ناقد وقصيدة .. من ديوان ( أجنحة الجمر ) ..
الناقد والأديب ( محمد بن يوسف كرزون ) ..
القصيدة ( حائط السّراب ) ..
للشاعر العربي السوري ( مصطفى الحاج حسين ) .
-------------------------------------------------------
حائط السّراب ...
شعر : مصطفى الحاج حسين .
أسرفتَ في صمتكَ
أيّها الليل المتهالك
فوقَ غربتي
نزيفكَ أغرقَ أنفاسي
وصارت دمعتي تبحثُ عن مخبئٍ
لسقوطي
وحروفي ماعادت تنبثُ
برفيفِ أحلامي
عن ماذا تفتش في جيوبِ نبضي ؟!
وقلبي تتداعى منهُ الجّهات
ياليلُ دثّرني بأمواجِ راحتيكَ
وهدهد لي اشتعالي
وزّع على أجنحتي همس الغيم
وأَقم في يباسِ ظلِّي
بعضَ المدى
حائطٌ من سرابٍ
ينهارُ فوقَ دهشتي !
والسّماء تمطرُ عويلَ هروبي !
خُذ منّي خطواتي ياليل
تعكَّز على لهبِ نزيفي
وانطلق
صوبَ ضحكة تكسّرت فوقَ سهوبي
سلّم لي على نافذةٍ
فرَّت من كوّةِ اختناقي
صافح رائحةَ النّدى
عانق رقصةَ الرؤى
واحتضن
دفاترَ العشب الرّهيف
لتنامَ أعين الجّوع
في وريدي *
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
-------------------------------------------------------
بقلم الناقد والأديب :
محمد بن بوسف كرزون .
يبدأ الشاعرُ نصّه الشعريّ بمعاتبةٍ شديدة
لليلِ الصامتِ الذي يزيدُ من أوجاعه أوجاعاً
في هذا الصمتِ المخيف، الذي يترافقُ مع
أسىً متصاعد.
ويريدُ الشاعر أن يدخلُ في ساحةِ البَوْحِ
ليعبّرَ عن آلامِهِ، يهدهدها، يهادنها، ويعترفُ
بأنّ الآلام قد تعاظمَتْ،حتّى إنّ دمعتَهُ
صارتْ تبحثُ عن مخبأ تلوذُ به، فسقوطهُ
قادمٌ لا محالةَ، وهي صورةٌ مأساويّة ظهرتْ
نتيجةَ ما حلَّ في الوطنِ كلّه، ذلك الوطن
الجريح، الذي ما زال ينزفُ منذ سنين،
ويستمرّ النزيف بحرقةٍ، نزيفُ أرواحٍ ونزيفُ
دمار وخرابٍ وتشتُّت... فكيفَ لا تنعكس
تلك الحالات على نفسِ الشاعرِ، فيعاتبُ
الليلَ الذي أبعدَهُ عن وطنِهِ، فباتت همومه
أضعافَ ما كانتْ عندما كان يعيشُ الحربَ
وهو في وطنِهِ؟!
تلك الهموم التي أمستْ صديقَتَهُ التي
يتعايش معها وتتعايش معه، لتنهالُ في
قصيدتِهِ صورٌ فنّيّةٌ غايةً في الطّرافةِ
والجدّة.
وتتدفّقُ الصور المعبّرة عن معاناةِ الشاعر،
فالسّماءُ تُمْطِرُ عويلَ هروبه، وهذه صورةٌ
مبتكرة بديعة، لم يسبقْ أحدٌ أن لمَّحَ إلى أيِّ
جزئيّةٍ منها.
ونراهُ يتابع الصورَ المبتكرةَ، فيقول:
خُذْ منّي خطواتي يا ليلُ
تعكَّزْ علىٰ لهبِ نزيفي
وانطلقْ
صوبَ ضحكةٍ تكسّرَتْ فوقَ سهوبي
وهنا صورتان بديعتان طريفتان غايةً في
الطرافة والإبداع، (تعكَّزْ على لهيبِ نزيفي)،
والثانية تلك الضحكةُ التي تكسَّرَتْ فوقَ
سهوبِ قلب الشاعر، بل فوَ ترابِ الوطنِ،
إلى أن حوّلَتْهُ خراباً...
ما أقسى هذا الخراب الذي يعاني منه
الشاعرُ في كينونةِ نفسِهِ، ألماً على الوطنِ
ممّا يحدثُ له، وألماً في نفسِهِ ممّا يحدثُ
للوطن العزيز الجريح!
ونرى في الصورتين اللتين سقناهما قبلَ
قليل نسيجاً عجيباً من التناسقِ والإبداع،
فهما تنضمّانِ إلى نسيج النصّ الصُّوَريّ،
وتتماسكان تماسكاً نادرَ الحدوثِ في
القصيدة العربية المعاصرة.
وتأتي بعد تلكما الصورتين صورٌ أخرى لا
تقلُّ طرافةً وانسجاماً مع النصّ، بل قطار
متماسكٌ من الصور التي ترتقي بالنصّ
وتشدُّ القارئَ إلى التحليقِ في معانيه
العميقة.
يقول بعدها:
سلِّمْ لي على نافذةٍ
فرَّتْ من كوّةِ اختناقي
صافحْ رائحةَ النّدىٰ
عانقْ رقصةَ الرّؤىٰ
واحتضنْ
دفاترَ العُشْبِ الرّهيفِ
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي
وما أبدعَ ما ختم به صورَهُ ونصّهُ:
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي
على أنّ القارئَ الحصيف يرى اللغة
المتماسكة التي سعى الشاعرُ إلى ربط
مفرداتِهِ وجمله بها، حتى يجعلَكَ لا ترى أيَّ
انقطاعٍ في نصّهِ المتواصل المتواثب
الكئيب... هذا النصّ الذي يعلنُ تمرّدهُ على
النصوصِ التقليديّة، باستخدامه المنساب
لجميع قواعد السرد الشعريّ بتلقائيّة
عجيبة، تفعلُ فعلَها في القارئ، وتتركُ بصمةً
لا تُمحى في ذاكرتِهِ... لقد قرأ شعر الشاعر
مصطفى الحاج حسين، الذي لن يُنسى.
وفي المجملِ، ترى القصيدةَ نصّاً متماساً لا
ينفصلُ منه جزءٌ عن جزءٍ، وعلى هذا
فالنصُّ عمارةٌ شعريّة متراصّة، تقدّمُ
مضموناً متماسكاً، في نسيج من الصور
الشعريّة المتفوّقة.
تلكَ هي قصيدةُ شاعرنا مصطفى الحاج
حسين، وهي لا تختلفُ عن لغتِهِ الشعريّةِ
عموماً في دواوينه المتعدّدة، والتي كان لي
الشرف في قراءة أغلبها، بل لا أتحرّجُ في
أن أقول كلّها.
محمد بن يوسف كرزون .
الناقد والأديب ( محمد بن يوسف كرزون ) ..
القصيدة ( حائط السّراب ) ..
للشاعر العربي السوري ( مصطفى الحاج حسين ) .
-------------------------------------------------------
حائط السّراب ...
شعر : مصطفى الحاج حسين .
أسرفتَ في صمتكَ
أيّها الليل المتهالك
فوقَ غربتي
نزيفكَ أغرقَ أنفاسي
وصارت دمعتي تبحثُ عن مخبئٍ
لسقوطي
وحروفي ماعادت تنبثُ
برفيفِ أحلامي
عن ماذا تفتش في جيوبِ نبضي ؟!
وقلبي تتداعى منهُ الجّهات
ياليلُ دثّرني بأمواجِ راحتيكَ
وهدهد لي اشتعالي
وزّع على أجنحتي همس الغيم
وأَقم في يباسِ ظلِّي
بعضَ المدى
حائطٌ من سرابٍ
ينهارُ فوقَ دهشتي !
والسّماء تمطرُ عويلَ هروبي !
خُذ منّي خطواتي ياليل
تعكَّز على لهبِ نزيفي
وانطلق
صوبَ ضحكة تكسّرت فوقَ سهوبي
سلّم لي على نافذةٍ
فرَّت من كوّةِ اختناقي
صافح رائحةَ النّدى
عانق رقصةَ الرؤى
واحتضن
دفاترَ العشب الرّهيف
لتنامَ أعين الجّوع
في وريدي *
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
-------------------------------------------------------
بقلم الناقد والأديب :
محمد بن بوسف كرزون .
يبدأ الشاعرُ نصّه الشعريّ بمعاتبةٍ شديدة
لليلِ الصامتِ الذي يزيدُ من أوجاعه أوجاعاً
في هذا الصمتِ المخيف، الذي يترافقُ مع
أسىً متصاعد.
ويريدُ الشاعر أن يدخلُ في ساحةِ البَوْحِ
ليعبّرَ عن آلامِهِ، يهدهدها، يهادنها، ويعترفُ
بأنّ الآلام قد تعاظمَتْ،حتّى إنّ دمعتَهُ
صارتْ تبحثُ عن مخبأ تلوذُ به، فسقوطهُ
قادمٌ لا محالةَ، وهي صورةٌ مأساويّة ظهرتْ
نتيجةَ ما حلَّ في الوطنِ كلّه، ذلك الوطن
الجريح، الذي ما زال ينزفُ منذ سنين،
ويستمرّ النزيف بحرقةٍ، نزيفُ أرواحٍ ونزيفُ
دمار وخرابٍ وتشتُّت... فكيفَ لا تنعكس
تلك الحالات على نفسِ الشاعرِ، فيعاتبُ
الليلَ الذي أبعدَهُ عن وطنِهِ، فباتت همومه
أضعافَ ما كانتْ عندما كان يعيشُ الحربَ
وهو في وطنِهِ؟!
تلك الهموم التي أمستْ صديقَتَهُ التي
يتعايش معها وتتعايش معه، لتنهالُ في
قصيدتِهِ صورٌ فنّيّةٌ غايةً في الطّرافةِ
والجدّة.
وتتدفّقُ الصور المعبّرة عن معاناةِ الشاعر،
فالسّماءُ تُمْطِرُ عويلَ هروبه، وهذه صورةٌ
مبتكرة بديعة، لم يسبقْ أحدٌ أن لمَّحَ إلى أيِّ
جزئيّةٍ منها.
ونراهُ يتابع الصورَ المبتكرةَ، فيقول:
خُذْ منّي خطواتي يا ليلُ
تعكَّزْ علىٰ لهبِ نزيفي
وانطلقْ
صوبَ ضحكةٍ تكسّرَتْ فوقَ سهوبي
وهنا صورتان بديعتان طريفتان غايةً في
الطرافة والإبداع، (تعكَّزْ على لهيبِ نزيفي)،
والثانية تلك الضحكةُ التي تكسَّرَتْ فوقَ
سهوبِ قلب الشاعر، بل فوَ ترابِ الوطنِ،
إلى أن حوّلَتْهُ خراباً...
ما أقسى هذا الخراب الذي يعاني منه
الشاعرُ في كينونةِ نفسِهِ، ألماً على الوطنِ
ممّا يحدثُ له، وألماً في نفسِهِ ممّا يحدثُ
للوطن العزيز الجريح!
ونرى في الصورتين اللتين سقناهما قبلَ
قليل نسيجاً عجيباً من التناسقِ والإبداع،
فهما تنضمّانِ إلى نسيج النصّ الصُّوَريّ،
وتتماسكان تماسكاً نادرَ الحدوثِ في
القصيدة العربية المعاصرة.
وتأتي بعد تلكما الصورتين صورٌ أخرى لا
تقلُّ طرافةً وانسجاماً مع النصّ، بل قطار
متماسكٌ من الصور التي ترتقي بالنصّ
وتشدُّ القارئَ إلى التحليقِ في معانيه
العميقة.
يقول بعدها:
سلِّمْ لي على نافذةٍ
فرَّتْ من كوّةِ اختناقي
صافحْ رائحةَ النّدىٰ
عانقْ رقصةَ الرّؤىٰ
واحتضنْ
دفاترَ العُشْبِ الرّهيفِ
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي
وما أبدعَ ما ختم به صورَهُ ونصّهُ:
لتنامَ أعينُ الجوعِ
في وريدي
على أنّ القارئَ الحصيف يرى اللغة
المتماسكة التي سعى الشاعرُ إلى ربط
مفرداتِهِ وجمله بها، حتى يجعلَكَ لا ترى أيَّ
انقطاعٍ في نصّهِ المتواصل المتواثب
الكئيب... هذا النصّ الذي يعلنُ تمرّدهُ على
النصوصِ التقليديّة، باستخدامه المنساب
لجميع قواعد السرد الشعريّ بتلقائيّة
عجيبة، تفعلُ فعلَها في القارئ، وتتركُ بصمةً
لا تُمحى في ذاكرتِهِ... لقد قرأ شعر الشاعر
مصطفى الحاج حسين، الذي لن يُنسى.
وفي المجملِ، ترى القصيدةَ نصّاً متماساً لا
ينفصلُ منه جزءٌ عن جزءٍ، وعلى هذا
فالنصُّ عمارةٌ شعريّة متراصّة، تقدّمُ
مضموناً متماسكاً، في نسيج من الصور
الشعريّة المتفوّقة.
تلكَ هي قصيدةُ شاعرنا مصطفى الحاج
حسين، وهي لا تختلفُ عن لغتِهِ الشعريّةِ
عموماً في دواوينه المتعدّدة، والتي كان لي
الشرف في قراءة أغلبها، بل لا أتحرّجُ في
أن أقول كلّها.
محمد بن يوسف كرزون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق