الاثنين، 19 فبراير 2018

سلطان السم : قصة قصيرة / بقلم الاستاذ // صالح هشام // المغرب

سلطان السم : قصة قصيرة 
بقلم الاستاذ : صالح هشام 
تنفتح ثقيبات القصبة العيساوية ثم تنغلق ،تنفتح ، ثم تنغلق ، فتمتزج نغماتها بإيقاع الدربكة ، تطرب دروب مارتيل الضيقة : تنتشي بشئ من غرائب تلك العمائم الخضراء :
روائح عيساوة تعطر المكان ٠ تشرئب الأعناق ، وتطل الرؤوس من فوق سطوح المنازل، ومن أبوابها السماوية ٠٠ كتل مكورة رخامية ، تتأرجح بين المناكب ، وتتدحرج ببطء كالعناكب ،تقصد ساحة المدينة ،ساحة المأزومين وأصحاب الحال ،تريد الانتشاء بإيقاعات القصبة السحرية العيساوية ! 
تتحلق حولك حشود كالجراد ٠٠ فتعري رأسك ٠٠ ترمي عمامتك الخضراء فوق الإسفلت ، يلوح شعرك الأشعث كعش الغراب ، فتستنجد بأجدادك : عيساوة ٠٠ حمادشة ٠٠ جلالة وهم ينعمون بالسكينة،في اللحود يحضنهم النسيان!
تضرب بقبضتيك على صدرك ،وتصيح في الجموع وراحتك لا تفارق فمك :
- وا٠٠ الأ ولى عيطة عيساوية ٠٠وا٠٠الثانية عيطة حمدوشية وا٠٠الثالثة ضربة رام ،تشق قلب كل من يترك هذا الجمع المبارك ، بلا موعد وبلا ميعاد !
عيطتك تخيف الجموع ،يعرفونها، ينزل أذاها كالصاعقة !
تدور كالخذروف ،كحبة درة فوق صفيح ملتهب ، وأنت تقوم اعوجاج جنبات الحلقة :
- وسعوا يا صغار ..وسعوا ياكبار٠٠ (من لم يوسع الكارة تولد أمه حمارة ) !
يتراجعون إلى الوراء ،في هرج كطيور النغاف ٠٠ تلتصق عيونهم جاحظة، بصناديقك الخشبية المطلية بالثقوب، تتوسط الحلقة ، يتدافعون قبل أن ترص الصفوف ، يسعون للاستمتاع بغرائبك العيساوية !
هم يعرفونك حق المعرفة ٠٠ يعرفون أنك تقتات مجبرا لا مخيرا من سموم الأفاعي ،لكن لك جديدك في كل إطلالة٠
تلوك خبزك مالحا، بمذاق السموم ، وأنت تحمل روحك فوق راحتك ٠٠حال وأحوال ، وهذا حالك ،فما اخترته يوما ، هو مكتوب عليك ، أنت العيساوي ، الحي/ الميت ،فأنت سلطان السم !
تدور دورة ، دورتين ، ثلاث دورات ، في جنبات الحلقة ٠٠ وتروح في شطحة عيساوية مجنونة ،فيتشظى زبد ثلجي على شفتيك المتشققتين ٠٠ وأنت تفتعل الانفعال وما أنت منفعل ٠٠٠ وتعب دون اكتراث جرعة كبيرة ،من ماء ملتهب ومغلى ، فيتصاعد بخاره من أعماقك حارا ٠٠ترش الناس و الجنبات ،فيلفح وجوههم رذاذ موج ساخن ، وبحركات بهلوانية ، تغمغم وتجمجم كلاما ينفلت من شفتيك رصاصا، يستقر فقط في قلوب العقلاء والعلماء : 
-واش هذا حال ولا محال!
_ هذا حالي ما هو حال !
-حالي لا يشبه الأحوال ! 
وأنا أرا قب المشهد من أقرب زاوية ، دون أن أحشر نفسي بين تلك الجلابيب ،والمعاطف الكبيرة ، أتساءل باندهاش :
- يا ويلنا ،كيف ؟كل هذه الجموع الغفيرة ،تجمعها أنفاس قصيبة رباعية الثقوب ، ولا تستهويها من الفكر الضروب ؟
وقتها تحضرني حكاية طريفة :أستاذ يدرس الفلسفة :
يرفض طلابه الفلسفة وكل ما يأتي منها بإصرار ،وعندما يعجز عن إقناعهم ، يلملم حوائجه متدمرا، و يصرخ فيهم :
-كيف لشعب تجمعه طقطقة دربكة ،ويهتز لثقل ردف وتفرقه هراوة ،أن يقرأ الفلسفة يا أبنائي ؟
فأنتم سلالة من أجبر سقراط على تجرع السم حتى الموت ! 
ويتوارى في زحمة أجساد ، تنبت فوقها جماجم ضخمة لكن متخمة بماء عفن راكد !
تحل ضفائرك الطويلة ، الفاحمة ، وتتلاعب بشعرك : كثيفا مجعدا كعش الغراب ، تراقص عظامك ، في سروالك (القندريصي ) الفضفاض ، تخترقك نظراتي من ناصيتك إلى المداس ، تكاد تجردك من عباءتك ، فتبدو لي أشبه بسقراط أثينا ! 
-لكن يا سقراطنا ! سقراط أثينا تجرع سم أفكاره برباطة جأش ، حتى آخر ما علق بقاع الكأس ٠٠ و أنت تتجرع كل يوم ،سم قوت أفواه مفتوحة جوعى، تنتظرك كل مساء ٠ 
بانفعال شديد ،تستدر رحمة قلوب حجرها الزمن ٠٠ وأنت تنتزع قوتك / سمك من بين أنياب الأصلال في كامل قواك العقلية وبمحض إرادتك ٠٠
أرق لحالك ٠٠ أتأفف ٠٠ ألعن في سري واقعا أجبرك -كما أجبروه - على تجرع السم و ركوب أمواج الموت في عالم مسموم محموم : 
-فسيان سم الأفكار والمبادئ ، وسم التهميش والقهر ! 
تتحرر الجيوب من ثقوبها ، تنهال عليك القطع النقدية الكبيرة كحبات البرد ، فتعتلي قمة الانتشاء ، وتحرر جميع أصلالك من صناديقها ، ترفع رؤوسها مركوزة كالرماح وسط الحلقة ، فتنتشي بروائح طحالب البحر ، وهي تعكس جمهورك على مراياها الزجاجية ! 
يكبر حماسك ، فترفع أنثاك في غفلة منها ،رغم ثقتك بها صادقتها عقودا ، فقد كبرتما معا ،هي كل ما ترك لك والدك من إرث مسموم ٠ تدور وسط جموع تصفق عليك ،تصفق على موتك دون أن تدري ٠٠ تداعبها ، تلا عبها ، لم تكن في أحسن حال ، وهي تتلوى بعنف ملحوظ ، تعصر ساعدك الواهن حد الانكسار،ترسم قوسا قزحيا بألوانها الزاهية ، وسينا مكسورة ، وفحيحها يسمع خارج الحلقة ! وأنت تهم بتقبيل رأسها المثلثة كعادتك ، تنقض عليك ، وتقبلك بطريقة الأصلال الخاصة ،وتجود عليك بجرعة موت زعاف ، تصرخ صرخة ألم مكتوم ، فأنت العيساوي لا ترضى بشماتة شامت :
- غدرتيني يا لعينة ، يتمت أطفالي لا محالة ، ما كان لك أن تفعلي بي هذا، ياغادرة !
تتعرق جبهتك ،تتسارع دقات قلبك ،يسمع لهاثك من بعيد ، فيسندك زميلك على ركبتيه ،يجس نبضك ، فتروح في غيبوبة ٠٠ حتما غيبوبة اللاعودة ، غيبوبة الخلاص الأبدي ، وسط اندهاش وشرود جموع الناس !
تتسرب رغوة ثقيلة ، ثلجية كزبد البحر، من أنفك و من فمك وتنزلق فائرة ، لتستقر على منحرك ! 
يقول أحد العارفين بالسموم :
-لن يحيى هذا الرجل مرة ثانية، الضربة في الرأس تستقر مباشرة في الدماغ ، فهذه الرغوة مخه يصهره السم يا ناس ! 
يتخلص منك زميلك برفق ، يمدد جسدك فوق زليج الساحة البارد ، ويلفك بثوب أبيض كالكفن من رأسك إلى أخمص قدميك ، ويتركك بهدوء تتجرع سمك ، وتموت ، تموت ، لكن هذه المرة برباطة جأش سقراط أثينا ، فسمك لا يختلف عن سمه !
ينبري أحدهم من بين الحشود ويصرخ بكل قوته و يلوح بقبضتيه :
- من المسؤول عن موت هذا الرجل يا ناس !
ألستم أولياء الأمر منا تتحملون مسؤولية موته ،أم أنكم ستمسحون خذلانكم لشعوبكم ، بقشور هذه الأفعى ٠٠٠ فالأفعى أبد الدهر تبقى أفعى ،من زمن غدرها جلجامش إلى زمن غدرها هذا العيساوي المسجى أمامكم في العراء !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق