الأحد، 15 مايو 2016

قراءة تيبوغرافية في قصيدة ’’ ظل / كما الحلم ’’ للشاعر جاسم ال حمد الجياشي / للاستاذ مصطفى بلعوام المغرب

قراءة تيبوغرافية في قصيدة " ظل / كما الحلم " للشاعر جاسم آل حمد الجياشي
----
مصطفى بلعوام
---
توطئة :
النص صغير جدا يطرح إشكالية كبيرة على اللغة وعلى الشعر من حيث هو لغة سيميائية على اللغة. 
هل الكلمة ظل للفكر أم أن الفكر حلم لا لغة له غير تلك التي تبحث عنه ويبحث عَنْها دائماً وأبدا ؟ 
--
خير الكلام ما قل ودل، وخير الشعر مادل فيما قل. فالعملية مسألة خوارزمية بين عدد الكلمات التي تدل لما هي منوطة بقوله في قلتها وعدد الدلالات التي تبحث عن إفصاحها من خلال الاقتصاد في الكلمات. نص الأستاذ جاسم يقذف بِنَا من تو قراءته إلى مساءلة قدرة الكلمات على الاستحواذ الكامل للشيء أو الموضوع التي تقوله، وبالتالي إلى علاقة اللغة بالفكر وبما تسمحه اللّغة من إمكانية الإفصاح للفكر..
ماذا يعني خير الشعر مادل فيما قل وعلاقة اللغة بالفكر التي يطرحها نص الأستاذ جاسم؟
يعني أن االشعر لايتكون فقط من كلمات مقننة مسبقا في دلالتها وإن قوضناها من أجل انزياحات لغوية ، من جهة؛ وأن علاقة الأشياء بالكلمات مجرد ضرورة وجودية ( بمعني هيدغر) للموجود في الوجود من حيث هو محكوم بتدليل (دلالة ) ما هو موجود، من جهة أخرى. علاقة الأشياء بالكلمات علاقة ديمومة متوترة تخضع لحالات الفكر الآنية وقدراتها التعبيرية. الكلمات لا تستطيع قول كل الأشياء والفكر لايستطيع قول كل حالاته التعبيرية من خلال الكلمات. 
وعليه، فإن قراءة نص الأستاذ جاسم " الظل / كما الحلم" تقوض مفهوم الشعر القديم لصالح مفهوم الكتابة من حيث هي اشتغال على وفي النص وليس فقط على وبالكلمات . لا يحتاج نصه إلى إعادة إنتاجه فهو أصلا إنتاج يفرض قراءته انطلاقا مما يوجبه هو من إمكانات للقراءة على أساس الترميزات التيبوغرافية التي تحكم هندسته. 
يعتمد النص على ترميزات تيبوغرافية من بداية العنوان " ظل / كما الحلم". وهي تتوزع على الشكل التالي :
- 6 مرات عارضة مائلة : /
- 3 مرات نقط الحذف الثلاتية : ...
- 1 نقط الحذف الثنائية : ..
- 2 مرات نقط حذف طويلة : ..........
- 1 مرة علامات انفعال مكررة : !! 
علاوة على هذه الترميزات التيبوغرافية، يضم النص 14 كلمة، و10 أدوات الوصل والفصل ومتفرعاتها.
النص قصير جدا يبحث عما دل فيما قل ويتلمس من أجل ذلك طرقا تعبيرية تكسر اللغة ذاتها داخل فضاء، لا سلطان له غير جعل الكتابة حقلا تجريبيا 
لكل الطرق الممكنة في قول ما يمكن أن تحتضنه الكلمات وفي قول ما لا تسمح بقوله. 
تلك هي المعادلة المبنينة له والتي تجعل من الكتابة مغامرة سيميائية لا تخضع فقط إلى سلطة الكلمات ولكن تخضع أيضا إلى كل ما قد يقوم بوظيفتها خارجا عن مجال قانونها. لكن هل هذا يخدم الكتابة الشعرية ؟ أليس ذلك قمين بأن يغرقنا في متاهات شكلية على حساب المعنى ؟ مشروعية طرح هذان السؤالان تأتي من نص الأستاذ جاسم باعتباره مكتوب في إطار لغة لها تاريخها ومرجعيتها الثقافية، وبالأخص فيما أثارته من سجالات حول جدلية علاقة الشكل بالمضمون. وقد تمحورت غالبية القراءات للشعر حول ما يقوله النص وكيفية قوله لما يقوله، مغلبة تارة الشكل على المعنى، وتارة أخرى المعنى على الشكل، أو في أحسن المعادلة باحثة عن علاقة متساوية بينهما. والمقصود بالشكل في كل الحالات، الكلمة من حيث هي وعاء للمعنى ووسيلة له في تمظهره. فللمعنى الواحد تعددية التمظهر من خلال الكلمات وللكلمات قابلية الترويض الذرائعي لقوله. ونص الأستاذ جاسم يعرض علينا مسألة معقدة في بساطتها : النص لغة لاتنهض فقط على الكلمة، فهي ليست الوعاء الوحيد لخلق المعنى المتعدد فيه؛ إنه لسان وحواس، جسد له خاصيته التعبيرية ومنطق اشتغاله على ما قد يقوله من معنى. مما يعني أن نص الأستاذ يحولنا من قاريء يقرأ بالكلمة إلى قاريء يقرأ بالعين هندسته كعلاقة مباشرة بين ما تراه فيه والفكر. فالكلمات وإن كانت ترجمة للأشياء فهي لا توفيها حقها أبدا ؛ وما وجود المرادفات والاشتقاقات إلا دليل على استحالة مطابقة مطلقة بين الكلمات والاشياء. بينما العين هي قبض مباشر للشيء في وجوده البصري. ماذا تقبض العين في نص الأستاذ ؟ نقط حذف متفاوتة العدد، آليات تيبوغرافية موزعة الاستعمال، شبه هندسة طبولوجية الخفي منها والمتجلي.. إنها تقبض على كل هذا بدون أن يكون لها مرجعية لغوية مادامت نقط الحذف المتعددة وتكرار بعض علامات الترقيم على سبيل المثال تعتبر غير صحيحة لسنيا. 
نستطيع أن نقسم النص حسب سهمين محوريين:
- حين / هممت : سهم أول في اتجاه هدفه
- وإذا / بي ...أنا : سهم ثاني يكسر غائية السهم الأول لهدف آخر مغاير . 
السهم الثاني نهاية غير متوقعة بينما السهم الأول تكرار لحركتين : حركة أولى تنتهي بالفشل وحركة ثانية متولدة عن الأولى مع الإسراع فيها للقبض على الهدف. السهم الأول يتجه للإمساك بالظل فإذا به يمسك بالعطر. والمسافة التي تفرقه عن هدفه تتخللها " لحظة إدراك" : " حتي خيل إلي". إدراك في الخيال، يجعل من القبض على الظل عملية ممكنة وفي نفس الوقت يعطينا إيماءات لشرح هذه " الأنا " الثاوية وراءها : " وإذا بي/... أنا". إنها ليست الأنا الكاتبة للنص (الذات- sujet ) بل الأنا النصية فيه (moi) الحاملة والمحمولة بخيالات الأنا الكاتبة. وهنا تكمن دلالة بعض العارضات المائلة "/" التي يسخدمها الأستاذ جاسم في النص: 
"- ظل / كما الحلم
-----
- حين / هممت بالإمساك 
بظلك / ...فشلت 
فعدوت / بخطى أسرع 
- حتي خيل
لي / .. أني
- وإذا بي /... أنا"
للعارضة المائلة وظائف متعددة وفق النظام المعرفي الذي يشغلها ويشتغل بها: تضمينية، تحويلية ، تدليلية خطية، تبديلية، تزينية... وعلى ما يبدو أن العرب - الأندلس كانوا أول من استعملها كتحويلة رمزية داخل نظام تجريدي بغية تسهيل العمليات الذهنية في مقاربة المفهوم بعيدا عن معوقات اللغة / الكلمات. ووظيفتها لا تتحدد من ذاتها وَلَكِن في علاقتها مع الترميزات الأخرى ومرجعية الحقل المعرفي الذي يؤسسها ؛ وظيفتها مثلا في الرياضيات تختلف عن وظيفتها في الطوبولوجيا أو في المعلوماتية . كما هو الحال بالنسبة لنص " ظل / كما الحلم". فهي تتراوح بين استعمالين :
- منفرد : " /" 
- مرفق : " / ...". 
قد نعطي دلالة أو دلالات للاستعمال المنفرد في المقطع ، لكنها ستبقى حتما سجينة له وغير وافية إذا لم تربط بأفق النص بصفة عامة وبأفق الاستعمالات الأخرى بصفة خاصة : ما علاقتها بالكلمة، بنقط الحذف، بعلامة الانفعال...؟ هل هذه العلاقة تغير من دلالتها في النص ؟ 
نص الأستاذ جاسم يدلنا على مفتاح قفل القراءة في المقطع التالي :
" فدنووووت ...
د
...ن
.......و
..........ت "
ما فائدة نقط الحذف هنا؟ لماذا يختلف عددها من سطر إلى آخر باستثناء السطر الأول التي تغيب فيه تماما ؟
لغويا، وحدها النقط التلاث المتتالية يجوز استعمالها، لا أقل ولا أكثر. تعوض النقطة لتدل على حذف جزء من جملة طويلة أو فقرة. وإبداعيا ، وحده خرق مألوف اللغة وتكسير علاقة الدال بالمدلول يميز النص الشعري. لكن هل هذا يعني أن طول عدد نقط الحذف يقارب طول عدد الكلمات المحذوفة ؟ لنفرض أن ذلك ممكنا، فكيف نفسر انعدام نقط الحذف من الحرف الأول " د" ؟
حرف الدال يشكل هنا نقطة البداية، بصمة حضور وغياب لحركة فشل السهم الأول في " حين/ هممت-- فشلت"، ويأتي بعد :" فدنووووت ...". أما الحروف الأخرى التي تليها في كل سطر على حدة مع نقط حذف متباينة العدد " ...ن- ......و- ......ت"، فهي تساهم في تحقيق عملية ذات منحى بصري وفق ما يوحي به عنوان النص ، وذلك انطلاقا من تحويل المقطع :
" فدنووووت ...
د
...ن
........و
...........ت"
نرى أن " فدنووووت " ممدة الواو وكأنها في حالة انتشاء تشي بالاقتراب من الهدف " الإمساك بالظل"، وفي نفس الوقت تليها نقط حذف تزيد من تعقيد دلالتها ؛ فهل يعني أنها تعبر عن أقصى حالات الانتشاء وبالتالي تتلاشى معها الكلمة ذاتها إلى حروف ؟ وماذا يعني تلاشي حروف الكلمة مع وجود نقط حذف تسبقها؟ من الممكن أن نفترض أنه ليس تلاشيا مطلقا ولا انتشاء مطلقا إلى درجة الغياب الأبيض الذي لا ذاكرة له ولا لغة مثل الموتة الصغيرة لدى الصوفيين ، لأنه لو كان الامر كذلك لأصيبت الحروف نفسها بالغياب الأبيض أو بما نسميه الموات. ووجودها يعني أنه لامناص من استحضار أفق النص لمعرفة دلالة نقط الحذف وذلك بدءا من عتبته : " ظل / كما الحلم".
إنه ظل مع عارضة مائلة تتقدمه، وكما الحلم ..الحلم في تعريفه العام سلسلة من التخيلات والظل في تعريفه الاصطلاحي ظلام ناتج عما يعترض الضوء من الوصول إلى سطح ما ( جسم ما ). عتبة النص تفصل دفعة واحدة بينهما بعارضة مائلة وبكاف التشبيه وما المصدرية أي أن هناك مشابهة في بعض صفاتهما وأوصافهما مع عارضة مائلة. والنص يفضي بِنَا وبدون مواربة لغوية إلى وجه الشبه بينهما : استحالة تحقيق حلم الإمساك بالظل واستحالة تحقيق حلم الحلم. ويبني بدء الحركة قبل مفاد هذه النتيجة على فكرة واحدة تتفرع عنها كل حركات النص : الإمساك بالظل. إنه مدفوع بحركات متتاليات للقبض على ظلها أي على حلم من حيث هو سلسلة تخيلات. ويحاول أن يوهمنا أو يوهم نفسه بأن ذلك ممكنا. فتأتي العارضة المائلة بين "الظل " و "كما الحلم " للتأكيد على واقعية المشروع قبل أن يتحول إلى تحصيل حاصل كما الحلم. وهي واقعية كمبدأ ينهض النص على إثرها وليست واقعية في وجودها المادي. وهذا ما نسميه ب " مبدأ واقعية التخييل". 
فما هي العملية ذات المنحى البصري التي تحققها كلمة " دنوت" المتلاشية في النص ؟ هنا لا بد من الرجوع إلى المقطع لإيضاح ذلك :
" فدنووووت ...
د
....ن
.........و
.............ت"
العملية تتجلى في تراتبية الحروف المتلاشية بطريقة قطرية " د، ....ن ، .....و ، ......ت " ، وهي تشكل في نفس الوقت عارضة مائلة ومثلثا مستطيلا، يخضعان هما كذلك لمبدأ واقعية التخييل. فالظل ظلام هندسي الشكل ناتج عن جسم يعترض الضوء من الوصول إلى السطح. لكنه في النص ظل بلا جسد أو جسم أخذ معه الضوء وظل يظلل بظلامه الأنا المكتوبة في النص التي تحاول الإمساك به. مما يعني أننا هنا أمام ظلان متوزعان بين هندستين بدون لغة ولا جسد : المثلث الأول المستطيل جلي بنقط حذف ليس للغة ولكن للأضلاع الرابطة له، فهو " ظل" من يسعى بالتوحد وبالإمساك بعد أن فتث الإنتشاء اللغة بينما المثلث الثاني المستطيل خفي يشكل مع الأول وحدة مربع متناسقة لكنه مستحيل الإمساك به. وبين هذا وذاك تبقى العارضة المائلة تلعب دور المنبه لمبدأ واقعية التخييل حتى لا تغرق الأنا النصية في الإنهيار الكامل. وإذا كانت للغة لا تكفي هنا للأنا النصية وتلتجيء إلى شكل هندسي في بعديه الجلي والخفي وبشكل مبطن ، فلربما تعبر عن فكرة يونانية قديمة كانت تفاضل بين الكائنات الحسية والكائنات الذهنية، بين ماهية التابث وماهية المتحول : " إن العلاقة بين الشكل الهندسي كما هو في الذهن، وبين الشكل نفسه كما يرسم على الورق، كالعلاقة بين الفكرة والكلمة، فكما أن الكلمة لا تعبر عن الفكرة تعبيرا كاملا تاما، فكذلك الأشكال الهندسية الحسية، فهي لا تعبر تمام التعبير عن الكائنات الهندسية ، كما هي موجودة في عالم الذهن" ( محمد عابد الجابري). الأنا النصية في "ظل / كما الحلم"، محكومة إذن بهاجس الهروب من الحسي إلي التجريدي ووازع البحث عن الظل في غياب الأصل مع فارق شفاف يتمثل في العارضة المائلة التي تمنعها من الموات، موات الحلم بموات اللغة . كيف تتوزع هذه العارضة المائلة في النص ؟
١-
"حين / هممت بالإمساك 
بظلك / ...فشلت "
حين، ظرف للزمان المبهم غير محدد في قدره. وتدل على وجود شيء لوجود آخر بمعنى أن شرط الثاني يتوقف على ذكر الأول : "حين / هممت". هنا العارضة المائلة تفرض توقفا لتدل على حركة زمنية دائرية لا تتوفر على شرط ثاني بل تكتفي بذاتها لذاتها، تدور حول ذاتها. وما يدل على ذلك هو فعل هم الذي يدل على : " عزم على - مهموم" . حركة الإمساك لم يكن لها وجود إلا بالقوة الراغبة وليس بالفعل الحقيقي، ولهذا جاء الاستعمال المنفرد للعارضة. أما تلك التي جاءت مرفقة في " بظلك / ...فشلت" ، فإنها لحظة بياض كانت تبحث عن وسيلة لفتح الحركة الزمنية الدائرية التي لم تفلح فيها وللخروج من العزم إلى الفعل المقيد بالهم...
٢-
"فعدوت / بخطى أسرع" 
فعل عدا يعني جرى، ركض. وهو مصحوب بعارضة مائلة و جملة " بخطى أسرع " تدل على نفس حركة الفعل. ولكأن هذه الحركة متقمصة عند الأنا النصية لا ترمي إلى شيء سوى أن تتاكد من وجودها وخروجها من الحركة الزمنية الدائرية . 
٣-
"حتى خيل
لي / ... أني تناولته"
تتخلص الأنا النصية من الحركة الزمنية الدائرية بالخيال : " حتى خيل "، وتتنفس من خلال العارضة المائلة كمبدأ يثبت واقعية خيالها. تدل " حتى " العاطفة على بلوغ الهدف لكنه هدف وهمي ، كما هو الحلم وكما هو الظل.
٤-
"وإذا / بي... أنا
ممسك بعطرك !! " 
نجد هنا استعمال حرف " وإذا " و علامة انفعال مكررة ( !! ) بشكل ازدواجي المعنى : "إذا " من حيث هي حرف مفاجأة وجواب، وعلامة الانفعال المكررة من كونها حالة نفسية للتعجب والمفاجأة. وينتهي استعمال العارضة المائلة في النص باستعمال واحد وحيد فيه : عارضة مائلة مرفوقة بحرف ونقط حذف...استعمال يستحضر في النهاية الأنا النصية التي تخرج من بصرية الشكل الهندسي المنقسم بين مثلثين مستطيلين ، بين ظلين يعيشان على خلفيات النص الغائب، ذلك النص الهارب من اللغة أو الذي يحاول الشكل الهندسي أن يخفيه في عالم تخييليي له مبدأ واقعيته ، إنه الجسد الباحث عن الآخر الغائب .. وتلك زاوية أخرى لإعادة قراءة النص من خلال النص الغائب فيه، أي الجسد. لماذا يبدأ ببلاغة العين لينتهي ببلاغة الشم ؟ 
-----
مصطفى بلعوام
-/-----
نص الشاعر جاسم آل حمد الجياشي
عنوان النص : ظل / كما الحلم
-----
حين / هممت بالإمساك 
بظلك / ...فشلت
فعدوت / بخطى أسرع
فدنووووت ...
د
...ن
........و
............ت
حتي خيل
لي / ..أني تناولته
بأطراف أناملي
وإذا / بي ... أنا
ممسك بعطرك !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق