الخميس، 5 مايو 2016

قصة قصيرة / الشبح / الاستاذ محمد عودة /

قصة قصيرة
الشبح
***
عشقت الليل منذ تسللت الأنوثة الى جسدها الرقيق أحبت في ظلامه الهدوء والسكون ، أحست برابطة خفية تشدها الى نجومه المتلألئة ،عشقت أشباح الظلام المتسللة تحت جنحه .
كانت تشمئز من نور النهار داخل غرفتها الا من سويعاته القليلة التي تقضيها في مدرستها ، حتى طعامها تتناوله داخل غرفتها الصغيرة التي تشاركها فيها أختان صغيرتان ما زالتا في المرحلة الأبتدائية ، لاتعرفان من الدنيا سوى اللعب والمرح ، ولا ينبض في جسديهما الغضين سوى قلبين بريئين يعشقان حنان أمهما .
منذ تلك الليلة الحالكة الظلام ، التي قضتها ساهرة تحاكي الدرر المتلألئة عبر نافذة غرفتها الصغيرة التي بالكاد تتسع لرأسها الصغيرة وشعرها الأسود الفاحم المسترسل بخفة ودلال على وجهها وكتفيها ، بينما اختاها تغطان في نوم عميق ، وهي تشعر بحنين غريب الى الليل وظلامه ، فأرقها النوم ورافقها السهاد ، تنام جزءا قليلا من النهار وتلتصق معظم الليل بنافذتها .
في تلك الليلة ، شعرت بهاجس خفي يشدها الى ذلك الشبح الذي يتحرك بخفة ونشاط كل ليلة بين أزقة المخيم في أتجاهات متعددة ، يبدأ من تحت نافذتها الصغيرة ثم ينطلق في طريقه ، لم ترى منه سوى جسده النحيل وقامته الطويلة ، هكذا تقضي معظم ليلها تنتظر مرور الشبح وتتابعه بنظراتها الحانية حتى يختفي في دجى الليل ، ثم تترقب عودته بقلق ، شيء يقول لها بأنه يراها ويبادلها شعورها ونظراتها .
وقفت كعادتها تسد طاقتها الصغيرة ، بوجههاالأبيض الناصع وشعرها المسترسل بسواده ، يبرز جمال وجهها الوضاح ، الكحل الأسود على رموشها الطويلة زاد عينيها الواسعتين جمالا .. وقفت بزينتها ، تنتظرمرور الشبح ، نظرت الى ساعتها الصغيرة .. لقد تأخر .. لماذا ؟ لماذا هذه الليلة بالذات ؟ سطع نور القمر ، تبددت حلكة الظلام .. ارتاحت لنوره لأول وهلة ، استبد بها القلق ، عقارب الساعة تجري بسرعة .
تجاوزت منتصف الليل .. السكون يخيم على المخيم ، لا أدنى حركة تزعج أزقته سوى القطط والكلاب الضالة ونباحها المستمر ... اشعلت شمعه وضعتها على حافة الشباك انعكس ضوءها على جانب وجهها ، خيال الشمعة يتحرك على الحائط المقابل لنافذتها .. لم يأت الشبح ... احمرت وجنتاها خجلاً من نفسها , ماذا اصابها ؟ هل تحب شبحاً ؟شعرت بحركة خارج غرفتها داخل فناء البيت..نظرت الى ساعتها ، عقاربها تسير بسرعة تحو النهار ، أطفأت الشمعة وأغلقت النافذة واندست داخل فراشها .. سرح خيالها ... من يكون هذا الشبح ؟ وما شكله ؟ اهو رجل أم فتاة مثلها ؟ماذا يعمل ؟ من أنت يا شبحي العزيزهل انت من بني الأنس ام من الجن ؟ لماذا لم تمر هذه الليلة لتشاهد جمال وجهي ؟ كم بذلت من جهد حتى تراني في أحسن صورة ... غدا لن أقف .. لن تراني ثانية ... لماذا أخلفت موعدك ؟ لن انتظر مرة ثانية ...أكرهك أيها الشبح ... أكره الليل الذي تتستر تحت جنحه ... يا ويلتي ... هل أنت مريض أم أصابك مكروه ؟كيف أشعر بالأمان في ظلام الليل دون أن أراك ؟ أين تذهب ؟ وماذا تعمل ؟من تكون أيها الشبح اللعين ؟ لن أهتم بك بعد الآن ... لن ترى نافذتي مفتوحة ... لن تراني ... لن ترى وجهي ... داهمها النوم ... طرقات خفيفة على نافذتها تهادت الى مسامعها كحلم مزعج ... الطرقات تتكرر متسارعة ... قفزت من فراشها ... بلا خوف ولا تردد فتحت النافذة ... رأت الشبح وجها لوجه ... نزع كوفيته عن رأسه ... غطت وجهه ابتسامة شاحبة ، وهو ينظر اليها .. كان شابا وسيما ، رغم وجهه المكفهر وشعره المنكوش ، يبدو عليه الأضطراب والأرهاق ... قذف شيئا ملفوفا تلقفته بصعوبة ، كان ثقيلا بعض الشيء ، وقبل أن تفتح فاها بكلمة توارى عن نظرها ، أغلقت نافذتها ، وجلست على فراشها تتفحص هذا الشيء ، رعشة قوية اصابت جسدها ... ارتعدت مفاصلها ... أين تخفيه عن أعين أهل البيت ... هدأ قلبها لثقة الشبح بها ، ولكن هذا الشيء المزعج والمهم لدى الشبح أين تخفيه ؟ تحت وسادتها ... ادعت المرض طوال نهارها... لم تذهب الى المدرسة ، ولم تفارق مخدعها ... شعرت بالحزن وهى ترى القلق في عيون والدتها ووالدها ، رفضت تناول طعامها رغم الحاح والديها حتى يبدو المرض على وجهها ويشحب لونها من شدة الجوع ... ادعت الأستغراق في النوم ، بين الفنية والأخرىتشعر بيد حنونة تتحسس جبهتها كما تنفذ الى مسامعها همهمات والدتها بالدعاء والرجاء ، وتمتمات والدها بآيات القرآن الكريم ... طال نهار هذا اليوم ، يأبى الظلام أن يقترب ... تصر الشمس على أطالة فترة شروقها ... وضعت والدتها الطعام بجانب فراشها على الأرض ، بعد أن فقدت الأمل في ان تتناول منه شيئا .. مر نهارا طويلا ... طويلا .. أطول نهار في حياتها .
خيم الظلام واختفى بصيص أشعة الشمس عبر شقوق نافذتها ، والدتها مازالت جالسة الى جوارها ... لابد أن تذهب والدتها ...يجب أن تبقى في الغرفة وحيدة ... جلست في فراشها وقالت : يا والدتي العزيزة أشعر بتحسن الآن سأتناول الطعام .. . تهلل وجه والدتها بالفرح واطمأن قلبها وهي ترى كبرى بناتها تأكل طعامها بعد نهار طويل من المرض والقلق وغادرت الغرفة وهي تمتم ببعض آيات القرآن الكريم وودعت بناتها بحنان فياض وهن يستسلمن للنوم ... بعد فترة وجيزة أحست خلالها باستغراق أهل البيت في النوم ، نهضت من فراشها ووقفت تزين نافذتها بوجهها الشاحب وتبث قلقها واضطرابها في أزقة المخيم ، تنتظر الشبح ، لم يطل انتظارها جاء الشبح كعادته بخطواته الخفيفة السريعة... حياها بايماءة فردت التحية بابتسامة عريضة وهي تقذف له بذلك الشيء ... تلقفه بقوة واختفى بسرعة وهي تودعه بنطرات حانية ... وقفت تنتظر عودته بقلق بالغ ... لم تعرف لماذا قلقت عليه هذه المرة أكثر من السابق .. لم تمضي سوى فترة قصيرة حتى مزقت سكون الليل أصوات طلقات سريعة وانفجارات رهيبة أضاءت ومضاتها ظلام المخيم الدامس ... ارتفع صراخ الألم وضجيج السيارات وتعالت أصوات جنود الاحتلال بلغتهم الكريهة ... صمتت أصوات طلقات الرصاص والانفجارات ... اقتربت أصوات ضجيج وضحت نبرات جنود الاحتلال ... مر شبحان من تحت نافذتها بخطوات سريعة يحملان شبحا ثالثا يقطر دما ... يا الهي ... انه شبحي العزيز ... نظر اليها ، رأت ابتسامته لأول مرة ... وجهه ناصع البياض حياها بأشارة النصروكأنه يطمئنها بأن اصابته بسيطة وسيعود قريبا ... اقتربت الأصوات كثيرا ... الصهاينة داخل فناء بيتها ... أغلقت النافذة بسرعة واندست داخل فراشها ... اقتحم الصهاينة غرفتها .. نهضت شقيقتاها فزعتين ... صرختا بصوت واحد بابا ... بابا ... جذبها جنود من شعرها بقوة وهم يصرخون ، أين صديقك " المخرب " ...؟ رمقنهم بنظرات قوية ... وقفت أمامهم شامخة مرفوعة الرأس .. لم ترهبهم ... منذ لحظات سمعت عويلهم وصراخهم ... كان فؤادها وفكرها مع الشبح ... تراه قويا رغم جراحه ... رأتهم اقزاما بأسلحتهم امام خفتة ورشاقته ... ابتسمت ...كيف سيكون حالهم لو هاجمهم الشبح الآن بسلاحه الصغير ؟ اتسعت ابتسامتها .. مما اغاظ قائد جنود الاحتلال فضربها بعنف ووحشية ودفعها بقوة فسقطت على الأرض والأبتسامة ما زالت تزين وجهها ضربوا والدها بهمجية وهم يسألون أبن " المخربين " ... عز عليها ان يهان والدها ... رأت دموعه لأول مرة ... ودت لو كانت شابا تعمل كالشبح وتنتقم ... جرجروها ووالدها بطريقتهم البربرية وسط صراخ والدتها وشقيقتيها الصغيرتين ، ابتسامتها الساخرة ما زالت تغيظ الجنود الصهاينة وتثير سخطهم وحنقهم ... رفعت شارة النصر وهي ترتقي السيارة العسكرية وتمتم لو لم يسقط الشبح صريع جراحه لما جرأتم على فعل ذلك أيها الأنذال .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق