الحوار المضمر في البناء الدرامي لقصيدة السرد التعبيري ، قصيدة الشاعر العراقي كريم عبد الله إنموذجاً .. بيوت في زقاق بعيد (قصيدة بوليفونية متعددة الاصوات ) ..
الدراسة النقدية التي فازت مؤخراً بالمركز الثالث في المسابقة الدولية لاتحاد الادباء الدولي .
************************
لاضير اذا قلنا أن العنوان الأول يمكن أن يكون مستوحى من عنوان قديم لقصة عراقية تحمل عنوان ( بيوت في ذلك الزقاق ) أو ربما تخاطر بين الحاضر واللاشعور ، أو محض صدفة كون هناك ثقافات كثيرة ولدت من أزقة سحرية تحمل معها النقاء والاصالة وذوبان الكل في الواحد ، وهذا ما نلاحظه في الكثير من كتابات الشاعر العراقي كريم عبد الله وهو يؤرّخ للواقع بكلماته بانسيابية عالية المكان ويكتب تاريخه مع ذكرياته بين الاهل والاجداد وبيوتهم وماتحمله عطور الجدات من القرنفل والمسك المعتق .
تبقى الازقة لها خصوصيتها وأجواؤها والحجم الصغير لبيوتها وصغر مساحتها والتصاق جدرانها كما وصف اشجارها الشاعر في قصيدته
بيوت في زقاق بعيد :
- دائماً أشجارها متجاورة ...
فمجاورة الاشجار هي مجاورة الجدران والشرفات وأسيجة السطوح ، فهل حقاً ان وصْفَ الشاعر كان لأزقّة قديمة : كالقراطيس القديمة وهي تشكو الشيخوخة ؟ ومن هي تلك المدينة البعيدة ؟
من هنا انطلق الشاعر لتفجير مفاجأة تثير الدهشة لاحقاً اعتماداً على خزينه المعرفي والثقافي وبدأ يؤسس لحوارات – ارادها متعددة حين أشار لها في عنوانه ( بوليفونية متعددة الأصوات ) ، بحيث يمكن لنا الوقوف بشيء بسيط جداً عند " البوليفونية " ولماذا اختارها عنواناً مفسّراً عنوانه الأصلي ..بيوت في زقاق بعيد ؟
اذا عرفنا أنّ البوليفونية هي تناغم بين مجموعة اصوات موسيقية بالنسبة للموسيقا (وهي مصطلح غربي ) وتناغم مجموعة حوارات بالنسبة للقصة والرواية ، واذا ابتعدنا أيضاً عن المعنى الاكثر تعقيداً في ما تحمله الأصوات الكثيرة المتعددة من تناغم ، نصل الى ان الكاتب سطّرَ كلمات قصيدته السردية
( النثرية ) لتكون حكاية تصور زمنين مختلفين ومنطقتين مختلفتين جمعها كلها في نص
(ليس بوليفونياً ، انما دايفونياً ) ينقسم الى
قسمين :
الاول يحدد البناء الدرامي او قواعد البناء الدرامي حين ينهيه بهذه الكلمات :
- كانت الأحلام واحدة في النفوس .
- ودليل الانتهاء هنا وضع النقطة في نهاية السطر ونهاية العبارة ، لينتقل بعدها الى القسم الثاني من القصيدة : ويشيّد طوابق بنائه بزخرفة هارمونية تنتقل بين السكينة والهدوء والحلم الجميل في صورة متناغمة الوانها :
صوت العصافير ، نسمات الصباح ، ظِلّ الشناشيل ، شمس لا تغيب ( ولو أنّ هذه السيميائية لها معانٍ متعددة تحتاج لتفسير آخر يحدد ما المقصود منها - الشمس – هل هي الحرية المسلوبة أم الحرية التي تحتضر ؟ ومن حق الجميع أن يفسّرها بما شاء )..
- وصور ورموز أخرى : كالنهر ودغدغة الازهار ونقيق الضفادع والبساتين التي تناغي أزهارها أقدام الفتيات ، إرهاصات الحياة ومعاناتها اليومية وكيفية التعامل الانساني بشكله الناضج أعطى حركة واقعية في البناء الدرامي ، وهي تعبير متنوع لرسالة تتضح معانيها وملامح صفاتها كلما تقدمنا خطوة جديدة في المتابعة والانتقال من صور الطبيعة الى صور خالية من معزوفات الموسيقا ، كصحراء قاحلة حين يخفت الضجيج ويتلاشى آخر المطاف .
لقد اخترق الشاعر كريم عبد الله قوانينه التي وضعها أو التي وضعت كسياق عمل من أجل البقاء في ظل الرسومات والالوان التي حددها بكلمة جمعت كل حوارات بنائه وهي : (فيشعرنَ بالأمان ) ، وهذا ما حدد مسيرة السرد والوصف وكل تقاطيع البناء الدرامي والتناغم بين الأصوات لتكوّن صوتاً واحداً او حواراً واحداً هو :
كان الناس يعيشون متحابين رغم تعدديتهم " فـ حنّا وعلي وعثمان " هؤلاء الرموز المتعددة من أبناء البيوت المتجاورة ضمن الزقاق الواحد هم إخوة متحابون يعيشون بأمن وسلام ، صوتهم واحد وكلمتهم واحدة هي النشيد الذي يرددون : وطنٌ واحد ..
هذا الوطن الواحد والشعب تفاجأ حين حملت اليه الريح أصواتاً من خلف الحدود تطالب بحكم جديد ، وعندما يتحقق هذا الحكم الجديد لا يُسمع الاّ نشيج الحزن ، وحتى الاشجار لم تعد أغصانها كما كانت من قبل ..
هذا هو القسم الثاني من البناء الدرامي من قصيدة الشاعر وكأنّه الحنين الى الماضي الرحب ، ماضي الأشجار والعصافير والشناشيل التي لم تكن حاضرة أصلاً في مدينته البعيدة لإنّ كلّ إشاراته كانت عن قرية أو بيوت متعددة في مجموعة قرى متقاربة وإن اشار لبعض منها فهي مخفية في حواره المضمر ، والاّ أين الانهار ونقيق الضفادع في بيوت الزقاق البعيد ذات الشناشيل ؟ انما هي دمج لحوارات موسيقية في صور ودلالات متنوعة قبل ان تتهشم :
- حلوى حنّا في المدينة يشتهيها الجميع ..
- عرائش علي بلا أسيجة مفتوحة للجميع ..
- وعثمان يسمع النشيد في المدرسة ، وكان الجميع حاضرون هناك ويرددون : وطن واحد ..
لذلك كانت الاحلام واحدة .
لقد استطاع الشاعر كريم عبد الله من بين قلة قليلة في قصيدته هذه اضافة لما كتب سابقاً من قصائد مماثلة أن يترنّم ويغرد بشعره بنسغ( البوليفونيمي ) الذي انفردت به الروايات والموسيقا بصورة خاصة وأن يُدخِل هذه اللمسة اللطيفة في الشعر حيث مِن الصعوبة إدخال حوارات متعددة فيه ، في حين مازالت القصص هي التي تميل الى طابع الحوار المعروف بالحوار ( الدايلوگي ) الحديث بين شخصين أو اكثر وبسرد ونمط معين وكذلك بالنسبة للموسيقا حين يبدأ المتلقي بتخيل ما يحلو له معها .
والذي يهمنا هو القصيدة التي تتضمن حوارات متعددة بأسلوب قصصي ممتع ومشوق كما فعل هنا الشاعر عند اقتناصه اللحظة وتحوّلَ بحواراته الى حوار بين حقبتين او جيلين كما ذكرنا ، وهذا دليل على من تخضرم وأصبح شاهداً على كل أحداث تلك الحقبتين .
يتمتع المتلقي حين تصله رسائل أعلامية شفافة غير متناقضة تسرد بوصفها وقائعاً واحداثاً مهمة وخطرة أحياناً ، بأية صورة وطريقة وأسلوب ، وأجملها القصص والروايات والتحقيقات الصحفية المتميزة ولكن حين تروي ذلك قصيدة مكونة من اسطرٍ قليلة تجعل القاريء يعترف مشدوداً للمتابعة بعد الأندهاش والذهاب بعيداً بالخيال حين يقرأ أو يسمع قصيدة مثل التي صنعها كريم عبد الله ، والقصائد تُصنع وتُرسم قبل أن تَرسم وتتلون وتغني قبل ان تُغنّى ..
وبعكس كثير من النقاد في محاولاتهم تكسير النص الأدبي ومعرفة بواطنه بدقة متناهية وجميع حيثياته وما يخبيء من دلالات معقدة نجد هذا النص لا يحتاج كثير عناء لانه واضح ومرسوم بدقة متناهية وكل محاولات تكسيره وتفكيك معانيه ورمزه ما هي الاّ إضفاء أنوار جديدة لأنواره المشبعة بجمالية الوصف العالي والبنائية المتفردة في مفاهيمها من كل الأتجاهات .
كما تجدر الاشارة الى ناحية مهمة من نواحي القصيدة النثرية بما تحمل من موسيقا خاصة بها تبتعد كثيراً جداً عن الشعر العمودي الممتليء الى حد الاشباع بموسيقا قوافيه الغنائية الساحرة ، لذلك لم نجد على وجه الدقة أنّ قصيدة نثرية يمكن بناء أنشودة أو اغنية منها لان ذلك يتطلب صوتاً عالياً مشحوناً بنغمات ( بوليفونية ) حادة ، بينما نجد حوارات القصيدة النثرية وسردها المفعم بالوصف الدقيق المتشابك بأنغام خفيفة هادئة ، وخفيفة ناصعة ، فموسيقاها المضمرة معها تسرح بخيال المتلقي أو تطربه من حيث لا يشعر ، نها استفزاز للمشاعر ولكن مع إعطاء مخدر موضعي للاحساس .
وعلى رغم ما تمتاز به القصيدة النثرية من تكثيف واختزال بنائها اللغوي ودلالاتها اللفظية ورموزها الشعرية ، نجد هنا سرد مفصّل يبتعد عن الاختزال لتبقى المسافة مفتوحة بطريق معبّدة بالمعرفة متحصّنة بظل الاستقلال البياني بين الشاعر والمتلقي .
وكما أشرنا ان النص اعتمد على الحوار الثنائي بصيغ متعددة ونجح في استغلال وتوظيف مسيرة الحدث كي يثير انفعال القاريء ويبقيه مركّزاً داخل موسيقا النص النثري على مايريده االشاعر منه في البناء واللحن والنغمات لكي يستنزف كل أحساسه بجمالية التفسير التي ستتخذ لاحقاً لديه مجموعة اسئلة (بعد الدهشة ) وكثرة ( الانفعالات ) :
ماهو القرار الجديد ؟ وكيف يتعامل معه ؟ وماهي آفاق مستقبله ؟
كل هذه التساؤلات تركها لنا الشاعر لنتوقع نتائجها وماهيّاتها وأين سيكون المتلقي ، وهل سيبقى عثمان يستمع لنشيد التلاميذ وهم يرددون : وطن واحد؟
اخيراً لابد من ذكر مجموعة من المعادلات التي صُممت داخلياً في النص الشعري لتبقى تتصارع مع الذاكرة ومنها :
1- أشجارها متجاورةَ الأغصان يقابلها : أغصان تندعك ببعضها تأكلها نار .
2- صوت العصافير يقابله ضجيج المارة .
3- النسمات تقابلها السيوف .
4- الشمس لا تغيب .. لا يقابلها شيء !!
5- الأمان يقابله الحزن .
هذه المعادلات الانطباعية برمزيتها وعفويتها ودقة الوصف فيها هي التي خلقت الحوارات وحولتها من حوار يستتر ويظهر مرة ، الى حوار موسيقي مباشر متعدد وثنائي .
النص
*****
بيوت ٌ في زقاقٍ بعيدٍ
( قصيدة بوليفونية متعددة الأصوات )
للشاعر كريم عبد الله
البيوت في المدينةِ البعيدةِ تغفو دائماً أشجارها متجاورة الأغصان توحي بعضها لبعضٍ أنَّ أساريرَ الصباحِ تمضي بالتواريخِ صامتةً كالقراطيسِ القديمةِ وهي تشكو مِنْ الشيخوخةِ , صوتُ العصافير تحملهُ النسمات كلَّ صباحٍ تتركُ صغارها تتنزّهُ على الشناشيلِ وظلّها يحكي للوسائدِ أنَّ الشمسَ لا تغيب , ماذا بوسعهِ النهر أنْ يفعلَ إذا دغدغَ الغبشُ أزهاره وهي تستفيقُ على نقيق الضفادع ! البيوتُ المتجاورةِ كانتْ تومىءُ للشمسِ أنْ بساتينَ الأزهارِ تناغي أقدامَ الفتيات فيشعرنَ بالأمان , مذ كانَتْ حلوى ( حنا ) تفضحُ رغباتهم الطفوليّةِ بما تحملُ مِنْ صلواتٍ تمجّدُ الربَّ كانَ عنبُ ( عليّ ) مختوماً باسرارِ العرائشِ مستريحةً على الأسيجةِ تقبّلُ ضجيج النحلِ وكانَ ( عثمان ) يسمعُ أصواتَ التلاميذَ ينشدونَ في ساحةِ المدرسةِ ( وطنٌ واحدٌ ) كانتْ الأحلام واحدة في النفوس . لكنّني فجأةً و حينَ أُرهفُ السمعَ تحملُ ليَ الريحَ أصواتاً قادمةً تجلجلُ منْ وراء
الحدود :- ( لا بدَّ مِنْ حكمٍ جديدٍ ) , وحدهُ السيف سينطقُ بالحقِ عالياً . ضجيجُ المارّةِ في الشوارع لماذا بدأ يخفتُ بالتدريج ويتلاشى خلفَ الأبواب الخشبيّةِ وأنا أسمعها كيفَ تنشجُ الحزنَ , الأغصانُ تندعكُ ببعضها تأكلها نار تلتمعُ عليها السيوف حولَ الحاكمِ بأمرِ الله
الدراسة النقدية التي فازت مؤخراً بالمركز الثالث في المسابقة الدولية لاتحاد الادباء الدولي .
************************
لاضير اذا قلنا أن العنوان الأول يمكن أن يكون مستوحى من عنوان قديم لقصة عراقية تحمل عنوان ( بيوت في ذلك الزقاق ) أو ربما تخاطر بين الحاضر واللاشعور ، أو محض صدفة كون هناك ثقافات كثيرة ولدت من أزقة سحرية تحمل معها النقاء والاصالة وذوبان الكل في الواحد ، وهذا ما نلاحظه في الكثير من كتابات الشاعر العراقي كريم عبد الله وهو يؤرّخ للواقع بكلماته بانسيابية عالية المكان ويكتب تاريخه مع ذكرياته بين الاهل والاجداد وبيوتهم وماتحمله عطور الجدات من القرنفل والمسك المعتق .
تبقى الازقة لها خصوصيتها وأجواؤها والحجم الصغير لبيوتها وصغر مساحتها والتصاق جدرانها كما وصف اشجارها الشاعر في قصيدته
بيوت في زقاق بعيد :
- دائماً أشجارها متجاورة ...
فمجاورة الاشجار هي مجاورة الجدران والشرفات وأسيجة السطوح ، فهل حقاً ان وصْفَ الشاعر كان لأزقّة قديمة : كالقراطيس القديمة وهي تشكو الشيخوخة ؟ ومن هي تلك المدينة البعيدة ؟
من هنا انطلق الشاعر لتفجير مفاجأة تثير الدهشة لاحقاً اعتماداً على خزينه المعرفي والثقافي وبدأ يؤسس لحوارات – ارادها متعددة حين أشار لها في عنوانه ( بوليفونية متعددة الأصوات ) ، بحيث يمكن لنا الوقوف بشيء بسيط جداً عند " البوليفونية " ولماذا اختارها عنواناً مفسّراً عنوانه الأصلي ..بيوت في زقاق بعيد ؟
اذا عرفنا أنّ البوليفونية هي تناغم بين مجموعة اصوات موسيقية بالنسبة للموسيقا (وهي مصطلح غربي ) وتناغم مجموعة حوارات بالنسبة للقصة والرواية ، واذا ابتعدنا أيضاً عن المعنى الاكثر تعقيداً في ما تحمله الأصوات الكثيرة المتعددة من تناغم ، نصل الى ان الكاتب سطّرَ كلمات قصيدته السردية
( النثرية ) لتكون حكاية تصور زمنين مختلفين ومنطقتين مختلفتين جمعها كلها في نص
(ليس بوليفونياً ، انما دايفونياً ) ينقسم الى
قسمين :
الاول يحدد البناء الدرامي او قواعد البناء الدرامي حين ينهيه بهذه الكلمات :
- كانت الأحلام واحدة في النفوس .
- ودليل الانتهاء هنا وضع النقطة في نهاية السطر ونهاية العبارة ، لينتقل بعدها الى القسم الثاني من القصيدة : ويشيّد طوابق بنائه بزخرفة هارمونية تنتقل بين السكينة والهدوء والحلم الجميل في صورة متناغمة الوانها :
صوت العصافير ، نسمات الصباح ، ظِلّ الشناشيل ، شمس لا تغيب ( ولو أنّ هذه السيميائية لها معانٍ متعددة تحتاج لتفسير آخر يحدد ما المقصود منها - الشمس – هل هي الحرية المسلوبة أم الحرية التي تحتضر ؟ ومن حق الجميع أن يفسّرها بما شاء )..
- وصور ورموز أخرى : كالنهر ودغدغة الازهار ونقيق الضفادع والبساتين التي تناغي أزهارها أقدام الفتيات ، إرهاصات الحياة ومعاناتها اليومية وكيفية التعامل الانساني بشكله الناضج أعطى حركة واقعية في البناء الدرامي ، وهي تعبير متنوع لرسالة تتضح معانيها وملامح صفاتها كلما تقدمنا خطوة جديدة في المتابعة والانتقال من صور الطبيعة الى صور خالية من معزوفات الموسيقا ، كصحراء قاحلة حين يخفت الضجيج ويتلاشى آخر المطاف .
لقد اخترق الشاعر كريم عبد الله قوانينه التي وضعها أو التي وضعت كسياق عمل من أجل البقاء في ظل الرسومات والالوان التي حددها بكلمة جمعت كل حوارات بنائه وهي : (فيشعرنَ بالأمان ) ، وهذا ما حدد مسيرة السرد والوصف وكل تقاطيع البناء الدرامي والتناغم بين الأصوات لتكوّن صوتاً واحداً او حواراً واحداً هو :
كان الناس يعيشون متحابين رغم تعدديتهم " فـ حنّا وعلي وعثمان " هؤلاء الرموز المتعددة من أبناء البيوت المتجاورة ضمن الزقاق الواحد هم إخوة متحابون يعيشون بأمن وسلام ، صوتهم واحد وكلمتهم واحدة هي النشيد الذي يرددون : وطنٌ واحد ..
هذا الوطن الواحد والشعب تفاجأ حين حملت اليه الريح أصواتاً من خلف الحدود تطالب بحكم جديد ، وعندما يتحقق هذا الحكم الجديد لا يُسمع الاّ نشيج الحزن ، وحتى الاشجار لم تعد أغصانها كما كانت من قبل ..
هذا هو القسم الثاني من البناء الدرامي من قصيدة الشاعر وكأنّه الحنين الى الماضي الرحب ، ماضي الأشجار والعصافير والشناشيل التي لم تكن حاضرة أصلاً في مدينته البعيدة لإنّ كلّ إشاراته كانت عن قرية أو بيوت متعددة في مجموعة قرى متقاربة وإن اشار لبعض منها فهي مخفية في حواره المضمر ، والاّ أين الانهار ونقيق الضفادع في بيوت الزقاق البعيد ذات الشناشيل ؟ انما هي دمج لحوارات موسيقية في صور ودلالات متنوعة قبل ان تتهشم :
- حلوى حنّا في المدينة يشتهيها الجميع ..
- عرائش علي بلا أسيجة مفتوحة للجميع ..
- وعثمان يسمع النشيد في المدرسة ، وكان الجميع حاضرون هناك ويرددون : وطن واحد ..
لذلك كانت الاحلام واحدة .
لقد استطاع الشاعر كريم عبد الله من بين قلة قليلة في قصيدته هذه اضافة لما كتب سابقاً من قصائد مماثلة أن يترنّم ويغرد بشعره بنسغ( البوليفونيمي ) الذي انفردت به الروايات والموسيقا بصورة خاصة وأن يُدخِل هذه اللمسة اللطيفة في الشعر حيث مِن الصعوبة إدخال حوارات متعددة فيه ، في حين مازالت القصص هي التي تميل الى طابع الحوار المعروف بالحوار ( الدايلوگي ) الحديث بين شخصين أو اكثر وبسرد ونمط معين وكذلك بالنسبة للموسيقا حين يبدأ المتلقي بتخيل ما يحلو له معها .
والذي يهمنا هو القصيدة التي تتضمن حوارات متعددة بأسلوب قصصي ممتع ومشوق كما فعل هنا الشاعر عند اقتناصه اللحظة وتحوّلَ بحواراته الى حوار بين حقبتين او جيلين كما ذكرنا ، وهذا دليل على من تخضرم وأصبح شاهداً على كل أحداث تلك الحقبتين .
يتمتع المتلقي حين تصله رسائل أعلامية شفافة غير متناقضة تسرد بوصفها وقائعاً واحداثاً مهمة وخطرة أحياناً ، بأية صورة وطريقة وأسلوب ، وأجملها القصص والروايات والتحقيقات الصحفية المتميزة ولكن حين تروي ذلك قصيدة مكونة من اسطرٍ قليلة تجعل القاريء يعترف مشدوداً للمتابعة بعد الأندهاش والذهاب بعيداً بالخيال حين يقرأ أو يسمع قصيدة مثل التي صنعها كريم عبد الله ، والقصائد تُصنع وتُرسم قبل أن تَرسم وتتلون وتغني قبل ان تُغنّى ..
وبعكس كثير من النقاد في محاولاتهم تكسير النص الأدبي ومعرفة بواطنه بدقة متناهية وجميع حيثياته وما يخبيء من دلالات معقدة نجد هذا النص لا يحتاج كثير عناء لانه واضح ومرسوم بدقة متناهية وكل محاولات تكسيره وتفكيك معانيه ورمزه ما هي الاّ إضفاء أنوار جديدة لأنواره المشبعة بجمالية الوصف العالي والبنائية المتفردة في مفاهيمها من كل الأتجاهات .
كما تجدر الاشارة الى ناحية مهمة من نواحي القصيدة النثرية بما تحمل من موسيقا خاصة بها تبتعد كثيراً جداً عن الشعر العمودي الممتليء الى حد الاشباع بموسيقا قوافيه الغنائية الساحرة ، لذلك لم نجد على وجه الدقة أنّ قصيدة نثرية يمكن بناء أنشودة أو اغنية منها لان ذلك يتطلب صوتاً عالياً مشحوناً بنغمات ( بوليفونية ) حادة ، بينما نجد حوارات القصيدة النثرية وسردها المفعم بالوصف الدقيق المتشابك بأنغام خفيفة هادئة ، وخفيفة ناصعة ، فموسيقاها المضمرة معها تسرح بخيال المتلقي أو تطربه من حيث لا يشعر ، نها استفزاز للمشاعر ولكن مع إعطاء مخدر موضعي للاحساس .
وعلى رغم ما تمتاز به القصيدة النثرية من تكثيف واختزال بنائها اللغوي ودلالاتها اللفظية ورموزها الشعرية ، نجد هنا سرد مفصّل يبتعد عن الاختزال لتبقى المسافة مفتوحة بطريق معبّدة بالمعرفة متحصّنة بظل الاستقلال البياني بين الشاعر والمتلقي .
وكما أشرنا ان النص اعتمد على الحوار الثنائي بصيغ متعددة ونجح في استغلال وتوظيف مسيرة الحدث كي يثير انفعال القاريء ويبقيه مركّزاً داخل موسيقا النص النثري على مايريده االشاعر منه في البناء واللحن والنغمات لكي يستنزف كل أحساسه بجمالية التفسير التي ستتخذ لاحقاً لديه مجموعة اسئلة (بعد الدهشة ) وكثرة ( الانفعالات ) :
ماهو القرار الجديد ؟ وكيف يتعامل معه ؟ وماهي آفاق مستقبله ؟
كل هذه التساؤلات تركها لنا الشاعر لنتوقع نتائجها وماهيّاتها وأين سيكون المتلقي ، وهل سيبقى عثمان يستمع لنشيد التلاميذ وهم يرددون : وطن واحد؟
اخيراً لابد من ذكر مجموعة من المعادلات التي صُممت داخلياً في النص الشعري لتبقى تتصارع مع الذاكرة ومنها :
1- أشجارها متجاورةَ الأغصان يقابلها : أغصان تندعك ببعضها تأكلها نار .
2- صوت العصافير يقابله ضجيج المارة .
3- النسمات تقابلها السيوف .
4- الشمس لا تغيب .. لا يقابلها شيء !!
5- الأمان يقابله الحزن .
هذه المعادلات الانطباعية برمزيتها وعفويتها ودقة الوصف فيها هي التي خلقت الحوارات وحولتها من حوار يستتر ويظهر مرة ، الى حوار موسيقي مباشر متعدد وثنائي .
النص
*****
بيوت ٌ في زقاقٍ بعيدٍ
( قصيدة بوليفونية متعددة الأصوات )
للشاعر كريم عبد الله
البيوت في المدينةِ البعيدةِ تغفو دائماً أشجارها متجاورة الأغصان توحي بعضها لبعضٍ أنَّ أساريرَ الصباحِ تمضي بالتواريخِ صامتةً كالقراطيسِ القديمةِ وهي تشكو مِنْ الشيخوخةِ , صوتُ العصافير تحملهُ النسمات كلَّ صباحٍ تتركُ صغارها تتنزّهُ على الشناشيلِ وظلّها يحكي للوسائدِ أنَّ الشمسَ لا تغيب , ماذا بوسعهِ النهر أنْ يفعلَ إذا دغدغَ الغبشُ أزهاره وهي تستفيقُ على نقيق الضفادع ! البيوتُ المتجاورةِ كانتْ تومىءُ للشمسِ أنْ بساتينَ الأزهارِ تناغي أقدامَ الفتيات فيشعرنَ بالأمان , مذ كانَتْ حلوى ( حنا ) تفضحُ رغباتهم الطفوليّةِ بما تحملُ مِنْ صلواتٍ تمجّدُ الربَّ كانَ عنبُ ( عليّ ) مختوماً باسرارِ العرائشِ مستريحةً على الأسيجةِ تقبّلُ ضجيج النحلِ وكانَ ( عثمان ) يسمعُ أصواتَ التلاميذَ ينشدونَ في ساحةِ المدرسةِ ( وطنٌ واحدٌ ) كانتْ الأحلام واحدة في النفوس . لكنّني فجأةً و حينَ أُرهفُ السمعَ تحملُ ليَ الريحَ أصواتاً قادمةً تجلجلُ منْ وراء
الحدود :- ( لا بدَّ مِنْ حكمٍ جديدٍ ) , وحدهُ السيف سينطقُ بالحقِ عالياً . ضجيجُ المارّةِ في الشوارع لماذا بدأ يخفتُ بالتدريج ويتلاشى خلفَ الأبواب الخشبيّةِ وأنا أسمعها كيفَ تنشجُ الحزنَ , الأغصانُ تندعكُ ببعضها تأكلها نار تلتمعُ عليها السيوف حولَ الحاكمِ بأمرِ الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق