مقالة نقدية //بقلم الاستاذ صالح هشام
القارئ بين النص المفتوح والنص المغلق
مهداة إلى الناقد القدير أحمد طنطاوي!
في هذه المقالة ، ساتطرق إلى بعض النقط الأدبية التي حصل فيها اتفاق بيني وبين أستاذي الكبير الناقد أحمد طنطاوي أثناء مناقشة القصة القصيرة جدا للكاتبة المتألقة فتحية دبش ( حبل المشيمة ) وأثمن تدخلات الأستاذ أحمد وباقي الأدباء الذين ساهموا في إغناء تلك الامسية الأدبية الرائعة والذين اختلفت قراءاتهم وتعددت تصوراتهم !
هذا هو مربط الفرس ، هذا هو بيت القصيد ، فلا خير في نص لا يكتسب حياته وجماله من هذا التعدد القرائي المتميز ،هذا التعدد النابع من اختلاف المرجعيات واختلاف الخلفيات الثقافية ، والقدرات المعرفية ،ولعل أبرز النقاشات تمحورت حول مدى مبالغة النص في التلغيز فاعتبره أخي بسام الأشرم أحجية وهناك من اعتبره خاطرة وهكذا ذواليك !
ولعمري إن النص الإبداعي الذي لا يخلق الاختلافات بين القراء أولى به ان يرمى في سلة المهملات، وسأركز هنا على دور القارئ في عملية الإبداع بصفة عامة باعتباره عصب حياة هذه العملية ،فهو ركن أساسي من أركان هذا الثالوث ( الكاتب / النص / القارئ ) !
فالقراءة لحظية حربائية لا تستقر على حال ، مادام الكاتب لا يمكنه بأي حال من الأحوال الإقرار باكتمال نصه وقت نشره ، إذ كل قراءة من قراءاته لإبداعه تظيف إليه الجديد معنى ومبنى ، تنقيحا وتشذيبا ولنا في ذلك أبرز مثال في ( قصائد الحوليات ) فإذا كان هذا حال الكاتب في قراءة نصه وهو الذي أبدعه و صور له في ذهنه معنى معينا ، فمابالك بالقارئ الذي يكون أبد الدهر منوطا باختراق وعبور متاهات هذا النص المقروء تحليلا وتأويلا وتفكيكا ، إذ من خلال هذه القراءة واختلاف القدرات التأويلية ينتشر الإبداع كخلايا السرطان ويحيى النص إذ يرفع درجات ، نظرا لأن القراءة جزء لا يتجزء من عملية الإبداع الأدبي ،وإذا كان النص المميز يخترق حجب المكان والزمان، وينحى منحى العالمية فكذلك القراءة التي لا يمكن تجريدها من سمة الإبداع ، سواء كانت قراءة مكتوبة محسوبة على القارئ أو محسوبة له أو قراءة من أجل المتعة بالنسبة للقارئ العادي ، فهي بدورها تنحى منحى اختراق الزمان والمكان وعبور كل الحدود خصوصا تلك القراءة( المكتوبة / النقدية )، باعتبارها إبداع منقوش على جسد النص المبدع ، النص الذي يفترض فيه أن يكون صخرة صلبة تساعد على جودة هذا النقش ، فضحالة النقش من ضحالة المنقوش ،والنص الفقير لا يمكنه إطلاقا أن يتلقى هذا الفيض الغزير من النحث والنقش : وروعة النقش من روعة الصخرة المنقوشة ،وأقصد هنا بالضحالة والفقر الطريقة التي كتب بها النص ، أي خلوه من جماليات التلميح والتشفير وانزياح اللغة وبلاغة الغموض التي يشتغل عليها الكاتب من خلال تركيب اللغة ، إذ تدغدغ في القارئ مغامرة الإقبال على قراءة النص وتفكيك جزيئاته !
هذا عندما يؤهله الكاتب بفيض من التلميحات والإشارات التي تضئ وتخبو معانيها في عتمة السطور، فتدعوه إلى البحث بينها عن المعاني الثواني أو النواتج الدلالية، دون الاقتصار على تلك المعاني الأوائل التي يقتل الاكتفاء بها روعة النص وبالتالي تدفع به إلى الانغلاق والموت !
فالكاتب والناقد على حد سواء ، احتلا المكانة المرموقة من منطلق توجيه الحياة ، وعندما أقول الناقد أقول القارئ باعتباره لا يعدو أن يكون إلا قارئا مدونا ! لذلك تم تخليدهما أديبا وقارئا في محاضرات كارلايل عام ١٨٤٠ في محاضراته عن {عبادة البطل } :
[إن الأديب هاد يعلم الناس من عصر إلى عصر أن الله لا يزال في حياتهم وأن كل شئ ظاهري نراه في الدنيا ما هو إلا حجاب يخفي الفكرة الالهية عن الحياة الدنيا ،أو قشرة تخفي ماهو كامن وراء الظواهر، فهناك قداسة في الإنسان الأديب سواء اعترف بها العالم أ لم يعترف ، فهو ضياء الدنيا ،وهو هادي العالم ، إنه شعلة مقدسة تهديه في مسيرته المقدسة عبر فناء الدهر ٠٠٠انتهى القول ] ٠
إن هذه الشهادة في حق الكاتب ، تدعوه إلى تحمل كامل مسؤوليته في إبداع نصوص ، ذات طابع إنساني سام وغاية في العمق وهذا يحتم عليه أن لا يبحث عن المبررات لإنتاج النص التافه الخالي من كل ما يمكنه أن يثير في المتلقي رعشة الانتشاء بجمال ما يستقبله ! فهو ملزم بخطاب قابل لإبداع خطاب جديد ، ملزم بلغة إنتاج إبداعي قابلة للغة إبداع قرائي !
أعتقد أن الكاتب الذي يستحضر القارئ أثناء كتابة نصه ويتصور مستوياته المعرفية وقدراته القرائية ، لن يكتب شيئا ذا قيمة تذكر، وأقول الذي( يكتب) لأن البون شاسع بين من يكتب ومن يبدع ، فاستسهال قدرات القارئ تسهم في كتابات ونصوص خارج دائرة الإبداع !
فهو في اعتقادي ملزم بإمتاع نفسه قبل التفكير في إمتاع القارئ لأن (فاقد الشيء لا يعطيه ) ، أو أنه يفكر في معنى معين سيفرضه فرضا على هذا القارئ ، فأحادية المعنى تخلق قارئا اتكاليا ، مستقبلا ومستهلكا دونما أي تفاعل أو مشاركة في خلق معان تناسب رؤيته للحياة ، فيشارك في عملية اكتمال النص ،لأنه يبقى دائما في حاجة ماسة إلى هذا القارئ المميز الذي سيتممه !
فالكاتب المميز يوحي ولا يصرح، يستفز ذوق وذائقة المتلقي وينتظر منه دائما رجع الصدى ليعكس إبداعه ،وفي بعض الأحيان يكون القارئ قادرا على تصحيح بعض التصورات والمفاهيم التي يعتمدها الكاتب ، فهو جدير بتوقيع شعرية النص، وأخص هنا النص المميز الذي يمتح من الرصيد الثقافي والمعرفي الإنساني ويغترف من ذاكرة الماضي والحاضر ،(في بعض مقالاتي قلت إن النص الإبداعي دافع من دوافع تنمية القدرات المعرفية للقارئ وتنمية مهارته في البحث والتنقيب ، لأن الذي لا يعرف أو لم يبحث في الرمز بالأسطورة، أو الرمز بالتاريخ أو ماشابه ، لا يمكنه أن يقرأ نصا للسياب أو أدونيس ، والقاريء الذي لا يعرف التناص أو تقاطع النصوص لا يمكنه أبدا أن يقرأ (لإدكار ألان بو )وهذه فقط أمثلة بسيطة !
فهل يا ترى نص ضحل مكتوب بلغة معيارية مباشرة ومبتذلة، قادر على دفع القارئ لممارسة البحث والتقصي وطلب المعرفة ، فهذا النوع من النصوص سيكون عبءا لا محالة على القاريء أو مضيعة لوقته ، ومن يريد نوعا من هذه النصوص عليه أن يقرأ جريدة عوض مجموعة قصصية أو ديوان شعر أو رواية ٠ والذي يصرح بمعاني نصه بدعوى تسهيل مأمورية القارئ حتما سيدفعه إلى الموت !
وربما هذا النوع من الكتاب، يجهل أن النص كسول ينتظر من يأخذ بيده ليجتاح المدى، والقارئ هو المسؤول عن إيصاله لبر الأمان ، وتحضرني قولة جميلة جدا لجان بول سارتر ( النقد يوقظ النصوص من سباتها ) وربما عندما قال النقد لم يركز على النقد ، فقط باعتباره قراءة مكتوبة محسوبة للناقد أو عليه ،فكل من يتفاعل مع النص إندهاشا أوغرابة، استحسانا أو استقباحا ،استساغة أو استهجانا هو ناقد وإن افتقر إلى الأدوات النقدية التي تحددها المناهج عبر الزمن !
وهنا أتكلم عن النصوص الإبداعية في مختلف الأجناس ، فمابالك ، في هذه القنبلة (القصة القصيرة جدا ) التي تعج بالعوالم والتناقضات الإنسانية ،والرسائل المشفرة في حيز ضيق تختزل فيه الكلمات لتحل محلها الرموز والانزياحات اللغوية التي تنتج تنوع الناتج الدلالي ٠ و من خلال التنوع القرائي ، في هذا التحدي الجمالي الذي تضيق فيه المساحة، هذه المساحة، التي تستوجب كاتبا مبدعا يصنع التاريخ ، ويفجر تناقضات المجتمعات البشرية ، وعلى عاتقه يحمل كاميرا ثلاثية الأبعاد ٠
وتقديم المعنى إلى القارئ على طبق من ذهب، رشوة بينة، ،وما يبنى على الباطل لن يجنى منه إلا الباطل لأن نصا على هذه الشاكلة يعتبر تافها لعجزه عن قبول التأويل والتفكيك الذي يستلذذه القارئ ، لأنه أصلا لايكون في طياته ما يمكن تأويله أو تفكيكه ٠ و النص الإبداعي المميز في نظري هو الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئا ٠
وتحضرني قولة فاليري :( ليس هناك معنى حقيقي لنص ما) وقراءة نوع من هذه النصوص- بطبيعة الحال - لا تحتمل اليقين بل تحتمل الاحتمال ، إذ لا يمكن الإقرار بمعنى معين للنص والبحث عن المعنى المرجعي لا محالة سيساهم في هبوط النص وتدنيه ، فسمة تميزه هي الانفتاح، وقابليتة لتعدد القراءات ، التي تتنوع تأويلاتها المختلفة ، عكس هذا الأحادي المعنى ، المفروض على القارئ الذي يراوح فيه في هذه الحالة منطقة السلب لا الإيجاب !
هذا القارئ الذي احتفت به نظريات نقدية حديثة وبوأته المكانة الأساسية في العملية الإبداعية برمتها ، واعتبرت النصوص دائما ناقصة الاكتمال واكتمالها النسبي ، يتوخى من هذا القارئ المبدع الذي لا يبتلع كل ما يقدم له ، وأقول الاكتمال النسبي ،لأن النص الإبداعي مادامت قراءاته تتنوع ومعانيه تؤول وتحلل حسب كل قارئ عبر الأزمنة والعصور ، فإنه لن يصل إلى درجة الاكتمال ،وأركز هنا على النصوص الإبداعية التي تنحى منحى العالمية ٠
فرواية دون كيشوت لم تقرأ إلا بعد ردح طويل من الزمن وعندما قرئت قراءة مبدعة سليمة، رفعت درجات فأصبحت من أروع روائع ما أبدعه الإنسان في مجال الرواية ، فمن أوجب واجبات الكاتب أن يؤهل قارئه لاستقبال نصه من خلال جودة الإشارات والتلميحات ،ودفعه دفعا لممارسة الاختراق والعبور ،والإبحار في استكشاف النواتج الدلالية للنص المقروء ، وبالتالي يساهم هذا النوع من القراءات في فتح النصوص ، فجودة القراءة من جودة المقروء وجودة المقروء من جودة القراءة ، وكلاهما له رسالته في مجال الإبداع كاتبا وقارئا ٠
ولعل مناخ النص الجيد يساهم بشكل أو بآخر في إتاحة الفرصة للقارئ لاستقباله ٠٠ والنحت على جسده ،وخلق التفاعل بين النص ومتلقيه وهذا حتما سيساعد على إغناء الأثر الأدبي ٠ إن النص المكتوب بمفهوم [رولان بارت ] والمفتوح بمفهوم [إمبرتو إيكو ]ينفتح على القراءات وهي طبعا تتلازم مع الاحتمال ولا تتلازم مع اليقين ، ويمكن أ ن نستدل هنا بقول بول ريكور ( إن القراءة تعني ربط خطاب جديد بخطاب النص ) وهذا يعني استئناف النواتج الدلالية التي لا تقف عند هذا القارئ أو ذاك ، و يمكن القول بأن النص ، هو نقطة الارتكاز التي تنطلق منها قراءات لا تعد ولا تحصى فتكون النواتج الدلالية أيضا لا حصر لها ،ما دمنا لسنا بصدد نص قانوني أو مقالة صحفية إخبارية تحتمل اليقين ٠ والتي تنحصر معانيها في القراءة الأولى لأن بنية النص سطحية لا تقول إلا ما تقوله و لأنها تفتقر إلى تعدد البنيات وطبقات المعاني ، وربما هذا هو الفارق بين النص الإبداعي المفتوح والنص التقريري المغلق ، والذي لا يحتمل أكثر من قراءة واحدة ٠٠ يقول الدكتور محمد عبد المطلب (وعملية نقل المتلقي من منطقة السلب إلى الإيجاب بتوظيف مثل هذه الأدوات والأبنية ،قد تستحيل إلى نوع من المباشرة السطحية الساذجة ، ومن ثم فإن فاعليتها تكون أكثر تأثيرا وأوغل في الإبداعية عندما تكون ملحوظة فيما بين السطور أو يكون مسكوتا عنها ) والنص الإبداعي أبد الدهر متخم بالمسكوت عنه ،وغير المصرح به ، سواء في المعني أو حتى في كيفية تشكيل الكاتب لنصه على المستوى البصري ، كاعتماده على جدلية البياض والسواد ،أو اعتماد الفراغات ونقط الحذف التي يكون القارئ منوطا بالبحث لها عن دلالات لا تخل ببناء النص من خلال تأويله وتحليله !
والنص الأحادي المعنى الذي يهدف من ورائه الكاتب إرضاء القارئ، وعدم إتعابه ، يكون مغلقا لا إبداعات قرائية تتوخى من ورائه ، كالعلاقة غير المنجبة ، كما شبهه [رولان بارث] في مقارنته الطريفة في مشابهة شبقية : (النص المغلق يساوي علاقة جنسية غير منجبة ولذا فهي علاقة محصورة في ذاتها ، أما النص المفتوح فإنه يساوي علاقة جنسية منجبة ، فالمتعة تمتد من الفعل الجنسي إلى ناتجه الذي يتجدد مع تجدده )٠
ولا أقول بأن هذه المشابهة قد حسمت الأمر ،وإنما توضح لنا ما يطلبه القارئ من نص تتجدد دائما متعته ،وما المتعة إلا قراءة مبدعة ، لا أدري لماذا يريد بعض الكتاب أن يمسحوا خيبتهم وهشاشة كتاباتهم بمعرفة المتلقي؟
لماذا ينتقصون من قدرات القارئ ، فلا يقدمون له إلا التافه من النصوص الضحلة، التي لا ترقى إلى المستوى الإبداعي المطلوب ،بدعوى تسهيل مأموريته في فهم النص؟
يا سيدي أكتب ألغازا اكتب أحاج ، أكتب ما تشاء ، فلكل نص قارئه مهما طال الزمن ،ولا تتحجج بالبساطة والسهولة التي تجرك حتما إلى الابتذال والمباشرة ، فتجعل من كتاباتك مسخرة للقارئ ، كن تمامي النزعة ،ولا تحرم هذا القارئ المتعطش إلى كل ما هو مدهش وغريب ، فالإنسان يدهشه الخسوف والكسوف ولا يدهشه كل يوم طلوع الشمس أو القمر ، أهل قارئك لاستقبال نصك ، من خلال روعة رمزك وإشاراتك وانقله ليغوص في أعماقك ويستجلي غوامض نواياك ويجوب بواطن أفكارك ، وفجر في نفسه الواقع، ولا تنقله له على علاته فهو يعيشه يوميا ٠٠أبرز له المخفي من هذا الواقع ٠ وأكرر لا تتحج بالقارئ ، ولا أريد هنا أن أسبح في نظرية التلقي ، التي احتفت به أيما أحتفاء من [ياوس] إلى[ أيزر] لأعدد لك أنواع قرائك ،لأن المقام لا يناسبه المقال!
فقراؤك يا سيدي متنوعون، و متنوعة قراءاتهم ، فلك على سبيل المثال لا التفصيل ،القارئ الخبير كماعرفه [فيتش ] قادر على تفكيك الدلالة ،يتقن لغة كتاباتك، ولا يفتقر إلى القدرات الأدبية التي تريد أن تحرمه من توظيفها في قراءته نصوصك، ولك قارئك النموذجي ، ولك قارئك المثالي ولك قراء لا يعدون ولا يحصون ، إذا لم تحرمهم لذة التفكيك والتأويل وكشف المخفي والمستور في نصك ، فقط اترك بين نصك وبينهم مسافة تمكنهم من القيام بهذه العمليات القرائية الإبداعية ، فقط آمن بأن القراءة مثلها مثل النص الإبداعي المميز خارجة عن حدود الزمان والمكان !
فعالمية[ إدكار آلان بو ] أو [ مكسيم غوركي ] أو [خورخي بورخيس ]لم يكتسبوها من نصوص مبتذلة فقيرة مباشرة ، ولا تتحجوا ببساطة تشيخوف في الكتابة ، لأن البساطة إبداع لا يرقى إليه إ لا مبدع كبير!!
القارئ بين النص المفتوح والنص المغلق
مهداة إلى الناقد القدير أحمد طنطاوي!
في هذه المقالة ، ساتطرق إلى بعض النقط الأدبية التي حصل فيها اتفاق بيني وبين أستاذي الكبير الناقد أحمد طنطاوي أثناء مناقشة القصة القصيرة جدا للكاتبة المتألقة فتحية دبش ( حبل المشيمة ) وأثمن تدخلات الأستاذ أحمد وباقي الأدباء الذين ساهموا في إغناء تلك الامسية الأدبية الرائعة والذين اختلفت قراءاتهم وتعددت تصوراتهم !
هذا هو مربط الفرس ، هذا هو بيت القصيد ، فلا خير في نص لا يكتسب حياته وجماله من هذا التعدد القرائي المتميز ،هذا التعدد النابع من اختلاف المرجعيات واختلاف الخلفيات الثقافية ، والقدرات المعرفية ،ولعل أبرز النقاشات تمحورت حول مدى مبالغة النص في التلغيز فاعتبره أخي بسام الأشرم أحجية وهناك من اعتبره خاطرة وهكذا ذواليك !
ولعمري إن النص الإبداعي الذي لا يخلق الاختلافات بين القراء أولى به ان يرمى في سلة المهملات، وسأركز هنا على دور القارئ في عملية الإبداع بصفة عامة باعتباره عصب حياة هذه العملية ،فهو ركن أساسي من أركان هذا الثالوث ( الكاتب / النص / القارئ ) !
فالقراءة لحظية حربائية لا تستقر على حال ، مادام الكاتب لا يمكنه بأي حال من الأحوال الإقرار باكتمال نصه وقت نشره ، إذ كل قراءة من قراءاته لإبداعه تظيف إليه الجديد معنى ومبنى ، تنقيحا وتشذيبا ولنا في ذلك أبرز مثال في ( قصائد الحوليات ) فإذا كان هذا حال الكاتب في قراءة نصه وهو الذي أبدعه و صور له في ذهنه معنى معينا ، فمابالك بالقارئ الذي يكون أبد الدهر منوطا باختراق وعبور متاهات هذا النص المقروء تحليلا وتأويلا وتفكيكا ، إذ من خلال هذه القراءة واختلاف القدرات التأويلية ينتشر الإبداع كخلايا السرطان ويحيى النص إذ يرفع درجات ، نظرا لأن القراءة جزء لا يتجزء من عملية الإبداع الأدبي ،وإذا كان النص المميز يخترق حجب المكان والزمان، وينحى منحى العالمية فكذلك القراءة التي لا يمكن تجريدها من سمة الإبداع ، سواء كانت قراءة مكتوبة محسوبة على القارئ أو محسوبة له أو قراءة من أجل المتعة بالنسبة للقارئ العادي ، فهي بدورها تنحى منحى اختراق الزمان والمكان وعبور كل الحدود خصوصا تلك القراءة( المكتوبة / النقدية )، باعتبارها إبداع منقوش على جسد النص المبدع ، النص الذي يفترض فيه أن يكون صخرة صلبة تساعد على جودة هذا النقش ، فضحالة النقش من ضحالة المنقوش ،والنص الفقير لا يمكنه إطلاقا أن يتلقى هذا الفيض الغزير من النحث والنقش : وروعة النقش من روعة الصخرة المنقوشة ،وأقصد هنا بالضحالة والفقر الطريقة التي كتب بها النص ، أي خلوه من جماليات التلميح والتشفير وانزياح اللغة وبلاغة الغموض التي يشتغل عليها الكاتب من خلال تركيب اللغة ، إذ تدغدغ في القارئ مغامرة الإقبال على قراءة النص وتفكيك جزيئاته !
هذا عندما يؤهله الكاتب بفيض من التلميحات والإشارات التي تضئ وتخبو معانيها في عتمة السطور، فتدعوه إلى البحث بينها عن المعاني الثواني أو النواتج الدلالية، دون الاقتصار على تلك المعاني الأوائل التي يقتل الاكتفاء بها روعة النص وبالتالي تدفع به إلى الانغلاق والموت !
فالكاتب والناقد على حد سواء ، احتلا المكانة المرموقة من منطلق توجيه الحياة ، وعندما أقول الناقد أقول القارئ باعتباره لا يعدو أن يكون إلا قارئا مدونا ! لذلك تم تخليدهما أديبا وقارئا في محاضرات كارلايل عام ١٨٤٠ في محاضراته عن {عبادة البطل } :
[إن الأديب هاد يعلم الناس من عصر إلى عصر أن الله لا يزال في حياتهم وأن كل شئ ظاهري نراه في الدنيا ما هو إلا حجاب يخفي الفكرة الالهية عن الحياة الدنيا ،أو قشرة تخفي ماهو كامن وراء الظواهر، فهناك قداسة في الإنسان الأديب سواء اعترف بها العالم أ لم يعترف ، فهو ضياء الدنيا ،وهو هادي العالم ، إنه شعلة مقدسة تهديه في مسيرته المقدسة عبر فناء الدهر ٠٠٠انتهى القول ] ٠
إن هذه الشهادة في حق الكاتب ، تدعوه إلى تحمل كامل مسؤوليته في إبداع نصوص ، ذات طابع إنساني سام وغاية في العمق وهذا يحتم عليه أن لا يبحث عن المبررات لإنتاج النص التافه الخالي من كل ما يمكنه أن يثير في المتلقي رعشة الانتشاء بجمال ما يستقبله ! فهو ملزم بخطاب قابل لإبداع خطاب جديد ، ملزم بلغة إنتاج إبداعي قابلة للغة إبداع قرائي !
أعتقد أن الكاتب الذي يستحضر القارئ أثناء كتابة نصه ويتصور مستوياته المعرفية وقدراته القرائية ، لن يكتب شيئا ذا قيمة تذكر، وأقول الذي( يكتب) لأن البون شاسع بين من يكتب ومن يبدع ، فاستسهال قدرات القارئ تسهم في كتابات ونصوص خارج دائرة الإبداع !
فهو في اعتقادي ملزم بإمتاع نفسه قبل التفكير في إمتاع القارئ لأن (فاقد الشيء لا يعطيه ) ، أو أنه يفكر في معنى معين سيفرضه فرضا على هذا القارئ ، فأحادية المعنى تخلق قارئا اتكاليا ، مستقبلا ومستهلكا دونما أي تفاعل أو مشاركة في خلق معان تناسب رؤيته للحياة ، فيشارك في عملية اكتمال النص ،لأنه يبقى دائما في حاجة ماسة إلى هذا القارئ المميز الذي سيتممه !
فالكاتب المميز يوحي ولا يصرح، يستفز ذوق وذائقة المتلقي وينتظر منه دائما رجع الصدى ليعكس إبداعه ،وفي بعض الأحيان يكون القارئ قادرا على تصحيح بعض التصورات والمفاهيم التي يعتمدها الكاتب ، فهو جدير بتوقيع شعرية النص، وأخص هنا النص المميز الذي يمتح من الرصيد الثقافي والمعرفي الإنساني ويغترف من ذاكرة الماضي والحاضر ،(في بعض مقالاتي قلت إن النص الإبداعي دافع من دوافع تنمية القدرات المعرفية للقارئ وتنمية مهارته في البحث والتنقيب ، لأن الذي لا يعرف أو لم يبحث في الرمز بالأسطورة، أو الرمز بالتاريخ أو ماشابه ، لا يمكنه أن يقرأ نصا للسياب أو أدونيس ، والقاريء الذي لا يعرف التناص أو تقاطع النصوص لا يمكنه أبدا أن يقرأ (لإدكار ألان بو )وهذه فقط أمثلة بسيطة !
فهل يا ترى نص ضحل مكتوب بلغة معيارية مباشرة ومبتذلة، قادر على دفع القارئ لممارسة البحث والتقصي وطلب المعرفة ، فهذا النوع من النصوص سيكون عبءا لا محالة على القاريء أو مضيعة لوقته ، ومن يريد نوعا من هذه النصوص عليه أن يقرأ جريدة عوض مجموعة قصصية أو ديوان شعر أو رواية ٠ والذي يصرح بمعاني نصه بدعوى تسهيل مأمورية القارئ حتما سيدفعه إلى الموت !
وربما هذا النوع من الكتاب، يجهل أن النص كسول ينتظر من يأخذ بيده ليجتاح المدى، والقارئ هو المسؤول عن إيصاله لبر الأمان ، وتحضرني قولة جميلة جدا لجان بول سارتر ( النقد يوقظ النصوص من سباتها ) وربما عندما قال النقد لم يركز على النقد ، فقط باعتباره قراءة مكتوبة محسوبة للناقد أو عليه ،فكل من يتفاعل مع النص إندهاشا أوغرابة، استحسانا أو استقباحا ،استساغة أو استهجانا هو ناقد وإن افتقر إلى الأدوات النقدية التي تحددها المناهج عبر الزمن !
وهنا أتكلم عن النصوص الإبداعية في مختلف الأجناس ، فمابالك ، في هذه القنبلة (القصة القصيرة جدا ) التي تعج بالعوالم والتناقضات الإنسانية ،والرسائل المشفرة في حيز ضيق تختزل فيه الكلمات لتحل محلها الرموز والانزياحات اللغوية التي تنتج تنوع الناتج الدلالي ٠ و من خلال التنوع القرائي ، في هذا التحدي الجمالي الذي تضيق فيه المساحة، هذه المساحة، التي تستوجب كاتبا مبدعا يصنع التاريخ ، ويفجر تناقضات المجتمعات البشرية ، وعلى عاتقه يحمل كاميرا ثلاثية الأبعاد ٠
وتقديم المعنى إلى القارئ على طبق من ذهب، رشوة بينة، ،وما يبنى على الباطل لن يجنى منه إلا الباطل لأن نصا على هذه الشاكلة يعتبر تافها لعجزه عن قبول التأويل والتفكيك الذي يستلذذه القارئ ، لأنه أصلا لايكون في طياته ما يمكن تأويله أو تفكيكه ٠ و النص الإبداعي المميز في نظري هو الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئا ٠
وتحضرني قولة فاليري :( ليس هناك معنى حقيقي لنص ما) وقراءة نوع من هذه النصوص- بطبيعة الحال - لا تحتمل اليقين بل تحتمل الاحتمال ، إذ لا يمكن الإقرار بمعنى معين للنص والبحث عن المعنى المرجعي لا محالة سيساهم في هبوط النص وتدنيه ، فسمة تميزه هي الانفتاح، وقابليتة لتعدد القراءات ، التي تتنوع تأويلاتها المختلفة ، عكس هذا الأحادي المعنى ، المفروض على القارئ الذي يراوح فيه في هذه الحالة منطقة السلب لا الإيجاب !
هذا القارئ الذي احتفت به نظريات نقدية حديثة وبوأته المكانة الأساسية في العملية الإبداعية برمتها ، واعتبرت النصوص دائما ناقصة الاكتمال واكتمالها النسبي ، يتوخى من هذا القارئ المبدع الذي لا يبتلع كل ما يقدم له ، وأقول الاكتمال النسبي ،لأن النص الإبداعي مادامت قراءاته تتنوع ومعانيه تؤول وتحلل حسب كل قارئ عبر الأزمنة والعصور ، فإنه لن يصل إلى درجة الاكتمال ،وأركز هنا على النصوص الإبداعية التي تنحى منحى العالمية ٠
فرواية دون كيشوت لم تقرأ إلا بعد ردح طويل من الزمن وعندما قرئت قراءة مبدعة سليمة، رفعت درجات فأصبحت من أروع روائع ما أبدعه الإنسان في مجال الرواية ، فمن أوجب واجبات الكاتب أن يؤهل قارئه لاستقبال نصه من خلال جودة الإشارات والتلميحات ،ودفعه دفعا لممارسة الاختراق والعبور ،والإبحار في استكشاف النواتج الدلالية للنص المقروء ، وبالتالي يساهم هذا النوع من القراءات في فتح النصوص ، فجودة القراءة من جودة المقروء وجودة المقروء من جودة القراءة ، وكلاهما له رسالته في مجال الإبداع كاتبا وقارئا ٠
ولعل مناخ النص الجيد يساهم بشكل أو بآخر في إتاحة الفرصة للقارئ لاستقباله ٠٠ والنحت على جسده ،وخلق التفاعل بين النص ومتلقيه وهذا حتما سيساعد على إغناء الأثر الأدبي ٠ إن النص المكتوب بمفهوم [رولان بارت ] والمفتوح بمفهوم [إمبرتو إيكو ]ينفتح على القراءات وهي طبعا تتلازم مع الاحتمال ولا تتلازم مع اليقين ، ويمكن أ ن نستدل هنا بقول بول ريكور ( إن القراءة تعني ربط خطاب جديد بخطاب النص ) وهذا يعني استئناف النواتج الدلالية التي لا تقف عند هذا القارئ أو ذاك ، و يمكن القول بأن النص ، هو نقطة الارتكاز التي تنطلق منها قراءات لا تعد ولا تحصى فتكون النواتج الدلالية أيضا لا حصر لها ،ما دمنا لسنا بصدد نص قانوني أو مقالة صحفية إخبارية تحتمل اليقين ٠ والتي تنحصر معانيها في القراءة الأولى لأن بنية النص سطحية لا تقول إلا ما تقوله و لأنها تفتقر إلى تعدد البنيات وطبقات المعاني ، وربما هذا هو الفارق بين النص الإبداعي المفتوح والنص التقريري المغلق ، والذي لا يحتمل أكثر من قراءة واحدة ٠٠ يقول الدكتور محمد عبد المطلب (وعملية نقل المتلقي من منطقة السلب إلى الإيجاب بتوظيف مثل هذه الأدوات والأبنية ،قد تستحيل إلى نوع من المباشرة السطحية الساذجة ، ومن ثم فإن فاعليتها تكون أكثر تأثيرا وأوغل في الإبداعية عندما تكون ملحوظة فيما بين السطور أو يكون مسكوتا عنها ) والنص الإبداعي أبد الدهر متخم بالمسكوت عنه ،وغير المصرح به ، سواء في المعني أو حتى في كيفية تشكيل الكاتب لنصه على المستوى البصري ، كاعتماده على جدلية البياض والسواد ،أو اعتماد الفراغات ونقط الحذف التي يكون القارئ منوطا بالبحث لها عن دلالات لا تخل ببناء النص من خلال تأويله وتحليله !
والنص الأحادي المعنى الذي يهدف من ورائه الكاتب إرضاء القارئ، وعدم إتعابه ، يكون مغلقا لا إبداعات قرائية تتوخى من ورائه ، كالعلاقة غير المنجبة ، كما شبهه [رولان بارث] في مقارنته الطريفة في مشابهة شبقية : (النص المغلق يساوي علاقة جنسية غير منجبة ولذا فهي علاقة محصورة في ذاتها ، أما النص المفتوح فإنه يساوي علاقة جنسية منجبة ، فالمتعة تمتد من الفعل الجنسي إلى ناتجه الذي يتجدد مع تجدده )٠
ولا أقول بأن هذه المشابهة قد حسمت الأمر ،وإنما توضح لنا ما يطلبه القارئ من نص تتجدد دائما متعته ،وما المتعة إلا قراءة مبدعة ، لا أدري لماذا يريد بعض الكتاب أن يمسحوا خيبتهم وهشاشة كتاباتهم بمعرفة المتلقي؟
لماذا ينتقصون من قدرات القارئ ، فلا يقدمون له إلا التافه من النصوص الضحلة، التي لا ترقى إلى المستوى الإبداعي المطلوب ،بدعوى تسهيل مأموريته في فهم النص؟
يا سيدي أكتب ألغازا اكتب أحاج ، أكتب ما تشاء ، فلكل نص قارئه مهما طال الزمن ،ولا تتحجج بالبساطة والسهولة التي تجرك حتما إلى الابتذال والمباشرة ، فتجعل من كتاباتك مسخرة للقارئ ، كن تمامي النزعة ،ولا تحرم هذا القارئ المتعطش إلى كل ما هو مدهش وغريب ، فالإنسان يدهشه الخسوف والكسوف ولا يدهشه كل يوم طلوع الشمس أو القمر ، أهل قارئك لاستقبال نصك ، من خلال روعة رمزك وإشاراتك وانقله ليغوص في أعماقك ويستجلي غوامض نواياك ويجوب بواطن أفكارك ، وفجر في نفسه الواقع، ولا تنقله له على علاته فهو يعيشه يوميا ٠٠أبرز له المخفي من هذا الواقع ٠ وأكرر لا تتحج بالقارئ ، ولا أريد هنا أن أسبح في نظرية التلقي ، التي احتفت به أيما أحتفاء من [ياوس] إلى[ أيزر] لأعدد لك أنواع قرائك ،لأن المقام لا يناسبه المقال!
فقراؤك يا سيدي متنوعون، و متنوعة قراءاتهم ، فلك على سبيل المثال لا التفصيل ،القارئ الخبير كماعرفه [فيتش ] قادر على تفكيك الدلالة ،يتقن لغة كتاباتك، ولا يفتقر إلى القدرات الأدبية التي تريد أن تحرمه من توظيفها في قراءته نصوصك، ولك قارئك النموذجي ، ولك قارئك المثالي ولك قراء لا يعدون ولا يحصون ، إذا لم تحرمهم لذة التفكيك والتأويل وكشف المخفي والمستور في نصك ، فقط اترك بين نصك وبينهم مسافة تمكنهم من القيام بهذه العمليات القرائية الإبداعية ، فقط آمن بأن القراءة مثلها مثل النص الإبداعي المميز خارجة عن حدود الزمان والمكان !
فعالمية[ إدكار آلان بو ] أو [ مكسيم غوركي ] أو [خورخي بورخيس ]لم يكتسبوها من نصوص مبتذلة فقيرة مباشرة ، ولا تتحجوا ببساطة تشيخوف في الكتابة ، لأن البساطة إبداع لا يرقى إليه إ لا مبدع كبير!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق