الجمعة، 6 مايو 2016

دراسة نقدية / النص الشعري / اشكالية القراءة الناقدة / للاستاذ صالح هشام / المغرب

دراسة نقدية : الأستاذ صالح هشام / المغرب
~النص الشعري : إشكالية القراءة الناقدة ~
اعلم صديقي القاريء /الناقد / الحفار ، لكن ليس حفار القبور وإنما حفار جسد اللغة ، من أجل إنتاج لغة اللغة أو ميتالغة ، هذه المتالغة التي يجب أن تعيد للنص بريقه وأن تحييه من جديد ، لأن حياته هذه متوقفة أساسا على مدى حركيته ،وتناوله بالقراءات التي تختلف من حيث الأذواق والتأويلات والتفسيرات ، لهذا يكون هذا الناقد القاريء مغامرا سندباديا في بحار اللغة ومجاهيل الحروف والغوص وراء مستغلقات السطور ليحقق نشوة الاختراق والعبور، والاتحاد بالشاعر ،و أن يخاف على النص كما الرموش تخاف على العين ، أن لا يحسن الاختيار فيسيء القراءة سواء كانت مدونة وموثقة أو عابرة تدروها الرياح ، وبالتالي يساهم في قتل النص عوض إحيائه ، وحتى تتحقق هذه الغاية يجد هذا القاريء نفسه كالنسر يمارس التحليق فوق الفريسة فيحدد جوانب الجمال فيها والتي تسيل لعابه قبل أن ينقض عليها ،وحتى لا تبوء هذه العملية بالفشل لأنها مسؤولة ، يمارس هذا النسر الناقد لعبة الاقتناص والترصد ،إذ يتجول في مختلف الربوع والحدائق والبساتين وفي أي مكان بحثا عن هذه الفريسة المفترضة التي يمكن أن يغوص في ثناياها بالأيدي والأرجل ،فيقع اختياره على النص المناسب ،ومن تم يتحسس جوانبه ويحوم حوله ويضع مخططه للافتراس ، ثم يركب مركب الغوص في الأعماق ويجذف بكل ما أوتي من قوة ليحصل على الدرر والجواهر الكامنة فيه ، ويبالغ في الغوص لأنه يعرف أن البحار لا ترمي هذه الجواهر على الشواطيء ، ومن أرادها فليحسن الغوص ، ويكون معلما في فن الاستغوار في متاهات كهوف الطبقات الرسوبية الكلسية التي ليست إلا تلك الترسبات النصية في ذاكرة الشاعر والتي تساهم بشكل أو بآخر في تكوين لحمة النص الشعري رغم أنه يستقل ببنيته الخاصة تقول جوليا كريستيفا : ( كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى ) وينهج الشاعر في ذلك نهج التناص او التضمين أو توارد الافكار يكفي أن يكون مرجل البركان يغلي بحمم من الأفكار البشرية المسبوكة عبر الزمن ، وسواء قصد أو لم يقصد ،فان هذا الكم النصي الهائل يفرض نفسه على الذاكرة المبدعة ، الإ أن عملية الامتصاص هذه تختلف من شاعر إلى آخر وفق المخزون الثقافي والمعرفي ،فلا يمكن ان ننتظر رمزا اسطوريا أوتناصا من شاعر لا يعرف مثلا زيوس أو بروميتيوس ، فحوصلة الدجاجة وما حصلت ، وهذه النصوص المستوطنة لتلافيف القصيدة هي ما نسميه النقاد المحدثون بالنصوص الغائبة ، وقبل الإقدام على تناول النص بالقراءة ، يجب أن نعلم أن هناك حتما إضاءات نورانية أو إشارات قوية تشد انتباه الناقد والقاريء على حد سواء أي أن تكون هذه الإضاءات ذات تأثير كبير في نفسية القاريء الذ يفترض فيه المعرفة الواسعة حتى لا يسيء للنص المقروء ، وهي في أغلب الأحيان أشبه بذلك الوميض الصادر من تلك الحشرة الليلية التي توهم بوجود مصدر للنار أو الضوء لكن سرعان ما يخبو هذا النور وينطفيء ، أو تكون هذه الإضاءات النصية أشبه بالسراب يحسبه الضمآن ماء ، فيتبعه ويبالغ في اتباعه ، وهذا لعمري هو سبب الغطس في تلافيف النص ،و تكون إما لغوية جذابة أو عنصر رمزيا ، أو اشارة إلى أسطورة أو في بعض الأحيان تكون الكلمة حبلى بالمعاني التاريخية أو الفلسفية أوالأسطورية ،فيريد القاريء اقتناصها ومعرفة دلالاتها فيجد نفسه يغوص ويطفو في نهر النص ، فإذا كان قارئا أو ناقدا حاذقا خرج من مغامرته هذه بأخف الأضرار ، وأقول أخف الأضرار لأن القاريء لا يمكنه أن يقرأ النص ، ولو استنفد جميع مجهوداته فالنص الإبداعي لا بد وأن يخفي علينا جانبا من جوانبه و هو الذي يجعلنا دائما في ارتباط دائم به نراوده على نفسه كل مرة نقرأه ،لكنه كالحسناء التي تتمنع على زوجها ليلة الدخلة ، أما إذا كان قارئا لا يتميز بالحس النقدي والقراءة الكشافة و الكاشفة ، فإنه سيقف عند منطوق النص ، باحثا عن المعنى ، فلا يصل إليه فيتأفف ، ويتخلى عن القراءة تماما فتضيع منه الكنوز التي يسترها في طياته و التي حبلت بها ذاكرة الشاعر وتلقفتها القصيدة ،فيؤاخذ الشاعر على أنه لا يقول ما يفهم ،فيجيبه أبو تمام شاعر عصره ولماذا لا تفهم مايقال ! هو أذن البحث عن المعنى في السطر الشعري قتل للنص ،ابحث عن المعنى في المقالة الأدبية أو التاريخية أو السياسية أما في القصيدة الشعرية فإنك تحاور الأبكم وتحدث الأصم وتبحث عن المعنى في تلافيف الزئبق ، حاول أنت أن تسقط المعنى الذي تراه مناسبا على النص ،وفق منظورك وفلسفتك ورؤيتك في الحياة ، فالشاعر يترك دائما بعدا بين النص و بين القاريء أو بعبارة أخرى يعطيه فرصة تفكيك الرموز ،و كشف المستور و استجلاء الخفي في نصه ، باعتباره نصا أكثر انزياحا وبلاغة غموض ، وتفكيك هذه الرموز وفتح المستغلقات هو الذي يعيد بناء النص من جديد والإبحار في مجاهيله من خلال عمليات الحفرو النحت ، لكن شريطة أن لا يشعر جسد القصيدة بالألم ، فالندوب تشوه هذا الجسد الفاتن الذي أحسنت ذاكرة الشاعر صنعه ، وخلقه !
ما يثيرني هو كلمة بومة مثلا ، فمجرد سماع اصوات الكلمة تثير في النفس نوعا من الاستيحاش ، والرهبة ، فنشعر بهذا الإحساس اذ نستحضر البوم في اذهاننا رمزا للحكمة والعزلة والوحشة والشؤم كل المعاني تقتحم جدار الذاكرة ،لكن كلمة شحرور لا تثير في أنفسنا هذه الرهبة ، فنخلص إلى أن كلمة بوم هي مفتاح مستغلقات النص ، فتكون إذن مضطرا إلى البحت في استجلاء معاني الكلمات المفاتيح لأنها هي التي ستمكنك من اختراق مجاهيل القصيدة ، الشعرية بصفة خاصة والنص الأدبي بصفة عامة ،قد تكون الكلمات مفردة تثير هذا النوع من الرغبة أو تكون تحتل مكانا خاصا في جغرافية السطور الشعرية أو القصيدة بصفة عامة !
ومن هنا وهناك تنطلق عملية الكشف والاستكشاف في متاهات القصيدة الشعرية ، لكن على القاريء الكريم ان يؤمن بشيء هو أن اللغة الشعرية دوما انزياحية ، وتتسم بالغموض على المستوى الإيجابي لا تعطيك بعضها إلا إذا أعطيتها كلك ، وهذا قد يتعارض في كثير من الأحيان مع رغبة القاريء في استجلاء معنى من المعاني ،فالشاعر لا يعطيك المعاني الجاهزة وإنما يستفز ذاكرتك لتبحث عن المعنى الذي يروقك وفق تصوراتك و تبعا لمدى انفتاح النص على تعدد القراءات ، ولا أريد العودة إلى ذلك الصراع القديم حول جدلية اللفظ والمعنى ، وأقول إن أعذب الشعر أكذبه ، والشعر الذي يقول شيئا لا يعتبر شعرا على الأقل من وجهة نظري الخاصة ، وإلا فماذا سنقول في ( ألفية ابن مالك أوأجرومية ابن عاشير ) وربما هذا سيعيدنا إلى حيث البداية ( الشعر كلام موزون مقفى) ويمكن أن نظيف و له( معنى) ، سبق أن رأينا أن سبب اتهام الشعراء بالغواية والهيام في الأودية ، هو هذا الانزياح الذي يضرب عرض الحائط بكل مألوف ، فيكسر القواعد ليس النحوية وإنما المنطقية للغة ،( فقد يتكئ السجن على شعيرات قملة سكرانة ) أو ( ألبس ثوب عريي وبؤسي القرمزي وانتعل حمق جنوني ) وقس على ذلك في ما يخص هذه اللغة المجنونة التي كانت السبب في إقصاء الشعراء من جمهورية أفلاطون لأن لغتهم اعتبرت مشوشا على المعنى و لغة المجاز بطبيعة الحال ترفض الإبحار في مجاهيل اللغة تحت وصاية الأب كما يسميه النقاد ،أي العقل ،فالشعراء يعتبرون التمسك بالمعنى ، عائقا يمنعهم من الإبحار في جماليات اللغة ،إن على مستوى التركيب النحوي أوالتأليف بين الكلمات المؤتلف منها أو المختلف ،كمايقول شيخ النقاد العرب عبد القاهر الجرجاني ،فالمعنى يمكن اعتباره في المرتبة الثانية ،بعد حصول مزية الكلمة وظهور فضيلتها ، التي تستمدها مما قبلها أو ما بعدها ،وحتما إن المعنى لابد حاصل لا محالة ،فنضرب عصفورين بحجر واحد ،حصول مزية الكلمة في جغرافية الجملة وحصول المعنى الذي يبقى تأويله خاضعا للخلفية الثقافية والقيمة المعرفية للقاريء فلو قريء النص من خلال معنى واحد لمات وقضي الأمر وتحول من نص شعري إبداعي إلى قصاصة إخبارية تموت بمجرد اصطدامها بطبلة أذن القاريء ،لا أريد جازاكم الله خيرا أن تلوموا المبدع عن معنى معينا مادام هو نفسه وهو يشطح شطحته الصوفية لا يعرف المعنى المترتب عما جادت به قريحته الشعرية وذائقته ، فنشوة الغيبوبة الشعرية كنشوة الخمرة لا تبحث أبدا عن تأليف المعنى بقدر ما تبحث عن ممارسة الجنون والهذيان العاقل للغة !
بقلم الاستاذ : صالح هشام
الثلاثاء ١٢~٤~٢٠١٦

هناك تعليق واحد:

  1. سلمت يدك التي تحط وفكرك الذي يخطط ونبض الذي يدق مع الحروف وعلى الحروف ليستخرج منها الدرر المخفية ... غائص في لجج الابداع وفاتح صدف اللؤلؤ انت استاذي صالح هشام ....دام عطاؤك الزاخر الزاخم الباذخ ...مودتي والتقدير اللائقين بسموق قامتك والتحية

    ردحذف