وميات مخرج في مستشفى الرشاد للامراض النفسية
الحلقة الاولى
كيف دخلت الى المستشفى
كان طموحي ان ادخل معهد الفنون الجميلة قسم المسرح لشغفي المبكر للمسرح والتمثيل والدخول الى هذا العالم المغري والجميل بالنسبة لي كان فعلا حلما جميلا , وبسبب عدم انتمائي لصفوف حزب البعث العربي الاشتراكي ولأعدام ابن خالي ( جواد ) الطالب الجامعي لنفس السبب وانتمائي لاحد الاحزاب المحظورة في زمن الطاغية ورفضي لما كان يحدث في العراق من دمار وقتل وتشويه حتى الهوية الوطنية للمواطن العراقي تمّ رفض طلب القبول وانتهى حلم جميل كان يراودني كثيرا فاتجهت الى مجال الطب والصحة , كانت معاناة الحرب العراقية الايرانية تطاردني كوجه حبيبتي التي فقدتها في سنوات الحرب الخاسرة وقدمي التي تناهبتها الشظايا فوق الراقم ( 1857 ) في شمال كردستان العراق فعدت احمل حزن يزيّن احلامي المسبيّة والمعتّقة بالوجع والخوف . كانت عودة من الحرب عودة خاسرة جعلتني ابتعد عن كل شيء في هذا العالم فقط احلامي المؤجلة كانت ترافقني الى المنفى الذي اخترته بمحض ارداتي وهو الاعتكاف عن الحياة والمجتمع بسبب الويلات التي عشتها من فقدان الحبيبة والاصدقاء والنفس ايضا . فأخترت العمل في مستشفى الرشاد للطب النفسي وكان في يوم ما عبارة عن منفى للهروب من واقع يضجّ بالفجيعة والخراب والالم والوحشة والظلم , وهنا وجدت الابواب مفتحة امامي لعالم الجنون الرهيب والجميل والممتع , عالم مغريّ بالكثير بالنسبة لي فكل ما كتبت في يوم ما قد ضاع والتهمته النيران بسبب الوضع الامني الرهيب والرقابة على كل شيء مكتوب ومحاربة الكتاب والثقافة التي تتعارض مع السلطة الحاكمة , ففكرت ان أمرّر افكاري وكتاباتي من خلال لغة الجنون والمرض النفسي والعقلي للهروب من المحاسبة والمطاردة كون الحديث لمجنون ليس إلا .فكتبت مجموعة نصوص تحمل عنوان ( هذاءات من داخل مستشفى المجانين ) وهي صرخة قوية بوجه السلطة والطغيان والاستبداد ولكن بلغة الجنون فكانت على مستوى المستشفى فقط وهذا لم يحقق لي ما اريد ففكرت بشيء اخر واوسع الا وهو المسرح , لكن كيف يكون ذلك وانا اعمل مع مرضى عقليين يعانون الكثير من اعراض المرض السالبة .. ! .
كان عملي بتماس مباشر مع هؤلاء المرضى ولفترة طويلة وحديثي معهم فتح لي آفاق جديدة عن هذا العالم الغريب والمغلق , ظلت تراودني فكرة المسرحية وعرضها ودعوة الاخرين من خارج اسوار المستشفى لمشاهدتها وتمرير افكاري من خلال قصص وحكايات المرضى الممثلين فيها , لكن كيف اكتب النصّ وكيف اقوم باخراجه وكيف استطيع ترويض وتدريب المرضى على مثل هذا العمل الخطير والمهم والجميل في نفس الوقت .. ؟
كلما توغلت في هذا العالم انفتحت امامي ابوابا كثيرة تمنحني المزيد من الاصرار والتحدي لكل شيء حتى الذات من اجل تقديم عمل متميّز ومبهر وناجح . فاستمتع للكثير من حكايات المرضى والمريضات ومعاناتهم مع المرض العقلي والاضطهاد الذي يتعرضون اليه دائما من المجتمع بصورة عامة والاهل بصورة خاصة وفقدانهم كل شيء في هذا العالم ولم يبق لهم سوى المرض والمعانات والالم , لقد تقمصت شخصيات كثيرة من شخصيات المرضى ودخلت الى عوالمهم السريّة والجميلة من خلال جلسات كثيرة ومطوّلة معهم استكشف ما وارء الذات وعمق الالم والفراغات الموجودة في شخصياتهم وافكارهم , كلما اقول قد وصلت الى النهاية اجد نفسي في بداية الطريق وعليّ الكثير ان اقوم به .
كيف تكتب نصّا مسرحيا لمريض عقلي : – من الصعوبة جدا ان تفعل ذلك مع مريض يعاني من اوهام مرضية واختلالات في الشخصية , لكنني وبحكم تواجدي وعملي في المستشفى وعلاقتي الحميمية مع المرضى تعرفت على اغلبهم وعرفت كل مريض وقابلياته الذهنية والمعرفية , فقمت بكتابة نصوصي المسرحية حسب قدراتهم وقابلياتهم وجعل الحوار مفتوحا بامكان المريض ان يضيف ويطوّر الشخصية بما يتناسب مع الحوار العام للمسرحية , اما طريقة الاخراج ووقوف المريض على خشبة المسرح وامام الجمهور فهذا يحتاج الى صبر طويل وتأهيل وزرع الثقة في نفوس المرضى ومنحهم الحرية المطلقة للحركة اثناء اداء الشخصية على خشبة المسرح وضمن اطار المسرحية العام . لا ننسى بان المريض العقلي يعاني دائما بسبب المرض , المصاعب التي تواجهني في هذا العمل هو انتكاسة المريض اثناء التدريبات اليومية مما يتطلب اعادة المريض الى الردهة ومتابعة علاجه النفسي من قبل الطبيب المعالج
كيف تصنع فرقة مسرحية من مرضى عقليين
ليس الامر بالسهولة ان تصنع من مرضى عقليين اغلبهم مصابين بامراض عقلية صعبة كــ ( مرض الفصام العقلي او الهوس او الذهان او الكآبة التخشبية او اضطراب الشخصية ….الخ ) جميع هذه الامراض تكون قد عملت ما عملت بهذا الانسان المريض وجعلته منبوذا من الجميع حتى الاهل والسيطرة على اعراض هذه الامراض تكون صعبة وتحتاج الى علاج دوائي طويل الامد واحيانا كثيرة يتطلب الامر دخول المريض الى المصح العقلي للعلاج ومتابعة حالته عن كثب , والنتيجة ان يكون هذا الانسان محطم نفسيا ومنبوذا وغير مرغوب فيه ويعيش تحت تأثير المرض من هلاوس بصرية وسمعية وعدم المقدرة على التواصل مع الاخرين , لهذا فالامر في غاية الصعوبة في كيفية التعامل مع هذا المريض فكيف لو فكرت بالعمل معه وفي موضوع خطير جدا وهو التمثيل وامام المجتمع ؟ ! . دائما أهيىء اكثر من فرقة مسرحية من المرضى والعمل معهم وباستمرار وبالاتصال المباشر مع الطبيب المشرف على علاجهم ومتابعة حالتهم , فكثيرا ما اضطر الى اعادة الكثير منهم للردهة النفسية واكمال علاجهم الدوائي ويبقى معي من هم اكثر شكيمة واصرار وعشقا لهذا الفن الجميل ونبدأ العمل سوية كفريق واحد . .
اهم المشاكل التي تواجهنا في العمل المسرحي
كثيرة هي المشاكل التى اواجهها ومنها عدم مقدرة المريض على ايصال الفكرة الى الجمهور ومنها عدم التوافق بين البعض منهم والنرجسية المفرطة ومنها الاحساس بالخيبة وعدم الجدوى من هذا العمل ومنها خروج بعض المرضى الى ذويهم وتركهم المستشفى بعد اكمال علاجهم لكن يبقى الاخطر هو انتكاسة بعض المرضى الاساسيين في المسرحية مما يتطلب الامر اعادتهم الى الردهة ومتابعة علاجهم الدوائي وتحت الاشراف الطبي والتمريضي مما يؤدي الى تأخير عرض العمل المسرحي الى شعار اخر او الغاء العرض او الاستعانة ببعض المرضى الاخرين وادماجهم ضمن الفرقة المسرحية والعمل معهم وبتركيز عال وتكثيف العمل كي نتمكن من اكمال العمل بالصورة المطلوبة .
الحكايات كثيرة وكلها ممتعة جدا وتصلح كعمل مسرحي متميّز لكن البداية كانت بالنسبة لي اما الموت او الحياة الفشل او النجاح فكانت نوع من المغامرة الجميلة والجريئة في هذا المجال وهو العلاج بالسايكودراما اي التمثيل ان ياخذ المريض دورا اخر وشخصية اخرى تختلف جذريا عن شخصيته الاصلية فابتدأت المغامرة بحكاية لاحد المرضى ( احمد ) تعرض منذ طفولته للحرمان نتيجة طلاق والديه ورفضه من قبل زوجة ابيه ومن زوج امه فكان المكان الوحيد له اماكن القمامة والنفايات يعتاش عليها وينام فيها . فبدأت أشرع في كتابة مسرحية ( الغريب ) وهي عبارة عن سايكودراما ابطالها من المرضى والمريضات العقليين الراقدين في المستشفى .