الجمعة، 20 مايو 2016

قراءة نقدية بقلم الاستاذ صالح هشام / المغرب / في قصيدة (أن ) للشاعر عصام سلمان /لبنان

قراءة نقدية بقلم الأستاذ صالح هشَّام /المغرب
في قصيدة (أن) للشاعر عصام سلمان /لبنان
****************************************
إن القاريء الذكي يستهدف من قراءته أي نص إبداعي تعميق الحفر في مناطق الصمت في هذا العمل، والتنقيب في تلافيف خوائه عن مواطن الجمال والروعة ، تقوده النشوة و توجهه شهوة الاختراق والعبور لأعماق النص إلى خوض غمار المغامرة في بحر اللغة ، مغامرة سندبادية بحرية يصطدم فيها في بعض الأحيان بالكثير من العوائق اللغوية التي تكسر مجاذيفه وتدفعه إلى التفكير في الطرق والوسائل والأدوات الناجعة التي يمكن أن تمكنه من الخروج من هذه المغامرة بأقل الخسائر !!
وأقل الخسائر أن يتمكن من معرفة بعضا من خبايا السطر الشعري فاهما ومفسرا ومتذوقا ومنتشيا، بمعالم الجلال والجمال في عالم القصيدة الشعرية، ولعل أهم الأدوات التي يتسلح بها هذا القاريء هو الحنكة في التفسير والتأويل والتأمل في عمق بنيات النص دون الاكتفاء بمنطوقه أو ما تجود به بنياته السطحية من فتات المعاني. وقبل أن يزن القاريء مدى قدرته على خوض مغامرة اختراق عمق الصمت في النص واستنطاق حروفه، لا بد و أن يتخذ جميع أهم الاحتياطات الضرورية حتى يلاعب المبدع لعبة الغميضة ، كيف ذلك ؟! الشاعر عصام في قصيدته( أن ) بتسكين النون وفتح الهمزة، يختبر فينا القدرة على الفهم والتحليل ، فهو إذن يلاعبنا لعبة الغميضة ، ويأبى أن يعطينا ما يريده من نصه بتلك السهولة التي لا تحرك فينا توظيف نظام فك التشفير، وحل الرموز decodeur. أقول هذا لأني وباعتباري قارئا حاذقا، مولعا بفك الرموز، أُقِرُّ بأني وأنا أغوص في مجاهل النصوص لفك مستغلقاتها والإبحار في بحورها، التي لا ترمي جواهرها وماساتها على الشواطي، لم يسبق لي أن واجهت نصا تعامل فيه مبدعه بذكاء، يجر القاريء جرا إلى أعماق نصه كما الجزر البحري، لكن أين يكمن هذا في نص الأستاذ عصام !؟ أعتقد أنه خرج عن المألوف، في النصوص الإبداعية التي تعودنا على قراءتها، وعندما أقول قراءتها يعني تحليلها ونقدها وإبراز مواطن الجمال في ثنايا سطورها أو تدوين بعض المزالق إن كان هناك ما يدعو إلى ذلك! الأستاذ عصام، بدأ يمارس لعبة الإبحار بقارئه في عالم الانزياح منذ بداية النص، أي منذ العنوان، باعتباره مفتاح النص أو البوابة التي يعبر منها القاريء إلى الغوص في مستغلقات النص، من خلاله يطرح مجموعة من التساؤلات التي ستشحذ فيه قوة التخييل، ليأخذ مكانه على بساط أجنحة الكلمة الشعرية، وليقتسم معه دفقاته الشعورية، وأيضا ليأخذ مكانه وراءه على ظهر البجاسوس أو حصان الشعراء، فما لم يحدث الاتحاد الصوفي بين المبدع والقاريء تكون الكتابة أصلا لا قيمة فنية لها، فما لم يقع حلول بعضهما في أفكار بعض، يكون العمل الإبداعي، مسألة ضياع للوقت وهدر للطاقة المبدعة والقارئة، يختار الشاعر عصام سلمان ( أن) عنوانا لنصه، من خلاله يوقظ جيشا عرمرما من الدبابير في تلافيف دماغ القاريء، الذي ستتبادر إلى ذهنه أسئلة استفزازية يتوخى منها إشفاء غليله من الإجابة عنها في جسد القصيدة، ( أن ) قصيدة فيها شيء من الغرابة، تدفع القاريء إلى حسن تدبير المجذاف، لمعرفة، نوايا المبدع وأهدافه من هذا العنوان أو من المفتاح الذي وظفه لاستقبال قارئه في رحاب قصيدته المتخمة بالدلالات والرموز. تميز الشاعر في هذا النص، بذكاء خاص، لأنه وظف ما لم يدل على أي معنى في نفسه بإمكانه أن يزود القاريء بإشارات لمعرفة بعض أمور وقضايا النص، فــ (أن ) حرف... والحرف بدون إســـْناده إلى غيره،
كالملح بدون طعام، فلا يفيد معنى إلا في غيره. أي في سياق معين يمده بالمعنى وبالحياة، مثله مثل باقي الحروف التي تحيا كالطفيليات تقتات من حياة غيرها، هي حرف عامل نصبا في الفعل المضارع، ويمكن الاستغناء عنها وما بعدها من خلال التأويل بمصدر الفعل فيغني عنهما ويحل محلهما على مستوى الإعراب ولا يتغير المعنى، وتدخل كذلك حتى على الماضي، وتتعد استعمالاتها وفق موقعها في جغرافية الكلام، ولا أريد هنا أن أغوص في مناقشة قضايا نحوية، وإنما فقط كان من الضروري أن نبرز ماهية الحرف على المستوى النحوي، لأنه يسهل لنا بعض الأمور، وإن كانت القصيدة الشعرية أصلا من أسسها خرق مألوف اللغة من أجل خلق الانزياح وبلاغة الغموض، ( أن ) التي وظفت عنوانا للنص كانت أيقونة القصيدة، لانها رافقت جميع سطور القصيدة تقريبا، وليس هذا ذا أهمية كبرى، بقدر ما نريد التركيز على جماليات هذه القصيدة الرائعة، وأعتقد أني لست من أهل المعنى كما كان يقول النقاد القدماء وإنما من أهل اللفظ، أيضا لأني أعتقد صراحة أن الشعر الذي يقول شيئا ليس شعرا، ولو كان ذلك لكانت ألفية ابن مالك وأجرومية ابن عاشر من أجود الأشعار، قد تقول القصيدة شيئا، لكن هذا المعنى، لا يكون ذا أهمية إطلاقا، إذا لم يكن خارقا للمألوف جامعا بين المتنافرات في التركيب، والإسناد اللغوي، وتجاوز تلك الأنساق المغلقة، ليحل محلها التنافر والاختلاف كأسس لبناء الجملة الشعرية،
وسأركز فقط على بعض الأمثلة من القصيدة، والتي تبرز عمل المبدع على إحلال هذا النوع من التنافر والاختلاف، في التركيب اللغوي: أن توظف المبرد والازميل لتنحت، ليس صخرا أو خشبا أو كتلة مادية، ولكن أن يسلط هذا الإزميل والمبرد على ما لا تدركه العين أو اليد، وفوق حواس الضوء، فوق مضاف ومضاف إليه يستفاد منه التعريف والتخصيص، لكن الكلمات لا تمت إحداها بصلة لأخرى على مستوى المنطق اللغوي، وما الشعر إلا ضرب لمنطق اللغة، فما علاقة الحواس بالضوء؟! العلاقة بعيدة بينهما إلا على سبيل الانزياح اللغوي كخاصية من خصائص اللغة الشعرية والتي منها تستمد القصيدة جمالها وأهميتها ومدى تأثيرها في نفس القاريء، حيث يتمكن الغرائبي والعجائبي على مستوى التركيب اللغوي في تلافيف النص من هذا القاريء، فتكون القراءة الواعية والإبحار في ملكوت اللغة، فيساهم بشكل أو بآخر في إعادة تكوين النص، وخلقه من جديد لأن القاريء سواء كان ناقدا أو قارئا عاديا حتما سيخلق لغة جديدة على لغة النص، محل القراءة، يقول الجرجاني (أجود الكلام شِدَّةُ ائتلافٍ في شِدَّةِ اختِلافٍ )، والشعر كلام والشاعر متكلم، فهل الظل صدى؟ وهل تصل علاقة الإنسان بالريح الى حد التفاهم والانصهار، وبالحجر إلى حد المؤانَسَةِ، وبالصَّحْو إلى حدِّ الغَسْلِ ؟! فتزول الفوارق في المعاني، ويتلاشى الاختلاف بين الكلمات ويحل محله الائتلاف في صور شعرية بديعة، هذا هو الانزياح الذي يريده الجرجاني، ويعبر عن ذلك بقوله (وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كلما كان للنفوس أعجب وذلك أن موضع الاستحسان ومكان الاستطراف أنك ترى الشيئين مثلين متباينين ومؤتلفين مختلفين) فمن هي هذه النفوس يا ترى؟ وما المقصود بهذا التباعد بين الشيئين، إلى غير ذلك، هذه نظريات كبار النقاد في العصر الحديث أمثال بارت ودريدا وكريستيفا وغيرهم كثير، هذا الاختلاف بين الكلمات هو سر جمال هذه القصيدة، فمسافة القدمين تصبح غيابا كوميض البرق وانعتاقا من تفاصيل الحواس، أليس الانعتاق من تفاصيل الحواس هذه هي مبتغى أي شاعر يحلق في عالم الخيال بعيدا عن هذه الحواس التي تشده الى الارض كالجاذبية، هو الانعتاق من الواقع إذن، فهذا السمع وهذه الرؤية وهذا الشم وهذا اللمس وهذه الحواس بصفة عامة تعرقل بشكل أو بآخر هروب الشاعر ومن بعده القاريء عن ذلك الواقع الذي ينوء بما لا تطيقه النفس من حمل، وما الشعر إلا إعادة صياغة هذا الواقع لكن على المقاس الإنساني في حدود المتخيل، الذي يفرضه الذوق وذائقة القراءة، هو إذن هذا التركيب وهذا الجمع بين الكلمات في هذا السياق الرائع هو الذي يصون ذلك البعد الفاصل بين النص والقاريء، هذا البعد الذي يضمن له حق التفسير والتاويل، من أجل تفكيك الرموز وتحقيق شهوة اختراق خفيِّ الخَفِيِّ في النَّصِّ، و هتك المَسْتُوْرِ الذي يُوْمِض ويَخْبُو بين كلمات السطور الشعرية التي تمارس لعبة الغواية والاغوا ، فتنخرط كل العناصر، رامزا ومرموزا، ورمزا ومفككا للرمز، في وحدة اندماجية متلاحمة، فالأوجاع تعلنك صديقا، ويقولك صمت، وتكتبك أجرام لغات منسية، هو ذا (الكلام الفني قول راح السمع يسرقه أو يختلسه اختلاسا وهو يتنصت على النائي والعميق ) في نظر الجرجاني، هو ذا الانزياح وبلاغة الغموض، على مستوى الإيجاب وليس السلب لأن مصطلح الغموض زئبقي يتداخل مع الإبهام والتعقيد، و هنا لا نقصد منه (اللفظ الذي لم يرتب الترتيب الذي تحصل من خلاله الدلالة ) والذي يهمنا هنا من المصلح ما يساعد على حصول التكثيف والإيحاء والرمز كمقومات جمالية وضرورية في اللغة الشعرية...
ما قرأت سطرا من سطور هذه القصيدة إلا وجدتها غنية بالدلالات غنى بحور اللغة بالجواهر والدُّرَرِ، التي ما نظمها في هذا العقد الفريد إلا قريحة شاعر عرك الحَرْفَ العَرَبِيَّ، وطوَّعه حتى أصبح في حلقه ليِّناً، وليس كل انزياح هو جمال فني، تطرب له النفس وتستسيغ موسيقاه الأذن العربية التي تميز الحسن من الرديء بالسليقة، الأستاذ عصام ، صاحب لغة، مروض الحرف، صوره الشعرية انزياح عن المعيار وخروج متعمد عن القواعد اللغوية المعتادة، و هدفه تحويل الإِلفة إلى غرابةٍ كما يرى جون كوهن، أو كما يقول ناقد العرب ابن طباطبا (التعريض بالخفي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر فيه)... وأعتقد أن الشاعر عصام سلمان لايقل أهمية عن الشعراء الذين طردوا من مدينة أفلاطون نظرا لكون لغة شعرهم خيالية مجازية تشوش على حضور المعنى. وقد أشرت إلى ذلك في بداية هذه الدراسة النقدية في أن الشعر الذي يقول شيئا لا تربطه بالشعر علاقة، فلغة القصيدة أشبه بلغة الجنون كما يعبر عنها نتشه القائل في جنون اللغة (هل اللغة إلا جنون له لذته )، ويقول في معرض حديثه كذلك (لا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه) هذا الإبداع وهذه القصيدة، لغتها لغة الجنون، تستمد جمالها من هذه الجغرافية المتنافرة، من الكلمات، هذا الاختلاف الذي يخلق منه الشاعر ائتلافا، وقد أعطينا نماذج مارس من خلالها الشاعر، لغة الجنون في القصيدة ، يقول نتشه ( اللغة نوع من الجنون العذب ، فحين يتحدث بها الإنسان يرقص فوق جميع الأشياء )، ولا أريد هنا أن أغوص في هذه الرحلة السندباديَّة للحديث عن جنون اللغة والتي حتما سأخرج منها بأفظَعِ الخسائر، لأن الغوصَ في متاهات اللغة يستوجب المَرْكَبَ الغَوَّاصَ والمجاذِيف القويَّةَ، لكن يمكن أن أشير إلى أن الشاعر عصام : شاعر أي أنه متكلم، نستسيغ كلامه و نستحسنه، لأنه صاغ عقده فأجاد الصياغة، وما الكلام إلا ذلك الفضاء اللغوي الذي لم يتشكل بعد، ويخضع تشكيله لقدرات المتكلم والتي تختلف من شخص لآخر، تبعا لظروفه المتكلمية، ووفق خلفيتة الثقافية بصفة عامة، وأنا شخصيا أرى أن الشاعر عصام قد أحسن التبضع من سوق اللغة المليء بما لذ وطاب من المقولات اللغوية و التي رتبها في هذا العقد من الجواهر ليزين به هامات قرائه !!!!
بقلم الاستاذ صالح هشام/المغرب
الثلاثاء ١٩~١~٢٠١٦ بالرباط
نص القصيدة
-(أَنْ)-
*************
= أَنْ
تَنْحَتَ صَوْتَكَ
فَوْقَ حَواسِ الضَّوءْ،
أَنْ يَنْبُضَ ظِلُّكَ مِثْلَ صَدىً أَو لَوْنْ،
أَنْ تَفْهَمَكَ الرِّيْحْ ... يأْنَسَكَ الحَجَرُ،
أَنْ يَغْسِلَكَ الصَّحْو ْ...
يَعْطَشَكَ المَطَرُ .
وَتَفِيءَ إِلَيْكَ
جِهاتٌ ضائِعَةٌ في الوَقْتِ،
سَماءٌ مَهْجورَةْ.
= وَتَصِيْرُ
كُلُّ مَسافَةٍ قَدَمَيْكَ؛
تُصْبـِحُ كُلُّ ثانِيَةٍ غِيابــاً،
وانْعِتاقاً مِنْ تَفاصِيْلِ الحَواسْ.
تَغْدو عُيُونُكَ رَجْعَ أَكوانٍ،
تَصِيْرُ مُناخَ أَزْمِنَةٍ
تَجِفّ.
*************
= أَنْ تُمْسِكَ
شَكْلَكَ مِرآةٌ لا تَعْرِفُكَ...
أَنْ تُعْلِنَكَ الأَوْجاعُ صَدِيْقاً،
وَجْهاً آخَرْ...
= أَنْ تَعْرِفَكَ
مُدُنٌ لَ
نْ تُوْلَدَ،
تَكْتُبَكَ أَجْرامُ لُغاتٍ مَنْسِيَّةْ؛
ويَقولَكَ صَمْتْ.
= لِتَظَلَّ وَحِيْداً
تَهْجُسُ في فَلَواتِ الرُّوحْ.
لِتَظَلَّ سُؤَالْ.
********************
عصام سلمان / لبنان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق