الجمعة، 6 مايو 2016

ملف خاص بالاديب المبدع العراقي / القاص الاستاذ هادي المياح











هادي المياح

العراق/ محافظة البصرة

خريج كلية الزراعة / جامعة البصرة١٩٧٦-١٩٧٧
لي نشاطات مدرسية في المراحل الاولى من الدراسة الإعدادية
لي مشاركات في نشرات على مستوى الدراسة الجامعية
لي مشاركات ومنشورات قصص قصيرة  في الجرائد الورقية العراقية والعربية مثل:
جريدة الزمان،
جريدة المستقبل العراقي،
جريدة العراق اليوم،
جريدة الاضواء
نشرت قراءات نقدية في الجرائد مثل:
جريدة الصباح الفلسطينية/ قراءة نقدية لرواية توما هوك للروائي صالح جبار خلفاوي
جريدة المستقبل العراقي/ قراءة نقدية لرواية هجرة النوارس للروائي خيرالله قاسم
نشرت قصص قصيرة في المجلات الإليكترونية والمنتديات مثل :
مجلة الثقافي ثقافي والمنتدى الثقافي ثقافي
مجلة انكمدو الثقافية العراقيه الإليكترونية
مجلة ريتاج بريس المغربية الإليكترونية

مؤسسة النور للثقافة والإعلام /مركز النور للدراسات/ لي صفحة بإسم هادي المياح..
صحيفة كتابات الإليكترونية المصرية/ نشرت فيها عدة قصص بأسم هادي المياح..

القراءات النقدية:
========
١.
قراءة الشاعر استاذ جاسم الجياشي لقصتي القصيرة وهم الابتهاج،شكري وتقديري وامتناني له لتسليط الضوء على النصمن رؤيته الناقدة...

(دوما ما تحمل سردياتك افكارا مركبة اذ نجدها لاتسير باتجاه واحد كأنها كاميرا تلاحق احداثا مختلفة مما يدل على امتلاء وخزين واكتناز رؤى وقراءة فاحصة لما حولك من واقع تغترف منه موادك لتضعها امام قرائك بكل مهارة وعبقرية القاص المحترف الهادف لخلق واقعا فكريا او توجها محددا بما من حوله من واقع كونك لاتطرح الظواهر السلبية بشكل مسطح بل تاخذ شكلا من اشكال العمق الباحث عن شيء بذا تكون حافزا لمن يعتني او من تقع بين يديه قصصك الرائعة سلمت لنا مبدعا استاذ هادي المياح)


٢.

قراءة الاستاذ القاص عبدالكريم الساعدي لقصتي( نذر اليوم السابع)، وجدتها في أرشيفي ،شكري وتقديري  للقاص المبدع على ملاحظاته ورأيه ..

نعم رائعة جداً...الفكرة تؤشر على قوة المخيلة وأسلوب جميل بعيداً عن السرد المعتاد لاسيما جاء على شكل مقاطع وهو نادراً ما يستخدم وهذا يخرجنا من طوق المعتادأضف الى البطل ( الشخصية الرئيسة _ بنظري_ كان طائر (الديك ) وهورمز رائع والتفاتة ذكية يمكن أن تفسر من زوايا متعددة وذبحة هو دليل على قتل تلك الرموز التي تحلق بين السطور.. كل هذا جاء بسرد مشوق يكاد القارىء يحبس أنفاسه حتى لحظة التنوير ، وبلغة راقية موحية... إنها اضافة متقدمة تؤشر على ابداعك في انتاج مضامين بعيدة عن الحكي والسرد الممل... نص يحمل دلالات متعددة... وربما في قراءة ثانية نكتشف جمال آخر ... مودتي لك
الشكر لك لأنك منحتنا متعة فنية ودرساً جميلاً وجديداً في فن السرد.. هذه ليست مجاملة إنها حقيقة تمنياتي لك مزيداً من التألق فإنك تملك الكثير ومقدرة متميزة.

قراءة في رواية توما هوك / الروائي صالح جبار خلفاوي
        هادي المياح

توما هوك ،رواية الاستاذ صالح جبار خلفاوي هي مكملة لأعماله السابقة ،والتي كتبها بعد احداث الحرب والاحتلال عام ٢٠٠٣وقد حملت الكثير من المآسي والسلبيات التي  الّمت بالعراق وجلبت الويلات والدمار له.. وهي رواية جديرة بالقراءة ليس لكونها كتبت بنمط حداثوي مختلف عن غيرها ولكن لما فيها من متعة ، ولغة مختلفة تجبرك على اعادة قراءتها مرة اخرى وربما مرات..
واجهت الرواية اعتراضات من قبل البعض في الوسط الادبي ونالت رضا الكثير.. ولسنا بصدد استعراض ما واجهته الرواية من أصداء وملابسات ،ولكنني احببت تقديم  قراءة لها الغاية منها تسليط الضوء على الأداء الرائد الفريد لهكذا نوع من الروي او القص..والذي يدعى بالرواية البوليفونية.
قرأت الرواية للمرة الثانية بصفتي متلقي بسيط قد لا امتلك أدوات النقد المطلوبة بشكل كامل الا اني قارئ نهم للأعمال الأدبية والقصصية بالذات وأحب سبر أغوار هذا الفن وأدوات نقده فوجدت الرواية قد حملت الكثير من الصور الفنية الرائعة التي رسمت بلغة مركبة قد تكون صعبة الفهم للوهلة الاولى : مفردات غزيرة ، جمل وعبارات متتاليات في منتهى الصياغة وشروط الترابط والانسجام،فقرات ومقاطع مسبوكة بانسجام تام .. كل هذا جعل النص الخطابي متماسكاً ليعطي في النهاية الصورة او مجموعة الصور التي تعبر عن وجهة نظر الشخصية بشكل جيد وواف..
حينذاك وجدت لا ضرورة لوضع هذه الرواية ضمن إطر نقدية معينه لانه من غير المنطقي ان تحصر ابداع روائي قدير وتحدد تخيلاته الذهنية بقاعدةغير مناسبة بحجة تطوير هذا النوع من الاعمال الروائية،الذي هو حديث عهد في الساحة الأدبية وان كانت ولادته قديمة.. وتوصلت الى ان هذا ربما هو احد أسباب ظهورتلك الاصوات المعارضة للرواية..
المؤلف في الرواية البوليفونية غير مسؤول عن الشخصيات،هي شخصيات مستقلة وحرة نسبياً وغيرية، وتعبر بالدرجة الأساس عن وجهة نظرها الفكرية والأيدولوجية ومن منظورها الخاص وتتقاطع جميعها في الرؤية فيما بينها ومع رؤيةالمؤلف او الكاتب ..وكل  ما تتفوه به الشخصيات من كلام هو من مسؤوليتها فقط.. اما المؤلف فيكون مسؤولا عن الصورة النهائية التي ترتبط بالهدف الأساسي للرواية والناتجة من خلاصة الرؤى للشخصيات ومنظورها للحدث الواحد في الرواية.
الرواية من النوع البوليفويني اي متعددة الاصوات والشخصيات متحررة تماما من سطوة المؤلف وتروى من وجهات نظر متعددة بتعدد الشخصيات والمنظورات الأيدولوجية م وبرؤية  داخلية ، وخارجية، ومن الخلف ..وبسرد متعدد الضمائر ضمير المتكلم ،ضمير الغائب، ضمير المخاطب ..استعان الكاتب بجميع الضمائر في السرد عدا ضمير المخاطب انت ..والكاتب حر في أختيار صيغ وأنماط السرد المناسبة والتي بها يتم استحضار الشخصيات وعرض الاحداث.
اعتمد الراوي على استخدام ضمير المتكلم (انا) في جميع فصول الرواية عدا  صوتي الأب والام فقد كان السرد بضمير الغائب (هو) دون ان  يفرض انحيازه لهمااو تفضيل لرأيهما على باق الاّراء.

١.العنوان
لا يعني عنوان الرواية ( توما هوك)صاروخاً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة كالذي  يستخدم في الحروب ويدمر البنى التحتية والمعنوية والأشخاص ،بل صيّره الكاتب صاروخاً من نوع جديد، كوسيلة لنشر الخراب والانحلال الاخلاقي في المجتمع، وتخريب أواصره الثقافية والاجتماعية ولحمته الوطنية ، توما هوك ،صاروخا موجهاً لكل طوائف المجتمع العراقي ليثير فيها الفرقة والدمار ويزيد من تشتتها وانتكاساتها..وهذا ما يفسر عدم لجوء الكاتب الى إبراز ولو مشهداً واحداً فيه قتلى  او خسائر في الأشخاص..

٢.الحبكة :
تتكون حبكة الرواية من عدة احداث ولكل حدث شخصية محورية تبدو قلقة وغير مستقرة وتعاني من داخل مضطرب وقد تكون مهوسة في اغلب الاحيان ..توزعت الشخصيات على فصول الرواية حسب خطة الكاتب ونوع الخطاب السردي البوليفوني ويكون السرد بصيغة  راو- شخصية،
احداث الرواية متعددة لكل شخصية حدث مستقل لان اُسلوب القص اعتمد أساسا على الحدث، ومجموع الاحداث والصور والأفكار الموجودة في اذهان الشخصيات و التي تقود بالنهاية الى الفكرة الرئيسة للرواية وليس عن طريق سلوك الشخصيات الظاهري ..
فلكل شخصية موقف فكري وأيديولوجي مرتبط بالحدث ويستمد منه  ويأتي من الطريقة التي تقيم بها الشخصية العالم المحيط بها .

٣.الشخصيات:
في رواية من النوع البوليفوني مثل توما هوك ،تجد عدة شخصيات متصارعة فيما بينها و تتمتع كل شخصية باستقلالية نسبية  وحرية الرأي ووجهة النظر والمنظور  رغم تقاطعها مع باق الشخصيات ومع فكرة وأيدولوجية الكاتب.
ان سلوك الشخصية الظاهر من خلال سرد العالم الداخلي لها لا يعبر بالضرورة عن الصورة الفكرية التي يراد ايصالها في النهاية لتشكل الغاية الرئيسية من الحدث والمنظور.
لذا نجد ان بعض الشخصيات ظهرت مهوسة جنسياً وشاذة بدرجة غير مألوفة ،ومفاجئه للقارئ.. كشخصية الام و آمال وصونكول ..ربما وجود شخصيات  بهذا النوع من الانحرافات والشذوذ الجنسي لا يستهوي القرّاء على اعتبار ان حدود انتشار هذا الانحراف في المجتمع ضيقاً  ومحدوداً وطرحه بنافذة واسعة قد يلحق الضرر في سمعة الغالبية الملتزمة لأفراده. ولكن تبقى هذه مجرد فكرة ايديولوجية خاصة بالشخصية ولا علاقة للسارد بها طالما انه لم يتبناها او يدعمها او يفضلها على باقي الاطروحات الفكرية للشخصيات الاخرى.
أوكل الكاتب شخصية الابن  مهمة السارد او الراو- الشخصية ..على الاقل في عرض موجز لمطلع الرواية جاء منسجماً مع معاناة الشخصية التى هي بمثابة المحور المهم في الرواية.. من خلال حركة هذه الشخصية وتنقلها يمكن التوصل الى مستوى الواقع المكاني ..أين يقف الراو- الشخصية الان؟
(هل انت من بغداد؟)
(أما زال هارون الرشيد هناك؟)
(أظنك شارلمان)
(في المقهى الإسباني ،اشاهد العالم يمر بقرب شوارع تصطف على أشجار وقصور ملكية،مسارح،ملاهي تدمن السهر حتى بزوغ الفجر........)
حلم اللقاء بشارلمان ،هارون الرشيد، السندباد،انكيدوا، كلكامش .الف ليلة وليلة وهذه الاقتباسات للبطل  تدلنا على مكانه بوضوح..وان الراوي الان في اسبانيا ينوء  بذكرياته وأحلامه وتخيلاته التي ولدت معه في بغداد حتى بلوغه العقد الثالث من العمر.
اما باقي الشخصيات فلا تقل أهمية بل وظّفها الكاتب توظيفا رائعاً في تطوير العقدة والحدث المناسب لكل شخصية.. فالأم احتلت دور البطولة وبنفس الوقت أُستخدمت كنافذة على شخصية مهمة اخرى وهي صديقتها آمال الطالبة معها في المرحلة الثانوية والتي اتخذ بها السرد طابع التوغل في المفردة المغلّفة بالجنس والشهوة..واستخدم المؤلف السارد ضمير الغائب (هي)..
(ريح الليل ترشف روائح البارود،انه لا يرضى عنهايلعب ببندقيته،ثم يسخر من روحه،يهرب من اللذة المدفونه-عند منتصف الليل نسمع أزيز (توما  هوك) يعبر من فوق رؤوسنا،تتصاعد تمتمة نائمة لأحلام تكتشف اسرار القلق)
هنا نقطة البداية لظهور العقد والمخاطر للبطل الطفل بظهور أزيز توما هوك مقرونا باللقاء السري الذي يحدث في الطابق العلوي والذي يفضحه رفيف اجنحة طير يفز من عشه ..ونزول أمه مندفعة من فتحة السلم مرتدية ملابس سوداء،تكشف زنديها الممتلئتين، وفتحة الصدر الواسعة تظهر عري (.........)
(تضرعت داخلي لو تنقشع العاصفة)
(بقيت ألهو باصطكاك أسناني )
كلها تعابير عن الحالة النفسية للطفل بسبب الصدمة التي تواجهه في هذه المرحلة  الخطيرة والقلقة من حياته..القلق المتأتي من اجواء الحرب والآخر بسبب السلوكيات المنحرفة والشاذة التي تقع على مرأى منه..!).
وجود شخصيات من القومية الكردية تعيش جنبا الى جنب مع الشخصيات العربية .. ووجود الجارة البسيطة ( أم عبدالزهرة) كإشارة للمرأة الشيعية  التي تسكن قرب بيته في غرب العراق..إشارة الى وجود تعايش اجتماعي قديم بين كل شرائح المجتمع العراقي ..ولكن عوامل الحرب بدأت بتخريب وتفكيك هذه الأواصر حتى اصبحت المنطقة الغربية(بيت الأب في غرب العراق آيلاً للسقوط) وربما محاولة هروب سردار من العراق قد تكون إشارة من قبل الكاتب الى انفصال اقليم كردستان ..

٤.اللغة المستخدمة والاسلوب

كما ان التعددية موجودة في الشخصيات والاصوات والمنظورات فإن اللغة كانت متعددة واعتمد في استخدامها على مستوى صورة اللغة بالصياغة الحوارية او الأسلوبية ..ضمّنها بالمحاكاة الساخرة والحوار المقتضب والتناص والتنضيد والتهجين والاسلبة.. ولجأ الى استخدام المفردات ذات المعاني المزدوجة وذات المظهر الدلالي والتعبيري.
( شيطانه حياسز)
جملة حوارية بسيطة باللهجة المحلية العراقية، المتكلم هي شخصية مهنتها ربة بيت وهذا نوع من التنضيد اللغوي حسب المهنة..وهنا أودّ ان أشير الى هذا النوع من التنضيد اللغوي وهو التنضيد المهني،يبدو استخدامه ضئيل قياساً بتعدد وظائف الشخصيات: كمهنة صاحب محل الأخشاب وأمينة الصندوق وربة البيت ،والتاجر ...الخ .
أما التناص في الرواية فيشمل كل الاقتباسات التي دونها السارد او الشخصية وكذلك استحضار كلام الغير سواء كان نقلاً او حواراً:
( لا فتى الا علي ولا سيف الا ذو الفقار)
ولكن تبقى لغة الرواية زاهية بمفرداتها الجميلة والمتنوعة وذات المعاني العميقة مما جعل الرواية على مختلف أحداثها ، نسيجا مترابطاً ومنسجماً ،اكسبها حلاوة ومتعة وجاذبية..
٥.تعدد المنظورات
يظهر تعدد المنظورات منذ البداية حين تنقل الكاتب من وجهة نظر الى اخرى منطلقاً في رؤياه من الخلف الى الرؤيا الداخلية ثم الى الرؤيا من الخارج وباستخدامه الضمائر المناسبة لهذا الغرض..او انتقاله من سرد إلانا الى سرد الغائب(هي) كما اشرت اليه في الفصلين الاول والثاني من الرواية..وإضافة الى ذلك التناوب في السرد بعدد السراد والرواة..والسارد بصفة الشاهد او المساعد..
لا يمكن الإلمام بكل الشخصيات والاحداث والصور الكثيرة المتشعبة في الرواية وذلك لتشعبها أولاً والتداخل في الفضاءات الزمكانية ثانياً ..وقد يفيد هذا التنوع في تركيبة الشخصيات من حيث المذهبية والطائفية والقومية في معرفة الهدف الكامن في داخل صفحات الرواية والذي يبدو كما يبدو هو توحيد هذا التشتت الواسع بين طوائف المجتمع العراقي والذي سببته الحروب الدامية التي مر بها البلد وآخرها الاحتلال الامريكي.

............

نذر اليوم السابع....

(١)
٠٠٠٠٠
َتَنفّس الصبحُ عميقاً ، بعد أنْ كادَ الليلُ يكتمُ انفاسهِ بظلمتةِ القاتمة ..وإعتلى الديكُ الهرِم منصّته ، فوق الجدار ..وراح يصيحُ بصوتهِ العالي المعهود ، وكأن انبلاج الصبحِ لا يكون إلا بإذنه . لم يتغير أداؤه على مر السنين ..إستطالة رأسِهِ الى الامام قليلا، إنفراج منقاره،ارتعاشة عرفه الأحمر الشفاف،ثم هبوط رأسه الى أسفل .
في هذا الصباح ،إرتفعت رايات تخفق بها الريح ..وإمتلأ الجو بدقائق الغبار ،الذي كسا السماءَ صفرة، فإنبجست على الفور من عينيه دمعة لم تحتمل الرقود وهوت تاركة وراءها أثراً لمأساة لم تقو على محوها السنون .
(٢)
٠٠٠٠٠٠
نظر اليه طويلاً، نظرة متفحصة كمن أراد ان يحيط بأمر ما.. ففي مثل هذا اليوم من كل سنة، يقفُ حائراً مأخوذاً بالذكرى الممتدة عبر الزمن..منقبضة انفاسه مملوءة بالغيظ..يبحث عن قربان كي يتقبل منه..فلم يجد سواه قرباناً،يُطفئ به متاعب السنين الماضية، ولكنه قربان مشاكس ،وله سلوك غير مألوف..لم يفهم للان كيف تآلفت معه دجاجات ثلاث في بيت واحد!..
شاخ هذا الديك ولم يزل عنيداً شرساً لا يشبه أقرانه ممن يستسلمون كقرابين لليوم السابع.
كان كلما حان موعد تقديم القرابين، ينزوي في ركن من الدار،ويتحول رأسه ليصبح كرأس قط محاصرا.ويستطيل منقاره المعقوف، وتزداد رقبته إنتفاخاً.فلم يكن بد في مثل هذه الحالة من تركه واستبداله بغيره ، ليبتعد وهو مزهواً يُقلِّبُ عرفهُ الأحمر بِخُبث.
اصبح هذا الديك مصدر بؤسه وشقائه ،وكثرت مخاوفه،فراح يستنجد علّ أحد ينصحه بحل. توصل لدى لقاؤه بأحد الحكماء، بان هذا الديك تلّبسته روح أحد الاجداد أو الأسلاف. وكان ذلك الخبر قد صعقه لانه لم يرث من اجداده غير هذا الديك العدواني ودار متهالكة آيلة للسقوط !

(٣)
..........
لم يكن شبح الاجداد وحده ،ما أثار فيه المخاوف وكثرة التخيلات، بل تراث آباءه الذي يتذكره بدقة..ويتجسّد امامه في كل شئ ..في النذور، والحجابات بمختلف تشكيلاتها وهي تعلق على صدورجميع اقرانه، وصدره حيث يضيق بهم المجلس،،وتخنقه زحمة المريدين، ويجرّه أباه من بين الجموع وهو يهمسُ بإذنه : إنك قربان مبين! في تلك اللحظة بالذات يخرج من منخريه صوت كصوت الديك المخنوق، ويحسّ بشعره الطويل المنسدل فوق أذنيه، يرف كجناحي ديك حين تحّز رقبته شفرة بوركت بكلمات وتمتمات لم يفهم أحد منها حرفا.
(٤)
كان الهلع من لعنة الديك قد استولى عليه، وغدت فرائصه ترتعد خوفاً كلما حاول الاقتراب من بيت الدجاج . ولكنه لن يتوان عن ذبحه هذه المرّة! خاطبه من مكانه:
-غداً ..ستكون انت القربان
تحرك الديك ووقف على قدميه، واهتزّ عرفه، وأومضت عيناه كمن لم يعجبه الكلام ، ثم استدار وهو في مكانه نحو الخلف، ورشّ عليه كتلة من برازه الساخن..
لم تكن للدجاجات الثلاث، علاقة بقضية القربان ،هنّ لا يصلحن بسبب انوثتهن، قرابين مناسبة لمثل هذا اليوم. ولكن فقدان الديك ليس أمر هيّناً فسوف تعمّ الوحشة في بيت الدجاج.. ومع ذلك فقد اتخذْن موقف المتفرج في تلك اللحظة.
(٥)
.........
يفز مذعورا يغمر جسده العرق ..يسمع صوت الديك يخرج رخيماً على غير عادته، وهو يؤدي فريضته اليوميه..يروح جيئةً وذهاباً فوق الجدار..والدجاجات الثلاث تحوم على مقربة منه..لم يحصل اي تغّير في موقفهن المحايد..الأصوات تتصاعد في كل مكان من الشارع..فقد أعلن اليوم السابع أوانه..الجميع يرتدى ثياب المأساة..وهذا اليوم سيكون الأخير في حياته..هو حر في ان يعتلي محرابه ام لا.. كانت الشفرة حادة تبرق في ضوء النهار..ولا زال الديك واقفا في مكانه فوق الجدار..مجذوباً في دائرة من التشائم..يدور برأسه نحو كل الجهات .. تخرج من داخله حشرجة أشبه بمن في حلقه غصّة..ينّقر بحرقة منطقة الرقبة..فيتطاير ريشه في الهواء..يسقط على الارض أسفل الجدار..تتقافز الدجاجات مصعوقة وهي تراقب سقوط الريش..تقاقي بصوت رخيم كالبكاء وتدور بنصف دائرة في نفس المكان..تتزايد نتف الريش المتطايرة..فتتصاعد أصوات قأقأة الدجاج..تظهر رقبة الديك عارية بلونها الأحمر تتدلى على حافة الجدار.. والشفرة الحادة لا زالت تبرق تحت ضوء الشمس..يلقي الديك نظرة بائسة اخيرة على الدجاجات وهن يشيعنه بترنيمة حزينه..عيناه تغمضان حال اقتراب الشفرة الحادة..و رأسه يتجه نحو القبلة ..!

انتهت....

==========================
هموم ركّاب الكيّا

ركنتُ نفسي على جهة من رصيف الشارع. كنت بانتظار سيارة تقلّني الى مقر عملي. الجو لاهب والريح تعصف فتعبث بألاكياس وقناني الماء الفارغة. بحثت يميناً وشمالا عن ظل اتفيأ به. كانت الشمس عمودية على الأشياء،ولا وجود لمكان ظليل على الرصيف. الحرارة تلفح وجهي ويرشني الغبار المتطاير من الشارع بين حين وآخر.
تأخر قدوم السيارة. تعبت.تمنيت ان أنتشل نفسي باي طريقة كانت. قلت لنفسي بغضب: يجب ان اركب أي شئ حتى لوكان صاروخاً! وجاء الصاروخ، جاءت سيارة كيّا كالقفّة وحطت قربي. ركبت بها. إنطلقت القفّة. فتلاشى جسمي بين الركاب..
مابين الزحمة والحرارة المرتفعة، وجوف السيارة الضيق، بدوت أتعرق بغزارة. سرحتُ بذهني خارج القفّة. تمنيتُ لو اني أنهضُ من فراشي صباحاً فأجدُ نفسي طيراً. سأقبلُ حتى لو كنت عصفوراً صغيرا،لا يضر ذلك. فسوف لن أحتاج الى بيت. سأسكن فوق أسلاك الكهرباء ! وسأضع فراخي بعد التفقيس (في حالة التناسل ) على  فتحة المزراب.
ولوكان جميع أهالي المدينة عصافيراً مثلي، لما عانينا من مشكلة إسمها نفايات. الانتظار لأيام طويلة لحين قدوم عمَّال البلدية، أمر في غاية السوء. ربما ستلغى جميع دوائر البلدية،لأن طعامنا لا يتعدى ما تناثر من حبّ بفعل الريح، وفضلاتنا ستكون أصغر من حبة الرز. سوف أمتنع عن الكلام الكثير ولغو الحديث فأتجنب غيبة الناس. لا أعرف تماماً كيف أقضي وقتي بعد إنتهائي من توفير ما يلزم من مأكل ومشرب. فأنا لا أحب الركون الى الصمت. عَليَّ أن أحمد الله كون حياتي أصبحت سهلة بسيطة. سأُسبّح وأنا في مكاني، فوق أسلاك الكهرباء.
ولكن هل العصافير تُسبّح ؟ما أعرفه انَّ العصافير تغرد فقط، تغرد وهي واقفة، وفي حالة الطيران،تغريدها لا يعدو الا زقزقة. الهموم الكبيرة لا تحلها زقزقة بسيطة. من اين تأتي الهموم الكبيرة؟ سأمتلك جناحين أرفرف بهما وأحلق فوق الهموم  والمعاناة،أرتفع عالياً بجسمي الصغير في السماء بعيداً عن الصخب وموجات الحر والغبار ولكني لا أفضل ان أكون كالطيور المهاجرة بعيداً عن مدينتي.أنا نسيت باني حريص بأن تكون ألواني زاهية جميلة، لان اغلب الناس يتأثرون في هذه الأيام بالمظهر.
بدأت أشعر بالضيق من الشاب الجالس على يميني، فرائحته لا تطاق والرجل الذي على يساري يحاول ان ينافسني على المسافة التي أضع فيها قدمي، كان نصف جسمي ملتصقا به..إحترت أين أضع بصري ،توجد نساء في الصف المقابل ولكنني لا أحبذ النظر الى احد حتى لا تفسر نظراتي بسوء نية.ومع ذلك كانت هنالك شابة رأيتها تحدِّق في وجهي كحمامة، تنظر لي دون أن تواجهني ، ولكنني ما زلت في حيرة أين أعلّق ناظري!
غدت نظراتي مشوّشة وأنا أرم بها من خلال الشباك الصغير، بسبب سرعة السيارة وجنون السائق. فأدركت صدق نبوئتي وانا على الرصيف، حين جاءت على لساني كلمة صاروخ!
السائق كالعادة هّمه ان يجمع الأجرة ويعدّها أكثر من مرة وينسى قدمه حين تهبط ثقيلة على دواسة البنزين. فوق الجسر وفي ذروة زحمة الشارع، جهاز الموبايل دائماً يلتصق باذنه. وفي أبسط المواقف يلجأ لضرب مقود السيارة بقوة، مثيراً جلبة مزعجة تعكر المزاج. يجمع لوحده كل عوامل وأسباب نشوء الحادث، عاداته سيئة وأكثرها سوءاً تدخينه المتواصل اثناء السياقة،دخان سيجارته تصل دواماتها حتى المقعد الخلفي. وشرارها المتطاير لا يستبعد ان يؤدي الى نشوب حريق خطير، في اي لحظة داخل السيارة.
لا مجال لخيارات بديلة حينما تكون واقفاً على الشارع وفي منطقة بعيدة عن المركز. في هذا اليوم بالذات كان الكلب الذي ينتظرني واقفا في رأس الشارع قد قلّ نباحه علىَّ. لكن تأخر قدوم سيارة مناسبة، سبب ظهور خمسة آخرين تناوبوا في النباح! سجّل السائق ما لا يقل عن عشرين مخالفة ونحن ما زلنا في ربع الطريق، سائق محترف يلهث وراء الأرقام القياسية ناهيك عما تسمع منه من كلام سوقي وغير لائق.
 شعرت بان الخوف والقلق، هذا الثنائي الذي يرافقنا دائماً يظهر واضحاً على وجوه الركاب، الشباب صامتون رغم كل شئ والنساء تخرج همهمات أشبه بصرخات منفلتة. الا ان هذه قد لم تكن دائماً معبرة وقوية .
-لوكنت تقود صاروخاً ماذا ستفعل؟ قلت ذلك للسائق بصوت عال وضحكت سراً مع نفسي من كلمة صاروخ.
رد علىَّ بوقاحة:
-من لا  يعجبه فلينزل، أنا أُريد أن الحق بالدور في الكراج!
-وماذا لو حدث لنا حادث ! ما ذنبنا نحن الركاب؟
 إرتفعتْ همهمة خفيفة مساندة من بعض الركاب ولكنها إختفت بسرعة..فالركاب دائماً يميلون للاصطفاف مع السائق، حتى لو كان الاخير متهوراً..هذا السائق ليس متهوراً فقط بل عديم الذوق وقليل التهذيب، حاولت التطلع اليه من مكاني فلم أُميّز بسهولة وجهه من رأسه فقد كان ملطخاً، بزيت المحرك .. وكذلك قميصه وذراعيه.
-ستندم ذات يوم وتتذكر نصيحتي : السياقة الرعناء تودي بحياتك ومن معك!وزعقت به:
-توقفْ هنا ؟
لأول مرة تواجهني تلك الفتاة وجهاً لوجه وبإهتمام وتعاطف..كنت في أشد حالات عصبيتي، حاولت ان استغل هذه اللحظة حتى اتمعن ولو لفترة في وجهها المدوَّر  وعينيها السوداوين وشعرها المخضب بشقرة خفيفة، فبدت لي خائفة هي الاخرى، ولهذا فقد سبقتني الى النزول من السيارة..
حينما انطلق الصاروخ مرة اخرى، كانت تقف بجانبي على الرصيف، ابتسمت لي ، وشدت على يدي بكل قوة، فشعرت بالاطمئنان وخف اضطرابي ،لقد كانت مدرّسة جديدة التحقت قبل ايام في المدرسة النموذجية المختلطة.التي ادرس فيها.
بعد ثلاثة ايام حين كنّا نسير معاً على رصيف الشارع ، المحاذي للكراج، سمعت أحداً يناديني من الخلف:
-ست! ست!
إلتفتُّ اليه، عرفته، كانت لا تزال بقع دهون وآثار كدمات على وجهه..احدى ذراعيه ملفوفة بمادة الجبس ومربوطة الى عنقه، عرفته سائق سيارة الكيّا الصاروخ، فحاذرت إقترابه مني ، لكنه فاجئني بابتسامة وهو يقول:
-لو كنت أخذت بنصيحتك يا ست، لما أصبحت على هذه الحال !
قالها وعاد من حيث أتى.

انتهت....
=========================

كان دخولي عنوة

كنت جائعاً،ابحث عن كسرة خبز، علّها تسد عني جوعي. تسللت الى المطبخ كاللص، مستغلا عدم وجود احد. ما عدا الفلاح الذي كان منشغلا في تشذيب الشجيرات في الحديقة. إهتديت الى المطبخ بواسطة حاسة الشم القوية عندي ، خزائن وادراج الجزء السفلي من معرض اثاث المطبخ، جميعها مقفلة، او هكذا بدا لي. لم أقاوم النظر الى الجزء العلوي بسبب واجهته الزجاجية الملونة. ليومين  متتاليين قضيتهما محجوزاً في حجرة مظلمة، لم أأكل شيئاً. اتكئت بجسمي محاولا التسلق الى الجزء العلوي.لامست قدمي أحد الأدراج، فانفرج صدفة عن آخره، شعرت بالنشوه كمن اكتشف سراً وانفرجت أساريري. بحثت في داخله عن شيئ يؤكل فلم أجد. نكصت الى الوراء. صدمت بجسمي الدرج المجاور، فانفتح. عثرت على قطع من البسكويت البائتة. شممت رائحة غريبة منفرة إنبعثت منها، ولكن مع ذلك رحت اتناولها بشراهة. ماذا اعمل؟  فقد كنت جائعاً، وبطني خاوية. واحمد الله، اني استطعت ان أحرر نفسي، وأصل حجرة المطبخ. كنت منهكاً. التهمت من قطع البسكويت ثلثها تقريباً، وكنت امضغها وانا مُغمّض العينين، وفكري سارحاً كطفل يتلذذ بما يأكل ويجمع بنفس الوقت،بين لذة الاكل ولذة التفكير بأشياء أخرى. أنا أعرف بأنني طمّاع، ولكني نادراً ما اعبث بممتلكات غيري ، لان هذا ليس من صفاتي. وما افعله الان هو من قبيل هذا النادر، فأنا اعرف ان قطع البسكويت التي التهمتها الان، قد تكون مخصصة للفلاح او للولد الصغير يتناولها عند عودته من المدرسة. ولكن لا بأس ان تكون الان من حصتي. وحتى تلك القنينة الممتلئة باللبن ، هي أيضاً ستكون لي، وستكون حافزاً جديداً لطمعي، ولكن علي ان اتذوقها قبل كل شيئ لأتأكد من طعمها اللذيذ. ومن صلاحيتها "ها ،ها ،ها" أي صلاحية؟ أنا اموت من الجوع !
تناولت القنينة وشربت ما بداخلها.. ولم اترك منه شيئاً.
سمعت صوت طرق على الحائط ، تسلقت قليلاً رافعاً مستوى نظري، لأستوضح ما يحصل في الخارج، صرت أطل على مساحة مفتوحة، رأيت الفلاح وهو يقف امامي مباشرة بعينيه الصغيرتين النائمتين في محجريهما، يحمل مسحاة يضرب بطرفها الحائط بين الحين والآخر. أخفيت نفسي عنه بسرعة، وعدت ابحث عن مورد جديد مرة اخرى. ورأيت هذا وانا أطل على الخانة الزجاجية في الجزء العلوي. شئ على هيئة علبة كبيرة يبدو انها تركت شبه مفتوحة، جاهزة لتناولها دون معاناة. وحتى لو لم تكن كذلك فسوف افتحها بأسناني دون حياء. أنا جوعان وطمّاع، واريد اي شيئ يملأ معدتي، قبل ان يحضى بوجودي احد !
 آه.. لقد تذكرت كيف أني لم أفكر حتى الان بالخروج من هذا المأزق. ولكن كيف  لي ان اخرج ؟ وانا مازلت منهكاً وهناك الفلاح و… أنا خائفٌ، تقمصني الخوف منذ ان رأيت المسحاة ! ولكن علىَّ ان أكون جادّا في التفكير للخروج من هذا المأزق، على ان يكون ذلك ، بعد ان أُلقم نفسي ببعض محتويات العلبة. لا ادري لِمَ اوحت لي العلبة بالاطمئنان والرضا؟ حتى بدا لي ان كل شيئ سيكون على ما يرام! مما زاد في تعلقي بها ، ورحت أرمقها بنظرت حاسمة.. متوعدة.
وقبل ان أحاول التسلق، خَيّل إلي انني احتضنها، واغترف بكلتا يدي ما فيها، وأأكل.. أأكل بشراهة، وبدون تركيز.. حتى فقدت توازني، فإنقلبت العلبة بما فيها. ولما استعدت توازني ..نظرت.. فرأيت العلبة مازالت مستقرة في مكانها، ولكني أحسست كأنني شبعت..وان بطني بدأت تنتفخ..وتنتفخ..وأصبح كل شيئ حولي يدور..رأسي يدور..عيناي تغشيان..لو تمددت قليلا على الارض..اريد ان انام.. فقدت السيطرة على حواسي..نسيت كل شيئ، نسيت العلبة..تشنجات متتالية راحت تعصف بكل أنحاء جسمي. رقبتي، أطرافي ، بطني..أخذت بطني تؤلمني..وتكاد تنفجر بما فيها..شعرت برغبة في التقيؤ.. انتقل الالم الى قلبي ، تسارعت دقاته وأخذ يخفق بقوة ..صداع شديد في رأسي..وتوترات غريبة في أطرافي..منذ يومين لم أسمع لي صوتاً..أردت ان اعرف، هل ما زلت امتلك صوتاً..فتحت فمي،فأطلقت صوتا غريباً، لا يمتّ لي بصلة.
دفعتني نوبة عصبية مباغته..أسقطت بعض الاطباق أرضاً.. وتفككت قطع ووصلات الرفوف البلاستيكية..لم تسلم مني حتى القارورة الزجاجية الكبيرة قرب رف الصحون، وكان لصوت وقوعها وتحطمها صدى كبير..رأيت وجهي في مرآة جانبية صغيرة..عيون مبحلقة وشعر متطاير..شعرت بأنني معنّفٌ، وفاقد اِلسيطرة، سمعت شخيراً (….) مزعجاً يخرج مع أنفاسي، وسمعت من بعيد، صوت الفلاح وهويقول لصاحبة الدار :
"يوجد جرذ في المطبخ.."

انتهت....

=========================

ظل عفريت

قبل ان تغادر المنزل نادته أمه بصوت عال:
-لا تنسَ ما قلته لك؟..
وإختفت على الفور. لم يتذكر بعد ذلك، غير صوت إنغلاق الباب .
ثم دقت الساعة الجدارية اثنتا عشرة دقة.
دقّات متتالية، ومروّعة. يحسُّ بها خارجة من رقاقات أضلاعه..لم يتمكن من سماع الدقة الاخيرة ، كان يحس بغياب غير معهود. مابين اليقظه والمنام تأرجحت أفكاره المشتتة..وراحت تحوم في فضاءات شاسعة من التيه..تروح وتغدو في فلك مضبب، وكأن عفريت تربع على كتفيه.. شعر بما يشبه الانسلاخ من كيانه ، وثمة اشلاء راحت تندمج مع بعضها. العفريت يبتعد ، البيت يتحول الى مجرد زوايا مظلمة ومتاهات..ماتبقى منه يسبح في بركة اشبه بالسراب..يسمع من جديد دقّات الساعة الجدارية .. ينهض بقليل من الوعي ، يلمحُ بقايا ظل لكائن إختفى لتوه بسرعة ..يبحث عنه بما لديه من إرادة،في كل زوايا البيت، المظلمة منها والمتروكة، البعيدة منها والقريبة..ثم ينتقل الى غرف النوم، غرفة الأطفال، والمخزن.. يراقب خزان ألماء فوق السطح، ويتابع مسقط ظلّه على الارض..تَمثّل له الّظل بهيئة سحابة سوداء تشبه الكبش، سمع صوت مأمأة تخرج من رأس السحابة ..قطرات من الماء تهطل علية فتلتصق بوجهه..يمسحها، يطيل النظر في يده ، سيل يلتمع من الرطوبة في كفه.. وعلى الارض ،أسفل الكبش ، تتدحرج كرات سوداء صغيرة..تبادر الى سمعه همهمات خلف الباب..حوّل بصره الى الباب، انطبعت الكرات السوداء عليه، صار الباب أشبه بثوب إمرأة متقدمة في السن.. فكرة وجود أحد اقتحمت توقعاته..الباب الخارجي يحتّج على وقوف هذا الأحد خلفه، ملّ منه ، فقد بدا له ثقيلاً..صرّ الباب قبل ان ينفتح ، ظهرت أمه، اختفى العفريت.

انتهت....


=============================



حَصِى كربلاء..

استويت في صالة البيت وقد ارهقني التعب.. كنت حائراً في آلية الخروج من حبكة مستعصية ،لقصة بدأت بكتابتها منذ فترة أسميتها (المستذئب)..ولم تخرج  القصة للنور،رغم أني انهيت القراءة الثالثة لمسوّدتها.
تأزّمتُ كثيراً،وانشغل جميع أفراد العائلة لتأزمي..لاحظت ذلك في تعابير وجوههم ونظراتهم ..
وبشكل غير مسبوق،اقتربت مني زوجتي وهي تحمل بباطن كفها ثلاث حَصَيَات صغيرات ،وترتسم على وجهها علائم التوسل والرجاء:
-جلبت لك هذه الحَصَيَات من احدى الموظفات التي لها خبرة في قراءة الطالع!... أدهشني ما سمعت،ورحت اتطلع  بالحصيات وكانت صغيرة ملونة خضراء وزرقاء وبيضاء .. فيما واصلت هي حديثها عن الفوائد وطريقة الاستخدام:
-لهذه الحَصَيَات- كما تقول الموظفة الخبيرة بالفلك- علاقة بالكوكب نبتون الذي تزامنت حركته في هذا الشهر مع اقتراب الكوكب الأحمر من الارض مما اثر بشكل مباشر على مخيلة الكثير من الكتّاب! وجعلهم يتوقفون عن الكتابة نهائياً في هذه الفترة!!.. توضع هذه الحَصَيَات الثلاث تحت اللسان ولمدة ثلاث دقائق فقط، بعدها مباشرة ستكتب ثلاث قصص!!
انزعجتُ كثيراً واشتد بي الغضب وقلت لزوجتي التي مازالت تتوسل بي  لوضع الحَصَيَات تحت لساني !
- لم اتوقع منك انت الطبيبة الاختصاصية ان تصدقي هذا التخريف والدجل! دعيني ارجوك .. كيف اقتنعت بان هذه الحَصَيَات الثلاث ستغير حركة نبتون؟؟ أجابت:
-ولكنها جلبتها لي من حَصِى كربلاء!!
لم اتحمل هذا الكلام وكاد ان يغمى عليّ..  لولا ضحكتها  البريئة الودودة التي هدئتني وهي تقول:
-لا عليك !..انها مجرد مزحة! ،وان الحَصَيَات هي مجرد قطع من الحلوى!!
ضحكت حتى استلقيت  الى الوراء.. وتناولت منها الحَصَيَات الثلاث والتهمتها فوراً.. لكن الغريب في الامر ،انني أتممت كتابة المستذئب ؛بعد ثلاث دقائق!


انتهت...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق