صاعقة الهروب
يصعب علي الآن بالذات في هذه الحديقة أن أميز أجواء الفصل الذي يعصب على عينيّ ،فكل شيء يتجلّى رماديا ، كيف يمكن أن أساعد الطبيعة في خندقة ذاتها، و أنا الذي يبحث عن هوية لنسماتي؟ كم أحسد أولئك الذين يتحكمون في تعاقب الفصول داخلهم ،و يملكون تذكرة لكل حافلة تقف أمامهم .. يذكرونني بأولئك الذين يهيمون في الليالي العاصفة يحملون معهم مفاتيح لكل الأبواب ،و مشروعهم البديل الوحيد في الطوارئ هو إطلاق أرجلهم للريح ،أما أنا فلم أوطّن نفسي على هذه العادات الحسنة ، ففي جيبي تذكرة واحدة مازلت أنتظر حافلتها في موعدها المحدد ، و بيدي مفتاح واحد يصلح لباب معيّن ما زلت أطوف باحثا عنه بين الأزقة الضيقة في ميداني الخصب الذي هو الأيام الصافية ، و قد لا يكون منزله الذي يُركّب فيه قد بني بعد، فالانتظار جزء من الرومنسية المهجورة .
كم هو مظلوم بالتسمية قلم الرصاص الذي وضع أصلا للتراجع عن طريق المحو ، في حين أن الرصاص لا يتراجع ، ربما يشترك معه في المحو ، فالرصاص يمحو مسارات سعيدة أو تعيسة لكائنات تتشبث بحجمها الطبيعي على صفحة هذه الحياة ،يولد الإنسان عبدا لأوهام الحروف المستبدة ، وحده قلم الرصاص يحرره ..للإشارة فإن حياتي كلها مخطوطة بهذا القلم المقهور على أمره .
بعض العصافير تقترب مني الآن ..تراقبني من بعيد ، تتنصّت على دقات قلبي ، تنتفض من حين إلى آخر ، كأنما أفزعتها أصداء جرس الجرح المقدس ،مفتوح صدري على ريشها الناعم الذي يضفي أجواء رطبة كلما حركت أجنحتها ، ألمح من بينهم عصفورا قليل الحركة يستكشف المكان كما ما زلت أنا أتعامل مع الدنيا و الناس،تأملت فيه طويلا ، فإذا هو عصفور نادر و ثمين ، يبدو أنه ضحية هاتين الميزتين ، المرجّح عندي أنه ندم على هروبه من القفص ، عرفت من تحركاته أنه لا يكره القفص ، و إنما يبغض أجواء البيع و الشراء ، كأنما هو في سوق نخاسة ، و أبغض ما يكرهه هو المقايضة التي غالبا ما تكون مع من هو أقل منه جودة و أصلا ..يبدو متواضعا تواضعا جما ، كما لا يحس بوطأة الحبس، و إنما يمكن أن يثير لديه الحساسية تعاقب الأسياد بأمزجتهم المختلفة..
ما هي إلا لحظات حتى أقبلت مجموعة من الأطفال يتوسطهم طفل يبكي ، سألني :
ـ هل رأيته ؟ماذا قال لك ؟
ـ لماذا من بين كل رواد الحديقة قصدتي أنا بالذات ؟
ـ لأنك تشبهه ..ماذا قال لك ؟
عبرتني قشعريرة غريبة انتفض لها جسمي ، بعدها أشحت بوجهي عنه، و قلت:
ـ لا أدري عما تتحدث، المكان واسع و مليء بالناس ،لقد أخطأت في الوجهة يا بنيّ..
ـ لم أخطئ ،انظرجيدا ..
ثم قرب إلى وجهي القفص فارغا دون أنيس ، كأنما يستعطفني به، لم أكن لأحتمل تضييع فرصة حبس دون أن أستغلها ، أمسكت القفص، و قلت له :
ـ دع هذا هنا ،و ارجع غدا ،سوف تجده عامرا بإذن الله .
انصرف محاطا بالمجموعة مبديا ملامح التأسف و عدم التصديق ، مكثت طويلا في مكاني لا أفكر في شيء ، و إنما أنتظر وقتي الذي اعتاد الناس أن يروني أقضيه كل يوم ، و أنا لا أريد أن أخالفه حتى لا أزعجهم أو أكلفهم عناء التفكير في تصرفي غير المعتاد ،فلا أرى نفسي أهلا لأن أسترعي اهتمامهم و لو لحظة واحدة ، عندما نهضت، وجدت الأطفال مجتمعين ، يتهامسون :
ـ لقد مات ..لقد مات ..
أسرعت بخطاي هربا من استماع بقية الخبر..هل الطفل هو من مات أم العصفور ؟ هربت ، ما زلت إلى اليوم أتهرب من تفاصيل الخبر، كلما ارتسمت عبارة مستعجل في التلفاز غيّرت المحطة ، و لا أريد من أي واحد منكم أن يخبرني بالمعنيّ بالموت .. لكنني في قرارة نفسي أخشى ما أخشاه أن يكون العصفور هو المقصود بالخبر ..
يصعب علي الآن بالذات في هذه الحديقة أن أميز أجواء الفصل الذي يعصب على عينيّ ،فكل شيء يتجلّى رماديا ، كيف يمكن أن أساعد الطبيعة في خندقة ذاتها، و أنا الذي يبحث عن هوية لنسماتي؟ كم أحسد أولئك الذين يتحكمون في تعاقب الفصول داخلهم ،و يملكون تذكرة لكل حافلة تقف أمامهم .. يذكرونني بأولئك الذين يهيمون في الليالي العاصفة يحملون معهم مفاتيح لكل الأبواب ،و مشروعهم البديل الوحيد في الطوارئ هو إطلاق أرجلهم للريح ،أما أنا فلم أوطّن نفسي على هذه العادات الحسنة ، ففي جيبي تذكرة واحدة مازلت أنتظر حافلتها في موعدها المحدد ، و بيدي مفتاح واحد يصلح لباب معيّن ما زلت أطوف باحثا عنه بين الأزقة الضيقة في ميداني الخصب الذي هو الأيام الصافية ، و قد لا يكون منزله الذي يُركّب فيه قد بني بعد، فالانتظار جزء من الرومنسية المهجورة .
كم هو مظلوم بالتسمية قلم الرصاص الذي وضع أصلا للتراجع عن طريق المحو ، في حين أن الرصاص لا يتراجع ، ربما يشترك معه في المحو ، فالرصاص يمحو مسارات سعيدة أو تعيسة لكائنات تتشبث بحجمها الطبيعي على صفحة هذه الحياة ،يولد الإنسان عبدا لأوهام الحروف المستبدة ، وحده قلم الرصاص يحرره ..للإشارة فإن حياتي كلها مخطوطة بهذا القلم المقهور على أمره .
بعض العصافير تقترب مني الآن ..تراقبني من بعيد ، تتنصّت على دقات قلبي ، تنتفض من حين إلى آخر ، كأنما أفزعتها أصداء جرس الجرح المقدس ،مفتوح صدري على ريشها الناعم الذي يضفي أجواء رطبة كلما حركت أجنحتها ، ألمح من بينهم عصفورا قليل الحركة يستكشف المكان كما ما زلت أنا أتعامل مع الدنيا و الناس،تأملت فيه طويلا ، فإذا هو عصفور نادر و ثمين ، يبدو أنه ضحية هاتين الميزتين ، المرجّح عندي أنه ندم على هروبه من القفص ، عرفت من تحركاته أنه لا يكره القفص ، و إنما يبغض أجواء البيع و الشراء ، كأنما هو في سوق نخاسة ، و أبغض ما يكرهه هو المقايضة التي غالبا ما تكون مع من هو أقل منه جودة و أصلا ..يبدو متواضعا تواضعا جما ، كما لا يحس بوطأة الحبس، و إنما يمكن أن يثير لديه الحساسية تعاقب الأسياد بأمزجتهم المختلفة..
ما هي إلا لحظات حتى أقبلت مجموعة من الأطفال يتوسطهم طفل يبكي ، سألني :
ـ هل رأيته ؟ماذا قال لك ؟
ـ لماذا من بين كل رواد الحديقة قصدتي أنا بالذات ؟
ـ لأنك تشبهه ..ماذا قال لك ؟
عبرتني قشعريرة غريبة انتفض لها جسمي ، بعدها أشحت بوجهي عنه، و قلت:
ـ لا أدري عما تتحدث، المكان واسع و مليء بالناس ،لقد أخطأت في الوجهة يا بنيّ..
ـ لم أخطئ ،انظرجيدا ..
ثم قرب إلى وجهي القفص فارغا دون أنيس ، كأنما يستعطفني به، لم أكن لأحتمل تضييع فرصة حبس دون أن أستغلها ، أمسكت القفص، و قلت له :
ـ دع هذا هنا ،و ارجع غدا ،سوف تجده عامرا بإذن الله .
انصرف محاطا بالمجموعة مبديا ملامح التأسف و عدم التصديق ، مكثت طويلا في مكاني لا أفكر في شيء ، و إنما أنتظر وقتي الذي اعتاد الناس أن يروني أقضيه كل يوم ، و أنا لا أريد أن أخالفه حتى لا أزعجهم أو أكلفهم عناء التفكير في تصرفي غير المعتاد ،فلا أرى نفسي أهلا لأن أسترعي اهتمامهم و لو لحظة واحدة ، عندما نهضت، وجدت الأطفال مجتمعين ، يتهامسون :
ـ لقد مات ..لقد مات ..
أسرعت بخطاي هربا من استماع بقية الخبر..هل الطفل هو من مات أم العصفور ؟ هربت ، ما زلت إلى اليوم أتهرب من تفاصيل الخبر، كلما ارتسمت عبارة مستعجل في التلفاز غيّرت المحطة ، و لا أريد من أي واحد منكم أن يخبرني بالمعنيّ بالموت .. لكنني في قرارة نفسي أخشى ما أخشاه أن يكون العصفور هو المقصود بالخبر ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق