بسم الله
قراءة تحليلية في قصيد " أمومة " للشاعر عدنان ريكاني
بقلم الأديبة فاطمة محمود سعدالله.
تمهيد: الأمومة فيْضٌ.فيْض من كلّ جميل: فيْضُ حب،فيْض حنان،فيْضُ عطف،فيْضٌ من إشفاق،من عطاء،من إيثار ،من حياة ،باختصار فيْضٌ من كلّ إحساسٍ جميل.
التقديمُ:
أوّل مالفت انتباهي أنّ هذا النصّ متكوّن منْ 8 مقاطع
وكلّ مقطع هو حلقة منْ سلْسلة متماسكة العُرى، حلقاتٌ متواشجة متواصلة تؤدّي إلى حقيقة واحدة / قداسة الأمومة. هذا الرقم (8) حملني إلى براح شاسع لا يخضعُ للمكان ولا الزمان ،إنّه "أبْوابُ الجنّة الثمانية" ،كأنّي بكلّ القصيد يقولُ: ارضِ أمّك وادخل الجنّة منْ أيِّ بابٌ أردْتَ.كما لاحظتُ أنّ وحدات هذا النص تتتوالدُ بعضها من بعض في مدار وجداني روحاني تعلو أصواته بالصلوات وتعبقُ أجواؤه بالبخور.
القراءة
ينطلقُ الشاعرُ في المقطع الأول من القصيد بحلقة ذكر وصلاة ملائكيّة طاهرة تؤدِّي صلاة استخارة،ولا صلاةَ دون وضوء أو طهارة،وما أجمل أن يكون الماء الطهورُ "أمّي" ،فكرة طريفة ورائعة فيها من الجدّة ما يثير الدهْشة ، ويا للقداسة! أنْ يتحوّلَ حنانُ الأمّ وعطْفها وكلّ شيء فيها إلى شيء موحّد ،إلى نهْر من أنْهار الجنّة ماؤه كوْثر تتوضّأ منه الملائكة، فاضَ قلْبُ الشاعر حبّا لأمّه فتدفّق قلمه قداسة أضْفاها على كل الأمهات،تأكيدا للقولة الشهيرة " الجنّةُ تحت أقدام الأمّهات".
يتواصلُ النصُّ في شكل ومضات شعريّة خاطفة هي أقرب إلى قصيدة الهايكو على مستوى البناء والشكل وقصيدة النثر على مستوى المضمون وإلى ابْتهالاتِ المتصوّفة إيقاعًا.
وتجدر الإشارة والتذكير بأن قصيدة الهايكو أسلوب يباني في كتابة الشعر ثم انتشر عالميا ولمَ لا؟ عربيا. ومما يميّز هذا الجنس من الكتابة الشعرية خصائصُ منها : تكثيف اللغة وحشد المعاني وإحكام الصياغة وكذلك القدرة على تحويل المألوف إلى حالة إبهار ودهشة وهو ما حاول الشاعر عدنان ريكاني أن يحافظ عليه في هذا القصيد..كما تتميّز قصيدة الهايكو بعبارة تحدد الزمن بطريقة غير مباشرة كذكر الزهور إحالة على الربيع أو الثلج إحالة على الشتاء في حين أن قصيدة النثر لا تقيّدها "الزمنية" مما يتيح استعمال كل مكوّنات اللغة دون التقيّد باللحظة الآنيّة مما يجعل مجالها التعبيري أوسع وهو ما وجدناه في هذا القصيد..ولعلّ الأعمال الأدبيّة العربيّة أفادت كثيرا من خصائص الهايكو كالومضة الشعرية والشذرة والخاطرة لكنها تظلّ مستقلة عن قصيدة الهايكو بخصوصياتها.وهو ما سنراه جليّا في قصيدة " أمومة"
ثمانيةُ كواكب تحيط بمركزها الذي تستمد منه النور/ الأمّ ، جوهر الخير والحبّ والإشراق تشتركُ الومضاتُ في المحور الجوهري للمضمون وهو الأمّ كبؤرة تفيضُ عطاء وروحانيّة ولا تخلو ومضة من عبارة تحيل على الحقل الدلاليِّ الذي يمسح كلّ النص وهو الحقل الديني وهالة القداسة المتمثلة في تيمة الصلاة والطهارة تحديدا باستثناء الومضتيْن السابعة والثامنة اللتيْن أشار فيهما إلى تيمة أخرى وشحنها بمدلولات رمزية بعيدة المدى عميقة الرؤى.
فإذا أزحنا الستارة قليلا عن نافذة الومضة الثانية سنرى ونسمع ، نرى تماهيا وانسيابيّة بيْن الصور الشعرية ونسمعُ هديرا لنهر الحنان يرفع التسابيح ليلا نهارا ونبضات قلب الأم فرحا وخوفا ،شوْقا ورحمة / أمي..صورة يفوح منها عطر القداسة وينبجس منها نهر الحبّ والحنان والصلاة.
وكما أنّ لكلّ صلاة طقوسُها ومناسكُها التي تعارفت عليها الحضاراتُ والثقافاتُ وسجلتْها الكتبُ الوضعيّة ومارستْها الشعربُ فإنّ صلاة الشاعر في محراب الأم وعند قدميْها هي صلاة لها طقوس أخرى انقلبتْ لها الخرائطُ وتغيّر الكوْنُ ،إنها صلاة البرّ والعرفان في محراب " الكون الشعري" باستعاراته ورموزه وبلاغته إذ يقرُ بقداسة الأم بتوظيفه " الجنة تحت أقدام الأم بقوله" الجنة وضعت تحت قدميْ أمّي"في الومضة الثالثة
ولعلّ من أهمّ تقنيات الأدب الرومانسي الوجداني توظيفَ عناصر الطبيعة للتعبير عن الذات وعن الكوْن والكائنات وهذا ما لمسناه في الأدب العالمي والعربي على حد السواء لذا نجد الشاعر في الومضة الرابعة يستلهم عناصر الطبيعة ولكن بطريقته المميزة ،إذا كان النورُ يقتبسُ نهارآ من الشمس وليلا من القمر ،وإذا كان القمر في حدّ ذاته يستمدّ ضياءه من الشمس فإنّ الشاعر عدنان ريكاني مزج في هذه اللوحة الرابعة بين الشمس والقمر مزجا ليس من "أشراط الساعة" وإنما ليوقف المتلقّي على نورٍ يماهي ضياء وضياء يمازج نورا ..صورة فريدة تؤكد ملكيّته لهذا التميّز لأنه نابع من "أمه"،من ابتسامتها تحديدا ..آية من آيات الإعجاز الإلهي أن تكون ابتسامة الأم نهر نور وضياء / شمسا وقمرآ.
قد نتساءل لماذا؟ وكيف ذلك؟
ليس من الصعب أن نتخيّل متانة الصلة بين الابن وأمه عموما وبين الشاعر عدنان ريكاني خاصة، هذه الأم المحبّة ،هذه الأم المدرسة التي ترضع حبّ الوطن لبنا مصفُى وتعلّم الأجيال كيف يعشقون الوطن ويقدسونه. ولا نستغرب إذا لمسنا بين الأم والوطن امتدادا وتماهيا بل تطابقا " هي الوطن والوطنُ هي"هذه التي جعلت الوطن شجرة غرستها في قلوب الأبناء برّا به وبها وجعلت دعاءها حصنه الذي يحميه من كل عادٍ ، أنْبتَ دعاؤها وصايا تكون دروعا تحمي الوطن وتقيه من كلّ أذى وهي من أقدس الدروس وأجلها لأنها تجري على لسان الأم وفي مدرسة الطهر والقداسة .
لم ينسَ الشاعر أن يلتفت إلى المرأة ،وما أكثر النساء في حياة الرجل عموما والشعراء على وجه التحديد! ولكن الشاعر يقول لهنّ: إنكنّ أيتها "النازحاتّ" تتمسّكن بحبْل واهٍ إذا فكرت إحداكنّ بالفوّز بقلبي أو حروف عشْقي.فقلبه وعشقه حروف حريرية بيْن "أنامل" أمه تنسج منها غلالات الصبر توزعها عليهن تعويضا لهن عن الإقصاء والإبعاد . هي وحدها تتربّع على عرش قلْبه ومملكة شعره. في قلبه تسكن أمه ،وكفى.
أما الومضتان السابعة والثامنة فقد أشار فيهما الشاعر إلى زوال الشمس تلك التي كانت تستمد النور والدفء والإشراق من ابتسامتها تلك الشمس التي كانت لا تفارق عتبة بابه غابتوغيابها كناية عن الموْت.
إذا غابتْ الأم من حياتنا بالحياة أو الموْت ،فكلّ شيء يزول ،تغيب الشمس ،يعمّ الظلام، حتّى ذاك الظل باعتباره مظلّة تقي من حر الهجير يزول ، يزول الفرح والإحساس بالأمان والطمأنينة .غيابها / موْتُها يفقد الحياة حلاوتها ومعناها ولكن قبل أن تضيق حلقة اليأس والأسى حول أعناقنا يعزّينا الشاعر تخفيفا من التوتر والحلكة اليأس والحسرة بأنّها ستواصل وظائفها مع الملائكة ، ستتواصل طقوسها الدينية فكما انطلقت في البداية نهرا تتوضأ منه الملائكة فإنّ الموْت سيحوّلها ملاكا يصلي في " سدرة المنتهى" فياله من غياب يرفعها بجناحيْ ملاك إلى الدرجات الُعلى لتستحيل غلالة ضوْء تنهمر ألما يعصر قلب السماء حسرة عليْها رغم النعيم الذي تحظى به .
الشاعر الإنسان يساند الشاعر المبدع ، نحن بشر ،فراق الأم شوكة تخز القلب فتدميه وقبضة حديدية تعصره ألما ودموعا.
الخاتمة
نحن أمام نصٍّ جميل ،شحنه الشاعر بالعواطف السامية وأثثه بالصور الشعرية الطريفة التي رسمتْها انزياحات ثريّة بالمعاني التي أحاطها بقداسة الأمومة كهالة النور تزين القمر وبلغة سلسة لم تخْلُ من بلاغة وجمال.وغمرها بجو ديني يعبق ببخور البر والحب الرباني الحب الذي لا ينتظر المقابل ،إنه البرّ والوفاء لتلك التي " حملته كرها ووضعته كرها" دون أن تشتكي أو تحاسب ،تلك التي رغم آلام الوضع تبْتسم سعادة بوليدها وتضمه إلى صدرها لتمدّه برواء الحياة / لبنها.
--------------------------------------
**********
صَلاةُ
المَلائِكَةِ
أسْتِخارَةٌ
لفَيْضِ البارِي
يَتَوَضَّؤُنَ بِحَنانِ
أُمِّي.
****
هَدِيْرُ النَّهْرِ يُسَبِّحُ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَهار؛
نَبْض أُمِّي.
****
طُقُوْسُ
الصَّلَواتِ مَرْفُوْعَةٌ
خَرائِطُ الكَوْنِ انْقَلَبَتْ؛
الجَنَّةُ وُضِعَتْ تَحْتَ
قَدَمَيْ أُمِّيْ.
****
وَحْيُ
السَّماءِ يَقْتَبِسُ
آيــَــاتِ النُّوْرِ؛
مِنِ ابْتِسامَةِ
أُمِّي.
****
وَطَنِي
مَزْرُوْعٌ بِخافِقِي؛
دُعاءُ أُمِّي حُصْنُهُ
الحَصِيْنُ.
****
تَشَبَّثَتِ
النَّازِحاتُ
بِحُرُوْفِ عِشْقِي،
وَأُمِّي تَغْزِلُ مِنْها لَهُنَّ
لِباسَ الصَّبْرِ.
****
الشَّمْسُ
واقِفَةٌ بِبابِي؛
ظِلُّ أُمِّي فِي زَوال ..
الأَقْمارُ راكِعَةُ عِنْدَ
سِدْرَةِ المُنْتَهَى.
****
رَأَيْتُ
أَضْواءً مُشَتَّةً
كَثُقُوْبِ الغِرْبالِ؛
يَعْصُرُ قَلْبُ السَّماءِ
حَسَراتِ أُمِّي.
******************
-الخَمِيْسِ:"23/03/2017 -
= عَدْنان الرَّيْكانِي:
**********
صَلاةُ
المَلائِكَةِ
أسْتِخارَةٌ
لفَيْضِ البارِي
يَتَوَضَّؤُنَ بِحَنانِ
أُمِّي.
****
هَدِيْرُ النَّهْرِ يُسَبِّحُ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَهار؛
نَبْض أُمِّي.
****
طُقُوْسُ
الصَّلَواتِ مَرْفُوْعَةٌ
خَرائِطُ الكَوْنِ انْقَلَبَتْ؛
الجَنَّةُ وُضِعَتْ تَحْتَ
قَدَمَيْ أُمِّيْ.
****
وَحْيُ
السَّماءِ يَقْتَبِسُ
آيــَــاتِ النُّوْرِ؛
مِنِ ابْتِسامَةِ
أُمِّي.
****
وَطَنِي
مَزْرُوْعٌ بِخافِقِي؛
دُعاءُ أُمِّي حُصْنُهُ
الحَصِيْنُ.
****
تَشَبَّثَتِ
النَّازِحاتُ
بِحُرُوْفِ عِشْقِي،
وَأُمِّي تَغْزِلُ مِنْها لَهُنَّ
لِباسَ الصَّبْرِ.
****
الشَّمْسُ
واقِفَةٌ بِبابِي؛
ظِلُّ أُمِّي فِي زَوال ..
الأَقْمارُ راكِعَةُ عِنْدَ
سِدْرَةِ المُنْتَهَى.
****
رَأَيْتُ
أَضْواءً مُشَتَّةً
كَثُقُوْبِ الغِرْبالِ؛
يَعْصُرُ قَلْبُ السَّماءِ
حَسَراتِ أُمِّي.
******************
-الخَمِيْسِ:"23/03/2017 -
= عَدْنان الرَّيْكانِي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق