بايع الخمر
ـ بقلم: المنجي حسين بنخليفة ـ تونس ـ
زقاق طويل وضيّق، رُصّف بحجارة ملساء، أبوابه قليلة، أغلبها هاجرت للأزقة الخلفية، لم يبق في الزقاق القديم إلاّ أثار أبواب أغلقت بآجر أحمر. باب حديدي أسود موارب، إن فضح عمق البيت فظلام النوافذ المغلقة تستره، أمام عتبة رخامية متآكلة كرسيّ حديديّ تفسّخ لونه، منجّد بإسفنج صناعيّ بدأت أشلاؤه تتطاير من الشقوق والتمزّقات، تهالك فوقه رجلٌ ستينيّ، ضاعت من ملامح وجهه كلّ حروف المشاعر، تجهل إن حاولت قراءة عمقه، وكشف سرّ غموضه، فالمشاعر تبدأ تكلّسها من ملامح الوجه، وبريق العينين، ثم تسري لعمق أرواحنا ريح سموم، تجعل من جنان الروح يبابا، وتجعل من فرحة الحياة لليأس بابا. ملابسه لم تشذ عمّا حوله في القدم، وتنافر شعر وجهه تناغم مع فوضى المكان، وهو كما ينادونه شباب الحيّ: العم صالح.
العم صالح أكثر من عشرين سنة يبيع الخمرة للمتعطشين لها، بعدما أغلقت الحانات عليهم أبوابها، كلّ أهل البلد يعرف مهنته هذه، يعرفه من حملتهم خطاهم ٱخر الليل يطلبون " عقار الغياب والنسيان" كما يسمي العم صالح الخمرة، إنّهم حين يكتشفون أنّه مازال للعقل بصيص، يسعوا لإطفائه، يتودّدون إليه لعلّه يرضى فيمدّهم بخمرة لم يدنّسها غشّ، ولم يغشاها ماء، ولم تشطّ في الغلاء. الشيوخ يعتبرونه مفسدا للشباب فيلعنونه، الأطفال حين يروا كثافة لحيته، وملبسه غير المتناسق، يخافونه. النساء حين يرين ٱثار ثمرته الخبيثة على أجساد أزواجهن يدعون عليه بظهر الغيب، فهنّ من بعد طول انتظار لليل طويل يبدلهنّ العم صالح في أزواجهنّ عوض النشوة ترنح وروائح عطنة.
الكلّ يجهل سرّه، كان أديبا، وشاعرا، جلّ المجلاّت الأدبية نمت على صفحاتها أزهار خصوبة تربة فكره، وغدق أدبه، ردّد أبياته من حبا في ساحة الأدب، منهم من نما وأصبح أديبا يبذر الحرف والكلمات في عقول الآخرين، ومنهم من نسي ما كان يعشقه. لكن...ما سرّ تحول فكر يبذر الأرواح في كلّ حرف، إلى بائع أقداح تطفئ نور الفكر في كلّ جرعة !! ما سرّ تحول مداد قلمه إلى خمرة دنّ. عزمتُ على فكّ لغزه، وقراءة شفرته، لكن من عرفه عن قرب قال لي: سيضيع جهدك هباء، وستكتشف بعد لأي أنّك كالضمٱن يسعى وراء وهم السراب.
ينتصف النهار، يجلس العم صالح يترشّف قهوة صباحه، المقهى تجمع من مطّ بهم مسير الليل، فأفاقوا بعدما تجرّع النهار نصف كأسه، جالسته لمعرفتي به، فقد جمعنا فيما مضى الحرف والكلمة، وإن حاولت مهنته بيع الخمر قطع حبال الوصل بيننا إلاّ أنّه مازالت بعض الخيوط وإن رقّت تربطنا.
- حيّرتني يا عم صالح، كنت تنعش الأرواح بأدبك، صرت تغيّب العقول بخمرتك !
- لا تجهل عليّ يا صديقي، كلّ من في الأرض يبيع خمرة تفسد العقول، إلاّ أنا أبيع خمرة تريح العقل من فساد خمرتهم.
- أليس من الأجدر على العقول أن تسمو بطهرها وكمالها.
- العقول الطاهرة مقدّسة عن كلّ لمس، لكن العقول المشوّهة إذا لامست الأرواح أفسدتها، أليس من الأجدر أن تغيب حتى لا تفسد فرحة الروح؟
- أليست الخمرة هي من أفسدت للروح طهرها ونقاوتها؟
ابتسم ابتسامة تحمل من معاني الاستغراب أكثر من معاني الاستلطاف، ترشّف ما تبقى من قهوته الباردة، نفث دخان سيجارته الرخيصة، قال لي:
الساسة أفسدوا الأرواح بالوعود الكاذبة، الشيوخ شوّهوا العقول بالأفكار الشاذة، الشعراء حلموا بعالم غريب عن أحلامنا، العشّاق قتلوا القلوب بالوعود الواهمة...ولا يُصلح ما أفسدوا إلاّ "عقار الغياب والنسيان"
خرج من المقهى، رأيته كأنّ عرجا في مشيته لم أعهده فيه، ناديته: يا عم صالح...يا عم صالح، لا تطفئ للعقل ما تبقى له من بصيص النور. وقف...همّ بالالتفات، مرّ وما التفت.
ـ بقلم: المنجي حسين بنخليفة ـ تونس ـ
زقاق طويل وضيّق، رُصّف بحجارة ملساء، أبوابه قليلة، أغلبها هاجرت للأزقة الخلفية، لم يبق في الزقاق القديم إلاّ أثار أبواب أغلقت بآجر أحمر. باب حديدي أسود موارب، إن فضح عمق البيت فظلام النوافذ المغلقة تستره، أمام عتبة رخامية متآكلة كرسيّ حديديّ تفسّخ لونه، منجّد بإسفنج صناعيّ بدأت أشلاؤه تتطاير من الشقوق والتمزّقات، تهالك فوقه رجلٌ ستينيّ، ضاعت من ملامح وجهه كلّ حروف المشاعر، تجهل إن حاولت قراءة عمقه، وكشف سرّ غموضه، فالمشاعر تبدأ تكلّسها من ملامح الوجه، وبريق العينين، ثم تسري لعمق أرواحنا ريح سموم، تجعل من جنان الروح يبابا، وتجعل من فرحة الحياة لليأس بابا. ملابسه لم تشذ عمّا حوله في القدم، وتنافر شعر وجهه تناغم مع فوضى المكان، وهو كما ينادونه شباب الحيّ: العم صالح.
العم صالح أكثر من عشرين سنة يبيع الخمرة للمتعطشين لها، بعدما أغلقت الحانات عليهم أبوابها، كلّ أهل البلد يعرف مهنته هذه، يعرفه من حملتهم خطاهم ٱخر الليل يطلبون " عقار الغياب والنسيان" كما يسمي العم صالح الخمرة، إنّهم حين يكتشفون أنّه مازال للعقل بصيص، يسعوا لإطفائه، يتودّدون إليه لعلّه يرضى فيمدّهم بخمرة لم يدنّسها غشّ، ولم يغشاها ماء، ولم تشطّ في الغلاء. الشيوخ يعتبرونه مفسدا للشباب فيلعنونه، الأطفال حين يروا كثافة لحيته، وملبسه غير المتناسق، يخافونه. النساء حين يرين ٱثار ثمرته الخبيثة على أجساد أزواجهن يدعون عليه بظهر الغيب، فهنّ من بعد طول انتظار لليل طويل يبدلهنّ العم صالح في أزواجهنّ عوض النشوة ترنح وروائح عطنة.
الكلّ يجهل سرّه، كان أديبا، وشاعرا، جلّ المجلاّت الأدبية نمت على صفحاتها أزهار خصوبة تربة فكره، وغدق أدبه، ردّد أبياته من حبا في ساحة الأدب، منهم من نما وأصبح أديبا يبذر الحرف والكلمات في عقول الآخرين، ومنهم من نسي ما كان يعشقه. لكن...ما سرّ تحول فكر يبذر الأرواح في كلّ حرف، إلى بائع أقداح تطفئ نور الفكر في كلّ جرعة !! ما سرّ تحول مداد قلمه إلى خمرة دنّ. عزمتُ على فكّ لغزه، وقراءة شفرته، لكن من عرفه عن قرب قال لي: سيضيع جهدك هباء، وستكتشف بعد لأي أنّك كالضمٱن يسعى وراء وهم السراب.
ينتصف النهار، يجلس العم صالح يترشّف قهوة صباحه، المقهى تجمع من مطّ بهم مسير الليل، فأفاقوا بعدما تجرّع النهار نصف كأسه، جالسته لمعرفتي به، فقد جمعنا فيما مضى الحرف والكلمة، وإن حاولت مهنته بيع الخمر قطع حبال الوصل بيننا إلاّ أنّه مازالت بعض الخيوط وإن رقّت تربطنا.
- حيّرتني يا عم صالح، كنت تنعش الأرواح بأدبك، صرت تغيّب العقول بخمرتك !
- لا تجهل عليّ يا صديقي، كلّ من في الأرض يبيع خمرة تفسد العقول، إلاّ أنا أبيع خمرة تريح العقل من فساد خمرتهم.
- أليس من الأجدر على العقول أن تسمو بطهرها وكمالها.
- العقول الطاهرة مقدّسة عن كلّ لمس، لكن العقول المشوّهة إذا لامست الأرواح أفسدتها، أليس من الأجدر أن تغيب حتى لا تفسد فرحة الروح؟
- أليست الخمرة هي من أفسدت للروح طهرها ونقاوتها؟
ابتسم ابتسامة تحمل من معاني الاستغراب أكثر من معاني الاستلطاف، ترشّف ما تبقى من قهوته الباردة، نفث دخان سيجارته الرخيصة، قال لي:
الساسة أفسدوا الأرواح بالوعود الكاذبة، الشيوخ شوّهوا العقول بالأفكار الشاذة، الشعراء حلموا بعالم غريب عن أحلامنا، العشّاق قتلوا القلوب بالوعود الواهمة...ولا يُصلح ما أفسدوا إلاّ "عقار الغياب والنسيان"
خرج من المقهى، رأيته كأنّ عرجا في مشيته لم أعهده فيه، ناديته: يا عم صالح...يا عم صالح، لا تطفئ للعقل ما تبقى له من بصيص النور. وقف...همّ بالالتفات، مرّ وما التفت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق