الجمعة، 23 فبراير 2018

قراءتان رائعتان // لقصة سلطان السم // للقاص والناقد // الاستاذ صالح هشام // المغرب

سلطان السم : قصة قصيرة 
بقلم الأستاذ : صالح هشام 
قراءتان رائعتان: __________________________________
نصي هذا كتبته بعفوية ،مع تحرير القلم و للذاكرة من القيود التي يمكن أن تحصر كتابتي في نقطة محددة ، تخلصت من كل كوابحي ، وما كنت أعتقد أني أكتب شيئا ، يمكن أن يجذب قلمين كبيرين معروفين في قراءاتهما باختيار أجود رحيق من زهور الإبداع ،خصوصا في مجال السرد وهما أدرى بشعابه٠
وأنا أقرأ ما خطه الأستاذ الكبير سي سليمان جمعة وتعقيب الدكتور مصطفى بلعوام وإضافته الرائعة ، شعرت وكأني أقرأ نصا غريبا عني ، لأني كتبت ما لم أفكر في أهميته في المجال النقدي ، خصوصا وأن هذا النص يحكي حكاية واقعية بالفعل : وقعت في عز غشت في مدينة مارتيل بالشمال المغربي ، فقد دخل غرفة عمليات طبيبين جراحين متميزين ، ولهما وزنهما النقدي ، وهذا ما جعلني أطمئن على جودة النص وجماله ، رغم أني لم أتكلف صنع الشخصية الرئيسة ( العيساوي ) فقد كانت جاهزة ، وقمت فقط بنقل الواقعة لكن بعين ثالثة لا تخلو من لمسات فنية شكرا استاذي الكبيرين، فقد أيقظتما هذا النص من سباته العميق، وزرعتم فيه حياة جديدة ،(فالنقد يوقظ النصوص من سباتها ) كما يقول جان بول سارتر !
_________________________________________________
قراءة الأستاذ : سليمان جمعة !
إن تعدد الأصوات في النص يرمي إلى تعدد وجهات النظر لموضوع واحد ... المعرفة الجمهور .. ..وعيشها ...بما فيها من غيب أو اجتماع .. 
الاستهلال :
طقس الحلقة العيساوية ./.الحاوي قصبة ودربكة وعطور ولباس معين ...جمهور مأخوذ بذلك الطرب ..ماليء المكان وفوق السطوح...ومن كل حال ...والسحر العيساوي ..هذا التقديم ..مشهد يقدمه الراوي فيراه غائب... وجهة تصوير ورأي .
ثم ينتقل إلى الخطاب ...فيوجه الكلام إلى الحاوي.. ويقول إن الجمهور كالجراد ... فيصف له حركاته فهذا رأيه فيه ..ويستغرق في حكاية الحاوي الأسطوري..في عمق تاريخه مع أجداده كتراث متصل ..ولم يهدأ الجمهور يحتشدون له ..وهكذا يصور النص نظرية بارت في المنهج الأسطوري وكيف ..تصبح حقيقة وهي لامعقولة ...وهي مباركة ...فبقدمها اتخذت قدسيتها ..
هذا مشهد ثان خطاب للحاوي ..
وينتقل بلسان الحاوي أو مساعده ..ليبوح لهم أن من يخالف يبتلى بكوارث ..مشهد قصير ينتقل إلى آخر ..فيحكي الراوي انصياعهم ..ثم يعود لمخاطبته ....هو العيساوي الحي الميت ...هنا يشكل مفصلا بين اللامعقول والمعقول .. ويبين خطر وقوفه قبالة الأفعى .. ويصف دائرة الخطر ....تنفعل ولا تنفعل...كاشفا عن ألاعيب الماء الساخن وحركاته البهلوانية ..إذن هنا درجة وعي تبعد الأسطوري الذي يغشي الجمهور .....
المتكلم /الراوي يخبر عن موقفه ..ويذهب من هذا المشهد الفكر المضروب لحكاية أستاذ الفلسفة ...لحكاية سقراط...ثم كيف لدغته الأفعى ...وكيف خانته كماخانت جلجامش فسرقت منه ما غامر ليجلبه ..فعاد خائبا ...
هذا التعدد بأصوات الراوي ليشمل المكان والزمان ..
.مشاهد تنقلنا من رأي لرأي كمسح ثقافي ..
فما هي البنى المشكلة للنص .. 
من الاسطورة (جلجامش) وفكرة المعرفة التي تعطيه الخلود ..ودور الأفعى بالخيانة من آدم للآن .. 
والتراث الإنساني ..وحكاية سقراط ودوره في محاورة الناس لتعليمهم العدالة والحرية .. فاتهم بتخريب عقول الناشئة وحكم.عليه بتجرع كأس السم ..فحضرت الأفعى بسمها .. وحكاية الحاوي الاجتماعية /الدينية والقديمة 
والبنية الأساسية وهي حكاية المعرفة والسلوك.البشري حيالها وهي التي حركت النص وأعطته بناءه ..
هناك إذن بنيتان .. المعرفة التي تعطي الوعي مع سقراط وجلجامش ..والبنية التي تعطي الغيبوبة وهي شعوذة الحاوي .. فالأولى هي أفق غائب يستحضره أفق حاضر هو استجابة الجمهور للعيساوي بما له من قدسية اكتسبها بمرور الزمن .. ..كيف ابتدع النص الحل أمام المشهدين ..أن جعل الافعى لا تغيير طبيعتها في قتل مغامرة البشر الأزلية .. ..ولكن هنا انتصرت للعقل فقتلت الخزعبلات المتمثلة بحركة الحاوي ...وسماها غدرا ..ويتما ... تلك كانت القفلة قبل نهاية النص ....
هذا التماثل والتشبيه يحدد رغبة في التغيير ..لأن التشبيه هو تغيير ..وإرادة حلول روح جديدة في جسد وطرد الأخرى العاجزة ..أو المآخوذة ..بالتعود ..وتقديس القديم ..
أيكون للسم سلطان ؟ 
كيف نحضر أفعى التغيير . والغواية ...؟
دمت ا.صالح
_________________________________________________
قراءة الدكتور المصطفى بلعوام ! 
إضافة لما حللت أستاذي جمعة سليمان، أقف هنا في عجالة على تقنية يتميز بها القاص المبدع صلاح هشام. ولتعذرني أيها القاص على هذه الطلّة الخفيفة حتى لا أكون ثقيلا بطول المقال ..
كاميرا تلتقط ،كما هي العين في التقاطها للمشهدية، فما تراه أو تلتقطه يختلف عما يمكن للإدراك الفعال أن يراه فيها. فكرة ديكارتية لعمري بسيطة، غير أنها مع القاص الكبير في إبداعاته صلاح هشام ، تأخذ بعدا إبداعيا آخر في السرد. 
يبدأ قصصه مِن موقع تختلط فيه أوراق " من يسرد"أو السارد له وكأنها خطاب موجه٠
خطابة ثم سرعان ما يفلت منا الخطيب، فتصبح القصة عالقة بأصوات متعددة، ليس بالمفهوم البوليفوني، ولكن بمفهوم الذات وأركيلوجية الأصوات التي تسكنها من دون أن تشكل لها صوتا واحدا ، فهي أصوات من دون خطاب بالمعنى الألسني ، أي خطاب خطاب لا خطيب له، لأنه يأتي من موقع نجهله ليس بعدم المعرفة ولكن بعدم القدرة على تملكه، قد يكون الواقعي بمعناه ذاك الذي لا يعني الواقع ولكن اللاممكن، المستحيل ( لاكان )، وقد يكون ذاك الرمز الذي لا يرمز لغير ذاته، لكن منه وإليه تعود الرموز كضرورة في الوجود .. 
هكذا يبدأ النص ب " تفتح القصبة .." ولا ندري من يتكلم إلى حين قفزة أسلوبية في " وأنا أراقب المشهد من أقرب زاوية .."، قفزة مقتضبة لتترك المجال لخطاب الخطاب الذي يعري الأشياء بدون خطيب ولا صوت واحد ..
دام لكما الإبداع
_________________________________________________
سلطان السم : قصة قصيرة 
بقلم الاستاذ : صالح هشام 
تنفتح ثقيبات القصبة العيساوية ثم تنغلق ،تنفتح ، ثم تنغلق ، فتمتزج نغماتها بإيقاع الدربكة ، فتطرب دروب مارتيل الضيقة : تنتشي بشئ من غرائب تلك العمائم الخضراء :
روائح عيساوة تعطر المكان ٠ تشرئب الأعناق ، وتطل الرؤوس من فوق سطوح المنازل، ومن أبوابها السماوية ٠٠ كتل مكورة رخامية ، تتأرجح بين المناكب ، وتتدحرج ببطء كالعناكب ،تقصد ساحة المدينة ،ساحة المأزومين والمهمومين ،وأصحاب الحال ،تريد الانتشاء بإيقاعات القصبة السحرية العيساوية ! 
تتحلق حولك حشود كالجراد ٠٠ فتعري رأسك ٠٠ ترمي عمامتك الخضراء, فوق إسفلت سبكه حر غشت , يلوح شعرك الأشعث كعش الغراب ، فتستنجد بأجدادك : عيساوة ٠٠ حمادشة ٠٠ جلالة ، تطلب عونهم ورضاهم ٠٠ وهم ينعمون بالسكينة،في اللحود ، ويحضنهم النسيان!
تضرب بقبضتيك على صدرك بقوة ،وتصيح في الجموع وراحتك لا تفارق فمك :
- وا٠٠ الأ ولى عيطة عيساوية ٠٠
وا٠٠الثانية عيطة حمدوشية ٠٠
وا٠٠الثالثة ضربة رام من الرمى ،تشق قلب كل من ترك هذا الجمع المبارك ، بلا موعد وبلا ميعاد !
عيطاتك هذه ترهب الجموع ،يعرفونها،ينزل أذاها كالصاعقة !
تدور حول نفسك كالخذروف ،كحبة درة فوق صفيح ملتهب ، وأنت تقوم اعوجاج جنبات الحلقة :
- وسعوا يا صغار ..وسعوا ياكبار٠٠ (من لم يوسع الكارة تلد أمه حمارة ) !
يتراجعون إلى الوراء ،في هرج كطيور النغاف ٠٠ تلتصق عيونهم جاحظة، بصناديقك الخشبية المطلية بالثقوب، تتوسط الحلقة ، يتدافعون قبل أن ترص صفوفهم وتستقيم ، فهم يتعجلون الاستمتاع بغرائبك العيساوية !
هم يعرفونك حق المعرفة ٠٠ يعرفون أنك تقتات مجبرا لا مخيرا من سموم الأفاعي ،لكن لك جديدك في كل إطلالة٠
تلوك خبزك مالحا، بمذاق السم ، وأنت كل يوم، يودعك صغارك , وتحمل روحك فوق راحتك ،فقد تعود أو لا تعود! فأنت حال وأحوال ، وهذا حالك ،فما اخترته يوما، مكتوب عليك ، أنت العيساوي ، الحي/ الميت ،فأنت سلطان السم !
تدور دورة ، دورتين ،وتمعن في الدوران ،في جنبات الحلقة ، وتروح في شطحة عيساوية مجنونة ، تلامس الأرض حينا وتعلق بالفراغ أحيانا٠٠ فيتشظى زبد ثلجي على شفتيك المتشققتين ، وأنت تفتعل الانفعال وما أنت منفعل ٠ 
تعب دون اكتراث جرعة كبيرة ،من ماء ملتهب مغلى، تحركها في متاهات بلعومك ،يتصاعد بخارحار من أعماقك ٠٠ترش الناس و كل الجنبات ،فيلفح وجوههم رذاذ موج ساخن ، وبحركات بهلوانية ، تغمغم وتجمجم كلاما مبهما ، لكن ينفلت من شفتيك رصاصا، فيستقر فقط في قلوب العقلاء والعلماء : 
-واش هذاحال ولا محال!
_ هذاحالي ما هو حال !
-حالي ما يشبه حال ! 
وأنا أرا قب المشهد من أقرب زاوية ، دون أن أحشر نفسي بين تلك الجلابيب ،والمعاطف الكبيرة التي تسد كل منافد الحلقة ، أتساءل باندهاش :
- يا ويلنا ،كيف ؟ ماذا وقع ؟ كل هذه الجموع الغفيرة ؟
تجمعها أنفاس قصيبة رباعية الثقوب ، ولا تستهويها من الفكر الضروب ؟
وقتها تحضرني حكاية طريفة :أستاذ يدرس الفلسفة :
يرفض طلابه الفلسفة وكل ما يأتي منها بإصرار ،وعندما يعجز عن إقناعهم ، يلملم حوائجه متدمرا، و يصرخ فيهم :
-كيف لشعب تجمعه طقطقة دربكة ،ويهتز لثقل أرداف وتفرقه هراوة ،أن يقرأ الفلسفة يا أبنائي ؟ فأنتم سلالة من أجبر سقراط على تجرع السم حتى الموت ! 
ويتوارى في زحمة أجساد ، تنبت فوقها جماجم ضخمة لكن متخمة فقط بماء عفن راكد !
تحل ضفائرك كجنح الليل ، وتتلاعب بشعرك : كثيفا مجعدا ، تتراقص عظامك ،في سروال فضفاض يرجح أنه يلبسك ولا تلبسه ٠٠تخترقك نظراتي من ناصيتك إلى المداس ، تكاد تجردك من عباءتك ، فتبدو لي أشبه بسقراط أثينا !
-لكن يا سقراطنا ! فسقراط أثينا تجرع سم أفكاره برباطة جأش ، حتى آخر ما علق بقاع الكأس ٠٠ و أنت تتجرع كل لحظة جرعات سم قوت أفواه مفتوحة جوعى، تنتظرك كل مساء ٠ 
بانفعال شديد ،تستدر رحمة قلوب حجرها الزمن ،فأصبحت أصلب من الجلاميد ٠٠ فتنتزع [قوتك / سمك ]من بين أنياب أصلال على أهبة الاستعداد للقتل ،وأنت في كامل قواك العقلية وبمحض إرادتك ٠٠
أرق لحالك ٠٠ أتف ٠٠ أتأفف ٠٠ ألعن في سري واقعا أجبرك -كما أجبروه -على تجرع السم و ركوب أمواج الموت في بحر عالم مأزوم ، مهموم ، مسموم ، محموم : 
- سيان سم الأفكار والمبادئ ، وسم التهميش والقهر ! 
تتحرر الجيوب من ثقوبها ، فتنهال عليك قطع نقدية كبيرة كحبات البرد ، تعتلي قمة الانتشاء ، و بالمقابل تحرر جميع أصلالك من صناديقها، اعترافا بسخاء هذا الجمهور ، فتتمايل بأجسادها المزركشة مع كل حركة ، ورؤوسها مركوزة في الفراغ ، كالرماح وسط الحلقة ،فهي أيضا تنتشي بروائح طحالب البحر ، و تعكس جمهورك على مراياها الزجاجية ! 
يكبر حماسك ،وبومضة برق تقبض أنثاك الخمسينية في غفلة منها ، فأنت لا تثق بها ، رغم مصادقتها عقودا ، فقد كبرتما معا ، وتربيتما معا ، وهي كل ما ترك لك والدك من إرث مسموم ٠
تدور وسط جموع تصفق لك ،تصفق لموتك دون أن تدري ٠٠ تضغط منها علىيها ٠٠ تداعبها ٠٠ تلا عبها ٠٠ يشعر الحضور بنشوة المتعة ، لكنها لم تكن في أحسن حال ، فتتلوى بعنف ملحوظ ، تعصر ساعدك الواهن ، تكاد تكسره،فترسم قوسا قزحيا بألوانها الزاهية حينا ، وسينا لاثينية مكسورة ، حينا آخر ،وفحيحها يملأ المكان ويسمع خارج الحلقة !
وأنت تهم بتقبيل رأسها المثلثة كعادتك ، تخطئ التقدير ، ويخونك قياس مسافة الأمان ،فتنقض عليك ، وتقبلك قبلة الأصلال الخاصة ،وتجود عليك بجرعة موت زعاف ، تصرخ صرخة ألم مكتوم ، فأنت العيساوي لا ترضى بشماتة شامت :
- غدرتيني يا لعينة ، يتمت أطفالي لا محالة ، ما كان لك أن تفعلي بي هذا، لقد خنت العهد ياغادرة !
تسري في جسدك النحيف حرارة، فتتعرق جبهتك ،تتسارع دقات قلبك ،يسمع لهاثك من بعيد ، يسندك مساعدك على ركبتيه ،يجس نبضك :كنت تقوض خيمك، لتعلن الرحيل فتروح في غيبوبة ٠٠ حتما غيبوبة اللاعودة ، غيبوبة الخلاص الأبدي ، وسط اندهاش أفواه مفتوحة عن الآخر ،وشرود جموع الناس !
تتسرب رغوة ثقيلة بيضاء ناصعة ، كزبد البحر، من أنفك 
و من فمك وتنزلق ببطء فائرة ، لتستقر على منحرك ! 
يقول أحد المجاذيب :
- يا سادة ! لن يحيى هذا الرجل مرة ثانية، الضربة في الرأس تستقر مباشرة في دماغ الضحية ، فهذا مخه يصهره السم يا ناس فيخرج من خيشومه كرغوة ! 
يتخلص منك مساعدك برفق ، يمدد جسدك فوق زليج الساحة البارد ، ويغطيك بثوب أبيض كالكفن من رأسك إلى أخمص قدميك ، ويتركك بهدوء تتجرع سمك ،لتموت ٠٠لتموت ،لكن هذه المرة برباطة جأش سقراط أثينا ، فجرعتك لا تختلف عن جرعته !
ينبري أحدهم من بين الحشود غاضبا وهو يصرخ بكل قوته 
و يلوح بقبضتيه :
- من المسؤول عن موت هذا الرجل يا ناس !
ألستم أولياء الأمر منا تتحملون مسؤولية موته ؟ أم أنكم ستمسحون خذلانكم لمهمشي شعوبكم ، بقشور هذه الأفعى! لا عتب عليها، فهي أبد الدهر، تبقى أفعى غادرة منذ زمن جلجامش إلى زمن هذا العيساوي المسجى أمامكم في العراء !
الأحد 18 فبراير 2018 
صالح هشام/// الرباط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق