل النار في جسده : يتحول صفحة حديد ساخن! 
تصرخ أمه وتولول : 
- الرجل يموت يا امرأة !٠٠سيضيع مننا ، ومن أولاده !
تقتحم زوجته باب الغرفة الكئيبة تجر جسدها منهكا ، خائر القوة ، تستند براحتيها على ردفيها و هي ترتجف :
صفراء : ورقة ميتة صفراء٠٠ تفوح منها نتانة حليب قديم مندلق عافه طفلها بعد شبع ، ممزوجا بعطر التوابل في قفطانها ، و بعض من روائح براز الصغير !
تحمل طستا نحاسيا قديما ، و خرقة قماش أبيض و بعض بخور (الجاوي ) : بخور لالة مكة، تذكار من عمرة أبيها قبل وفاته بسنوات خلت !
تضع شمعة ، في مصباح فقد طلاءه ،يتدلى كالإجاصة من دعامة خشبية ، متهالكة تتوسط فناء البيت الطيني ، تدغدغ فتيلتها بعود ثقاب : شعلة بروميثيوس تمتص خيوط العتمة ،تحررالشمعة دموعها ،بحرقة تبكيه ، تعدد مناقبه ، كعاشقة نائحة ! 
تقرفص زوجته المسكينة تضع الطست ، تمررالخرقة على جبينه : تمسح عرق حمى الداخل والخارج ، ينتفض كطائر مذبوح ويصرخ :
-افتحوا النوافد ، أفسحوا الطريق للقادم يا غجر !
يتحجر السؤال على شفتي والدته ويضيع في الفراغ : 
-من القادم ياولدي ؟ 
تقتلع زوجته ذاتها المتعبة ، تدحرجها ككرة أمامها ، تتعثر ، وتتمسك بالحائط ، تشرع النوافد ، والباب على مصراعيه ، محدثا صريرا رهيبا ، تتسرب نسيمات باردة ، تراقص الستائر البالية ،ممزوجة بنور حاد كلمعان البرق ، يمتص ضوء الشمعة ! 
ارتعاشة الموت تسري في أوصال أمه وزوجته ، يتلاشى ذلك النور شيئا فشيئا،وتهدأ النسيمات ، وتعاود الشمعة نشاطها باكية ، نائحة !
يتسلل من باب شبه مفتوح ، بخطى ثقيلة مسلوب الإرادة : نائما ، صاحيا ، مومياء محنطة متحركة !
تشرنق يرقة خبل مهبول ،وهبل مخبول في متاهات مخه المشلول :
-أركض ،أركض ، إرحم نفسك ، أركض وراءها ، هي لك وأنت لها : امتزج دمك الأحمر بدمها الأخضر ، أنتما من الآن :
اثنان في جسد واحد ، لا إنس ولا جن، فقط فصيلة من عبدة عشق قاتل ممنوع ،من جمال اتحاد و روعة حلول ،أركض، فالركض خلاصك من آدميتك!
ك"ريم "طريد ،يركب الريح ، يحضنه فراغ ليل قاتل ، جاثوم :
ألا أيها الليل ألا انجلي ٠٠٠٠بصبح وما الإصباح منك بأمثل ! 
ويضيع شبحه في تلافيف العتمة ، يخرج لسان أمه عن طوعها ، تشق عنان السماء صراخا وعويلا : 
-ولدي ، اختطف ياناس ! آه يا ولدي آه يا ولدي ،يا للكافرة ! 
وتغيب في غيبوبة أشبه بالموت ، زوجته لم تكن تتقن فن الصراخ ،كان صوتها رخوا متقطعا ، أشبه بصياح دجاجة باضت ،لتوها بيضة !
تسيل شعاب القرية بأضواء القناديل : نجوم تحذق من السماء باستغراب ، تمتزج وحشة المكان ، بحفيف النسيم وتكتكة النعال فوق التراب والهشيم اليابس! 
يتلاعب كبيرهم بعكازه بحماس زائد : 
-يا قوم ، الكونتيسة تضعف أمام شعلة النار ٠٠نار الحكمة!
-من أين لنا بنار الحكمة ، يا سيد القوم ؟ 
يتساءل الجميع ،يصيح بأعلى صوته و بثقة في نفسه : 
- عدو ا معي : خطوة ٠٠ خطوتان ٠٠ أحرقوا العمائم !
- عدوا معي : خطوة ٠٠خطوتان ٠٠ أحرقوا العمائم ! 
ينبرى أحدهم و بسؤال فيه نوع من التشكيك و مآخذة الكبير : 
-لكن ما علاقة هذا بإحراق العمائم يا سدنا ؟
-العمامة غطاء الرأس !
والرأس رأس الحكمة !
والكنتيسة تكره حكمة البشر ، تكره شعلة النار التي أضاءت الكهف ، تكره بروميثيوس : شعلة ناره نور فيك نور في ، نور فينا جميعا ،منذ غابر الزمان ، وقديم المكان ! 
من حين لآخر يومض ضوء كالشمس في عز النهار :
حريق العمائم - تلتهما النيران - يقضم من برنوس الليل : في كل خطوة قضمة ، في كل عمامة تحرق كسر لصمت المرجة القاتل ، وكشف سر من أسرار الكونتيسة ! 
هم يعرفونه حق المعرفة : 
صريع حب مستحيل ، لا وجهة له غير هذه المرجة الزرقاء الضحلة ،على صفحة مائها تمارس الضفادع شغب التزاوج ، مرجة تحفها أشجار الدفلى تتخلل سيقانها نباتات السمار ! تم مربط ضحايا (الكونتيسة / قنديشة )،تم فخاخ إغراءاتها المخملية ، تم الضوء المميت يجلب الحشرة ! 
تحت ضوء العمائم والقمر ، يلوح جسمه مركوزا مغروزا في الارض ، يدور في اتجاه عقارب الساعة بسرعة مروحية كهربائية ، يشخر شخيرا غير عاد ، يقترب منه الأهالي بحدر شديد ،كانت كتلة رغوة كزبد البحر الهائج ،تغطي وجهه تماما ، عيناه جاحظتان شاخصتتان الى السماء ! يقترب منه كبيرهم :
- هذه الكنتيسة ، تمتص منه رحيق نشوتها ، و لذتها من جسده الغض ، إنها تمارس عليه شذوذها ، وكرهها للرجال ، اين زوجته ؟ 
تتقدم فتاة في مقتبل العمر : هيفاء ،فرعاء ، رعناء ، شعثاء ، فيها رائحة من زوجة غبية ، ربت الكبير ،على كتفها وقال بنبرة حزينة :
-هذه ضرتك ، ولا رباط خيل لك ، فالمعركة غير متكافئة ، ما ذا تودين قوله لها يا بنيتي ؟ 
تدحرجت دمعتان كبيرتان على خذيها ورفعت عينيها إلى السماء ،كادت تكسر رقبتها وصاحت : 
-أختاه في العشق ، والعشق جنون !
خذيه روحا،واتركيه لي عظما ولحما يعز علي غيابه !
تبتلع ريقها و بريقها ، وتجهش في نحيب مكتوم !
حمحمة حصان جامح ، تنهيدة عميقة مسموعة ،تربت على رؤوس أشجار الدفلى وتتلاشى !
تهدأ حركته ، يسكن جسدة ، ترتخي قبضتاه ، ويغيب غياب الموتى !
، يتلاعب كبير القوم بضفيرتها المنسدلة على خصرها، يقترب من أذنيها وبصوت خافت : 
- على سلامته ، وعلى سلامتك ! 
سيعود إليك قبيل الخيوط الأولى من الفجر ! 
لقد أخذت منه وطرها ، وهي حال وأحوال : عشاقة ملالة !
بقلم الأستاذ صالح هشام / المغرب ! 
الاربعاء / الخميس ٣~٤|٨~٢٠١٦

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق