الجمعة، 6 مايو 2016

ملف خاص بالمدع الاديب العراقي / الاستاذ هادي المياح

















هادي المياح

العراق/ محافظة البصرة

خريج كلية الزراعة / جامعة البصرة١٩٧٦-١٩٧٧
لي نشاطات مدرسية في المراحل الاولى من الدراسة الإعدادية
لي مشاركات في نشرات على مستوى الدراسة الجامعية
لي مشاركات ومنشورات قصص قصيرة  في الجرائد الورقية العراقية والعربية مثل:
جريدة الزمان،
جريدة المستقبل العراقي،
جريدة العراق اليوم،
جريدة الاضواء
نشرت قراءات نقدية في الجرائد مثل:
جريدة الصباح الفلسطينية/ قراءة نقدية لرواية توما هوك للروائي صالح جبار خلفاوي
جريدة المستقبل العراقي/ قراءة نقدية لرواية هجرة النوارس للروائي خيرالله قاسم
نشرت قصص قصيرة في المجلات الإليكترونية والمنتديات مثل :
مجلة الثقافي ثقافي والمنتدى الثقافي ثقافي
مجلة انكمدو الثقافية العراقيه الإليكترونية
مجلة ريتاج بريس المغربية الإليكترونية

مؤسسة النور للثقافة والإعلام /مركز النور للدراسات/ لي صفحة بإسم هادي المياح..
صحيفة كتابات الإليكترونية المصرية/ نشرت فيها عدة قصص بأسم هادي المياح..

القراءات النقدية:
========
١.
قراءة الشاعر استاذ جاسم الجياشي لقصتي القصيرة وهم الابتهاج،شكري وتقديري وامتناني له لتسليط الضوء على النصمن رؤيته الناقدة...

(دوما ما تحمل سردياتك افكارا مركبة اذ نجدها لاتسير باتجاه واحد كأنها كاميرا تلاحق احداثا مختلفة مما يدل على امتلاء وخزين واكتناز رؤى وقراءة فاحصة لما حولك من واقع تغترف منه موادك لتضعها امام قرائك بكل مهارة وعبقرية القاص المحترف الهادف لخلق واقعا فكريا او توجها محددا بما من حوله من واقع كونك لاتطرح الظواهر السلبية بشكل مسطح بل تاخذ شكلا من اشكال العمق الباحث عن شيء بذا تكون حافزا لمن يعتني او من تقع بين يديه قصصك الرائعة سلمت لنا مبدعا استاذ هادي المياح)


٢.

قراءة الاستاذ القاص عبدالكريم الساعدي لقصتي( نذر اليوم السابع)، وجدتها في أرشيفي ،شكري وتقديري  للقاص المبدع على ملاحظاته ورأيه ..

نعم رائعة جداً...الفكرة تؤشر على قوة المخيلة وأسلوب جميل بعيداً عن السرد المعتاد لاسيما جاء على شكل مقاطع وهو نادراً ما يستخدم وهذا يخرجنا من طوق المعتادأضف الى البطل ( الشخصية الرئيسة _ بنظري_ كان طائر (الديك ) وهورمز رائع والتفاتة ذكية يمكن أن تفسر من زوايا متعددة وذبحة هو دليل على قتل تلك الرموز التي تحلق بين السطور.. كل هذا جاء بسرد مشوق يكاد القارىء يحبس أنفاسه حتى لحظة التنوير ، وبلغة راقية موحية... إنها اضافة متقدمة تؤشر على ابداعك في انتاج مضامين بعيدة عن الحكي والسرد الممل... نص يحمل دلالات متعددة... وربما في قراءة ثانية نكتشف جمال آخر ... مودتي لك
الشكر لك لأنك منحتنا متعة فنية ودرساً جميلاً وجديداً في فن السرد.. هذه ليست مجاملة إنها حقيقة تمنياتي لك مزيداً من التألق فإنك تملك الكثير ومقدرة متميزة.

قراءة في رواية توما هوك / الروائي صالح جبار خلفاوي
        هادي المياح

توما هوك ،رواية الاستاذ صالح جبار خلفاوي هي مكملة لأعماله السابقة ،والتي كتبها بعد احداث الحرب والاحتلال عام ٢٠٠٣وقد حملت الكثير من المآسي والسلبيات التي  الّمت بالعراق وجلبت الويلات والدمار له.. وهي رواية جديرة بالقراءة ليس لكونها كتبت بنمط حداثوي مختلف عن غيرها ولكن لما فيها من متعة ، ولغة مختلفة تجبرك على اعادة قراءتها مرة اخرى وربما مرات..
واجهت الرواية اعتراضات من قبل البعض في الوسط الادبي ونالت رضا الكثير.. ولسنا بصدد استعراض ما واجهته الرواية من أصداء وملابسات ،ولكنني احببت تقديم  قراءة لها الغاية منها تسليط الضوء على الأداء الرائد الفريد لهكذا نوع من الروي او القص..والذي يدعى بالرواية البوليفونية.
قرأت الرواية للمرة الثانية بصفتي متلقي بسيط قد لا امتلك أدوات النقد المطلوبة بشكل كامل الا اني قارئ نهم للأعمال الأدبية والقصصية بالذات وأحب سبر أغوار هذا الفن وأدوات نقده فوجدت الرواية قد حملت الكثير من الصور الفنية الرائعة التي رسمت بلغة مركبة قد تكون صعبة الفهم للوهلة الاولى : مفردات غزيرة ، جمل وعبارات متتاليات في منتهى الصياغة وشروط الترابط والانسجام،فقرات ومقاطع مسبوكة بانسجام تام .. كل هذا جعل النص الخطابي متماسكاً ليعطي في النهاية الصورة او مجموعة الصور التي تعبر عن وجهة نظر الشخصية بشكل جيد وواف..
حينذاك وجدت لا ضرورة لوضع هذه الرواية ضمن إطر نقدية معينه لانه من غير المنطقي ان تحصر ابداع روائي قدير وتحدد تخيلاته الذهنية بقاعدةغير مناسبة بحجة تطوير هذا النوع من الاعمال الروائية،الذي هو حديث عهد في الساحة الأدبية وان كانت ولادته قديمة.. وتوصلت الى ان هذا ربما هو احد أسباب ظهورتلك الاصوات المعارضة للرواية..
المؤلف في الرواية البوليفونية غير مسؤول عن الشخصيات،هي شخصيات مستقلة وحرة نسبياً وغيرية، وتعبر بالدرجة الأساس عن وجهة نظرها الفكرية والأيدولوجية ومن منظورها الخاص وتتقاطع جميعها في الرؤية فيما بينها ومع رؤيةالمؤلف او الكاتب ..وكل  ما تتفوه به الشخصيات من كلام هو من مسؤوليتها فقط.. اما المؤلف فيكون مسؤولا عن الصورة النهائية التي ترتبط بالهدف الأساسي للرواية والناتجة من خلاصة الرؤى للشخصيات ومنظورها للحدث الواحد في الرواية.
الرواية من النوع البوليفويني اي متعددة الاصوات والشخصيات متحررة تماما من سطوة المؤلف وتروى من وجهات نظر متعددة بتعدد الشخصيات والمنظورات الأيدولوجية م وبرؤية  داخلية ، وخارجية، ومن الخلف ..وبسرد متعدد الضمائر ضمير المتكلم ،ضمير الغائب، ضمير المخاطب ..استعان الكاتب بجميع الضمائر في السرد عدا ضمير المخاطب انت ..والكاتب حر في أختيار صيغ وأنماط السرد المناسبة والتي بها يتم استحضار الشخصيات وعرض الاحداث.
اعتمد الراوي على استخدام ضمير المتكلم (انا) في جميع فصول الرواية عدا  صوتي الأب والام فقد كان السرد بضمير الغائب (هو) دون ان  يفرض انحيازه لهمااو تفضيل لرأيهما على باق الاّراء.

١.العنوان
لا يعني عنوان الرواية ( توما هوك)صاروخاً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة كالذي  يستخدم في الحروب ويدمر البنى التحتية والمعنوية والأشخاص ،بل صيّره الكاتب صاروخاً من نوع جديد، كوسيلة لنشر الخراب والانحلال الاخلاقي في المجتمع، وتخريب أواصره الثقافية والاجتماعية ولحمته الوطنية ، توما هوك ،صاروخا موجهاً لكل طوائف المجتمع العراقي ليثير فيها الفرقة والدمار ويزيد من تشتتها وانتكاساتها..وهذا ما يفسر عدم لجوء الكاتب الى إبراز ولو مشهداً واحداً فيه قتلى  او خسائر في الأشخاص..

٢.الحبكة :
تتكون حبكة الرواية من عدة احداث ولكل حدث شخصية محورية تبدو قلقة وغير مستقرة وتعاني من داخل مضطرب وقد تكون مهوسة في اغلب الاحيان ..توزعت الشخصيات على فصول الرواية حسب خطة الكاتب ونوع الخطاب السردي البوليفوني ويكون السرد بصيغة  راو- شخصية،
احداث الرواية متعددة لكل شخصية حدث مستقل لان اُسلوب القص اعتمد أساسا على الحدث، ومجموع الاحداث والصور والأفكار الموجودة في اذهان الشخصيات و التي تقود بالنهاية الى الفكرة الرئيسة للرواية وليس عن طريق سلوك الشخصيات الظاهري ..
فلكل شخصية موقف فكري وأيديولوجي مرتبط بالحدث ويستمد منه  ويأتي من الطريقة التي تقيم بها الشخصية العالم المحيط بها .

٣.الشخصيات:
في رواية من النوع البوليفوني مثل توما هوك ،تجد عدة شخصيات متصارعة فيما بينها و تتمتع كل شخصية باستقلالية نسبية  وحرية الرأي ووجهة النظر والمنظور  رغم تقاطعها مع باق الشخصيات ومع فكرة وأيدولوجية الكاتب.
ان سلوك الشخصية الظاهر من خلال سرد العالم الداخلي لها لا يعبر بالضرورة عن الصورة الفكرية التي يراد ايصالها في النهاية لتشكل الغاية الرئيسية من الحدث والمنظور.
لذا نجد ان بعض الشخصيات ظهرت مهوسة جنسياً وشاذة بدرجة غير مألوفة ،ومفاجئه للقارئ.. كشخصية الام و آمال وصونكول ..ربما وجود شخصيات  بهذا النوع من الانحرافات والشذوذ الجنسي لا يستهوي القرّاء على اعتبار ان حدود انتشار هذا الانحراف في المجتمع ضيقاً  ومحدوداً وطرحه بنافذة واسعة قد يلحق الضرر في سمعة الغالبية الملتزمة لأفراده. ولكن تبقى هذه مجرد فكرة ايديولوجية خاصة بالشخصية ولا علاقة للسارد بها طالما انه لم يتبناها او يدعمها او يفضلها على باقي الاطروحات الفكرية للشخصيات الاخرى.
أوكل الكاتب شخصية الابن  مهمة السارد او الراو- الشخصية ..على الاقل في عرض موجز لمطلع الرواية جاء منسجماً مع معاناة الشخصية التى هي بمثابة المحور المهم في الرواية.. من خلال حركة هذه الشخصية وتنقلها يمكن التوصل الى مستوى الواقع المكاني ..أين يقف الراو- الشخصية الان؟
(هل انت من بغداد؟)
(أما زال هارون الرشيد هناك؟)
(أظنك شارلمان)
(في المقهى الإسباني ،اشاهد العالم يمر بقرب شوارع تصطف على أشجار وقصور ملكية،مسارح،ملاهي تدمن السهر حتى بزوغ الفجر........)
حلم اللقاء بشارلمان ،هارون الرشيد، السندباد،انكيدوا، كلكامش .الف ليلة وليلة وهذه الاقتباسات للبطل  تدلنا على مكانه بوضوح..وان الراوي الان في اسبانيا ينوء  بذكرياته وأحلامه وتخيلاته التي ولدت معه في بغداد حتى بلوغه العقد الثالث من العمر.
اما باقي الشخصيات فلا تقل أهمية بل وظّفها الكاتب توظيفا رائعاً في تطوير العقدة والحدث المناسب لكل شخصية.. فالأم احتلت دور البطولة وبنفس الوقت أُستخدمت كنافذة على شخصية مهمة اخرى وهي صديقتها آمال الطالبة معها في المرحلة الثانوية والتي اتخذ بها السرد طابع التوغل في المفردة المغلّفة بالجنس والشهوة..واستخدم المؤلف السارد ضمير الغائب (هي)..
(ريح الليل ترشف روائح البارود،انه لا يرضى عنهايلعب ببندقيته،ثم يسخر من روحه،يهرب من اللذة المدفونه-عند منتصف الليل نسمع أزيز (توما  هوك) يعبر من فوق رؤوسنا،تتصاعد تمتمة نائمة لأحلام تكتشف اسرار القلق)
هنا نقطة البداية لظهور العقد والمخاطر للبطل الطفل بظهور أزيز توما هوك مقرونا باللقاء السري الذي يحدث في الطابق العلوي والذي يفضحه رفيف اجنحة طير يفز من عشه ..ونزول أمه مندفعة من فتحة السلم مرتدية ملابس سوداء،تكشف زنديها الممتلئتين، وفتحة الصدر الواسعة تظهر عري (.........)
(تضرعت داخلي لو تنقشع العاصفة)
(بقيت ألهو باصطكاك أسناني )
كلها تعابير عن الحالة النفسية للطفل بسبب الصدمة التي تواجهه في هذه المرحلة  الخطيرة والقلقة من حياته..القلق المتأتي من اجواء الحرب والآخر بسبب السلوكيات المنحرفة والشاذة التي تقع على مرأى منه..!).
وجود شخصيات من القومية الكردية تعيش جنبا الى جنب مع الشخصيات العربية .. ووجود الجارة البسيطة ( أم عبدالزهرة) كإشارة للمرأة الشيعية  التي تسكن قرب بيته في غرب العراق..إشارة الى وجود تعايش اجتماعي قديم بين كل شرائح المجتمع العراقي ..ولكن عوامل الحرب بدأت بتخريب وتفكيك هذه الأواصر حتى اصبحت المنطقة الغربية(بيت الأب في غرب العراق آيلاً للسقوط) وربما محاولة هروب سردار من العراق قد تكون إشارة من قبل الكاتب الى انفصال اقليم كردستان ..

٤.اللغة المستخدمة والاسلوب

كما ان التعددية موجودة في الشخصيات والاصوات والمنظورات فإن اللغة كانت متعددة واعتمد في استخدامها على مستوى صورة اللغة بالصياغة الحوارية او الأسلوبية ..ضمّنها بالمحاكاة الساخرة والحوار المقتضب والتناص والتنضيد والتهجين والاسلبة.. ولجأ الى استخدام المفردات ذات المعاني المزدوجة وذات المظهر الدلالي والتعبيري.
( شيطانه حياسز)
جملة حوارية بسيطة باللهجة المحلية العراقية، المتكلم هي شخصية مهنتها ربة بيت وهذا نوع من التنضيد اللغوي حسب المهنة..وهنا أودّ ان أشير الى هذا النوع من التنضيد اللغوي وهو التنضيد المهني،يبدو استخدامه ضئيل قياساً بتعدد وظائف الشخصيات: كمهنة صاحب محل الأخشاب وأمينة الصندوق وربة البيت ،والتاجر ...الخ .
أما التناص في الرواية فيشمل كل الاقتباسات التي دونها السارد او الشخصية وكذلك استحضار كلام الغير سواء كان نقلاً او حواراً:
( لا فتى الا علي ولا سيف الا ذو الفقار)
ولكن تبقى لغة الرواية زاهية بمفرداتها الجميلة والمتنوعة وذات المعاني العميقة مما جعل الرواية على مختلف أحداثها ، نسيجا مترابطاً ومنسجماً ،اكسبها حلاوة ومتعة وجاذبية..
٥.تعدد المنظورات
يظهر تعدد المنظورات منذ البداية حين تنقل الكاتب من وجهة نظر الى اخرى منطلقاً في رؤياه من الخلف الى الرؤيا الداخلية ثم الى الرؤيا من الخارج وباستخدامه الضمائر المناسبة لهذا الغرض..او انتقاله من سرد إلانا الى سرد الغائب(هي) كما اشرت اليه في الفصلين الاول والثاني من الرواية..وإضافة الى ذلك التناوب في السرد بعدد السراد والرواة..والسارد بصفة الشاهد او المساعد..
لا يمكن الإلمام بكل الشخصيات والاحداث والصور الكثيرة المتشعبة في الرواية وذلك لتشعبها أولاً والتداخل في الفضاءات الزمكانية ثانياً ..وقد يفيد هذا التنوع في تركيبة الشخصيات من حيث المذهبية والطائفية والقومية في معرفة الهدف الكامن في داخل صفحات الرواية والذي يبدو كما يبدو هو توحيد هذا التشتت الواسع بين طوائف المجتمع العراقي والذي سببته الحروب الدامية التي مر بها البلد وآخرها الاحتلال الامريكي.

............

نذر اليوم السابع....

(١)
٠٠٠٠٠
َتَنفّس الصبحُ عميقاً ، بعد أنْ كادَ الليلُ يكتمُ انفاسهِ بظلمتةِ القاتمة ..وإعتلى الديكُ الهرِم منصّته ، فوق الجدار ..وراح يصيحُ بصوتهِ العالي المعهود ، وكأن انبلاج الصبحِ لا يكون إلا بإذنه . لم يتغير أداؤه على مر السنين ..إستطالة رأسِهِ الى الامام قليلا، إنفراج منقاره،ارتعاشة عرفه الأحمر الشفاف،ثم هبوط رأسه الى أسفل .
في هذا الصباح ،إرتفعت رايات تخفق بها الريح ..وإمتلأ الجو بدقائق الغبار ،الذي كسا السماءَ صفرة، فإنبجست على الفور من عينيه دمعة لم تحتمل الرقود وهوت تاركة وراءها أثراً لمأساة لم تقو على محوها السنون .
(٢)
٠٠٠٠٠٠
نظر اليه طويلاً، نظرة متفحصة كمن أراد ان يحيط بأمر ما.. ففي مثل هذا اليوم من كل سنة، يقفُ حائراً مأخوذاً بالذكرى الممتدة عبر الزمن..منقبضة انفاسه مملوءة بالغيظ..يبحث عن قربان كي يتقبل منه..فلم يجد سواه قرباناً،يُطفئ به متاعب السنين الماضية، ولكنه قربان مشاكس ،وله سلوك غير مألوف..لم يفهم للان كيف تآلفت معه دجاجات ثلاث في بيت واحد!..
شاخ هذا الديك ولم يزل عنيداً شرساً لا يشبه أقرانه ممن يستسلمون كقرابين لليوم السابع.
كان كلما حان موعد تقديم القرابين، ينزوي في ركن من الدار،ويتحول رأسه ليصبح كرأس قط محاصرا.ويستطيل منقاره المعقوف، وتزداد رقبته إنتفاخاً.فلم يكن بد في مثل هذه الحالة من تركه واستبداله بغيره ، ليبتعد وهو مزهواً يُقلِّبُ عرفهُ الأحمر بِخُبث.
اصبح هذا الديك مصدر بؤسه وشقائه ،وكثرت مخاوفه،فراح يستنجد علّ أحد ينصحه بحل. توصل لدى لقاؤه بأحد الحكماء، بان هذا الديك تلّبسته روح أحد الاجداد أو الأسلاف. وكان ذلك الخبر قد صعقه لانه لم يرث من اجداده غير هذا الديك العدواني ودار متهالكة آيلة للسقوط !

(٣)
..........
لم يكن شبح الاجداد وحده ،ما أثار فيه المخاوف وكثرة التخيلات، بل تراث آباءه الذي يتذكره بدقة..ويتجسّد امامه في كل شئ ..في النذور، والحجابات بمختلف تشكيلاتها وهي تعلق على صدورجميع اقرانه، وصدره حيث يضيق بهم المجلس،،وتخنقه زحمة المريدين، ويجرّه أباه من بين الجموع وهو يهمسُ بإذنه : إنك قربان مبين! في تلك اللحظة بالذات يخرج من منخريه صوت كصوت الديك المخنوق، ويحسّ بشعره الطويل المنسدل فوق أذنيه، يرف كجناحي ديك حين تحّز رقبته شفرة بوركت بكلمات وتمتمات لم يفهم أحد منها حرفا.
(٤)
كان الهلع من لعنة الديك قد استولى عليه، وغدت فرائصه ترتعد خوفاً كلما حاول الاقتراب من بيت الدجاج . ولكنه لن يتوان عن ذبحه هذه المرّة! خاطبه من مكانه:
-غداً ..ستكون انت القربان
تحرك الديك ووقف على قدميه، واهتزّ عرفه، وأومضت عيناه كمن لم يعجبه الكلام ، ثم استدار وهو في مكانه نحو الخلف، ورشّ عليه كتلة من برازه الساخن..
لم تكن للدجاجات الثلاث، علاقة بقضية القربان ،هنّ لا يصلحن بسبب انوثتهن، قرابين مناسبة لمثل هذا اليوم. ولكن فقدان الديك ليس أمر هيّناً فسوف تعمّ الوحشة في بيت الدجاج.. ومع ذلك فقد اتخذْن موقف المتفرج في تلك اللحظة.
(٥)
.........
يفز مذعورا يغمر جسده العرق ..يسمع صوت الديك يخرج رخيماً على غير عادته، وهو يؤدي فريضته اليوميه..يروح جيئةً وذهاباً فوق الجدار..والدجاجات الثلاث تحوم على مقربة منه..لم يحصل اي تغّير في موقفهن المحايد..الأصوات تتصاعد في كل مكان من الشارع..فقد أعلن اليوم السابع أوانه..الجميع يرتدى ثياب المأساة..وهذا اليوم سيكون الأخير في حياته..هو حر في ان يعتلي محرابه ام لا.. كانت الشفرة حادة تبرق في ضوء النهار..ولا زال الديك واقفا في مكانه فوق الجدار..مجذوباً في دائرة من التشائم..يدور برأسه نحو كل الجهات .. تخرج من داخله حشرجة أشبه بمن في حلقه غصّة..ينّقر بحرقة منطقة الرقبة..فيتطاير ريشه في الهواء..يسقط على الارض أسفل الجدار..تتقافز الدجاجات مصعوقة وهي تراقب سقوط الريش..تقاقي بصوت رخيم كالبكاء وتدور بنصف دائرة في نفس المكان..تتزايد نتف الريش المتطايرة..فتتصاعد أصوات قأقأة الدجاج..تظهر رقبة الديك عارية بلونها الأحمر تتدلى على حافة الجدار.. والشفرة الحادة لا زالت تبرق تحت ضوء الشمس..يلقي الديك نظرة بائسة اخيرة على الدجاجات وهن يشيعنه بترنيمة حزينه..عيناه تغمضان حال اقتراب الشفرة الحادة..و رأسه يتجه نحو القبلة ..!

انتهت....

==========================
هموم ركّاب الكيّا

ركنتُ نفسي على جهة من رصيف الشارع. كنت بانتظار سيارة تقلّني الى مقر عملي. الجو لاهب والريح تعصف فتعبث بألاكياس وقناني الماء الفارغة. بحثت يميناً وشمالا عن ظل اتفيأ به. كانت الشمس عمودية على الأشياء،ولا وجود لمكان ظليل على الرصيف. الحرارة تلفح وجهي ويرشني الغبار المتطاير من الشارع بين حين وآخر.
تأخر قدوم السيارة. تعبت.تمنيت ان أنتشل نفسي باي طريقة كانت. قلت لنفسي بغضب: يجب ان اركب أي شئ حتى لوكان صاروخاً! وجاء الصاروخ، جاءت سيارة كيّا كالقفّة وحطت قربي. ركبت بها. إنطلقت القفّة. فتلاشى جسمي بين الركاب..
مابين الزحمة والحرارة المرتفعة، وجوف السيارة الضيق، بدوت أتعرق بغزارة. سرحتُ بذهني خارج القفّة. تمنيتُ لو اني أنهضُ من فراشي صباحاً فأجدُ نفسي طيراً. سأقبلُ حتى لو كنت عصفوراً صغيرا،لا يضر ذلك. فسوف لن أحتاج الى بيت. سأسكن فوق أسلاك الكهرباء ! وسأضع فراخي بعد التفقيس (في حالة التناسل ) على  فتحة المزراب.
ولوكان جميع أهالي المدينة عصافيراً مثلي، لما عانينا من مشكلة إسمها نفايات. الانتظار لأيام طويلة لحين قدوم عمَّال البلدية، أمر في غاية السوء. ربما ستلغى جميع دوائر البلدية،لأن طعامنا لا يتعدى ما تناثر من حبّ بفعل الريح، وفضلاتنا ستكون أصغر من حبة الرز. سوف أمتنع عن الكلام الكثير ولغو الحديث فأتجنب غيبة الناس. لا أعرف تماماً كيف أقضي وقتي بعد إنتهائي من توفير ما يلزم من مأكل ومشرب. فأنا لا أحب الركون الى الصمت. عَليَّ أن أحمد الله كون حياتي أصبحت سهلة بسيطة. سأُسبّح وأنا في مكاني، فوق أسلاك الكهرباء.
ولكن هل العصافير تُسبّح ؟ما أعرفه انَّ العصافير تغرد فقط، تغرد وهي واقفة، وفي حالة الطيران،تغريدها لا يعدو الا زقزقة. الهموم الكبيرة لا تحلها زقزقة بسيطة. من اين تأتي الهموم الكبيرة؟ سأمتلك جناحين أرفرف بهما وأحلق فوق الهموم  والمعاناة،أرتفع عالياً بجسمي الصغير في السماء بعيداً عن الصخب وموجات الحر والغبار ولكني لا أفضل ان أكون كالطيور المهاجرة بعيداً عن مدينتي.أنا نسيت باني حريص بأن تكون ألواني زاهية جميلة، لان اغلب الناس يتأثرون في هذه الأيام بالمظهر.
بدأت أشعر بالضيق من الشاب الجالس على يميني، فرائحته لا تطاق والرجل الذي على يساري يحاول ان ينافسني على المسافة التي أضع فيها قدمي، كان نصف جسمي ملتصقا به..إحترت أين أضع بصري ،توجد نساء في الصف المقابل ولكنني لا أحبذ النظر الى احد حتى لا تفسر نظراتي بسوء نية.ومع ذلك كانت هنالك شابة رأيتها تحدِّق في وجهي كحمامة، تنظر لي دون أن تواجهني ، ولكنني ما زلت في حيرة أين أعلّق ناظري!
غدت نظراتي مشوّشة وأنا أرم بها من خلال الشباك الصغير، بسبب سرعة السيارة وجنون السائق. فأدركت صدق نبوئتي وانا على الرصيف، حين جاءت على لساني كلمة صاروخ!
السائق كالعادة هّمه ان يجمع الأجرة ويعدّها أكثر من مرة وينسى قدمه حين تهبط ثقيلة على دواسة البنزين. فوق الجسر وفي ذروة زحمة الشارع، جهاز الموبايل دائماً يلتصق باذنه. وفي أبسط المواقف يلجأ لضرب مقود السيارة بقوة، مثيراً جلبة مزعجة تعكر المزاج. يجمع لوحده كل عوامل وأسباب نشوء الحادث، عاداته سيئة وأكثرها سوءاً تدخينه المتواصل اثناء السياقة،دخان سيجارته تصل دواماتها حتى المقعد الخلفي. وشرارها المتطاير لا يستبعد ان يؤدي الى نشوب حريق خطير، في اي لحظة داخل السيارة.
لا مجال لخيارات بديلة حينما تكون واقفاً على الشارع وفي منطقة بعيدة عن المركز. في هذا اليوم بالذات كان الكلب الذي ينتظرني واقفا في رأس الشارع قد قلّ نباحه علىَّ. لكن تأخر قدوم سيارة مناسبة، سبب ظهور خمسة آخرين تناوبوا في النباح! سجّل السائق ما لا يقل عن عشرين مخالفة ونحن ما زلنا في ربع الطريق، سائق محترف يلهث وراء الأرقام القياسية ناهيك عما تسمع منه من كلام سوقي وغير لائق.
 شعرت بان الخوف والقلق، هذا الثنائي الذي يرافقنا دائماً يظهر واضحاً على وجوه الركاب، الشباب صامتون رغم كل شئ والنساء تخرج همهمات أشبه بصرخات منفلتة. الا ان هذه قد لم تكن دائماً معبرة وقوية .
-لوكنت تقود صاروخاً ماذا ستفعل؟ قلت ذلك للسائق بصوت عال وضحكت سراً مع نفسي من كلمة صاروخ.
رد علىَّ بوقاحة:
-من لا  يعجبه فلينزل، أنا أُريد أن الحق بالدور في الكراج!
-وماذا لو حدث لنا حادث ! ما ذنبنا نحن الركاب؟
 إرتفعتْ همهمة خفيفة مساندة من بعض الركاب ولكنها إختفت بسرعة..فالركاب دائماً يميلون للاصطفاف مع السائق، حتى لو كان الاخير متهوراً..هذا السائق ليس متهوراً فقط بل عديم الذوق وقليل التهذيب، حاولت التطلع اليه من مكاني فلم أُميّز بسهولة وجهه من رأسه فقد كان ملطخاً، بزيت المحرك .. وكذلك قميصه وذراعيه.
-ستندم ذات يوم وتتذكر نصيحتي : السياقة الرعناء تودي بحياتك ومن معك!وزعقت به:
-توقفْ هنا ؟
لأول مرة تواجهني تلك الفتاة وجهاً لوجه وبإهتمام وتعاطف..كنت في أشد حالات عصبيتي، حاولت ان استغل هذه اللحظة حتى اتمعن ولو لفترة في وجهها المدوَّر  وعينيها السوداوين وشعرها المخضب بشقرة خفيفة، فبدت لي خائفة هي الاخرى، ولهذا فقد سبقتني الى النزول من السيارة..
حينما انطلق الصاروخ مرة اخرى، كانت تقف بجانبي على الرصيف، ابتسمت لي ، وشدت على يدي بكل قوة، فشعرت بالاطمئنان وخف اضطرابي ،لقد كانت مدرّسة جديدة التحقت قبل ايام في المدرسة النموذجية المختلطة.التي ادرس فيها.
بعد ثلاثة ايام حين كنّا نسير معاً على رصيف الشارع ، المحاذي للكراج، سمعت أحداً يناديني من الخلف:
-ست! ست!
إلتفتُّ اليه، عرفته، كانت لا تزال بقع دهون وآثار كدمات على وجهه..احدى ذراعيه ملفوفة بمادة الجبس ومربوطة الى عنقه، عرفته سائق سيارة الكيّا الصاروخ، فحاذرت إقترابه مني ، لكنه فاجئني بابتسامة وهو يقول:
-لو كنت أخذت بنصيحتك يا ست، لما أصبحت على هذه الحال !
قالها وعاد من حيث أتى.

انتهت....
=========================

كان دخولي عنوة

كنت جائعاً،ابحث عن كسرة خبز، علّها تسد عني جوعي. تسللت الى المطبخ كاللص، مستغلا عدم وجود احد. ما عدا الفلاح الذي كان منشغلا في تشذيب الشجيرات في الحديقة. إهتديت الى المطبخ بواسطة حاسة الشم القوية عندي ، خزائن وادراج الجزء السفلي من معرض اثاث المطبخ، جميعها مقفلة، او هكذا بدا لي. لم أقاوم النظر الى الجزء العلوي بسبب واجهته الزجاجية الملونة. ليومين  متتاليين قضيتهما محجوزاً في حجرة مظلمة، لم أأكل شيئاً. اتكئت بجسمي محاولا التسلق الى الجزء العلوي.لامست قدمي أحد الأدراج، فانفرج صدفة عن آخره، شعرت بالنشوه كمن اكتشف سراً وانفرجت أساريري. بحثت في داخله عن شيئ يؤكل فلم أجد. نكصت الى الوراء. صدمت بجسمي الدرج المجاور، فانفتح. عثرت على قطع من البسكويت البائتة. شممت رائحة غريبة منفرة إنبعثت منها، ولكن مع ذلك رحت اتناولها بشراهة. ماذا اعمل؟  فقد كنت جائعاً، وبطني خاوية. واحمد الله، اني استطعت ان أحرر نفسي، وأصل حجرة المطبخ. كنت منهكاً. التهمت من قطع البسكويت ثلثها تقريباً، وكنت امضغها وانا مُغمّض العينين، وفكري سارحاً كطفل يتلذذ بما يأكل ويجمع بنفس الوقت،بين لذة الاكل ولذة التفكير بأشياء أخرى. أنا أعرف بأنني طمّاع، ولكني نادراً ما اعبث بممتلكات غيري ، لان هذا ليس من صفاتي. وما افعله الان هو من قبيل هذا النادر، فأنا اعرف ان قطع البسكويت التي التهمتها الان، قد تكون مخصصة للفلاح او للولد الصغير يتناولها عند عودته من المدرسة. ولكن لا بأس ان تكون الان من حصتي. وحتى تلك القنينة الممتلئة باللبن ، هي أيضاً ستكون لي، وستكون حافزاً جديداً لطمعي، ولكن علي ان اتذوقها قبل كل شيئ لأتأكد من طعمها اللذيذ. ومن صلاحيتها "ها ،ها ،ها" أي صلاحية؟ أنا اموت من الجوع !
تناولت القنينة وشربت ما بداخلها.. ولم اترك منه شيئاً.
سمعت صوت طرق على الحائط ، تسلقت قليلاً رافعاً مستوى نظري، لأستوضح ما يحصل في الخارج، صرت أطل على مساحة مفتوحة، رأيت الفلاح وهو يقف امامي مباشرة بعينيه الصغيرتين النائمتين في محجريهما، يحمل مسحاة يضرب بطرفها الحائط بين الحين والآخر. أخفيت نفسي عنه بسرعة، وعدت ابحث عن مورد جديد مرة اخرى. ورأيت هذا وانا أطل على الخانة الزجاجية في الجزء العلوي. شئ على هيئة علبة كبيرة يبدو انها تركت شبه مفتوحة، جاهزة لتناولها دون معاناة. وحتى لو لم تكن كذلك فسوف افتحها بأسناني دون حياء. أنا جوعان وطمّاع، واريد اي شيئ يملأ معدتي، قبل ان يحضى بوجودي احد !
 آه.. لقد تذكرت كيف أني لم أفكر حتى الان بالخروج من هذا المأزق. ولكن كيف  لي ان اخرج ؟ وانا مازلت منهكاً وهناك الفلاح و… أنا خائفٌ، تقمصني الخوف منذ ان رأيت المسحاة ! ولكن علىَّ ان أكون جادّا في التفكير للخروج من هذا المأزق، على ان يكون ذلك ، بعد ان أُلقم نفسي ببعض محتويات العلبة. لا ادري لِمَ اوحت لي العلبة بالاطمئنان والرضا؟ حتى بدا لي ان كل شيئ سيكون على ما يرام! مما زاد في تعلقي بها ، ورحت أرمقها بنظرت حاسمة.. متوعدة.
وقبل ان أحاول التسلق، خَيّل إلي انني احتضنها، واغترف بكلتا يدي ما فيها، وأأكل.. أأكل بشراهة، وبدون تركيز.. حتى فقدت توازني، فإنقلبت العلبة بما فيها. ولما استعدت توازني ..نظرت.. فرأيت العلبة مازالت مستقرة في مكانها، ولكني أحسست كأنني شبعت..وان بطني بدأت تنتفخ..وتنتفخ..وأصبح كل شيئ حولي يدور..رأسي يدور..عيناي تغشيان..لو تمددت قليلا على الارض..اريد ان انام.. فقدت السيطرة على حواسي..نسيت كل شيئ، نسيت العلبة..تشنجات متتالية راحت تعصف بكل أنحاء جسمي. رقبتي، أطرافي ، بطني..أخذت بطني تؤلمني..وتكاد تنفجر بما فيها..شعرت برغبة في التقيؤ.. انتقل الالم الى قلبي ، تسارعت دقاته وأخذ يخفق بقوة ..صداع شديد في رأسي..وتوترات غريبة في أطرافي..منذ يومين لم أسمع لي صوتاً..أردت ان اعرف، هل ما زلت امتلك صوتاً..فتحت فمي،فأطلقت صوتا غريباً، لا يمتّ لي بصلة.
دفعتني نوبة عصبية مباغته..أسقطت بعض الاطباق أرضاً.. وتفككت قطع ووصلات الرفوف البلاستيكية..لم تسلم مني حتى القارورة الزجاجية الكبيرة قرب رف الصحون، وكان لصوت وقوعها وتحطمها صدى كبير..رأيت وجهي في مرآة جانبية صغيرة..عيون مبحلقة وشعر متطاير..شعرت بأنني معنّفٌ، وفاقد اِلسيطرة، سمعت شخيراً (….) مزعجاً يخرج مع أنفاسي، وسمعت من بعيد، صوت الفلاح وهويقول لصاحبة الدار :
"يوجد جرذ في المطبخ.."

انتهت....

=========================

ظل عفريت

قبل ان تغادر المنزل نادته أمه بصوت عال:
-لا تنسَ ما قلته لك؟..
وإختفت على الفور. لم يتذكر بعد ذلك، غير صوت إنغلاق الباب .
ثم دقت الساعة الجدارية اثنتا عشرة دقة.
دقّات متتالية، ومروّعة. يحسُّ بها خارجة من رقاقات أضلاعه..لم يتمكن من سماع الدقة الاخيرة ، كان يحس بغياب غير معهود. مابين اليقظه والمنام تأرجحت أفكاره المشتتة..وراحت تحوم في فضاءات شاسعة من التيه..تروح وتغدو في فلك مضبب، وكأن عفريت تربع على كتفيه.. شعر بما يشبه الانسلاخ من كيانه ، وثمة اشلاء راحت تندمج مع بعضها. العفريت يبتعد ، البيت يتحول الى مجرد زوايا مظلمة ومتاهات..ماتبقى منه يسبح في بركة اشبه بالسراب..يسمع من جديد دقّات الساعة الجدارية .. ينهض بقليل من الوعي ، يلمحُ بقايا ظل لكائن إختفى لتوه بسرعة ..يبحث عنه بما لديه من إرادة،في كل زوايا البيت، المظلمة منها والمتروكة، البعيدة منها والقريبة..ثم ينتقل الى غرف النوم، غرفة الأطفال، والمخزن.. يراقب خزان ألماء فوق السطح، ويتابع مسقط ظلّه على الارض..تَمثّل له الّظل بهيئة سحابة سوداء تشبه الكبش، سمع صوت مأمأة تخرج من رأس السحابة ..قطرات من الماء تهطل علية فتلتصق بوجهه..يمسحها، يطيل النظر في يده ، سيل يلتمع من الرطوبة في كفه.. وعلى الارض ،أسفل الكبش ، تتدحرج كرات سوداء صغيرة..تبادر الى سمعه همهمات خلف الباب..حوّل بصره الى الباب، انطبعت الكرات السوداء عليه، صار الباب أشبه بثوب إمرأة متقدمة في السن.. فكرة وجود أحد اقتحمت توقعاته..الباب الخارجي يحتّج على وقوف هذا الأحد خلفه، ملّ منه ، فقد بدا له ثقيلاً..صرّ الباب قبل ان ينفتح ، ظهرت أمه، اختفى العفريت.

انتهت....


=============================



حَصِى كربلاء..

استويت في صالة البيت وقد ارهقني التعب.. كنت حائراً في آلية الخروج من حبكة مستعصية ،لقصة بدأت بكتابتها منذ فترة أسميتها (المستذئب)..ولم تخرج  القصة للنور،رغم أني انهيت القراءة الثالثة لمسوّدتها.
تأزّمتُ كثيراً،وانشغل جميع أفراد العائلة لتأزمي..لاحظت ذلك في تعابير وجوههم ونظراتهم ..
وبشكل غير مسبوق،اقتربت مني زوجتي وهي تحمل بباطن كفها ثلاث حَصَيَات صغيرات ،وترتسم على وجهها علائم التوسل والرجاء:
-جلبت لك هذه الحَصَيَات من احدى الموظفات التي لها خبرة في قراءة الطالع!... أدهشني ما سمعت،ورحت اتطلع  بالحصيات وكانت صغيرة ملونة خضراء وزرقاء وبيضاء .. فيما واصلت هي حديثها عن الفوائد وطريقة الاستخدام:
-لهذه الحَصَيَات- كما تقول الموظفة الخبيرة بالفلك- علاقة بالكوكب نبتون الذي تزامنت حركته في هذا الشهر مع اقتراب الكوكب الأحمر من الارض مما اثر بشكل مباشر على مخيلة الكثير من الكتّاب! وجعلهم يتوقفون عن الكتابة نهائياً في هذه الفترة!!.. توضع هذه الحَصَيَات الثلاث تحت اللسان ولمدة ثلاث دقائق فقط، بعدها مباشرة ستكتب ثلاث قصص!!
انزعجتُ كثيراً واشتد بي الغضب وقلت لزوجتي التي مازالت تتوسل بي  لوضع الحَصَيَات تحت لساني !
- لم اتوقع منك انت الطبيبة الاختصاصية ان تصدقي هذا التخريف والدجل! دعيني ارجوك .. كيف اقتنعت بان هذه الحَصَيَات الثلاث ستغير حركة نبتون؟؟ أجابت:
-ولكنها جلبتها لي من حَصِى كربلاء!!
لم اتحمل هذا الكلام وكاد ان يغمى عليّ..  لولا ضحكتها  البريئة الودودة التي هدئتني وهي تقول:
-لا عليك !..انها مجرد مزحة! ،وان الحَصَيَات هي مجرد قطع من الحلوى!!
ضحكت حتى استلقيت  الى الوراء.. وتناولت منها الحَصَيَات الثلاث والتهمتها فوراً.. لكن الغريب في الامر ،انني أتممت كتابة المستذئب ؛بعد ثلاث دقائق!

انتهت...

============================
رحيل العواطف....قصة قصيره
      هادي المياح

(١)...
قبل ان أغفو في الباص لاحت لي صورة الفتاة الجالسة امامي،على الزجاج الظليل خلف السائق..لقد كنت دائماً أفضل الجلوس في المقعد الثاني من جهة اليسار..ملامح الصورة تجسدت لي واضحة رغم انها ظهرت فجأة من بين ركام السنين ..
مددت عنقي للأمام قليلاً،لعلِّي أحصل على فسحة صغيرة تسمح لي بالتطلع بشكل أفضل، إفتعلت التحدث مع الرجل الجالس بجانبي ،كمحاولة لجذب الانتباه  ..تحدثت بصوت عالٍ..بالغت كثيراً في حركة وإشارة يديَّ..لكن هذا لم يأتِ  بنتيجة ، بَقيِتْ هي كما هي ،لم تحرك ساكناً أبدا.
بدت لي كأنها هائمة في فضاء رمادي لا حدود له،إختفى بريق عينيها،وطغى على وجهها الشحوب،وكلما حاولت التركيز فيها أشاحت عني، فتيقنت كم ان البونَ شاسعٌ بيننا الان؟
.....
تذكرتُ لعبتنا الطفولية البريئة..ونحن نتحرق شوقاً لبعض ونتبادل ادوار التواري..كم كانت خفيفة الظل، تقفز كغزالة ثم تختفي بعيداً..كنت أتوقعها خلف ضلفة بابهم الخشبي العتيق، فأتفاجأ بها بعد حين ،خلف ظهري ،تكمِم عينيََّ  بكفيها ،فأستسلم لنعومة أصابعها..وتنمو بداخلي رغبة مفاجئة لأطوق كفَّيها الباردتين، الملتصقتين بوجهي وعينيَّ..وأهيمُ كالولهان أمام نشوة مجنونة..يَصلني صوتها الناعم من الخلف:
-من انا؟ هل عرفتني؟
لقد كنت بحاجة لمزيد من الوقت حينذاك..كي أنعم بالدفق الساخن الذي راح ينبعث من كفيها المضمومتين تحت كفيَّ..وأنا أتشبثُ بهما بقوة فيتصاعد نبض أنفاسها خلفي كاللهاث..رائحتها الزكية العطرة تعبق في انفي، فتشعل جذوة إحساسي الملتهب..عيناي ترقدان باستسلام تام ..وأصابعها الناعمة ترتجف فوقهما بشدة.
.....
لم اصدق ان المرأة الجالسة أمامي ألآن والمنعكسة صورتها فوق الزجاج ،هي التي عاشت سنيناً طويلةً في ذاكرتي ..مُذ كنّا نسكن بجوار بَعض،ولا نمل من بعض ولا يفرقنا الا فترة الظهيرة اللاهبة..فتنسحب هي في كل مرة مع ابتسامة وداع عريضة، تغازل بها قرص الشمس وهو ينحرف عن سمت الرأس ليرسم ظلها الكامل على الارض ..في هذه اللحظة بالذات كنت أسمع نداء أبيها المعتاد من داخل الدار :
-حانت صلاة العصر!
....
إستدار الباص مع انحناءة الطريق نحو اليمين ،فصرت بمواجهة أشعة الشمس..أمسكتُ بطرف الستارة المطوي عند حافة الزجاج الجانبي القريب منها،ورحت أشدّها نحوي،أظهرتْ نصف التفاتة عفوية..لكنها رغم عدم أهميتها أشعرتني بالاطمئنان والارتخاء..فوقع بطل الماء الكبير الذي أحتضنه على أرضية الباص، وتدحرج ليستقر في المساحة الفاصلة بيني وبينها ،وبدون ان أفكر بالتقاطه، ركلْتهُ ركلة خفيفة الى الامام حتى أحسست به يلامس قدميها..لكن سرعان ما أشعرني ذلك بالوجل مما قد يلقاني لاحقاً ..وإنتابني بعض الحرج؟ تسائلت مع نفسي ماذا قد تكون ردة فعلها؟وجائني هاجس : مهما يكن فسأحظى بنظرة منها على أقل تقدير..عندها سأذكّرها بأيام الطفولة التي قضيناها معاً،وسأقول لها بأنني عدت وسكنت في  نفس المنطقة بعد ان باع اغلب الناس بيوتهم وإنني مسافر لاسدد بدلات الايجار وأشياء كثيرة يمكنني الحديث عنها ،حتما سيلقى حديثي اهتماماً منها وستبادلني بعض التعليقات بمرح ثم سنضحك سوية و... احسست بشيئ ما يتحرك قرب مقدمة حذائي، هبطت بعض الشيء لألقي نظرة تحت المقعد ..رأيت بطل الماء يندفع نحوي وهي تضربه بطرف كعبها الى الخلف..شعرت بالصداع وأحسست بقحف رأسي يكاد يقع ،فتمنيت ان احصل  على كوب من القهوة المرّة ؟؟
(٢)....
إهتزت أجساد الركاب قبل ان يتوقف الباص في أحد المطاعم القريبة،،تبادل المسافرون نظرات سريعة فيما بينهم..للان لا يبدو علي الإنهاك ،لكن المسافة لا زالت طويلة بعد،كانت صورة الشيخ لا تغيب عن ذهني،وكأنني أود ان يلتزم ببقائه في البيت ،فقد يكلفني خروجه الكثير من الانتظار..دائماً لا تسير الأمور كما نحب..سفر متعب لمرة او اثنتين في السنة، من اجل مبلغ زهيد لا غير..
فضلت ألعيش في المدينة قريباً على المنزل الذي شهد أحلامي ومتعتي الطفولية البريئة رغم تهجير معظم ساكنيها،كان الجميع يبحثون عن منطقة امينة تضمن مستقبل اولادهم وحياتهم،اما انا فقد نسيت مستقبلي تماماً.وكانت الأوضاع بائسة وغير مُطَمْئِنة.
لم يكن دخولي للمطعم بسبب الجوع إطلاقاً،بل كنت أُريد قضاء فترة للاستراحة لا غير ،شغلتني مسألة بطل الماء كثيراً،وكيف أنه اصبح مثل كرة نتقاذفها بين أقدامنا،يوجد الكثير من الكبار ممن يسيئون التصرف مع الآخرين ،بعض الأحيان عن قصد وغالباً بدونه ،ولكن أخطر ما يزعجك هو من الشباب النزق حيث يواجهونك بأفعال مشينة..الايجارات أصبحت قضية شائكة ؟ مثل أي قضية تثير المتاعب ! والا ماذا يعني ان تقطع مئات الكيلومترات بسبب بعض الاموال ؟ ولماذا لم يوكل الشيخ الذي أئتمنه والدي بديلاً عنه في نفس المنطقة؟
المطعم يبدو فارغاً الا من العمال والطباخين..أحسست بالضجر ،كنّا  قد قطعنا نصف المسافة.. ونصف قوَّتي تقريباً تبددت فيها،ونصف نشاطي الذهني بدأ يتجمد.. ربما أصبح من الأمور المغرية لي تناول قدح من القهوة المرّه ..ناديت احدهم،فأسرع بجلبها لي:
-تفضلي مدام، قهوتك !
مع الرشفة الاولى للقهوة،وصل اسماعي منبه الباص كأشارة للمغادرة.. تهيأت للتوجه نحو الباص، فانا من النوع الذي يلتزم بالتوجيهات وانظر للامور صغيرها وكبيرها بجديه..لدي اعتداد بالنفس ولا انظر خلفي إن مشيت ،تعلمت هذا من والدي فقد كان رجلاً ملتزما بالمواعيد .

.....
كنت اول من غادر المطعم ،لاحتل مقعدي في داخل الباص..هدر صوت المحرك واختلطت مع هديره بعد فترة، اصوات شخير من المقاعد الخلفية..نام اغلب الركاب بعد ان إمتلات بطونهم..وقد أوحي إلي بأنني سأكون من بينهم،غيَّرت وضعية الكرسي لا شعوريا وأحسست بالخدر يسري بأوصالي..كان السائق يميل نحو المذياع ،يبحث عن محطة ،ثم وجدت نفسي أحدق بالزجاج المظلل أمامي لأتأكد من وجود الرجل المشاكس،الجالس خلفي..كان مقعده فارغاً! إستدرت الى الخلف، شاهدته ملتحفاً نفسه ويحلم ..لم أفهم ماالذي دعاني لابتسم له في تلك اللحظة..اللحظة التي عصفت بي فوراً كدفق من شعور ملتهب،أو كأيحاء غريب قادم من بعيد ،من قريتنا القديمة وهو يشق طريقه خلل حزمة من احساساتي الدفينة،ظهرت لي نفس تقاطيع وجهه،وأقواس رموشه المنتصبه..فتهت في لجّة من الاضطراب المباغت..وكأنني محمولة في الهواءوطرف من شالي الذي عصفت به الريح قد لامس الارض،وخشيت من جسامة ما قمت به فقد تجسد لي وجه ابي، وهو يناديني بصوته كأنه آت من بعيد ،بعيد ..بعيد
(٣).....
انتبهت الى نفسي ومازال اخر مقطع من شخيري لم يفلت بعد..لغط مشوش لنهايات حلم في المقعد الأمامي ،وجدتني مكوراً وقريباً من بطل الماء من أي وقت مضى..ألقيت نظرة خاطفة على الزجاج المظلل،رأيت الفتاة تعدّل هيئتها وتعيد كرسيها لوضعه الطبيعي ،فعرفت انها كانت تغط في نوم عميق!
عندما وصلنا المحطة الاخيرة للرحلة، كانت الفتاة قد اختفت تماماً من نظري، بحثت عنها بين الركاب فلم اجدها،هرولتُ باتجاه الباب الرئيسي للكراج حتى بلغتُ الشارع العام ،فلم أرَ أثراً لها ، كأنها شبح وإختفى!

.....
في بيت الشيخ ،وضعت كيس النقود على الطاولة القريبة،وانشغلت بتعديل هيئتي..الصالة يعمها الظلام بسبب الانارة الخافتة وصبغ الجدران القاتم،ميز خشبي صغير عند الركن عليه عدد من سجادات الصلاة.. صور علقت على الجدران بشكل غير منتظم ..والصالة أشبه بمحراب منها الى إستقبالٍ للضيوف..عيون الشيخ تدور معي أينما نظرت، في كل زاوية وجدار وسقف ،ولكنه لا يستطيع حتما ان يتابع ما بأعماقي ودقات قلبي المتسارعه،عندما خطف فجأة شبح الفتاة امامي ماراً بجوار الباب!
قال الشيخ وهو يضع كفه على كيس النقود:
-أهذه هي الأمانة؟
-قلت نعم.
تناولها وقال وهو خارجاً:
-لقد وصل أصحابها ، الان !
ذهلت وصرت في حيرة من أمري..وأصبحت الثانية الواحدة في بيت الشيخ تعادل الساعة! قد لا يمكن تصديق ذلك ، ولكن هذا ماحصل لي ،هنا في ذهني وتصوري كأنني أعيش على سطح كوكب المشتري، يا لحظي العاثر ! الان ستكون هي على الشارع العام ،كأني أراها واقفة تتلفت بحذر..إنها تُوقِف سيارةَ للاجرة، تصعد، تختفي بداخلها، أرى صفحة وجهها من خلف النافذة الجانبية ، لم يكن الزجاج مظللاً..الاطارات بدأت تدور،ورأسي يدور أيضاً، ويزداد الدوران و.. تنطلق سيارة الأجرة  بعيدا لتختفي مرة اخرى بلحظات كالشبح ،كنت أقف على حافة الرصيف أنظر الى الفضاء خلفها وقد تحول ألى كتل متراقصة من نقاط سوداء وبيضاء أخفت وراءها كل شيء،ورحلت معها كل العواطف التي َحملتُها في صدري لسنينَ طويلة .
انتهت....

========================

حصان في علبة كبريت

قدّم ملفا كاملا يحوي كل مستمسكاته الرسمية،الى الموظف المسؤول في الدائرة،،تصفحه على عجاله،ثم كتب عليه بخط واضح:
فقدان شهاده جنسية
البناية يعلوها غبار تشم فيه رائحة الملفات ،،وغضب المراجعين،،وأصوات أبواق السيارات في الشارع المحاذي،الشارع الذي تآكل نصفه بسبب الحواجز ،،حتى صار أشبه بزقاق يحتضر، لضيقه وكثرة المارة.
الموظفون تعلو وجوههم ابتسامة دائمية، تداعب محياهم،تدل على رضا وقناعة،قد تشبه قناعة بائع الجملة في اللحظة الزمنية التي تسبق إغلاق محلّه التجاري!
رجع خطوتين قصيرتين الى الخلف فيما ظلت عيونه شاخصة على ملفه المركون على الطاولة، تحسبا من أن تتلقفه أيادي خفية وينتهي به الامر الى مصير غير معلوم!
لا وجود لصالة إنتظار للمراجعين، عدا هذه الباحة المكشوفة تحت جمرة الشمس،ولكثرة حركة المراجعين واحتكاكهم ،وحرارة الجو ، وروائح الاجساد المتزاحمة، إنتابه شعور بالغثيان والتعب..فاتكأ على الحاجز المرتفع خلفه،تتشضى نظراته على الوجوه المتناوبة من حوله،وكأنه يقرأ من خلالها تعثر الدائرة وسوء خدماتها..
( الدائرة لا تبدو عليها علامات الحياة)
همس بنبرة خفيةٍ، وهو يرى تعابير الحيرة والقلق وعلامات الامتعاض، واضحة على الوجوه..حيث لم يخرج احدا الا وهو ساخطاً متذمراً.. إن كان بسبب عدم اكتمال إلاجراءات او تأجيلها او ربما لفقدانها في ركن ما من هذه الفوضى..
أقبل اثنان من المراجعين نحوه وقبل ان يتخطياه سمعهما يهمسان مع بعض وهما يشيران اليه:
-يبدو انه ينتظر معاملته؟
أردف الاخر ساخراً:
-ليأت بعد أسبوعين ويسأل عنها بائع الشاي!
وابتعدا عنه ضاحكين.
طال انتظاره،،وهو لا يزال واقفاً في مكانهِ يراقب حركة الموظف المسؤول بأنفه الطويل وعينيه الصغيرتين المشوبتين بصفرة باهتة، يعلوهما جفنان يظهران بشكل متكرر حركات مفاجئة كلمزات لئيم .
تقدم اليه متردداً يسأل عن المعاملة ..
رد عليه بلؤم:
ملفك ناقص وكلّ مستمسكاتك مشكوك فيها!
وبشكل مفاجئ،وطريقة غير مألوفة، أخرج من جيبهِ علبةَ كبريتٍ
فارغة المحتوى ودعاه ليقترب منه اكثر،وهو يبتسم هامساً باذنه:
-لا يمكنك دخول الدائرة الا اذا ادخلت حصاناً في هذه العلبة،خذها وحاول، هل تستطيع؟
ذهلَ وأحاطه شعور بالحيرة..وتسائل مع نفسه:
ماذا يعني هذا الكلام ؟ إنني اكملت كل ما مطلوب في ملفي بما فيها (الرباعية المعروفة : رباعية ص )! ثم ما معنى ان ادخل حصاناً في علبة كبريت فارغة؟ يالك من لئيم هل تسخر مني؟ كاد الغضب أن يتمكن منه لكنه إستجمع كل قواه، حتى أحسّ بعينيه تنطان من محجريهما، أما الموظف فقد تراجع ببطء وهو خلف مكتبه تاركاً العلبة على حافة الطاولة القريبة منه، على أمل ان يأخذها صاحب الملف كما يفعلها مراراً مع الآخرين .
لم ينتظر طويلا،وراح يقلّب الفكرة يمنة ويسره، ويرمق الموظف بنظرات استفهام بين لحظة واُخرى، إلا انه رآه أكثر لؤماً من خلال هذه الاختلاجات الاضطرارية العابثة في وجهه وعينيه.
خطفَ علبة الكبريت الفارغة، وانطلق خارج الحواجز ترافقه كتلة من الهواء الحار.. توقف في ركن بعيد عن الماّرة،راح يتخيل الحصان الذي سوف يدخل علبة الكبريت..رأى أحدَ الماّرة في الزقاق الجانبي وهو يجر حصاناً أبيض جامحاً،  هبطت فوقه سحابة بيضاء اللون فأخفته، إخترقتْها خيوط رمادية من الدخان المتصاعد من محل الشواء على الرصيف المجاور.. قصمتْ الخيوط الرمادية ظهر الحصان من المنتصف تماماً..شعر بعدم القدرة على التركيز، وكأنه في حالة من الانتشاء، أو تحت التخدير..تحولتْ الأشياء أمامه الى صور وتراكيب اخرى مختلفة، وإتخذت الأمكنة والبنايات أشكالاً هلامية، تفككت عن بعضها البعض تاركة خلفها خيوطاً وأمشاجاً ذات هيئات مرنة..إتسعت الأزقة، وبدت الشوارع تضيق بالتدريج، ثم انحسرت الأزقة وعادت الشوارع تتسع من جديد..دوار وفقدان في التوازن وكأن شيئاً في مداركه آخذاً بالاتساع، توارى النصف الأمامي من الحصان الأبيض ثم تلاه النصف الاخر، أختفى بعد ذلك الزقاق كله، دس يده في جيبه الأيمن في محاولة لتحسّسّ ممتلكاته وما لديه من نقود، أغرته تجليات الحصان الجامح  وملمسه عن قرب، ثم ازداد عددالأحصنة، شعر كمن يتعرض لسرقه من لص او لئيم او ربما منه، فكّر ان هذا لم يعد مهماً بالنسبة له الان، اطرق نحو الارض قليلا وأحسّ بتوارد مفاجئ للدم في أطرافه وانتفاخ واضح في أوردة يديه، ثم تضخّم حجم علبة الكبريت في يده الاخرى وأدرك فجأة بان شيئاً ما يهرب من وجهه شيئاً له هيئة القناع، أراد ان يطمئن من وجود وجهه الحقيقي، يداه تتوهان مابين جيبه وعلبة الكبريت المتضخمة وعيناه تنتظران رؤية ما سيحدث، حدث سريع وخاطف يماثل بسرعته ابتلاع غيمة الضباب للحصان الأبيض،  تجلى له بومضة خاطفة ما حصل في الثواني الاخيرة، حيث كان الحصان قد أصبح داخل علبة الكبريت .
إتجه فوراً الى مدخل الدائرة، وكانت اساريره منبسطة جداً، وقف امام الموظف اللئيم، سلّمه علبة الكبريت بسرعة وقال:
- لقد وضعت بداخلها ما تريد!
ثم إستلم ملفّه فوراً مع ابتسامة مشّيعة..واسرع يخطو خطواته الاولى على سلّم الدائرة، وقد اكتشف ان لهذا اللئيم صفه اخرى اضافة للأنف الطويل، هي صفة اليد الطولى ولكن ؛ في خراب الدائره.

                               انتهت

=============================
الحصه الاولى

مضى على بداية الحصه الاولى عشر دقائق تقريباً، وكانت كافية للشعور بالقلق ، لذا قرر عدم دخول قاعة الدرس بسبب هذا التأخير..توقف عند منتصف السلم ،كان الهدوء يخيم على الطابقين العلوي والسفلي للمدرسة وجميع ابواب القاعات مغلقة ،كذلك الأروقة والممرات، جميعها خالية من الحركة ويسودها صمت مطبق،هذا هو حال المدرسة المعتاد، نظام اداري صارم واحترام للوقت، وجرس الدرس المعلق في الحائط كالسيف يقطع الحركة والضوضاء..بين فترة واُخرى تصل اسماعه بعض الأصوات يتخيلها قادمة من داخل قاعات الدرس..ربما هي اصوات المدرسين أو جلبة الطلاب ..واصوات اخرى قادمة من ناحية السوق الشعبي القريب..فالمدرسة تقع على الشارع المحاذي للنهر وخلفها يمتد السوق بأذرع متعددة فيحتل مساحةً كبيرة اكبر مما خصص له..
في كل صباح، عليه ان يقطع ثلاثة اميال تقريباً عبر بساتين الفاكهة، يجتاز خلالها القناطر والجسور الصغيرة، يلفحه الهواء البارد فتغرق عيناه بالدمع حتى يكاد ألا يستوضح الطريق، وهو يمر في آخر مشواره بالشارع العريض،المطل على مشاتل ألزينه ثم الجسر العائم، ليصل في النهايه عتبة بناية المدرسه.
هذه المسافة طويلة بالنسبة له لضعف حالته البدنية واستهلاك دراجته الهوائية التي بدت عليها مظاهرالتعب لطول فترة الاستخدام..تردد كثيراً قبل ان يرتقي درجات السلم، رأى باب قاعة الدرس مغلقاً، فتجاذبته عدة افكار ومخاوف بسبب التأخير..
في منتصف السلّم، ألقى  بنفسه على احدى الدرجات، مستنداً على ربطة كتبه، ينتظر بشغف نهاية الحصة..الحاجز الحديدي يبعث عنده إحساساً بالبرد، فيرتد على نفسه بعض الشئ، وعيناه ما تزالان معلقتين بباب قاعة الدرس، تقتحمانها عنوة حتى الداخل..فيخيل له انه يرى كل شئ ، يرى مدرس المادة وهو يقف قرب اللوحة السوداء، مسترسلاً في شرح مادة اليوم، يرى التلاميذ وقد شغلوا كل المقاعد، عدا مقعداً واحدًا هو مقعده، تمنى لو إنه قد شغله الان، إحساس كبير بالذنب يستولي عليه، ماذا لو إستيقظ مبكرا هذا الصباح؟ وهل ان عشر دقائق تستحق كل هذا العناء والقلق الذي يعبث به؟ لو كان بينهم الان لشاطر الجميع وحصد كل كلمات الشكر والمديح ، فهو طالب متميز، وموهوب..ربما سوف لن يفكر بإنتهاء زمن الحصة! كما هو الحال لدى الكسالى من الطلاب..ولكنه في واقع الحال لم يكن بينهم الان..
لوجاء مبكراً لتجاوز الكثير :عقوبة، فوات حصة، تأنيب ضمير..سيعاقب من قبل الجميع وأولهم مدير المدرسة ومدرس المادة، ثم أخيراً ابوه، حتى أبوه سيعاقبه، لم يبق له سوى الله من يدري هل سينقذه الله من كل هذه العقوبات ام سيعاقبه ايضاً؟ ولو كان حظه جيداً في هذا اليوم، فربما سيُكتفى بلومه ولكن اللوم ايضا درجات فمنه ما كان شديداً قاسياً وهذا قد يكون الضرب أهون منه، ومنه ما كان خفيفاً مصحوباً بابتسامة ساخرة حين تراها تحس بوجع خاص..لكن تبقى عقوبة المدير هي دائماً أقسى العقوبات خاصة اذا كان مدير هذه المدرسة بالذات!
فكر:
ماذا لو رَآني القط الأسود هنا على السلّم متخلفاً عن الدرس ؟ 
و(القط الأسود) هو وصف أطلقه بعض المشاكسين على المدير لشدة إدارته وقسوته عليهم ،فقد كان يظهر لهم دائماً ملوحاً بعصاه وببدلته السوداء التي لا يفارقها طوال الفصل الدراسي!
هل سيرحمني ألقط الأسود؟ أم سينزل بي أقسى العقوبات! إزدادت مخاوفه كثيراً، وجال بصره في جدار الحائط أمامه كمن عجز عن ايجاد مخرجاً لمحنته.. تحدث مع نفسه:
هذه الحصه لابد ان تنتهي وبسرعة، على الأقل حتى تكون المواجهة هيّنة وبعيدة عن أنظار التلاميذ! ولكن كيف اعرف الوقت الان وانا لا املك ساعة؟
شئ من الحيرة يستولي عليه وعيناه لا تزالان شاخصتان في جدار الحائط تبحثان عن فكرة قد تبعث اليه بعض الأمل، ثم توقفتا فجأة عند نقطة وهمية..غمرها سيل من الايماءات والاشارات فاضت من ذهنه المتقد، بعد لحظات من التركيز رسمت الايمائات خطوطاً شكلت على الجدار ساعة دائرية، انطلق من مركزها الوهمي شعاعان مرتجفين، يتبعهما ثالث غير واضح، ولكنه يبعث تكتكة كالطرق الخفيف، تناغمت بدرجة مماثلة مع ضربات قلبه!!
وكنتيجة لهذا الاكتشاف البسيط،شعر بشئ من الراحة..وأدرك أن عليه الان ان يبدأ بالتوقيت والحساب ومتابعة عقارب الساعة !
لأول وهلة بدا من الصعب عليه أن يوائم بشكل دقيق بين أشياء إفتراضية واُخرى موجودة في ذهنه فقط..الساعة الوهمية على الجدار..ضربات قلبه داخل صدره..ثم مقاربة كل ضربة مع ثانية واحدة..لكن قلبه الان ضعيف أنهكه قلق الانتظار.. وهذا كله قد يكون أشبه بالهراء..تثائب كقط وقف في مكان اكتشف أخيراً بلا جدواه، عاد يفكر مرة اخرى من جديد.. 
أخذه النعاس، تدلى رأسه الصغير مستنداً على أحد كتفيه، فزّ مرعوباً وهو يختلس النظر ما بين الإدارة وقاعة الدرس، والساعة الجدارية التي نسي توقيتها ومتابعة نهاية الحصة! كان منهكاً من التفكير، بدا له الحائط أشبه بالخٓرِبة المتروكة، وقرص الساعة يتضائل بالتدريج، ويهرب عقرب الثواني خارج الإطار، ينزوي في ركن ما من الخربة، ويعقبه عقرب الدقائق في نفس الاتجاه.
دقّات خافته تطّن في أذنيه تتصاعد حدّتها شيئاً فشيئاً..وتتحول الى أصوات خطوات قادمة نحوه..يسترق نصف التفاتة الى الخلف..فيبدو له المدير بوجهه المتجهم وبدلتة السوداء، ملوحاً له بعصاه الأزلية  في الهواء ..ضارباً الارض بقدميه..شعر بأنه سوف يهان لا محال..فتمنى هذه المرة لو ان الحصة لا تنتهي، حتى لا يشهد الطلاب إهانته..وكالحالم أحسّ بطرف العصا وهي تلامس كتفه وتتحرك حول رقبته ،لا.....لا..انه القط الأسود!!..لم يكن يوما يكره القط الأسود رغم قسوته وشدته في الادارة- كما هو الان- إستذكر في هذه اللحظة، كل ما كان يُحكى من قصص تصف الحيوانات -السوداء اللون- بسوء الطالع والنكد كالقطط والكلاب والغربان وتحذر الناس منها بشدة !
إنكمش على نفسه كالقنفذ من شدة الخوف..وإنتبه على صوت خطوات قادمة بإتجاهه، شعر بحاجز شاقولي معتم عزل عنه ضوء النهار، اقتربت الخطوات منه اكثر، ميّز صوت حارس المدرسة الاجش في أسفل السلم وهو ينادي عليه :
       مالذي جاء بك ؟ ألا تدري أن اليوم عطلة رسمية؟؟
انتهت....
هادي المياحي ... من مواليد البصرة ( العراق ) خريج كلية الزراعة ومهتم  بالجانب الثقافي والأدبي    يكتب في مجال القصة  والقصة القصيرة  لم يكتفي بهذا فحسب له أيضا اهتما م في الخط العربي..
1-         في هذا العدد من  مجلة  الثقافي ثقافي نطل عليكم وبين أيدينا أعماله القصصية  والتي توحي  بحق  انه مبدع  من طراز خاص وخاص جدا ..وأيضا فالقصة لا تقاس بحجمها إنما بما فيها من تجربة وأصالة وحين نغوص في أعماق هذه القصص  ندرك أن الكاتب  يعيش واقعه بصدق وإخلاص ..يعير عن شريحة  عريضة من مجتمعه  ..انه يؤمن  بالوطن و الأرض والإنسان . يحمل معاناة  شعب ، إن لم نقل معاناة امة  تدحرجت  بين تلافيف
ليل مبهم ملامحه  تركت أثارها على نفسية المواطن الذي طالما يحلم آن يعيش معززا ومكرما في وطنه   وهذا ما نجده  حين يسرد علينا تفاصل  قصصه  إذ تحتوي على عدة فقرات  مترابطة  في بعضها لمشهد واحد  بالإضافة  انه يمتهن طريقة خاصة جدا في السرد ويعبر بكل تفان عن ما يكنزه صدره من الم  ليضع  القارئ معه في الصورة 
وعليه يؤرخ  نكبات طالت مجتمعه  فيؤكد لنا وعبر الكتابة عن وضع غريب استفحل على من أهلته الظروف الجميلة  ليكون  مسئولا  يرعى شؤون العباد وهذا ما نجده هنا في القصة "حصان في علبة كبريت "
( قدّم ملفا كاملا يحوي كل مستمسكاته الرسمية،إلى الموظف المسؤول في الدائرة،،تصفحه على عجالة،ثم كتب عليه بخط واضح:فقدان شهادة جنسيه
البناية يعلوها غبار تشم فيه رائحة الملفات ،،وغضب المراجعين،،وأصوات أبواق السيارات في الشارع المحاذي،الذي تآكل نصفه بسبب الحواجز ،،حتى صار أشبه بزقاق يحتضر، لضيقه وكثرة المارة.)
وهنا نقف بين هذه السطور ومعنا هذا المواطن الذي أصبح يعاني الأمرين هويته والحواجز التي أصبحت هي أيضا من المشاكل اليومية التي يتخبط فيه المواطن العراقي وأيضا المواطن العربي  على حد سواء...جراء الحروب ...جراء الفوضى التي أكلت كل شيء وصار الطالع اليومي  البحث بين المكاتب عن شيء اسمه وظيفة فالموازين انقلبت رأسا على عقب
فالقاص عرف كيف يدخل في صلب الموضوع الذي مازال مطروحا في كل مكاتبنا وفي إدارتنا إلى اليوم ...الاستهتار والتعالي ولامبالاة في الأمور (مشاكل المواطن وخاصة ذلك المواطن  البسيط ) الذي لا حول له ولا قوة  إلا الصبر على نكبات الدهر ..هذا العيش وهذا الكد وهذا الجهد
(الموظفون تعلو وجوههم ابتسامة قنوعة ،،تدل على الرضا،،والراحة والطمأنينة ،، جلس في ركن الباحة الأمامية وعلى مرمى النظر من ملفه المركون على الطاولة مرّه، وأخرى في الدرج ،،وثالثة مخفياً بين كدس من الملفات المؤجلة .
هذه الدائرة لا تبعث على الاطمئنان قالها مع نفسه بنبرة خفيةٍ،،وشظايا نظراته ترشق الوجوه من حوله ،،الحيرة تهيمن على الجميع ،،ولغة الهمس المتبادل وعلامات الامتعاض،،تبدو واضحة،، وتعطي وصفاً دقيقاً لتلكؤ الموظفين الفاضح في إنجاز المعاملات).
فبين الإبداع والمعاناة قصة لازال يخطها كاتبنا ويسرد الواقع المر بحروف الألم  ، وكيف استطاع تشريحه بهذا الشكل ليضع لمسته الخاصة 
(طال انتظاره،،وهو جالساً في مكانهِ يراقب حركة الموظف المسؤول بأنفه الطويل،،وعينيه الصغيرتين ،النازحتين من محجريهما قليلاً إلى الخلف ، والمشوبتين بصفرة باهتة، يعلوهما جفنان يمتازان بلمازات سريعة ،،هذه إذن العيون الغمازة،،وهذا هو الشخص اللئيم بعينه .
تقدم إليه يسأله عن المعاملة وكآبة مقيتة تستولي عليه
رد عليه بلؤم:
ملفك ناقص وكلّ مستمسكاتك مشكوك فيها!
وبشكل مفاجئ،وطريقة غير مألوفة ،،اخرج من جيبهِ علبةَ كبريتٍ فارغة المحتوى وقال: لا يمكنك الدخول للدائرة لإنجاز معاملتك إلا إذا استطعت أن تُدْخِل حصاناً في هذه العلبة،،أصيب بالذهول ،،واستشاط غضباً،ما هذا الطلب
الغريب ؟، لم اسمع بحياتي طلباً مثله،، هل تراه يسخر مني ؟ قال ذلك ،ثم هدأ من روعه لأنه تذكر بأنه يمتلك رقبة ،مثل رقبة البعير،،)
فبين الحصان والبعير صورة تشبيهيه  بليغة  وظفهما الكاتب ..لان تكون الرمزية محكمة في تشريح الوضع الذي سئم منه ذاك المواطن الذي شغل بال القاص كثيرا
فالحصان هو مصدر فخر وعزوة أما البعير فهو الذي يحمل الأسفار دون تعب... (قال ذلك ،ثم هدأ من روعه لأنه تذكر بأنه يمتلك رقبة ،مثل رقبة البعير،،) 
والى أن نصل إلى مربط الفرس  أين اخذ النص بعده  بين الحقيقة التي لا غبار عليها  وتجليات الفكرة التي  طرحها المبدع   في القصة  وكيف  وصل بهذه الخطوات إلى شد حزام  المعاناة  إنها احترافية السرقة بشكل مهذب لا يلفت للانتباه واحترافية المرتشي الذي طالت رقاب الناس
(خطفَ علبة الكبريت من يد اللئيم،،وانطلق خارج الحواجز ترافقه كتلة من الهواء الحار،،وتوقف في ركن بعيد عن الماّرة،،راح يتخيل الحصان الذي سوف يدخل علبة الكبريت،،رأى أحدَ الماّرة في الزقاق الجانبي وهو يجر حصاناً أبيضا ًجامحاً..هبطت فوقه سحابة بيضاء اللون فغطته ،اخترقتها خيوط رمادية من الدخان المتصاعد، من محل شواء الكباب على الرصيف المجاور، قصمتْ الخيوط الرمادية ظهر الحصان من المنتصف تماماً ،، تحولتْ الأشياء في ذهنه إلى صورة أخرى وبدت الأمكنة والبنايات تأخذ شكلاً هلامياً ،،التحق بعضها مع بعض
إنها حبكة جميلة في  سرد قصة التي عرت واقع لطالما يعاني منه  المواطن  ..
،فضاقت الشوارع وانحسرت الأزقة و توارى الجزء الأمامي للحصان الأبيض ،،ثم تلاه الجزء الأخر،،واختفى الزقاق كله بعد ذلك ،،دس يده في جيبه الأيمن ، تحسّسّ بعض ممتلكاته وما لديه من نقود،وأغرته تجليات الحصان الجامح وملمسه عن قرب ،،ثم ازداد عدد الأحصنة ، شعر بأنه يتعرض للسرقه ،،من لص دخيل او لئيم،،وربما منه هو ،،اطرق نحو الأرض قليلا،وتضخّم حجم علبة الكبريت في يده الأخرى،ورأى بان شيئا ما يهرب من وجهه ، له هيئة القناع ،،أراد أن يتأكد من وجود وجهه الحقيقي في مكانه، ولكن يبدو ان يده التي دسها في جيبه ،قد اختفت هي الأخرى،،أين اختفت يدي؟وبومضة خاطفة لاحظ اللص في الثواني الأخيرة ،،حيث كان الحصان قد دخل علبة الكبريت .
اتجه فوراً إلى مدخل الدائرة ،،وكانت أساريره منبسطة جداً،،وقف امام الموظف اللئيم،،سلّمه علبة الكبريت بسرعة وقال:
لقد وضعت بداخلها ثلاثة أحصنة عربية أصيلة
أستلم ملفّه،،وأسرع يخطو خطوته الأولى على سلّم الدائرة
وقد اكتشف ان لهذا اللئيم صفه أخرى إضافة للأنف الطويل هي صفة اليد الطول ولكن ..في خراب الدائرة.
هي الرشوة وابتزاز الناس في قضاء  حوائجهم .
..........

2-  أما  في قصة نذر اليوم السابع....فهي قصة بستة فقرات كلها تدور رحاها في الموروث  الشعبي الذي وظفه الكاتب في جل الفقرات وكشف لنا كما يكشف الحكيم أو الطبيب عن الم طال بالمريض وأيضا هي معنى كيف نروي الأرض بدماء القرابين انه وصف في رسم الصورة تعبر عن وعي لدى الكاتب وعاد بنا إلى أقدم حدث كان في قضية القربان حسب ما ذكر في القران الكريم  .
،  فكل نذر له خصوصيته حسب الزمن ،  يبقى الديك هو القربان الوحيد المقدم هنا
هي الماسات التي تعاقبت عليها سنين خلفت جراءها معاناة ما نعيشه إلى الآن  وخاصة ارض  العراق
فالحروب التي ما فتأت تحصد الأرواح وتقديم القرابين  لها على شكل طوابير
مازالت الأرض تفترش السواد وظلمة حالكة برغم تنفس الصبح بعمق و إشراق  شمس خجولة على عيون النساء اللواتي يلوكن الحزن من عصور خلت  ..
ومازالت الأرض تطلب المزيد من القرابين ..ومازال الوضع يحصد أرواح الأبرياء في كل دقيقة وفي كل شبر من الوطن ...
والحقيقة أن الكتاب  يتميز بالقدرة على السرد المتدفق المفعم بالحيوية  والتكثيف الأمر الذي يترك القاري  مشدود الانتباه إلى القصة يتابعها من البداية إلى النهاية ..

(1)        َتَنفّس الصبحُ عميقاً ، بعد أنْ كادَ الليلُ يكتمُ أنفاسه بظلمته القاتمة ..وأعتلى الديكُ الهرِم منصّتهِ ، فوق الجدار ..وراح يصيحُ بصوتهِ العالي المعهود ، وكأن انبلاج الصبحِ لا يكون إلا بإذنه . لم تتغير نغمته منذ سنوات ..استطالة، رأسِهِ نحو الأمام قليلا، انفراج منقاره،ارتعاش عرفه الأحمر الشفاف،ثم هبوط الرأس قليلاً إلى الأسفل ، عند تلاوة المقطع الأخير .
في هذا الصباح ،ارتفعت رايات تخفق بها الريح ..وامتلأ الجو بدقائق الغبار ،وكستِ السماءَ صفرة امتزجتْ بصفرة الغبار ،وإنبجست من عينه دمعة سرعان ما هوت تاركة وراءها أثراً لمأساة لم تقو على محوها السنون .

(2) في مثل هذا اليوم من كل سنة من السنين الماضية،، يقفُ حائرا على منصة الحدث الممتد عبر الزمن..منقبضة أنفاسه مملوءة بالغيظ..يبحث عن قربان يسير كي يتقبل منه..فلم يجد سواه قرباناً،يُطفئ بتقديمه كل متاعب السنين ،ولكنه قربان مشاكس ، وسلوكه وحشي ،لا يعرف كيف تآلفت معه دجاجات ثلاث في بيت واحد..!
وكلما قرر تقديمه كقربان في اليوم السابع، يصبح شكله غريباً ،فيستطيل منقاره المعقوف،وتزداد رقبته انتفاخا..عندها يكف عنه فيبتعد مزهواً يُقلِّبُ عرفهُ الأحمر بِخُبث.
أصبح هذا الديك مصدر بؤسه وشقائه ،لاعتقاده بِتلّبسهُ روحاً لأحد الأجداد،،والأسلاف ،،لم يَرِث من والديه غير ميراث شحيح ودار متهالكة وروح عدوانية تطوف حوله دائماً.
(3)
..........
لم يكن شبح الأجداد وحده ،ما يثير مخاوفه وكثرة تخيلاته ،،بل تراث آباءه الذي يتذكر تفاصيله الان ، يتجسّد بشكل حجب مشنوقة في رقاب وصدور أقرانه ،،يضيق بهم المجلس،،وتخنقه زحمة المريدين ،،حين يجرّه أباه من بين الجموع وهو يهمسُ بإذنه إنك قربان مبين،،،في تلك اللحظة بالذات يخرج من منخريه صوت كصوت ديك مخنوق ويحسّ بشعره الطويل المنسدل فوق أذنيه،،يرفرف كجناحي ديك حين تحّز رقبته شفرة الكلمات التي باركها النذر.
(4)
كان الهلع من لعنة الديك قد استولى عليه،، وبدت فرائصه ترتعد خوفاً كلما حاول الاقتراب من بيت الدجاج .ولكنه هذه المرة سوف لن يتوان عن ذبحه..! خاطبه من بعيد :
-غداً ..ستكون أنت القربان
تحرك الديك وقام واقفا على قدميه،وأومضت عيناه كمن لم يعجبه الكلام ،استدار وهو في مكانه نحو الخلف،، ورشه بكتلة من برازه الساخن..
(5)
٠٠٠٠٠
لم تكن للدجاجات الثلاث ،علاقة بقضية القربان ،هنّ لا يصلحن بسبب انوثتهن، كقرابين مناسبة لمثل هذا اليوم ..ولكن فقدان الديك ليس أمرا هيناً فسوف تعم الوحشة في بيت الدجاج.. لذا قرّرن عقد جلسة للمداولة في الأمر،انتهت بالشجب لا غير..!
(6)
.........
يفز مذعورا يغمر جسده العرق ..يسمع صوت الديك وهو يؤدي فريضته اليومية..يظل يروح جيئةً وذهاباً..والدجاجات الثلاث تحوم قربه..ربما في محاولة لتأجيل القرار إلى السنة المقبلة..الأصوات تتصاعد في كل مكان من الشارع.. وتزحف إليه مجموعات ترتدي ثياب المأساة..اليوم سيكون الأخير في حياته.. هو حر في أن يعتلي محرابه أم لا.. كانت الشفرة حادة تبرق في ضوء النهار..ولا زال الديك واقفا في مكانه فوق الجدار.. مجذوب داخل دائرة من التشاؤم .. يدور برأسه نحو كل الجهات .. تخرج من داخله حشرجة أشبه بمن في حلقه غصّة.. ينقر بحرقة منطقة أسفل الرقبة ..فيتطاير ريشه في الهواء .. يسقط على الأرض أسفل الجدار .. تتقافز الدجاجات مصعوقة وهي تراقب سقوط الريش .. تقاقي بصوت رخيم كالبكاء وتدور بنصف دائرة في نفس المكان ..تتزايد نتف الريش المتطايرة..وتتصاعد أصوات قأقأة الدجاج.. تظهر رقبة الديك عارية بلونها الأحمر تتدلى على حافة الجدار.. والشفرة الحادة لا زالت تبرق تحت ضوء الشمس..يلقي الديك نظرة بائسة أخيرة على الدجاجات وهن يشيعنه بترنيمة حزينة..عيناه تغمضان حال اقتراب الشفرة الحادة .. وكان رأسه متجهاً نحو القبلة ..!
...........




3 – قصة ما قبل ساعة الصفر.. حينما يبلغ الألم  مداه في قلوب البشر يكون  الحزن والمعاناة سيد الموقف وأي موقف حين يكون الوطن هو  الكينونة المتجذرة في العمق ..
لقد طرح الكاتب هنا مجموعة  تفاصيل قصة بعيونه ..شاهد على عصر الصدمة التي تعاقبت على العراق ...لذلك  فالصورة ابلغ وهو يحاكي فيها طريقة الإنزال 
الصبح كان مرتبكا وكأنه يعلم ما يكون بعده  لذلك هو يصور كيف  توارت الشمس  قبل بزوغها    فالجميع يدرك  هول الصدمة وهول الجائعين إذا حطوا على ارض خصبة  .. ماذا  يحدث لها؟؟ إنها أسراب جائعة من النمل ..ستأكل الأخضر قبل اليابس ..وفعلا هو ما حصل  وهذا الخراب والفوضى وكل أشكال التسيب ..
الوجوه تلاشت ابتسامتها  وامتصت الروح شهيقا  من رائحة البارود  ...ضياع بين الشوارع والأزقة.. ما يلملم الأفكار  غير تخمينات ضاربة بعمق في صيرورة الذات المتعبة   مهددة بالسقوط . فالألم يطوق  على الرقاب ، يتداعى الجميع من هول الصدمة ، إنها لحظة إنزال المر ينز  على ارض الرافدين.

 (1)
.......
جاء الصبح مرتبكاً..عابرا آخر أعمدة الفجر،وراحت الشمس تتوارى قبل بزوغها  خلف الغيم، خائفة وجله..كي لا تكشف أشعتها كينونة جديدة أخذت تدب ببطء فوق سطح الأرض..تسلب بهدوء كل شيء كأسراب جائعة من النمل .
(2)
........
يتداعى الجميع من هول الصدمة ..وتتبعثر الأمنيات على الأرصفة مثل سبحة انفرطت وتناثرت خرزاتها..يلوذ بعضهم في بعض..وتعلو وجوههم سحنة الخوف من المجهول..
انظر إلى وجهي..أتطلع لما تبقى من قسمات صمدت بوجه السنين..اخرج من خندق البيت..امتص شهيقاً ممزوجاً برائحة البارود..ألوذ تحت شجرة النبق قرب السياج الخارجي..أرى تجمعات غريبة في الشارع المحاذي للمركز.. اشعر حينها بالضياع..وأن الزمن قد أوشك أن يتوقف.
(3)
......
لجرأتي وشدّة شكيمتي..قد لا اكترث أحيانا لما يحصل ..فقد لملمت إمكاناتي وجهزت ما لدي من ذخيرة ومؤن..الليل يكاد يسحبني لأمضي فترة أطول غارقاً في العتمة.. والشمس تتهمني وهي ضاربة بشعاعها في كل أرجاء الكون ، لتغويني..تتقافز في رأسي أفكار تأخذني عبر فضاء رطب ..يخفق بداخلي عرق إبتلى برغبة قلقة..الجسر يلوب ملسوعاً فوق تيارات الماء..والقلعة مهددة بالسقوط هذه الليلة.
(4)
أصابتني حمّى بشكل مفاجئ..فاضطربت خطواتي وأنا أتقدم نحو الجسر..
ساقتني خطاي المثقلتان بلا شعور ، باتجاه العيادة الشعبية..متأزم يحتضنني بقوة طوَّق من الألم يغتال الأمل الذي كنت أرجوه..أخبار متسارعة تنتشر في سماء القضاء ..المطار العسكري الذي أُحتل بإنزال جوي ..لا يبعد سوى خمسة أميال عن المنطقة السكنية ..ووحوش كاسرة مهيأة للانقضاض في ساعة الصفر...!
القاص هاد مياحي يؤرخ للعصر القادم ...انه الكاتب الذي ألفناه  يكتب عن الوطن والمواطن الذي يعيش الضياع بين ناريين ..نار اكتو ته من عصور غابرة ..وهذا الواقع المر ...ولأنه العراقي  والمعروف عن هذا البلد  طقوسه المتنوعة والضاربة في عمق التاريخ  مما شرب من حضارتها ..وخاصة في قصة نذر اليوم السابع .
سندس سالمي من الجزائر


قصة أخرى بين أيدينا هي قصة  بانتظار زمن الانعتاق ...أي زمن يستدركه الكاتب بين سطر القصة المستوحاة من انحطاط ما يعيشه ذلك المواطن الذي أصبح لا يعي  بمحسوساته   تارة فوق صخرة... تارة يشعر انه على شاطئ بحر هائجا  
هي الحياة المتأرجحة بين اليابسة والماء ...بين الحرب والسلم





القاص هادي مياحي يؤرخ للعصر القادم ...انه الكاتب الذي ألفناه  يكتب عن الوطن والمواطن الذي يعيش الضياع بين ناريين ..نار اكتو ته من عصور غابرة ..وهذا الواقع المر ...ولأنه العراقي  والمعروف عن هذا البلد  طقوسه المتنوعة والضاربة في عمق التاريخ  مما شرب من حضارتها ..وخاصة في قصة نذر اليوم السابع .
سندس سالمي من الجزائر

.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالقراءات النقدية:
========
١.
قراءة الشاعر استاذ جاسم الجياشي لقصتي القصيرة وهم الابتهاج،شكري وتقديري وامتناني له لتسليط الضوء على النصمن رؤيته الناقدة...

(دوما ما تحمل سردياتك افكارا مركبة اذ نجدها لاتسير باتجاه واحد كأنها كاميرا تلاحق احداثا مختلفة مما يدل على امتلاء وخزين واكتناز رؤى وقراءة فاحصة لما حولك من واقع تغترف منه موادك لتضعها امام قرائك بكل مهارة وعبقرية القاص المحترف الهادف لخلق واقعا فكريا او توجها محددا بما من حوله من واقع كونك لاتطرح الظواهر السلبية بشكل مسطح بل تاخذ شكلا من اشكال العمق الباحث عن شيء بذا تكون حافزا لمن يعتني او من تقع بين يديه قصصك الرائعة سلمت لنا مبدعا استاذ هادي المياح)


٢.

قراءة الاستاذ القاص عبدالكريم الساعدي لقصتي( نذر اليوم السابع)، وجدتها في أرشيفي ،شكري وتقديري  للقاص المبدع على ملاحظاته ورأيه ..

نعم رائعة جداً...الفكرة تؤشر على قوة المخيلة وأسلوب جميل بعيداً عن السرد المعتاد لاسيما جاء على شكل مقاطع وهو نادراً ما يستخدم وهذا يخرجنا من طوق المعتادأضف الى البطل ( الشخصية الرئيسة _ بنظري_ كان طائر (الديك ) وهورمز رائع والتفاتة ذكية يمكن أن تفسر من زوايا متعددة وذبحة هو دليل على قتل تلك الرموز التي تحلق بين السطور.. كل هذا جاء بسرد مشوق يكاد القارىء يحبس أنفاسه حتى لحظة التنوير ، وبلغة راقية موحية... إنها اضافة متقدمة تؤشر على ابداعك في انتاج مضامين بعيدة عن الحكي والسرد الممل... نص يحمل دلالات متعددة... وربما في قراءة ثانية نكتشف جمال آخر ... مودتي لك
الشكر لك لأنك منحتنا متعة فنية ودرساً جميلاً وجديداً في فن السرد.. هذه ليست مجاملة إنها حقيقة تمنياتي لك مزيداً من التألق فإنك تملك الكثير ومقدرة متميزة.

قراءة في رواية توما هوك / الروائي صالح جبار خلفاوي

        هادي المياح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق