الجمعة، 13 مايو 2016

المواء الاخير لقطة محاصرة / قصة قصيرة / للاستاذ هادي المياح

المواء الأخير لقطة محاصرة
هادي المياح/ العراق
في المقعد الخلفي، كانت الفتاة تصرخ بقوة. لكن السائق لم يبال لصراخها ، واستمر يقود باقصى سرعة على الشارع العام. حتى اذا انحرفت السيارة، بعث ركوبها الطريق الترابي، تطاير دوامات من الأتربة على الزجاج . 
لمحت الفتاة بصعوبة سيارة حمل قادمة من بعيد، فتعلقت بها، وراحت تتأملها بلهفة، علّها تجد من ينقذها. واقتربت السيارة أكثر، وحينما أصبحَت قبالتها..لوحت لها من خلف الزجاج.. لوحت كثيراً.. ولكن لا أحد يرى تلويحها. وإختفت بسرعة مبتعدة، تحجبها دوامات الغبار من خلفها. فإنهارت قوى الفتاة وأصابها القنوط، وراحت تجرّه من ياقته بقوة، وتضربه بكلتا يديها على رأسه بعنف، وهي تصرخ:
"ارجع، ارجع.! الم يكن لديك شرف يا ...نذل؟
عندما أوقفته في الشارع ، صباح اليوم. نظرت اليه من خلف الزجاج. وألقت عليه التحية. تحية عادية تسبق "بكم اجرة التوصيلة الى ...؟ " وأيقنت من النظرة الاولى، انه شخص غريب الأطوار. وترددت قبل ان تركب. ثم ركبت، وتركته مذهولاً، مأخوذاً بجمالها، يفكر مع نفسه بصمت سائلاً أياها" ترى ما هو عملها؟ هل هي معلمة في مدرسة ؟ أم موظفة في دائرة؟ هل هي … أم هي غير ذلك ! 
"عليّ ألا اتسرع الان. سأعرف عنها كل شيئ". 
كان توقعه الاول هو الأصح، فهي معلمة لا تبعد مدرستها سوى ثلاثة اميال عن محل سكناها. تتنقل اغلب الأحيان، بالسيارات العمومية. واضح انها تكره سيارات الأجرة ، أو لا تثق بسائقيها. وعلى وجهها الان، تقطيبة ترسم انطباعات متباينة وخطوط. وعلامات توجس، من كل شيئ، من الانتظار، من الوقوف في الشارع من تهور البعض ولامبالاتهم . ولابد انها تفكر بما يشغله الان:
" هل هو من أهالي المدينة، أم هو دخيل عليها؟ وهل هو فعلاً سائق سيارة اجرة؟" وواصلت :
" علىَّ الا اتسرع بالحكم،ربما سأعرف عنه كل شيئ" ثم تداركت قائلة" ولكن ما حاجتي لمعرفة كل هذا؟"
"اخلاق الناس تغيرت كثيرا هذه الأيام. "
قالت ذلك لسائق سيارة الأجرة الأصلع الذي اضطرت لاستئجاره يوم أمس ، وهو يقود سيارته بتهور، ويثرثر بتفاهات تخدش الأدب، كان جريئاً لا حدود لجرأته، وحينما تمادى اكثر بصقتْ على صلعته قبل ان يعبر السيطرة. وغادرت وهي تغلق الباب وراءها بشدة .
الشارع مليئ بالفوضى، يملأه الغبار ودخان بعض المحركات. وهي مازالت واقفة. تتعثر بفكرة ضالّة، جعلتها في حيرة ، وإذ قررتْ، من جديد، ان تركب سيارة اجرة، فهي بذلك قد تحدت حيرتها ومخاوفها. وفكرت جادة بأمر حمايتها، فهي شابة يافعة وذات فتنة وجمال..وتذكرت والدها ،كان يقول كلما أدام سلاحه الشخصي،"هذا اخي، هذا اخو حامله! "
حينما عادت للمرة الثانية الى الشارع، وبرفقة أخيها، كانت اكثر تماسكاً، وهدوءاً..ومرحاً . مرح حقيقي أصابها كنسمة منعشة من الهواء. احتضنت نفسها كمن ارادت ان تحافظ على عدة أشياء ثمينة انضمت اليها، وحملتها مثل صِمَام أمان. وأحسّت انها لم تكن بمفردها، وكأن كل أفراد العائلة معها . فأسرت الى نفسها وقالت:
"في المنزل ،ومع العائلة، دائما نلقى الهدوء وراحة البال "
أما في داخل سيارة الأجرة. فكانت تشم رائحة نفاذة ، أشبه برائحة التفاح المتخمر.. تحيط بجوفها، وتخور بين ثنايا المقاعد، ثم سرعان ما أخذت تتسلل مع شهيق انفاسها. فصاحت بالسائق تنبهه ان يفتح التكييف ،فأجابها بمكر:
-التبريد عاطل!
- اخفض الزجاج إذن ؟
-الهواء حار في الخارج!
"حتى وإن كان الهواء حاراً، أخفض الزجاج من فضلك، أحس بالاختناق، الرائحة كريهة، لا أتحمل اكثر من هذا"
وتعرضت لنوبة شديدة من السعال. توقفت عن الكلام. شعرت بالاحباط وبرغبة كبيرة بالنزول. لكن الأبواب كانت جميعها مقفلة؟ ربما عليها ان تتحمل لبعض الوقت، فأنها على وشك الوصول. لا بأس، ستحاول ذلك..وأقنعت نفسها بما توصلت اليه. الا ان السائق لم يقتنع، كان يضغط على دواسة الوقود بشدة، وتعلو وجهه تعابير غريبة. فادركت انه يخفي عنها شيئاً. وبعد فترة صمت ،انفجرت صارخة به، الا ان أحدا ما لم يسمعها فأصبحت صرخاتها كمواء قطة محاصرة.
في شوارع المدينة، يجتاز السائق المرحلة الاولى من خطة الافلات خارج المدينة. تمر في حالة من التأزم النفسي. خوار في قواها.. وفقدان في التركيز..تشويش كامل في الرؤيا..يخيل اليها انها تشاهد مديرة المدرسة والمعلمات يقفن على رصيف الشارع، تلتقط ابتساماتهن، وتبتسم لهن.. وفي مرحلة ثانية أبعد، ها هما أخويها الصغيران، تراهما يرفعان ذراعيهما ملوحان لها.. وفي المرحلة الثالثة الاكثر بعداً، تبدو لها بناية المدرسة، وقد أصبحت بعيدة وحجزتها المنازل.. 
ترى السماء تدور، فتختفي المنازل وبعضا من القبب العالية، وتشعر كأنها مرتفعة عن الارض..ويقف ابوها في منتصف الشارع، ويداه ممدودتان نحو السيارة، ورأسه ومنطقة الصدر، تقعان مباشرة امام دعامة السيارة..لا يمكنها تخيُّله وهو مسحوقاً تحت العجلات..يأخذها الفزع خوفاً من ان تصدمه..والسائق يلهو بأزرار المذياع..تصرخ بكل قوة هذه المرة صرخات عالية، "إنتَ..بِهْ ،افتح عيونك."
تفتح عينيها..تمسح سيل من العرق سالَ على عنقها، وتحسّ بالدبق وبالرطوبة تثقل رموش عينيها..وتجد نفسها خارج المدينة، على الشارع العام.
كانت الفتاة قد كفّت عن الصراخ، وبدأ الطريق الترابي يضيق، وتباطأت سرعة السيارة، وأخذت عجلاتها تتنقل فوق قطع من تربة متكتلة، مبعثرة على الطريق.. الطريق الترابية وعرة، وتكاد تكون مغلقة. تحيط بها ارض مفتوحة من جهة اليسار، وبقايا أشجار أثل، على يمين الشارع، حملت على رؤوسها نموات خضراء جديدة. 
فكرت عليها ان تعد خطة للتخلص من هذا الوغد، لا يفيد هنا صراخ ولا عويل، بعد ان اختفت كلياً سيارة الحمل، ولم تعد تكفي ضربات باليد كالتي وجهتها له قبل قليل، فهي ما عادت تتناسب مع نواياه الشريرة، انه يريدها هي.. ولا شيئ آخر!
توقف السائق عن السير، وأطفأ محرك السيارة. وراح يرسل بنظره الى الناحية البعيدة، متجنباً النظر اليها، انتابها شيئ من الفضول لرؤية وجهه، عسى ان يغير ذلك من سوء نواياه، رغم انه لم يكن بنظرها الا شخصاً غريب الأطوار. ولكنها تراجعت عن ذلك، وظلت قابعة داخل السيارة. تتابع بحذر كل حركة تصدر منه ، وبنفس الوقت، راحت تتحسس محفظتها، فتحتها، مدّت كفها بداخلها، لامست محتوياتها..وتنفست بعمق .
عندما اقبل عليها، كان لم يظهر منه سوى رأس غير واضح المعالم، لم تفهم تفسيراً لركوعه على اربع وكانت عينيه بارزتين بانت شرايين حدقتيهما. ارعبها ظهوره المفاجئ، قرب باب السيارة الجانبي. وخيل لها انها رأت عدة كلاب خلفه، لا تختلف كثيراً عنه . صاحت بصوت إمتد طويلاً، طويلاً جداً عبر هذا الفضاء المفتوح، الخالي من البشر، ليصل الى مالانهاية من الاذان الصاغية وغير الصاغية، صاحت 
"لا تلمسوني!"
ثم سمعت عواءاً خفيض، صدر عنه وهو يفتح الباب..وعندما ركّزت عليه كان لوجهه تقاطيع كلب، باستطالته، عينيه المتباعدتين، وأذنيه المتدليتين. أخذتها رجفة شاملة، وشعرت بالرهبة، وتراجعت مستندة قليلا الى الخلف، وعندما شرع بوضع أولى خطواته على الباب، بدا لها بوضوح. لأول مرة تراه عن قرب. وكانت تنبعث مع انفاسه رائحة كريهة، تشبه رائحة التفاح المتخمر.. وقبل ان يحشر نفسه قربها، كان جسده يسرح ببطء نحو الارض، ووجهه وأذناه تتضرجان بالدم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق